اقتباس
3 ـ التأخر عن تصدر المناصب والظهور حتى يتحقق النضج وكمال التربية، خوفاً من العجب ثمّ الغرور، ويعمل بحكمة الصالحين: "ادفن وجودك في أرض الخمول فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه "، وهذه الكلمة أفضل توجيه لمن يريدون الظهور على عجل، ومن يتوهمون أن نصيبا قليلا من المعرفة والخبرة كاف في الترشيح لقيادة الجماهير، والصدارة بين الناس، فليصنع المرء نفسه أولا في عزلة وفى صمت وفى تؤدة، كالشجرة التي يختفي أصلها في ظلمة التراب أمدا تتكون فيه التكون الصحيح، ثم تبدأ تشق طريقها إلى الهواء والضوء..
من الأمراض الخطيرة والمؤثرة التي تعترض طريق الدعاة إلى الله -عز وجل-، وتعرضهم لنازلة من أعظم النوازل التي تصيب السائر إلى ربه؛ ألا وهي نازلة حبوط العمل، بحيث يصبح عمله مهما كان حجمه وقيمته هباء منثورا، مرض " الغــــرور " هذا المرض القلبي الفتاك الذي يصاب به بعض الدعاة ممن لهم سهم ونشاط ملحوظ في العمل، فالغرور للأسف لا يصيب الأفراد العاديين إنما يصيب عادة النشطاء والأكفاء وذوي الانجاز والإنتاج الدعوي. ومن خطورة هذا المرض الفتاك اشتق الله -عز وجل- للشيطان منه اسما وحذرنا منه كل الناس صراحة، قال تعالى: ( يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ) [ فاطر: 5]، فسمى الله تعالى إبليس بالغرور الذي يغر الناس ويخدعهم، كما ورد تفسيرات أخرى لمعنى الغرور في الآية سوف نعرض لها في حينها.
والغرور مرادف للكبر، وهو داء وبيل وشر مستطير، وإذا كان الغرور منهيا عنه لسائر البشر، فالنهي عنه بالنسبة للمجتمع الإسلامي بطريق الأولى، والنهي عنه بالنسبة للدعاة بطريق الأحرى، ومع الغرور يعجب المرء بنفسه، ويتبع هواه، وتتضخم "الأنا" عنده، ويزداد حبه لذاته، كما يزداد غمطه لحقوق الآخرين.وإن تعجب فعجب وجود هذه الآفة لدى بعض الدعاة، الذين من المفترض - وهم ورثة الأنبياء - أن تنطوي قلوبهم على الطهر والنقاء، والود والصفاء، لا على الكبر والغرور والأنانية، وتورم الذات.
الغرور في اللغة والاصطلاح:
يطلق الغرور في اللغة على عدة معان أهمها: الخداع سواء أكان للنفس أو للغير، أو للنفس وللغير معاً، تقول: غرّه، يغرّه، غروراً أي خدعه، وغرّ نفسه يغرها غروراً تعنى خدعها. ومنه قوله تعالى: (وما يعدهم الشيطان إلا غروراً) [ النساء: 120].
ومن معانيه أيضا ما يؤدى إلى الغرور، وما يوقع فيه، قال الجوهري، و الغرور بالضم ما اغتر به من متاع الدنيا. ومنه قوله سبحانه: (يا أيها الناس إن وعد الله حق، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور).
أما الغرور في الاصطلاح: هو إعجاب العامل بنفسه إعجاباً يصل إلى حد احتقار أو استصغار كل ما يصدر عن الآخرين بجنب ما يصدر عنه، ولكن دون النيل من ذواتهم أو الترفع على أشخاصهم. ولا شك أن من كان بهذه المثابة فهو مخدوع، وتبعاً لذلك فإننا يمكن أن نفهم مدى التلاقي بين المعنى الاصطلاحي و المعنى اللغوي.
مظاهر غرور الداعية:
إنّ من أعظم مداخل الشيطان على الإنسان إعجابه بنفسه، فيدخل نفسه فرح أو سرور بما يصدر عنها من أقوال أو أفعال دون تعد أو تجاوز على الآخرين، ولكن الأمر قد لا يتوقف عند هذا الحد، فإذا تبع الإعجاب بالنفس احتقار للآخرين أو تعد عليهم أصبح غروراً، وهو مرض قلبي قد يصاب به بعض أفراد المجتمع، وله أعراض ومظاهر من أبرزها ما يلي:
1ـ تضخم الذات، المغرور يعتبر نفسه أفضل من محيطه، وخاصةً أقرانه، ويرى غيره أدنى منه منزلةً وفضلاً، فلا يحب أن يتقدمّ عليه أحد، فهو يعتبر نفسه أفضل من يقود أو يتصدر، وأحسن من يتكلم ويعمل، فيعتبر رأيه أفضل الآراء، ويقدح عن ذهنه أجمل الأفكار وأرقاها، ولا يحب أن يَسمع رأياً غير رأيه، فرأيه الراجح بلا نقاش أو جدال.
2 ـ العجب بالنفس، فالمغرور يكثر من تزكية نفسه والثناء عليها ورفع قيمتها، فالمغرور كثير الكلام عن نفسه ورجاحة عقله، وتجده تياها بإنجازاته ويعظم أقوالهُ وأفعاله.
3 ـ المكابرة، فالمغرور لا يعترف بأخطائه وعثراته، فهو مصيب في كل ما يقول ويفعل، ويكره النقد ويستعصي على النصيحة، ويرفض الإذعان للحق أو السماع له.
4 ـ الشماتة، فيغمره الشعور بالفرح بسماع عيوب الآخرين لاسيما أقرانه، بالإضافة لاستحقار وتسفيه أعمالهم وإيذائهم بجوارحه ولسانه.
5 ـ قد يظهر على المغرور علامات مثل التشدق في القول، أو التمثيل في بعض نظراته أو سكناته وحركاته.
الفرق بين الثقة بالنفس والغرور:
وإذا كان من مقومات الداعية "الثقة بالنفس"، فقد يختلط الأمر على البعض فلا يستطيع أن يفرق بين الغرور والثقة بالنفس. فالثقة بالنفس تعني اعتزاز الداعية بمواهبه وبنفسه، من ناحية المظهر ومن ناحية المخبر، وهذا يعينه على نجاح دعوته، أما من يفقد الثقة بنفسه فإنه يتلعثم ويضطرب، وتتبخر منه المعلومات، وتضيع منه التعبيرات؛ لأن مخاطبة الجماهير تحتاج إلى جرأة بالغة تسعفه عند المفاجآت، وتتيح له حل المشكلات.
أما الغرور، فيدل على نفس غير سوية، وإيمان ضعيف، وقلب غير سليم، وحين نفتش في القرآن الكريم نجد أن القلب السليم الخالي من أمراض القلوب - وأهمها: الغل والحقد والحسد والكبر والغرور وحب الذات - هو المقوم الأول من مقومات الداعية، وبه تؤتي الدعوة ثمارها المرجوة ونتائجها المرتقبة.
أسباب غرور بعض الدعاة:
ولما كان الغرور شدة الإعجاب بالنفس، فإن أسبابه التي تؤدى إليه وبواعثه التي توقع فيه هي في جملتها أسباب الإعجاب بالنفس ويزاد عليها عدة أسباب أخرى منها:
1 ـ إهمال النفس من التفتيش والمحاسبة: إذ قد يكون السبب في الغرور إنما هو إهمال النفس من التفتيش والمحاسبة ذلك أن بعض العاملين قد يبتلى بالإعجاب بالنفس ولإهماله نفسه من التفتيش والمحاسبة يتمكن الداء منه ويتحول إلى احتقار أو استصغار ما يقع من الآخرين بالإضافة إلى ما يقع منه وبذلك يصير مغرورا ولعل هذا هو السر في وصية الإسلام بالتفتيش في النفس ومحاسبتها أولا بأول: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) [ الحشر: 18].
وقد يكون الإهمال من جانب الآخرين من المربين والمعلمين ومن يأخذ منهم العلم والدعوة ابتداء، ذلك أن بعض العاملين قد يصاب بآفة الإعجاب بالنفس ويكون من ضعف الإرادة وخور العزيمة وفتور الهمة بحيث لا يستطع التطهر بذاته من هذه الآفة وإنما لابد له من متابعة الآخرين ووقوفهم بجواره وأخذهم بيده وقد لا يلتفت الآخرين إلى ذلك فيقعدون عن أداء دورهم وواجبهم وحينئذ تتمكن هذه الآفة من النفس وتتحول بمرور الزمن إلى غرور والعياذ بالله0
ولعل ذلك هو السر في تأكيد الإسلام على النصيحة حتى جعل الدين كله منحصرا فيها وراجعا إليها: إذ يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: " الدين النصيحة " قلنا: لمن ؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " ولعله السر أيضا في دعوته إلى التضامن والتعاون بين المسلمين: إذ يقول الله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ) [ المائدة: 1] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمن مرآة المؤمن والمؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته ويحوطه من ورائه ".
2 ـ الغلو أو التشدد في الدين: فقد يكون السبب في الغرور إنما هو الغلو أو التشدد في الدين ذلك أن بعض العاملين قد يقبل على منهج الله في غلو وتشدد وبعد فترة من الزمان ينظر حوله فيرى غيره من العاملين يسلكون المنهج الوسط فيظن لغفلته أو عدم إدراكه طبيعة هذا الدين أن ذلك منهم تفريط أو تضيع ويتمادى به هذا الظن إلى جد الاحتقار والاستصغار لكل ما يصدر عنهم بالإضافة إلى ما يقع منه وذلك هو الغرور ولعل ذلك هو بعض السر في دعوة الإسلام إلى الوسطية بل وتحذيره من الغلو أو التشدد في الدين: إذ يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- للرهط الذين عزموا على التبتل واعتزال الحياة: " أنتم قلتم كذا وكذا: أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكنى أصوم وأفطر وأصلى وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس منى" ويقول: " هلك المتنطعون " قالها ثلاثا يعنى: المتعمقين المجاوزين الحدود في أقوالهم، وقال أيضا: "إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من قبلكم بالغلو في الدين "، وقال: "إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا ".
3 ـ بيئة النشأة: فقد ينشئ الداعية في أسرة ومحيط يغلب عليه التفاخر والتكبر لمال أو لجاه أو لنسب أو لحسب، وتأتي التربية الأسرية لتشربه داء الغرور والتعالي منذ الصبا، فينشأ محملا بهذه الآفات الفتاكة والتي إذا لم تتدارك سريعا زادت حدتها وغلظت كثافتها مع تقدم السن.
4 ـ المدح الزائد: فمن الأمور الخطيرة التي قد تسبب الغرور المدح غير الرشيد، فعنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيه، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مِنْ رَجُلٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَفْضَلُ مِنْهُ فِي كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ مِرَارًا " [متفق عليه].
وقد بوّب النووي رحمه الله هذا الحديث تحت باب: كراهة المدح في الوجه لمن خيف عليه مفسدة من إعجاب ونحوه، وجوازه بلا كراهة لمن أُمن ذلك في حقه؛ وذلك لكمال تقواه ورسوخ عقله ومعرفته. وعدم مراعاة الآداب المعتبرة عند مدح الأفراد،وترك الاعتدال في الثناء والاحترام والانقياد مفسدة ما بعدها مفسدة للآخرين، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لَا مَحَالَةَ، فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ فُلَانًا، إِنْ كَانَ يُرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا" [رواه البخاري ومسلم ].
5 ـ نسيان المعاصي والسيئات: فقد يكون السبب في الغرور نسيان المعاصي والسيئات، ذلك أننا جميعا بشر، وشأن البشر، سوى النبيين، الصواب والخطأ، وإذا غفل العامل عن ذلك فإنه كثيرا ما يقف عند الطاعة أو الصواب في الوقت الذي ينسى فيه المعصية أو الخطأ، وتكون العاقبة الإعجاب بالنفس المقرون باحتقار ما يقع فيه الآخرون إلى جانب ما يصدر عنه، وهذا هو الغرور، ولقد لفت المولى سبحانه وتعالى النظر إلى هذا السبب أو إلى هذا الباعث وهو يمدح صنفا من المؤمنين يؤدى الطاعة ويخاف أن يكون قد وقع منه ما يحول بينه وبين قبولها فقال: (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون ) [ المؤمنون 47 ـ60]، تقول عائشة -رضي الله تعالى عنها- قلت يا رسول الله: (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة ) هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله -عز وجل- ؟ قال: " لا يا بنت الصديق ولكنه الذي يصلى ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله -عز وجل- ". كما لفت النبي -صلى الله عليه وسلم- النظر إلى ذلك حين دعا إلى أن يكون التعويل بعد الفراغ من العمل على فضل الله ورحمته لا على العمل نفسه وإلا كان الغرور والضياع فقال: "لن ينجى أحدا منكم عمله " قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة والقصد تبلغوا".
وقد عبر عن ذلك كله بوضوح بن مسعود -رضي الله عنه- حين بين أثر تذكر الذنب ونسيانه على سلوك الإنسان فقال: ( إن المؤمن من يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا أي نحاه بيده ودفعه عنه ).
6 ـ الركون إلى الدنيا: ذلك أن بعض العاملين قد يفطن إلى أنه مبتلى بآفة الإعجاب بالنفس بيد أنه لركونه إلى الدنيا وانغماسه فيها ربما يعتريه الكسل فلا يستطيع أن يجمع همته لمداواة نفسه بل قد يأخذ في التسويف وتأخير التوبة وبمرور الزمن يتحول الإعجاب بالنفس إلى داء أكبر وأبعد ألا وهو الغرور وقد لفت القرآن الكريم النظر إلى هذا السبب أو إلى هذا الباعث من خلال ذم الدنيا والتحذير منها إذا اتخذها الناس هدفا أو غاية فقال: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما ) [ الحديد: 20]، وقال: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شئ مقتدرا ) [ الكهف: 45 ]، وقال: ( إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون) [ يونس: 7ـ 8 ].
وقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعطى رضي وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله وأشعت رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذى له وإن شفع لم يشفع ". وقلما كان صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: "اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منها واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا من لا يرحمنا". ولقد وعى سلف الأمة ما يجره الركون إلى الدنيا والاطمئنان إليها على المرء من وبال فأعرضوا عنها إلا بمقدار ما يتزودون منه للآخرة وجرى ذلك كثيرا على ألسنتهم يقول على -رضي الله تعالى عنه-: ارتحلت الدنيا مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة ولكل واحدة منهم بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل. ويقول الحسن رحمه الله: من نافسك في دينك فنافسه فيه ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره. ويصور بعضهم هذا الوعي وذلك الإحساس قائلا: إن لله عبادا فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا جعلوه لجة واتخذوا صالح العمال منها سفنا.
كيف يعالج الداعية نفسه من الغرور ؟
الغرور داء فتاك ومرض وبيل إذا تسرب إلى قلب الداعية فإن عليه علاجات هامة وعاجلة لابد له من تناولها من أهمها:
1 ـ أن يتعهد نفسه بالتواضع للناس؛ ونسبة الفضل لله تعالى في كل أقواله وأفعاله، وعليه الاعتراف بأن هناك مجموعة من الناس أكثر منه منزلة وفضلاً ولو في بعض الجوانب، وأن ينظر إلى الناس بمنظار المستفيد من علمهم المقتدي بأخلاقهم، ومعنى التواضع: ألا يستنكف الإنسان من قبول الحق ولو جاءه ممن هو دونه علما أو سنا أو قدرا، ومن الرجوع إلى الحق بعد أن يتبين له. أما الكبر والغرور بالنفس والإعجاب بها، فيصد عن الحق وإن كان أوضح من فلق الصبح. ولهذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الكبر بطر الحق وغمط الناس" رواه مسلم.
2 ـ ترك تزكية النفس ومدحها، وعدم الرضا عن حاله وأعماله، واتهام النفس بالتقصير، والتعهد بمحاسبتها، فقد قال تعالى: (فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ) [سورة النجم: 32]، وهذا دأب العلماء والفضلاء، فكان الربيع بن خيثم يبكي حتى يبل لحيته ويقول: "أدركنا أقواماً كنا في جنبهم لصوصاً"، وكان الشافعي يقول: أحب الصالحين ولست منهم *** لعلي أن أنال بهم شفاعة.
3 ـ التأخر عن تصدر المناصب والظهور حتى يتحقق النضج وكمال التربية، خوفاً من العجب ثمّ الغرور، ويعمل بحكمة الصالحين: "ادفن وجودك في أرض الخمول فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه "، وهذه الكلمة أفضل توجيه لمن يريدون الظهور على عجل، ومن يتوهمون أن نصيبا قليلا من المعرفة والخبرة كاف في الترشيح لقيادة الجماهير، والصدارة بين الناس، فليصنع المرء نفسه أولا في عزلة وفى صمت وفى تؤدة، كالشجرة التي يختفي أصلها في ظلمة التراب أمدا تتكون فيه التكون الصحيح، ثم تبدأ تشق طريقها إلى الهواء والضوء.
4 ـ اعتياد سماع النصيحة من الآخرين والإصغاء إليها، بل وطلبها في أحيان كثيرة، بحيث تصبح من لوازم شخصيته استنصاح الآخرين، فيعالج أمراضه من بدايتها.
5 ـ مراعاة الآداب المعتبرة عند مدح الأفراد، مع الاعتدال في الثناء والاحترام والانقياد للآخرين، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لَا مَحَالَةَ، فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ فُلَانًا، إِنْ كَانَ يُرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا" [رواه البخاري ومسلم].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم