اقتباس
من العيب أن نحتفل بيوم، أي نهتم به في يوم ونعرض عنه حياتنا. . . ومن العيب أن نتذكره أول أيام حياته وننسى حياته كلها. من العيب والجفاء أن نحتفل بما هو طبيعي يشترك فيه كل الناس. . . ولا نحتفل ما انفرد به -صلى الله عليه- مما خصَّه الله -تعالى- به، ليس من بين البشر العاديين، بل من بين سائر النبيين -عليهم جميعا صلاة وسلام رب العالمين-. فأيها أولى بالاحتفال والاهتمام والفرح، ما خُصَّ به وفُضِّل وعاد نفعه على العالمين، أو ما لم يظهر فيه فارق لذاته؟ أيها أولى بالاحتفال؟..
أليس من العيب والجفاء أن نحتفل بما هو طبيعي يشترك فيه كل الناس. . . ولا نحتفل ما انفرد به صلى الله عليه مما خصَّه الله -تعالى- به، ليس من بين البشر العاديين، بل من بين سائر النبيين عليهم جميعا صلاة وسلام رب العالمين.
فأيها أولى بالاحتفال والاهتمام والفرح، ما خُصَّ به وفُضِّل وعاد نفعه على العالمين، أو ما لم يظهر فيه فارق لذاته؟ إن تحديد الاحتفال بأي شيء كان توقيتًا ومدةً وكيفية وشكلًا ومضمونًا إنما يحدده أهمية ذلك الشيء الذي نريد أن نحتفل به، فكلما زادت أهميته في حياتنا زادت أهمية وضرورة الاحتفال به! "وأَمر ذُو بَالٍ أَي شريفٌ يُحْتَفل لَهُ ويُهْتَمُّ بِهِ" كما في لسان العرب. . . ولا أظن عاقلا صادقًا يخالفني في أهمية الاحتفال بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا الاعتبار.
ولا نختلف في أن يوم مولده الحقيقي يوم سارٌّ، لم تُسرَّ والدة بمولودها مثله، ولكن. . ولكن ما معنى الاحتفال؟ لستُ هنا أتكلم عن الحكم الشرعي لهذا الاحتفال الجاري بين الناس اليوم من مسلمين بميلاد نبِيِّنا، والمشابه لاحتفال النصارى بميلاد عيسى عليه السلام، وهو احتفال يُزري بهذين النبيين الكريمين عليهما -الصلاة والسلام-، ويكفي أنه محدث بعد القرون المفضلة الأولى. . ولكني أريد أن أتناولها من جانب آخر.
هل الاحتفال معناه الابتهاج والفرح وما يصاحبها تعبيرًا عنها، من أصوات وسماع-مباح في ذاته أو غير مباح-؟ أم يكون بصنع أو شراء مأكولات وحلويات. . . ؟ بعضهم يعتبر يوم العيد عيدًا دينيًّا، عطلة عن العمل مدفوعة الأجر للعمال، بينما جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- ليعمل لا ليُعطِّل، وبعضهم يحتفل فيه بليلة حمراء والعياذ بالله! المهم أن (يحتفل) ولو بضد ما جاء به النبي -صلى الله عليهم سلم-. يا أحباب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-!
إن معنى الاحتفال هو الامتلاء والمبالغة (*) والاهتمام، فشيء حافل بكذا أي ممتلئ به، غاصّ، فكوننا نحتفل بالنبي -صلى الله عليه وسلم- هذا أمر واجب، بل هو مقتضى قولنا: إننا مؤمنون به -صلى الله عليه وسلم- بل إن الاحتفال بالنبي الكريم أمر جاء في شريعة ربنا -جل وعلا-، كما قال بعض أهل العلم في قول الله -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، فقد وصف الله -تعالى- نبيه بالرحمة، ومع قول الله -تعالى- في الآية الأخرى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا)، تجد أن الله أمرنا أن نفرح بفضل الله وكذلك نفرح برحمته والتي هي نبينا -صلى الله عليه وسلم- ونحتفل ونحتفل. وعلى هذا المعنى للاحتفـال لا نقول يجوز الاحتفال بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، بل يجب في الجملة. . (لأن السنة مستحبة بأفرادها واجبة بجملتها. . . أقصد أن من ترك كل المستحبات فإنه يكون آثما لأنه معرض عن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو من مباحث علم الأصول). . كيف نحتفل؟ نحتفل به أي نمتلئ به ونهتم. . . فنملأ مـــاذا بمــــاذا؟ !نحتفل ونمتلئ بحبه الثابت في قلوبنا والفائق على حب الوالد والولد والناس أجمعين كما في الحديث: "فوالذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده" (البخاري، 15، مسلم، 44). .
نحتفل أي نمتلئ بسنته ونهتمَّ بها. . فتمتلئ حياتنا بسنته في القيام والقعود، والعبادة والسلوك، وفي المدنية والعسكرية والسياسية. . وفي النوم والاستيقاظ. . وفي كل جزئية من حياتنا بَلَغَتنا عنه فيها سُنَّةٌ صحيحة. نحتفل أي نمتلئ بجهاده المبارك، الذي لم يشهد العالمُ مثلَه، أكبر انتصار في العالم، بل في الدنيا بأقلها خسائر في الأرواح في أقصر مدة، ووصل بها إلى أمكن دولة في التاريخ، بخلاف ما امتلأ به العالم من عراك غير شريف ولا نظيف، دول هشة ومغشوشة. . وعلى ركام من الأشلاء، وأنهار من الدماء! نحتفل به أي نمتلئ ونهتم بالغ الاهتمام بخُلقه وحسن تعامله مع الناس جميعهم، الموافق والمخالف، حتى يجعل من خُلُقه ذلك مفتاحًا يفتح به قلوبًا أغلقها الجهل أو الجاهلية: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت:34]، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)[آل عمران:159]، "كان خلقه القرآن" (الألباني؛ صحيح الجامع:4811).
متى وكيف نحتفل به -صلى الله عليه وسلم-؟ نحتفل به قيامًا وقعودًا وعلى جنوبنا. . . ونحتفل به في صلاتنا ونسكنا ومحيانا ومماتنا، ونوصي أن يدفنونا في قبورنا محتفلين به -صلى الله عليه وسلم- فيضعوننا في القبور متيمنين. . وهم يرددون: "بسم الله وعلى ملة رسول الله. . بسم الله وعلى سنة رسول الله"؛ فنحتفل به في حياتنا وعند مماتنا. فالعاقل والصادق في حبه للنبي -صلى الله عليه وسلم- والعالم بمهمة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي جاء يؤديها يعلم أنه لا يجوز اختصار الاحتفال بمولد النبي. . . وإنما بالنبي -صلى الله عليه وسلم- مولدا ومحيا وممشى وممات. . ويعلم ما معنى الاحتفال، ويعلم أن الاحتفال يكون بما احتفل به الأصحاب الأطهار الأبرار بالنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فهم أشد حبا له منا، وأعدل في دين الله، ويكفي أن الله -تعالى- اختارهم هم ليكونوا أصحابًا له -صلى الله عليه وسلم-.
من العيب أن نحتفل بيوم، أي نهتم به في يوم ونعرض عنه حياتنا. . . ومن العيب أن نتذكره أول أيام حياته وننسى حياته كلها. من العيب والجفاء أن نحتفل بما هو طبيعي يشترك فيه كل الناس. . . ولا نحتفل ما انفرد به -صلى الله عليه- مما خصَّه الله -تعالى- به، ليس من بين البشر العاديين، بل من بين سائر النبيين -عليهم جميعا صلاة وسلام رب العالمين-. فأيها أولى بالاحتفال والاهتمام والفرح، ما خُصَّ به وفُضِّل وعاد نفعه على العالمين، أو ما لم يظهر فيه فارق لذاته؟ أيها أولى بالاحتفال؟
فلو صدق المحتفلون في محبتهم وفقهوا دينهم، فأيهما أولى بالاحتفال: يومَ وُلِد كما يولد كل البشر، أم يوم بُعِث رسولا نبيًّا، ليُخرج الناس من الظلمات إلى النور، ورحمة للعالمين، وهو مقتضى قوله تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس:58].
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- في الآية قال: فضل الله العلم، ورحمته محمد -صلى الله عليه وسلم-. قال الله -تعالى- (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107]، ولاحِظ أن الله -تعالى- ربط الرحمة التي يكون بها الفرح بالرسالة لا بالخَلق والمولد، فلو كان الاحتفال يومًا لكان بالبعثة أولى منه بالمولد!
لو صدق المحتفلون في محبتهم وفقهوا دينهم؛ فأيهما أولى بالاحتفال: يوم مولده الذي شابَهَ كل موالد الناس، أم يوم عُرج به إلى السماء حيث فُرِضَت فيه أعظم عبادة في الإسلام، عمود الدين، وعهد ما بين الإسلام والكفر كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-؟
لو صدق المحتفلون في محبتهم وفقهوا دينهم؛ فأيهما أولى بالاحتفال: يوم ميلاده، أم يوم أنجاه الله -تعالى- وصاحبه: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)[التوية:40].
لو صدق المحتفلون في محبتهم وفقهوا دينهم؛ فأيهما أولى بالاحتفال به: يوم وُلِد كما يولد كل الناس، أم يوم هاجر من مكة على المدينة، فنجاه الله بدعوته وأقام دولته الإسلامية؟ فنجَّاه الله من فراعنة هذه الأمة كما أنجى الله موسى من فرعون. فكان احتفاله -صلى الله عليه وسلم- صومَ يوم النجاة يوم عاشوراء، وليس بوم ميلاد موسى -عليه والسلام-، بل حتى يهود الأولون لم يحتفلوا بميلاد موسى -عليه السلام- وإنما بنجاته. . بنجاة التوحيد من الكفر.
لو صدق المحتفلون وفقهوا؛ فأيهما أولى بالاحتفال: يوم مولده الذي لا يُذكّر بدين ولا فارق، أم يوم نزلت عليه: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة"3]، فتمت النعمة على العالمين. حتى كان اليهودي أفقه من جماهير المسلمين اليوم، فقد قال يهودي لعمر -رضي الله عنه-: إنكم تقرؤون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا. قال: وأي آية هي؟ قال: قوله عز وجل: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمت) [المائدة: 3] .
أين دلائل المحبة وبراهين الهيام في دنيا المسلمين؟ !والمختصر المفيد أن محبته الحقيقية والاحتفال الحقيقي الشرعي الرباني المثمر نصرًا في الدنيا وجنة في الآخرة هو اتِّباعه -صلى الله عليه وسلم-، ومصداق ذلك في قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران:31].
أين هذا الاحتفال الهائم بمحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- مع هجر سنته ومخالفة شريعته والغفلة عن سيرته في حياة المسلمين. . مظهرا ومخبرًا-إلا مَن رحم الله -تعالى-- نساءٌ عاريات متبرجات يحتفلن بالمولد. . . رجالٌ متشبهون بهن، أو باليهود والنصارى- لا في حلق اللِّحى فحسب من غير إكراه ولا اضطرار- ويحتفلون بالمولد. . تُرَّاك صلاة آكلو ربا مُحكِّمون لغير شريعة الله موالون لليهود والنصارى على المسلمين. . . لا يحتفلون بشريعته في حكمهم ويحتفلون بمولده على موائدهم أو في مراقصهم!
ولما كان الأمر كذلك كان ولا بد لنا أن نفرح فرحًا شرعيًا (بالنبي الكريم) موافقًا لما جاء في كتاب ربنا وسنة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- بسنته وما جاء به من الحق وما دعا إليه من الهدى لا بمولده كما يفعله أدعياء المحبة. أما أن يقلد في معنى الاحتفال وفي كيفيته وفي توقيته. . فهذا حقه أن يقيم مأتمًا على نفسه قبل أن يحتفل بما يحتفل به مقلَّدوه! فاللهم ارزقنا حبك وحب نبيك عليه الصلاة والسلام، وارزقنا الاحتفال به على الطريقة التي تحبها وترضاها. والله الهادي إلى سواء السبيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(*)- وضَرْع حَافِل أَي مُمْتَلِئٌ لَبَنًا. . . وَيُقَالُ: احْتَفَلَ الْوَادِي بِالسَّيْلِ أَي امتلأَ. . والاحْتِفَال: الْمُبَالَغَةُ. (لسان العرب:11 / 157- 158). أول نشر كان في : 02/ 01/ 2015 أبو محمد بن عبد الله
مصدر المادة/ طريق الإسلام
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم