اقتباس
إن اهتمام الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالمسجد إنما كان؛ لأن المسجد هو موئل الإسلام والمسلمين في أمور دينهم وأمور دنياهم، ومنه تنطلق دعوة الله إلى الآفاق والقلوب، فهو القاعدة المكانية للدولة الإسلامية، وبيت شريعتها وعبادتها، ومجتمع المسلمين ومدرستهم وندوتهم، ومجلس مشاورتهم، ومقر قيادتهم، ومفزعهم في...
المسجد هو مكان العبادة والطاعة التي يؤديها العبد لربه، ولم يشترط الإسلام المسجد مكاناً لا تصح العبادة إلا فيه، بل قد حرر العبادة من قيد المكان كما حررها من قيد الوساطة بين العبد وربه، وجعلها صلة مباشرة بين العبد وخالقه، يؤديها حيثما كان من أرض الله الواسعة، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يعدد الخصائص التي فُضِّل بها على الأنبياء من قبله: "وجُعلت لي الأرض مسجدا وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، فعنده طهوره ومسجده".
وإنما أنشأ الإسلام المسجد وأمر بإشادته ليكون مدرسة الدين والدنيا في كل ما يتصل به أمر الناس في معاشهم ومعادهم، ومختلف شؤون حياتهم، ومن أجل هذا اهتم النبي -صلى الله عليه وسلم- بإنشاء أول مسجد جامع في الإسلام حينما بلغ أطراف المدينة المنورة، فما أن استقرت ركائب الرسول وصحبه في قباء إلا أن أمر عليه الصلاة والسلام المسلمين أن يشيدوا المسجد في قباء، وعمل معهم بنفسه في تشييده وتأسيسه؛ كما روى الطبراني في معجمه الكبير بسند رجاله ثقات، عن الشموس بنت النعمان -رضي الله عنها- قالت: "نظرت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قدم ونزل وأسس المسجد مسجد قباء، فرأيته يأخذ الحجر أو الصخرة حتى يهصره الحجر (أي حتى يثني الحجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذلك لثقل الحجر)، وانظر إلى بياض التراب على بطنه أو سرته، فيأتي الرجل من أصحابه ويقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعطني أكفك، فيقول: لا، خذ حجراً مثله، حتى أسسه..." كما في الإصابة للحافظ ابن حجر(8/122) و"وفاء الوفاء" للسمهودي(1/180).
وبناه صلى الله عليه وسلم مسجداً وصلى فيه؛ كما في "شرح المواهب اللدنية" للزرقاني(1/409).
وقد أرخ الله -تعالى- بإنشاء مسجد قباء؛ فجعل يوم إنشائه وبنائه: اليوم الأول لتاريخ الإسلام والمسلمين، فقال سبحانه: (لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) [التوبة: 108].
ولما انتقل الرسول -صلى الله عليه وسلم- من قباء إلى المدينة بادر إلى إنشاء المسجد فيها أيضاً، وشارك بنفسه في بنائه وإقامته مع أصحابه، وحض (إلى جانب هذا) على بناء المساجد وإشادتها حضاً كبيراً، حتى قال: "من بنى مسجداً لله ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة".
يحق لنا بعد هذا أن نتساءل: لماذا يهتم الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- كل هذا الاهتمام بإنشاء المسجد ويبادر إلى بنائه هذه المبادرة، مع أن الدين الحنيف لم يشترط المسجد مكاناً لصحة العبادة قبولها؟!
والجواب عن ذلك: أن اهتمام الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالمسجد إنما كان؛ لأن المسجد هو موئل الإسلام والمسلمين في أمور دينهم وأمور دنياهم، ومنه تنطلق دعوة الله إلى الآفاق والقلوب، فهو القاعدة المكانية للدولة الإسلامية، وبيت شريعتها وعبادتها، ومجتمع المسلمين ومدرستهم وندوتهم، ومجلس مشاورتهم، ومقر قيادتهم، ومفزعهم في الخطوب والنوائب، ومتوجههم الجامع لهم في كل يوم خمس مرات، وملتقى الوفود والمفاوضين من المسلمين وغير المسلمين، وهو إلى جانب ذلك كله: مأوى ملائكة الله -تعالى- ومخلوقاته النورانية المكرَّمة، ولهذا كان للمسجد ظله الروحي والربَّاني على كل ما يعقد فيه ويصدر عنه من تشريع ونظام وحكم ودين ودنيا.
وها أنا ذا أبسط بعض هذه المعاني، فأقول: اتخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- المسجد مقراً لنشر الدعوة وبيان الشريعة للناس، فكان يجلس فيه صباح مساء يبلغ الدين، ويوضح الآيات والتنزيل، وكان المسلمون يلتقون في المسجد برسول الله -صلى الله عليه وسلم- التقاء راتباً منظماً خمس مرات كل يوم في صلواته الخمس يؤمهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويُصلِّي بهم، وهكذا سار الخلفاء الراشدون من بعده، فيكون للمسلمين من رحاب المسجد وظله أطيب زاد روحيّ وأفضل هدي سماوي.
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى من بعض المسلمين خطأ أو مخالفة اعتلى المنبر، ونبه على اجتناب الخطأ أفضل تنبيه، وبألطف أسلوب، وكان المسلمون إذا نزلت بهم جائحة أو حلت بهم شدة فأووا إلى المسجد زرافات ووحداناً، يلتمسون من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إرشادهم وتوجيههم إلى ما هو خير لهم في دينهم ودنياهم، فيكون لهم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد وظله الروحي أفضل التوجيه والإرشاد، فيخرجون على هدىً من الله ونور فيما يفعلون وما يدعون.
وكانوا إذا ادلهمت الخطوب، وتألَّبت قوى البغي والشر على الإسلام؛ كان المسجد لهم مقر القيادة العليا، وأركان حربهم، فتخفق الرايات على بابه، وتنضوي الأبطال والصناديد في رحابه، متوجهة أبصارهم وقلوبهم إلى أمر الرسول القائد الأول الأمين، يتفهَّمون الرأي، ويتلقون الخطة، ويتوزعون المهام والأعمال الحربية، فإذا انتهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- من بيان الخطة، وإرسال الأوامر؛ تحركت الجيوش، وانطلقت الرايات، فإذا كتب الله النصر والظفر رجعت تلك الجيوش فاستقرت في رحاب المسجد أيضاً تستمع لهدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبين لها الأحكام فيما غنمت، والأخطاء إن وقعت، فيكون المسجد لتلك الجيوش مقر القيادة والعبادة معاً.
وكان المسجد ملتقى الوفود برسول الله -صلى الله عليه وسلم- سواء كانت تلك الوفود من المسلمين أو غيرهم، فالمسجد هو مقر رئاسة الدولة، ومعتصم الأمة، يهرع إليه الخائفون، ويفد إليه الوافدون، فيلتقون برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويستمعون إلى بيانه عن الله، فيؤمن من يؤمن، ويُعرض من يعرف على وضوح ومعرفة: (لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ) [الأنفال: 42].
روى ابن هشام في السيرة النبوية (2/222 - 224): "أن وفد نصارى نجران قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم ستون راكباً، فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم، في الأربعة عشر ثلاثة نفر يؤول أمرهم إليهم:
أولهم: العاقب أمير القوم وذو رأيهم وصاحب مشورتهم، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه، واسمه عبد المسيح.
والثاني: السيد ثمالهم أي مدير شؤونهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم، واسمه الأيهم.
والثالث: أبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل، أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدراسهم.
ولما قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر.
وقد حانت صلاتهم فقاموا في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلون، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دعوهم"، فصلوا إلى الشرق".
وكان المسجد أيضاً مدرسة الناس من عهد النبوة وما بعده، روى ابن ماجة في سننه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم إلى المسجد فرأى مجلسين: أحدهما: يدعون الله ويرغبون إليه، والثاني: يعلمون الناس، فقال: "أما هؤلاء فيسألون الله -تعالى-، فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وأما هؤلاء فيعلِّمون الناس، وإنما بُعِثْتُ معلماً، ثم عدل إليهم وجلس معهم".
ولم يزل المسجد إلى عهد قريب هو المدرسة والجامعة التي تتخرج منها الحشود الزاخرة من العلماء والنبغاء الذين ملئوا الدنيا علماً وفضلاً وآثار خير.
أيها الإخوة المسلمون: هذه حقيقة مسجدكم كما قام بها رسولكم العظيم، فأقْبِلُوا على المساجد لتزِّودوا عقولكم بالعلم النافع، وتملأوا نفوسكم بالإيمان المنير، وتزكوا أرواحكم من غشاوات المادة، وأدران الحياة، وانطلقوا بعد ذلك للعمل المثمر البناء تحت ظل الإيمان بالله، فإنَّ الله لا يرضى عن عمل لا إيمان معه، ولا عن إيمان لا يترجمه عمل: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر: 1 - 3].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم