اقتباس
تكرارها أسبوعياً، وهذه من أعظم الاستنباطات على أهميتها، مما يحتم على الخطيب والمستمع ضرورة العناية بها والتحضير لها؛ حيث يستمع المصلي كل عام لأكثر من خمسين خطبة تقريباً، وهذا يعني أن الخطيب يعمل ويجتهد في إعداد وصناعة خمسين موضوعاً يدعو فيها إما إلى فعل مأمور أو ترك محظور أو يعالج من خلالها قضايا نازلة وأحداثاً مدلهمة. وإذا كان الأمر كذلك فلن يبقى في المسلمين...
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الآمين وعلى آله وصحبه والتابعين وسلم تسليماً كثيراً، وبعد:
الارتجالية بكل مرادفاتها ومعانيها وجميع صورها وأشكالها ممجوجة في كل شيء وممقوتة في كل أمر؛ سواء تعلقت بموضوع الدين أو ارتبطت بأمور الدنيا، وكل ذلك مشين في الدين والعقل والقوانين، ومستقذر في العادات والطباع والعرف. والتهيؤ المسبق والترتيب المتقدم محمود في كل عمل، وهو من الإحسان الذي كتبه الله في كل شيء وأمرنا به؛ قال الله تعالى: (وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [المائدة: 93]، وهو من الاتقان الذي دعا إليه الإسلام، كما ورد من حديث عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملًا أنْ يُتقِنَهُ" (حسنه الألباني، صحيح الجامع ١٨٨٠).
والمتأمل في كثير من نصوص القرآن يلمس كيف أن الله دعانا للإتقان من خلال أفعاله الحميدة وتشريعاته القويمة، وكيف لفت ربنا الحكيم انتباهنا إلى جميل صنعه ولطيف إبداعه، فقال تعالى: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) [النمل: 88]، وقال سبحانه: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [السجدة: 7]، وقوله تعالى: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ) [الملك: 3]؛ ومن أبرز الغايات التعبدية في ذلك أن نجعلها منهجاً في حياتنا وسلوكاً في تصرفاتنا.
والارتجالية بكل مفرداتها كالعشوائية والعفوية والتلقائية وغيرها، تعني: التصرف دون إعداد مسبق ولا خطة مدروسة يصدر عنها العمل أو القول. وقيل: هي إنجاز عفوي مباشر لفكرة فنية من غير تصميم أو تدوين سابقين. ومنه قيل: قام الخطيب بارتجال خطبة؛ أي: تحدث شفويا من الذاكرة دون تحضير. وارتجل أي: تحدث دون تحضير أو إعداد سابق أو رؤية سابقة.
ويقال: ما هذا الارتجال؟! أي: ما هذه الفوضى في العمل بلا استعداد ولا تحضير. وارتجل برأيه؛ أي: انفرد به دون استشارة لأحد أو رجوع لأحد. وارتجل الرجل؛ أي تكلم من غير استعداد ولا تهيئة. وارتجل في عمله؛ أي: عمل على غير بصيرةٍ أو هدًى، وعَشْوائيّة العمل تؤدّي إلى فشله.
والارتجالية التي سنتحدث عنها من خلال هذه السطور مستعينين بالله ومستمدين العون منه، لا نعني بها الإلقاء الارتجالي والتي يعتمد الخطيب فيها على ذاكرته وحفظه وثقافته دون أن يستعين بورقة يقرأ منها، كما لا نقصد بها -أيضا- الارتجالية في عموم صورها ومختلف مجالاها؛ بل عن ارتجالية الخطيب بتعريفها ومفرداتها المذكورة سلفاً؛ ارتجالية الخطيب في خطبته مع مستمعيه؛ إذ إن عفوية الخطيب الزائدة وعشوائيته المستمرة بحيث تصبح ثقافة حياته وفلسفتها لهي من أسوأ مظاهر الارتجالية؛ بل ربما كانت أشد مقتاً وأعظم ضرراً، وذلك لسببين:
السبب الأول: أن مساوئها وآثارها تتعدى إلى الغير (المستمع والمجتمع المحيط)، ولا يقتصر ضررها وآثارها على الخطيب نفسه.
السبب الثاني: لأهمية الخطبة البالغة ومكانتها العالية في الإسلام، وتكمن هذه الأهمية في الآتي:
- تكرارها أسبوعياً، وهذه من أعظم الاستنباطات على أهميتها، مما يحتم على الخطيب والمستمع ضرورة العناية بها والتحضير لها؛ حيث يستمع المصلي كل عام لأكثر من خمسين خطبة تقريباً، وهذا يعني أن الخطيب يعمل ويجتهد في إعداد وصناعة خمسين موضوعاً يدعو فيها إما إلى فعل مأمور أو ترك محظور أو يعالج من خلالها قضايا نازلة وأحداثاً مدلهمة. وإذا كان الأمر كذلك فلن يبقى في المسلمين جاهل بالأحكام الضرورية بإذن الله -تعالى-.
- الأمر الصريح بالسعي لها وقطع كل ما يشغل عنها من تجارة وغيره؛ فمن حين يؤذن للنداء الثاني يحرم على المسلم أن يتأخر عنها أو ينشغل دونها ببيع أو تجارة أو أي من المعاملات الأخرى، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الجمعة: 9].
- الأمر بالإصغاء والإنصات، حتى الملائكة الذين يكتبون توافد المصلين ينصتون للخطيب ويستمعون له، فإذا كان هذا للملائكة فمن باب أولى البشر، فإذا حضر المصلي الجمعة فلا ينشغل بغير الخطبة؛ فلا يقرأ ولا يصلي ولا ينكر ولا يرد السلام ولا يحتبي حتى لا ينام ولا ينشغل بما يلهي، ولهذا جاء من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا قلتَ لصاحبِك يومَ الجمُعةِ أَنصِتْ، والإمامُ يَخطُبُ، فقد لَغَوتَ" (صحيح البخاري: ٩٣٤).
- إن الخطبة يزيد عدد روادها وقتاً وزماناً ومكاناً بخلاف الوسائل الدعوية الأخرى (المحاضرة، الندور، الدرس، خطب الاستسقاء، العيدين) وغيرها؛ فقد يتناقصون وقتها أو زمانها أو مكانها، فمثلا: يخرجون منها ولا يكملون الاستماع لها، أو لا يتمون بقيته في جلسات أخرى، بخلاف الخطبة فلا بد من حضورها ولا يجوز الخروج منها حتى تتم وتنتهي الصلاة، وكل هذا مما يدل على أهمية الخطبة وعلو شأنها.
- أن الجمعة من الفروض التي تسقط فيها الطبقية والعنصرية والفوارق الفردية والإيمانية والعقلية والفكرية مع اختلاف الجنسيات واللغات وغيرها، ويجلس في صفوفها الأولى من بكَّر إليه أياً كان وصفه وشخصه؛ فالجمعة لا تختص بفرد دون آخر ولا فئة دون أخرى؛ وبالتالي فهي فرصة متكررة للخطيب يقدر من خلالها التأثير على هذه الأعداد الهائلة الذين يحضرون باختيارهم راغبين غير مكرهين.
- اهتمام الإسلام بخطبة الجمعة؛ لما لها من أهمية بالغة في تعديل سلوك العباد وتوجيه أفكارهم وضبط حياتهم ومراقبة معاملتهم؛ وانطلاقا من هذه الأهمية وردت نصوص كثيرة في السنة المطهرة توضِّح مشروعيتها وتفصل أحكامها وتبين آدابها وشروط إقامتها، وغير ذلك مما له علاقة بـ (الخطيب، الخطبة، المستمع، الأسلوب).
- الخطبة قائمة في كافة الأحوال في السلم والحرب والأمن والخوف، وتوفر الخيرات والجدب؛ فهي مطلوبة في سائر الظروف والأحوال، ولا تسقط إلا في ظروف معينة وعلى أشخاص معينين، وإذا أقيمت أو حضرها من توجبت عليه أو ممن لا تجب عليه أو من استحبت في حقه فتقام حسب شروطها.
- الخطبة جاءت مشروعيتها في الكتاب والسنة والإجماع؛ فهي وسيلة دعوية ثابتة بالنص، بخلاف الوسائل الأخرى فبعضها كانت بالاجتهاد وجميعها خاضع للمصلحة المترتبة زماناً ومكاناً وحالاً وشخصاً..
- الأجر الكبير المترتب عليها والفضل العظيم الموعود به صاحبها، وكل ذلك يدل على أهميتها ومكانتها وفضلها، من ذلك ما رواه أوس بن أبي أوس عن النبي –صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من غسَّل يومَ الجمعةِ واغتسل، ثم بكَّر وابتكر، ومشى ولم يركبْ، ودنا من الإمام ، واستمع، وأنصت، ولم يَلْغُ ، كان له بكلِّ خطوةٍ يخطوها من بيتِه إلى المسجدِ، عملُ سَنَةٍ، أجرُ صيامِها وقيامِها" (لألباني، صحيح الجامع ٦٤٠٥).
وقال ابنُ مسعودٍ -رضي الله عنه- مرفوعاً: "سارِعوا إلى الجُمُعاتِ؛ فإنَّ اللَّهَ يبرُزُ لأهلِ الجنَّةِ في كل جُمُعةٍ على كثيبٍ من كافورٍ أبيضَ، فيكونونَ منهُ في الدُّنوِّ على قدرِ تبكيرِهِم إلى الجمُعاتِ" (فتح الباري لابن رجب ٣/١٣٧).
- إنصات الملائكة وسماعهم للخطبة وعدم انشغالهم بغيرها بعد أن كانوا على أبواب المساجد يسجلون مواقيت حضور المصلين، كما ثبت من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من اغتسلَ يومَ الجمعةِ غسلَ الجنابةِ ثم راح فكأنما قرَّبَ بَدَنَةً، ومن راح في الساعةِ الثانيةِ فكأنما قرَّبَ بقرةً، ومن راح في الثالثةِ فكأنما قرَّبَ كبشًا أقرنَ، ومن راح في الساعةِ الرابعةِ فكأنما قرَّب دجاجةً, ومن راح في الساعةِ الخامسةِ فكأنما قرب بيضةً، فإذا خرج الإمامُ حضرتِ الملائكةُ يستمعون الذكرَ" (صحيح البخاري ٨٨١).
- تهيؤ المستمعين الذهني والنفسي والبدني، ويأتي ذلك بعد الاغتسال ولبس النظيف والزينة والتطيب والتبكير والابتكار والذكر والصلاة وقراءة القرآن، فما يصعد الخطيب منبره ويلقي خطبته إلا والنفوس مستعدة ومتهيئة والقلوب منشرحة ومتقبلة، وحتى لو فرضنا أن في الحاضرين من لم يستجب لموضوع الخطيب فلن يسعه حينئذ غير السكوت والإصغاء؛ وليس له وقتها أن يحاور أو يجادل أو ينتقد أو يمانع؛ فالصمت وسيلته المشروعة وحيلته الممكنة.
- التجريم الصريح والتهديد العظيم بالعقاب لمن تغيب عنها وتخلف، حيث ورد التشنيع الشديد في حقهم، كما في حديث عبدالله بن عمر وأبي هريرة -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لينتهيَنَّ أقوامٌ عن ودعِهم الجُمعاتِ، أو ليختِمَنَّ اللهُ على قلوبِهم، ثمَّ ليكونُنَّ من الغافلين" (صحيح مسلم ٨٦٥).
ويشتد العذاب ويتضاعف العقاب إذا وصل الأمر إلى ترك ثلاث جمعات؛ فقد ورد من حديث أبي الجعد الضمري -رضي الله عنه- قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "مَن ترَك ثلاثَ جُمَعٍ تَهاوُنًا، طبَع اللهُ على قَلْبِه" (مجموع فتاوى ابن باز الصفحة أو الرقم: 25/188 إسناده صحيح، انظر شرح الحديث رقم 77049).
وفي حديث ابن عمر وأبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي –عليه الصلاة والسلام- قال: "لينتهيَنَّ أقوامٌ عن ودعِهم الجُمعاتِ، أو ليختِمَنَّ اللهُ على قلوبِهم، ثمَّ ليكونُنَّ من الغافلين" (صحيح مسلم ٨٦٥).
ومن هنا -يا كرام- ومن خلال ما سبق ذكره على سبيل التمثيل لا الحصر تبين لك -أيها الخطيب المبارك- خصوصاً والمسلمون عموماً أهمية خطبة الجمعة وعلو قدرها وعظيم مكانتها؛ كونها وسيلة المسلمين الأولى لتفقههم في دينهم ومعالجة قضاياهم وتذكيرهم بربهم ومعادهم؛ كل هذا يقودك لأن تعظم ما عظمه الله ورسوله؛ فتحرص على تحضير خطبتك والإعداد المسبق لمادتك بما يتوافق مع مجتمعك ويتناسب ويليق بمستمعيك..
وللحديث بقية نلقاكم بإذن الله -تعالى- في الجزء الثاني لهذه المقالة..
وسلامٌ على المرسلين والحمدلله رب العالمين.
للمزيد/ يرجى تصفح المقال الثاني من عنوان هذه المقالة
خطبة الجمعة بين تحضير الخطيب لها وارتجاله بها (2-2)
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم