عناصر الخطبة
1/ عظمة الإسلام وشموليته لكل مناحي الحياة 2/ الرد على فرية أن دين الإسلام دين كبت وحبس للنفس 3/ صور من ممازحة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه 4/ ضوابط المزاح والمداعبة 5/ المزاح لا يكون إلا بالحق 6/ تحريم الكذب في المزاح 7/ خطورة المزاح بالدين 8/ مفاسد الإكثار من المزاح.اهداف الخطبة
اقتباس
وإن مما يُشتهر عند غير المسلمين وبعض المسلمين للأسف أيضاً أن دين الإسلام دين كبت وحبس للنفس، فلا ضحك ولا مزاح، ولا لهو ولا متعة. ولئن اشتهر هذا عند غير المسلمين فإنه قد يُعذر الكثير منهم في تصوره هذا الذي قد يكون بسبب جهله لديننا الإسلامي العظيم أو بسبب التشويه المتعمد من قبل وسائل الإعلام الكافرة التي ما فتئت تصور الإسلام والمسلمين بأبشع الصور. لكن المصيبة كل المصيبة أن توجد مثل هذه المفاهيم والتصورات عند بعض أفراد المسلمين.
الخطبة الأولى:
أما بعد:
عباد الله، إن من عظمة هذا الدين وشموليته وسعته أنه ما ترك شيئاً في حياة المسلم إلا ونظَّمه ورتبه، وجعل له قواعد وضوابط يسير عليها ويلتزم بها، وذلك كله بأمر الله -جل وعلا- وهدي رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
وإن مما يُشتهر عند غير المسلمين وبعض المسلمين للأسف أيضاً أن دين الإسلام دين كبت وحبس للنفس، فلا ضحك ولا مزاح، ولا لهو ولا متعة. ولئن اشتهر هذا عند غير المسلمين فإنه قد يُعذر الكثير منهم في تصوره هذا الذي قد يكون بسبب جهله لديننا الإسلامي العظيم أو بسبب التشويه المتعمد من قبل وسائل الإعلام الكافرة التي ما فتئت تصور الإسلام والمسلمين بأبشع الصور. لكن المصيبة كل المصيبة أن توجد مثل هذه المفاهيم والتصورات عند بعض أفراد المسلمين.
أيها المسلمون: لقد جاءت سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- مبينة وموضحة لهذه القضية. لقد كانت سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- نموذجاً لحياة المسلم، لمن أراد أن يحيا حياة على وفق ما شرع الله، وفي هذه القضية لو رجعنا إلى سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لوجدنا أنه -عليه الصلاة والسلام- كان يمازح أصحابه. فقد روى أبو داود والترمذي أن رجلاً جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "احملني يا رسول الله" -يعني أعطني دابة أركب عليها وتحملني- فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنا حاملوك على ولد الناقة"، فقال الرجل: وما أفعل بولد الناقة؟! –مستغرباً- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وهل تلد الإبل إلا النوق؟".
وعن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: "يا ذا الأذنين". قال أبو أسامة: يعني يمازحه. (رواه أبو داود والترمذي).
وروى الطبراني في الأوسط أن عجوزًا دخلت في بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله ادع الله لي أن يدخلني الجنة فقال: "إن الجنة لا تدخلها عجوز". ثم ذهب للصلاة فلما رجع قالت له أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: لقد وجدت العجوز من كلامك شدة ومشقة، فقال: "إن الله يرجعهن أبكاراً".
وكذلك روى البخاري في الأدب المفرد أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانوا يتبادحون بالبطيخ فإذا جد الجد كانوا هم الرجال.
ولقد كان -صلى الله عليه وسلم- ذا خلق رفيع حتى أنه كان يمازح الأطفال ويداعبهم. ففي البخاري ومسلم عن أنس قال: إنْ كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: "يا أبا عمير ما فعل النغير".
ولذلك استغرب الصحابة من مزاح النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا له: يا رسول الله إنك تداعبنا؟ فقال -عليه الصلاة والسلام-: "إني لا أقول إلا حقاً" (الأدب المفرد للبخاري، والترمذي).
عباد الله: إن هذا الذي ذكر هو بعض ما ورد من مداعبة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه. ولم نرد التفصيل والإطالة لأن ذلك كله كان تمهيداً لموضوع أصلي أردنا الحديث عنه وهو ضوابط المزاح والمداعبة.
إخوة الإيمان، كما سمعتم فإن ديننا لا يحرم المزاح والمداعبة، وإنما يجعل له ضوابط تجعله لا يخرج من المتعة إلى الإفساد. وقطع الصلات وحصول الآثام.
ومن ضوابط المزاح التي علمنا إياها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
1- أن المزاح لا يكون إلا بالحق. ولذلك إذا تأملت الأحاديث التي ذكرناها في مزاح النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه تجد كل ما كان يمزح به النبي -صلى الله عليه وسلم- كلمات ليس فيها كذب. كقوله: "إنا حاملوك على ولد الناقة" وما ولد الناقة: إنه الجمل. وقوله لأنس: "يا ذا الأذنين". فأنس له أذنان، وكل الناس كذلك.
وهكذا يكون المزاح بغير كذب أو افتراء. وكم يحدث اليوم من الكذب في اختراع قصص وحكايات لا أصل لها ولا صحة لها لأجل إضحاك الناس، وقد صح الحديث بالتهديد للذي يفعل ذلك عن النبي حيث ورد عند أبي داود والترمذي أن رسول الله قال: "ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ويل له".
2- كذلك من ضوابط المزاح الشرعية أن لا يكون فيما يتعلق بالدين كالمزاح بالآيات أو الأحاديث أو الثوابت الشرعية التي لا يجوز المساس بها.
وهذا للأسف قد حصل من بعض الناس هداهم الله. فقد وجد في أيامنا هذه ما تسمى بالنكات أو الطرف حول الملائكة والأنبياء أو القرآن والأحاديث. وهذا عباد الله من أخطر ما يكون، حيث إن هذا الفعل كفر مخرج من الملة عياذاً بالله.
يقول الشيخ محمد بن عثيمين -حفظه الله-: "ومن هزل بالله أو بآياته الكونية أو الشرعية أو برسله فهو كافر، لأن منافاة الاستهزاء للإيمان منافاة عظيمة. كيف يسخر ويستهزئ بأمر يؤمن به؟ فالمؤمن بالشيء لا بد أن يعظمه، وأن يكون في قلبه من تعظيمه ما يليق به.
والكفر كفران: كفر إعراض وكفر معارضة، والمستهزئ كافر كفر معارضة، فهو أعظم ممن يسجد لصنم فقط، وهذه المسألة خطيرة جداً، ورب كلمة أوقعت بصاحبها البلاء بل والهلاك وهو لا يشعر فقد يتكلم الإنسان بالكلمة من سخط الله -عز وجل- لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار، فمن استهزأ بالصلاة ولو مازحاً أو بالصوم أو بالزكاة أو بالحج فهو كافر بإجماع المسلمين. كذلك من استهزأ بالآيات الكونية بأن قال مثلاً: إن وجود الحر في أيام الشتاء سفه، أو قال: إن وجود البرد في أيام الصيف سفه. فهذا كفر مخرج من الملة لأن الرب عز وجل كل أفعاله مبنية على الحكمة". انتهى.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي لا تنفد مع كثرة الإنفاق خزائنه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يؤازره، ولا نظير له يعاونه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلى الناس كافة، فقد فاز متابعه ومعاونه، وخسر مضادّه ومباينه. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين جُمِعت لهم غرر الدين القويم ومحاسنه.
أما بعد:
فقد حصل في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك عندما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سائراً للقتال تكلم بعض المنافقين بكلام زعموا أنه لعب ومزاح فأنزل الله فيهم قرآناً يتلى.
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ) [التوبة: 65 - 66]. قال أبو معشر المديني: عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: قال رجل من المنافقين: ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطوناً وأكذبنا ألسنة وأجبننا عند اللقاء.
فرُفِعَ ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد ارتحل وركب ناقته فقال: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب. فقال: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) [التوبة:56-66]، وإن رجليه لتسفعان الحجارة وما يلتفت إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو متعلق بنسعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وقال عبد الله بن وهب: أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: "ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللقاء". فقال رجل في المسجد: "كذبت، ولكنك منافق لأخبرن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونزل القرآن فقال عبد الله بن عمر: أنا رأيته متعلقاً بحقب ناقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تنكبه الحجارة، وهو يقول: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ) الآية. ا.هـ.
وهكذا يتبين أن المزاح والاستهزاء بشرع الله كفر لا يجوز فعله.
عباد الله، وعند الكلام على المزاح يجب الكلام على مسألة من أخطر المسائل، وقد صار البعض يتساهل فيها إما بعلم وإما جهلًا، ألا وهي المزاح فيما يتعلق بدين الله –تعالى- وشرعه؛ حيث أصبح بعض الناس هداهم الله يبتكرون الطُّرَف وهي ما يسمى بالنِّكَات حول أمور من الدين، بل وأصبح يفعل ذلك بعض الكتاب في الصحف ويفعلونه أحياناً من خلال الرسوم التي يسمونها بالكاريكاتير.
وهذا الأمر كما سبق وذكرت كفر لا يجوز فعله. لما سبق من تفسير قوله تعالى: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ).
فلنحذر عباد الله من المساس بجناب الدين فإنه أمر خطير عظيم العاقبة. ولنتذكر حديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الذي قال فيه: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً، يرفعه الله بها درجات. وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا، يهوي بها في جهنم" (رواه البخاري).
وعند مسلم: "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب".
3- ومن ضوابط المزاح في الإسلام: ألا يكون فيه إيذاء للغير سواء كان إيذاءً بدنياً أو شعورياً. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) [الحجرات:12]. فهذه الأمور فيها إيذاء شعوري للمؤمنين، وقد يصل إلى الإيذاء البدني، فحرمها الله منعاً لذلك.
واليوم تكثر التجاوزات في هذا الجانب بحجة المزاح، فتجد البعض ما إن يعلم أن أخاه يغضب من شيء معين حتى يكثر المزاح معه فيما يغضبه قاصداً إغضابه. وهذا كما سمعتم أمر محرم ولا يجوز.
4- وكذلك من ضوابط المزاح الشرعية ألا يُكثِر منه الإنسان. فإن الإكثار من المزاح يسقط الهيبة ويُوقع في الخطأ ولا بد.
والمتأمل لسيرة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يجد أنه كان يمزح أحياناً ولا يكثر منه. فلا ينبغي للإنسان أن يكثر منه المزاح حتى يعرف بذلك.
وصلوا وسلموا...
التعليقات