اقتباس
الإسلام هو الدين الحق الموافق للفطرة البشرية، المراعي لحاجات النفس المتغيرة، لذلك كان منهجه قائما على التيسير والتسهيل، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يخير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما. وقد حفلت نصوص الشرع بالدعوة إلى...
الهدف الأساسي للعمل الدعوي هو تحبيب الناس في دين الله -عز وجل-، واقتيادهم إلى تعاليمه وشريعته بسلاسل من حرير بكل رفق ويسر، فالنفس البشرية نافرة بطبعها تميل إلى الكسل والدعة والتحلل من التكاليف والأوامر، وإذا لم يسلك الداعية أيسر السبل وأقربها للنفس البشرية، ويستعمل اللين لا الميوعة، واليسر لا التسيب، فسوف يخسر كثيرا، وينفر منه الناس، ولا يجد لدعواه صدى.
ومن أبرز الأمراض والعوائق والآفات التي تعترض طريق الداعية من أجل تحقيق سياسة الرفق واليسر في الدعوة: التعسير والتعقيد في العمل الدعوي، وتكليف الناس ما يطيقون من الأوامر والنواهي، ورفع المستحبات والنوافل مرتبة الفرائض والواجبات، إلى آخر هذه الصورة العسيرة على النفس والقلب.
أولا: التعسير في اللغة والاصطلاح:
معنى التَّعْسِير لغة: من العسر وهو نقيض اليسر. والعسرة والإعسار: قلة ذات اليد، وأصل هذه المادة يدل على صعوبة وشدة. يقال: عسُر الأمر عسرًا وعَسارة، فهو عسير، أي: صعب شديد، وعسِر الأمر وتعسَّر واستعسر، وعسر الرجل: قل سماحه في الأمور. وعسرت الغريم أعسره طلبت منه الدين على عسره، وأعسرته كذلك.
معنى التَّعْسِير اصطلاحًا: أن يشدِّد الإنسان على نفسه أو غيره في أمر الدِّين بالزِّيادة على المشروع، أو في أمر الدُّنيا بترك الأَيْسَر ما لم يكن إثمًا.
ثانيا: موقف الشرع من التعسير:
الإسلام هو الدين الحق الموافق للفطرة البشرية، المراعي لحاجات النفس المتغيرة، لذلك كان منهجه قائما على التيسير والتسهيل، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يخير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما.
وقد حفلت نصوص الشرع بالدعوة إلى التيسير والرفق واللين، والتحذير من التعسير والتعقيد، من أبرزها:
أولا: في القرآن الكريم:
قال تعالى: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) [الطَّلاق: 6] قال المفسرون: تضمنت هذه الآية معاتبة للأمِّ على المعَاسَرة، كما تقول (لمن تستقضيه حاجةً فيتوانى): سيقضيها غيرك، تريد أن تبقى غير مقضيَّة فأنت مَلُومٌ. وأيضا لا يخلو التوجيه القرآني عن معاتبة الأب، حيث أسقط في الجواب عن حيِّز شرف الخطاب مع الإشارة إلى أنَّه إن ضُويِقَت الأمُّ في الأجر، فامتنعت مِن الإرضاع لذلك، فلا بدَّ مِن إرضاع امرأة أخرى، وهي -أيضًا- تطلب الأجر في الأغلب الأكثر، والأُمُّ أشفق وأحنُّ، فهي به أولى، وبما ذكرنا يظهر كمال الارتباط بين الشَّرط والجزاء".
قوله تعالى: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 280] قال ابن كثير: "وقوله: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 280] يأمر تعالى بالصَّبر على المعسر الذي لا يجد وفاءً، فقال: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) [البقرة: 280] أي لا كما كان أهل الجاهليَّة يقول أحدهم لمدِينه إذا حلَّ عليه الدَّين: إمَّا أن تقضي وإمَّا أن تُرْبِي.
ثمَّ يندب إلى الوضع عنه، ويَعِدُ على ذلك الخير والثَّواب الجزيل، فقال: (وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 280] أي وأن تتركوا رأس المال بالكليِّة وتضعوه عن المدِين".
ثانيًا: في السُّنَّة النَّبويَّة:
عن عبد الله بن أبي قتادة: "أنَّ أبا قتادة طلب غريمًا له، فتوارى عنه ثم وجده، فقال: إني معسر، فقال: آلله؟ قال: آلله؟ قال: فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يقول: "من سرَّه أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة، فلينفِّس عن معسر، أو يضع عنه" أي: ليؤخر مطالبة الدين عن المدين المعسر. وقيل: معناه يفرج عنه، أو يضع عنه، أي: يحط عنه، وهذا مقتبس من مشكاة قوله تعالى: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ) [البقرة: 280].
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلَّى الله تعالى عليه وآله وسلَّم-: "لا تشدِّدوا على أنفسكم فيشدِّد الله عليكم، فإنَّ قومًا شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصَّوامع والدِّيار؛ رهبانيَّة ابتدعوها ما كتبناها عليهم"، قال ابن تيمية: "ففيه نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن التشدد في الدين بالزيادة على المشروع. والتشديد: تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب، ولا مستحب: بمنزلة الواجب والمستحب في العبادات، وتارة باتخاذ ما ليس بمحرم، ولا مكروه بمنزلة المحرم والمكروه، في الطيبات؛ وعلل ذلك بأنَّ الذين شددوا على أنفسهم من النصارى، شدَّد الله عليهم لذلك، حتى آل الأمر إلى ما هم عليه من الرهبانية المبتدعة". وقال ابن القيِّم: "نهى النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وآله وسلَّم- عن التَّشديد في الدِّين، وذلك بالزِّيادة على المشروع، وأخبر أنَّ تشديد العبد على نفسه هو السَّبب لتشديد الله عليه، إمَّا بالقَدَر، وإمَّا بالشَّرع، فالتَّشديد بالشَّرع كما يشدِّد على نفسه بالنَّذر الثَّقيل، فيلزمه الوفاء به، وبالقَدَر: كفعل أهل الوسواس؛ فإنَّهم شدَّدوا على أنفسهم، فشدَّد عليهم القَدَر، حتى استحكم ذلك، وصار صفة لازمة لهم".
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما أخبروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليهم، فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".
قال ابن تيمية معلقًا على هذا الحديث: "والأحاديث الموافقة لهذا كثيرة في بيان أنَّ سنته التي هي الاقتصاد في العبادة، وفي ترك الشهوات؛ خير من رهبانية النصارى التي هي ترك عامة الشهوات من النكاح وغيره، والغلو في العبادات صومًا وصلاة".
وقال ابن حجر: "قوله: "إني لأخشاكم لله وأتقاكم له" فيه إشارة إلى رد ما بنوا عليه أمرهم من أن المغفور له لا يحتاج إلى مزيد في العبادة بخلاف غيره فأعلمهم أنَّه مع كونه يبالغ في التشديد في العبادة أخشى لله وأتقى من الذين يشددون، وإنما كان كذلك لأنَّ المشدد لا يأمن من الملل بخلاف المقتصد، فإنه أمكن لاستمراره وخير العمل ما داوم عليه صاحبه".
وقد آخى النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بين سلمان وأبي الدَّرداء، فزار سلمان أبا الدَّرداء، فرأى أمَّ الدَّرداء متبذِّلةً، فقال لها: "ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدَّرداء ليس له حاجة في الدُّنيا. فجاء أبو الدَّرداء، فصنع له طعامًا، فقال: كُلْ. قال: فإنِّي صائمٌ. قال: ما أنا بآكلٍ حتى تأكل. قال: فأكل، فلمَّا كان اللَّيل ذهب أبو الدَّرداء يقوم، قال: نَمْ. فنام، ثمَّ ذهب يقوم، فقال: نَمْ. فلمَّا كان مِن آخر اللَّيل قال سلمان: قُم الآن. فصلَّيا، فقال له سلمان: إنَّ لربِّك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعط كلَّ ذي حقٍّ حقَّه"، فأتى النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك له، فقال النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: "صدق سلمان".
وقد دخل عبد الملك بن عمر عبد العزيز على أبيه فوجده نائما وقت القيلولة، فأنكر عليه بقوله :"يا أبت، على ما تقيل! وقد تداركت عليك المظالم، لعلَّ الموت يدركك في منامك، وأنت لم تقضِ دأب نفسك ممَّا ورد عليك! وشدَّد عليه، فلمَّا كان اليوم الثَّاني فعل به مثل ذلك، فقال عمر: يا بنيَّ، إنَّ نفسي مطيَّتي، وإن لم أرفق بها لم تبلِّغني، يا بنيَّ، لو شاء الله -عز وجل- أن ينزِّل القرآن جملةً واحدةً لفعل، نزَّل الآية بعد الآية حتى إبطاء ذلك في قلوبهم".
وقد قال ابن القيِّم: "لـمَّا ذكر شيئًا مِن مكائد الشَّيطان، قال بعض السَّلف: ما أمر الله -تعالى- بأمرٍ إلَّا وللشَّيطان فيه نزغتان، إمَّا إلى تفريط وتقصير، وإمَّا إلى مجاوزةٍ وغلوٍّ، ولا يبالي بأيِّها ظَفَر، وقد اقتطع أكثر النَّاس (إلَّا القليل) في هذين الواديين: وادي التَّقصير، ووادي المجاوزة والتَّعدِّي. والقليل منهم الثَّابت على الصِّراط الذي كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه".
وقال ابن حجر: "لا يتعمَّق أحدٌ في الأعمال الدِّينيَّة، ويترك الرِّفق إلَّا عجز وانقطع، فيُغْلَب".
وقال العيني: "التشديد، وهو تحمل المشقة الزائدة في العبادة، وذلك لمخافة الفتور والإملال، ولئلا ينقطع المرء عنها، فيكون كأنه رجع فيما بذله من نفسه وتطوع به".
عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن أنظر معسِرًا، أو وضع عنه، أظلَّه الله في ظلِّه" قال الطَّحاوي: "الإِعسار قد يكون على العدم الذي لا يوصل معه إلى شيء، وقد يكون على القلة التي يوصل معها، ما إذا أخذ ممّن عليه الدَّين فدحه وكشفه، وأضر به، والعسرة تجمعهما جميعا، غير أنهما يختلفان فيها، فيكون أحدهما بها معدما، ولا يكون الآخر منهما بها معدما، وكل معدم معسر، وليس كل معسر معدما، فقد يحتمل أن يكون المعسر المقصود بما في هذه الآثار إليه هو المعسر الذي يجد ما إن أخذ منه فدحه، وكشفه، وأضر به، فمن أنظر من هذه حاله بما له عليه، فقد آثره على نفسه، واستحقَّ ما للمؤثرين على أنفسهم، وكان من أهل الوعد الذي ذكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذه الآثار".
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النَّبي -صلَّى الله عليه وآله وسلِّم- قال: "مَن نفَّس عن مؤمن كربةً مِن كرب الدُّنيا، نفَّس الله عنه كربةً مِن كرب يوم القيامة، ومَن يسَّر على مُعسرٍ، يسَّر الله عليه في الدُّنيا والآخرة. ومَن ستر مسلمًا، ستره الله في الدُّنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنَّة، وما اجتمع قومٌ في بيت مِن بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلَّا نزلت عليهم السَّكينة، وغشيتهم الرَّحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومَن بطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه".
قال ابن رجب: "هذا يدلُّ على أنَّ الإعسار قد يحصل في الآخرة، وقد وصف الله يوم القيامة بأنَّه يوم عسير، وأنَّه على الكافرين غير يسير، فدلَّ على أنَّه يسير على غيرهم، وقال تعالى: (َكَنَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا) [الفرقان: 26]، والتَّيسير على المعْسِر في الدُّنيا مِن جهة المال يكون بأحد أمرين: إمَّا بإنظاره إلى الميْسَرة، وذلك واجب؛ كما قال تعالى: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) [البقرة: 280]، وتارة بالوضع عنه إن كان غريمًا، وإلَّا فبإعطائه ما يزول به إعساره، وكلاهما له فضل عظيم".
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كان تاجر يُدَاين النَّاس، فإذا رأى مُعْسِرًا، قال لصبيانه تجاوزوا عنه، لعلَّ الله أن يتجاوز عنَّا، فتجاوز الله عنه".
قال النَّووي: "والتَّجاوز والتَّجوُّز معناهما المسَامَحة في الاقتضاء والاستيفاء، وقبول ما فيه نقص يسير، كما قال: وأتجوَّز في السِّكة. وفي هذه الأحاديث فضل إنظار المعْسِر والوضع عنه، إمَّا كلَّ الدَّين، وإمَّا بعضه مِن كثيرٍ أو قليلٍ، وفضل المسَامَحة في الاقتضاء وفي الاستيفاء، سواء استوفى مِن مُوسِر أو مُعْسِر، وفضل الوضع مِن الدَّين، وأنَّه لا يحتقر شيء مِن أفعال الخير، فلعلَّه سبب السَّعادة والرَّحمة. وفيه جواز توكيل العبيد، والإذن لهم في التَّصرُّف".
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا" للنووي -رحمه الله- كلاما نفيسا على هذا الحديث بمثابة الدستور للدعاة والخطباء والفقهاء، قال فيه: "جمع في هذه الألفاظ بين الشَّيء وضدِّه؛ لأنَّه قد يفعلهما في وقتين، فلو اقتصر على "يسِّروا" لصدق ذلك على مَن يسَّر مرَّةً أو مرَّات، وعَسَّر في معظم الحالات، فإذا قال: "ولا تعسِّروا" انتفى التَّعْسِير في جميع الأحوال مِن جميع وجوهه، وهذا هو المطلوب، وكذا يقال في: "يسِّرا ولا تنفِّرا، وتطاوعا ولا تختلفا"؛ لأنَّهما قد يتطاوعان في وقت، ويختلفان في وقت، وقد يتطاوعان في شيء، ويختلفان في شيء.
وفي هذا الحديث: الأمر بالتَّبشير بفضل الله، وعظيم ثوابه، وجزيل عطائه، وسعة رحمته، والنَّهي عن التَّنْفِير بذكر التَّخويف، وأنواع الوعيد محضة مِن غير ضمِّها إلى التَّبشير.
وفيه: تأليف مَن قَرُب إسلامه، وترك التَّشديد عليهم، وكذلك مَن قارب البلوغ مِن الصِّبيان ومَن بلغ، ومَن تاب مِن المعاصي، كلُّهم يُتَلطَّف بهم، ويُدرَجون في أنواع الطَّاعة قليلًا قليلًا، وقد كانت أمور الإسلام في التَّكليف على التَّدريج، فمتى يسَّر على الدَّاخل في الطَّاعة (أو المريد للدُّخول فيها) سَهُلَت عليه، وكانت عاقبته التَّزايد منها، ومتى عَسُرت عليه أوشك أن لا يدخل فيها، وإن دَخَل أوشك أن لا يدوم، أو لا يَسْتَحْلِيَها.
وفيه: أمر الوُلَاة بالرِّفق، واتِّفاق المتشاركين في ولاية ونحوها، وهذا مِن المهمَّات؛ فإنَّ غالب المصالح لا يتمُّ إلَّا بالاتِّفاق، ومتى حصل الاختلاف فات.
وفيه: وصيَّة الإمام الوُلَاة، وإن كانوا أهل فضل وصلاح، كمعاذ وأبي موسى؛ فإنَّ الذِّكرى تنفع المؤمنين".
وعن أبي هريرة قال: "قام أعرابيٌّ فبال في المسجد، فتناوله النَّاس، فقال لهم النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: دعوه، وأريقوا على بوله سجلًا مِن ماء، أو ذَنُوبًا مِن ماء، فإنَّما بُعِثتُم ميسِّرين، ولم تُبْعَثوا معسِّرين" قال العيني: "فيه مراعاة التَّيسير على الجاهل، والتَّألف للقلوب"، وأولى الناس بالتيسير الداعية إلى الله؛ اقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك المفتي عليه أن يراعي التيسير ورفع الحرج عن الناس، وقال ابن العربي: "إذا جاء السَّائل عن مسألة، فوجدتم له مَخْلَصًا فيها، فلا تسألوه عن شيء، وإن لم تجدوا له مَخْلصًا فحينئذ اسألوه عن تصرُّف أحواله وأقواله ونيَّته، عسى أن يكون له مَخْلصًا".
وكان أبو موسى -رضي الله عنه- يشدِّد في البول، ويبول في قارورة، ويقول: "إنَّ بني إسرائيل كان إذا أصاب جلد أحدِهم بولٌ، قرضه بالمقاريض، فلما وصل الخبر إلى حذيفة -رضي الله عنه- قال: "لوددت أنَّ صاحبكم لا يشدِّد هذا التَّشديد، فلقد رأيتني أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- نتماشى، فأتى سُبَاطَة خلف حائط، فقام كما يقوم أحدكم، فبال، فانتبذت منه، فأشار إليِّ فجئت، فقمت عند عقبه حتى فرغ".
ثالثا: أسباب الوقوع في مرض التَّعْسِير:
1- الجهل بحقيقة الدين، ومخالفة هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمره بالتيسير.
2- الخلل النفسي، لا يلجأ للتعسير وتعقيد الأمور إلا من كان في خلقه التواء، وفي طبعه كزازة، وفي تربيته نقص وخلل.
3- حب الدنيا، والتعلق بالمال، دون النظر إلى الغير أو مراعاتهم، أو تقدير ظروفهم.
4- الجهل بعواقبه الدنيوية والأخروية، والجهل بما يجنيه التيسير من مكاسب وفوائد.
5- الفهم الخاطئ للتدين، بالاقتصار بسنن الهدي الظاهر، والسمت البادي، دون الاهتمام بعمارة الباطن، مما يؤدي إلى ضعف الإيمان، وقلة الدين، والبعد عن مواطن الخير، وإرادة النصح للناس والرفق بهم.
6- مخالطة الأشباه، ومجالسة من يتخلقون به، فمن جالس جانس، وصاحب الأخلاق الرديئة يعدي كما يعدي الأجرب.
7- الخلل التربوي، فمن تربى في مجتمع يسوده التشديد في الأمور، والتعسير، فسينشأ على هذا الخلق ويعتاده، كما هو حال المجتمعات التي ينتشر فيها فكر الخوارج والغلاة.
8- غياب المربين المخلصين والدعاة الواعين، فيصير كل امرئ مربي نفسه ومعلمها، ومن هنا يعشعش الشيطان ويلقي الوساوس، كل حسب استعداده النفسي بين إفراط وتفريط.
رابعا: صور التعسير الدعوي:
وللتعسير في الدعوة صور كثيرة من أبرزها:
1- استعمال الشدة في الدَّعوة والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، فالأمر بالمعروف لا يكون إلَّا بالمعروف، والنَّهي عن المنكر يكون غير منكر.
2- تَعْسِير المرء على نفسه: فربما يترك الأخذ بالرخصة، فيقع في حرج ومشقة، معسِّرًا على نفسه، مع أنَّ الله -سبحانه- يحب أن تُؤتَى رخصه، وقد رفع عنا الحرج: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: 78]، (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185].
3- إتباع خطاب دعوي صارم تجاه المدعوين يقوم في الأساس على فكرة إلزامهم بتكاليف الدين كلها مرة واحدة، دون مراعاة لسنة التدرج والتهيئة الإيمانية والنفسية التي اتبعها الشارع الحكيم مع الأوامر والنواهي، ومخاطبة المدعوين بالفروع قبل الأصول، والسنن والمستحبات قبل الفروض والواجبات، وبالظني قبل اليقيني، وبالمختلف فيه قبل المجمع عليه.
4- الغضب والشدة والإنكار بقسوة على أي خلل في العمل أو التقصير فيه حتى ولو كان صغيرا وغير مؤثر، بدعوى طلب الكمال والوصول إلى الرقي، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قَارِبُوا وَسَدِّدوا, واعلمُوا أنه لن ينجو أحدُ منكُم بعمله" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل" (رواه مسلم)، و "المقاربة" القصد الذي لا غُلُوَّ فيه ولا تقصير. و "السَّدادُ" الاستقامةُ والإصابةُ. وهذا الحديث يدل على أن الاستقامة على حسب الاستطاعة؛ لأن الإنسان مهما بلغ كماله لابد أن يقع منه تصير وخطأ وغيره.
5- زجر الناس عن المباحات، والانكار عليهم التمتع بنعيم الدنيا، وهذه المسألة دقيقة لأنها تقع بين نقيضين:
الأول: من يتوسع في ملذات الدنيا ومباحاتها وينغمس في شهواتها دون الوقوع في إثم أو محرم، وهذا مذموم ومنهي عنه في أحاديث كثيرة.
والثاني: من يحرم زينة الله وما أباحه للناس من متع الدنيا من مال ونساء وغيره، وهو أيضا مذموم بنص القرآن والسنة، فقد قال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [الأعراف: 32].
وروى مسلم عن أبي عثمان النهدي عن حنظلة الأسيدي قال: وكان من كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان الله، ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً؟ قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وما ذاك؟" قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده؛ إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم، وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات".
خامسا: مضار التعسير الدعوي:
من أكبر المضار وأولاها بالذكر: أنَّ من كانت صفته التعسير يعتبر مخالفًا لأمر الله، بعيدًا عن شرعه، فالله -تبارك وتعالى- قد أمر بالتيسير على العباد، والتسهيل في التعامل معهم، وقد يدفع به إلى تصرفات غير لائقة، قد تضره في دينه أو دنياه، فقد يفعل المعسر أعمالًا محرمة، وأفعالًا مشينة، والداعي هو التعسير، فقد يضطره إلى السرقة أو النصب أو الاحتيال، بغرض فك عسرته، ودفع الحرج عنه".
ومن مضاره أيضا: أنه يزرع بذور البغض والكراهية في الصدور، فتظهر في واقع الناس، فيتحول المجتمع إلى مجتمع يتصف بالنفرة والتجافي، يكره بعضه بعضًا، ويحقد بعضه على بعض، فالتعسير نازع لأواصر المحبَّة، قاطع لحبالها، فكم من معسر بتعسيره فارق أصحابه وأحبابه، بل إخوانه وأهله، والعكس بالعكس، فما يسر ميسر إلا صار تيسيره رحمًا بينه وبين من يسر في معاملتهم. والتعسير يقتل فضيلة الرفق بين الناس أو يضعفها.
ومن أخطر أضراره: أنه يسبب الانقطاع عن أعمال الخير، فالمشدد على نفسه لا يبلغ ما يرجوه، بل يقع عادةً فتور بعد تعسيره، يجعله يمتنع مِن العبادة بالكليَّة، فالتشديد في العبادة يسبب الفتور والملل، وهو أمر مشاهد باطراد، ولا ينجو منه معسر على نفسه؛ فعن أبي هريرة عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ الدِّين يُسْرٌ، ولن يُشادَّ الدِّين أحدٌ إلَّا غلبه، فسدِّدوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والرَّوحة وشيء مِن الدُّلجة".
قال ابن المنِير: "في هذا الحديث عَلَمٌ مِن أعلام النُّبوَّة؛ فقد رأينا ورأى النَّاس قبلنا أنَّ كلَّ متنطِّعٍ في الدِّين ينقطع، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة، فإنَّه مِن الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدِّي إلى الملَال أو المبالغة في التَّطوع المفضي إلى ترك الأفضل أو إخراج الفرض عن وقته، كمن بات يصلِّي اللَّيل كلَّه، ويُغَالِب النَّوم إلى أن غلبته عيناه في آخر اللَّيل، فنام عن صلاة الصُّبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقت المختار، أو إلى أن طلعت الشَّمس فخرج وقت الفريضة".
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم