اقتباس
نجح الإسلام في تغيير وجه الحياة بالكامل في الجزيرة العربية بعد أن أدخل إليها مفاهيم وتصورات ربانية تحيي إنسانية الإنسان، وتفجر فيه ينابيع الحنان والرأفة والشفقة، وانتهى عصر رجل الوأد والقهر، ليبدأ عصر رجل الرحمة والشهامة. لم يكن هذا التغيير ليحدث لولا تلك المبادئ والأخلاق التي...
تناولنا في الأجزاء السابقة حقيقة الاستبداد، ومن يقف وراء الظلم الذي يحيق بالمرأة المسلمة، وعرضنا الحقائق والوقائع التي تعرفها كل امرأة مسلمة لتقرر بنفسها من ظلم المرأة: الإسلام أم الإنسان؟ سواء أكان هذا الإنسان من الصنف الجاحد بفضل الإسلام على البشرية، أو الإنسان المسلم الذي انحرف عن جادة الصواب، والتجأ إلى العادات المناقضة لمقاصد الشريعة الإسلامية.
ومن العادات التي تضاد المقاصد السامية التي جاء بها الإسلام: تقديس الذكر وإهانة الأنثى، وهي عادة جاهلية شنيعة، حاربها الإسلام حربا لا هوادة فيها.
كذلك عادة الاستيلاء على مال المرأة، ومنعها من حقها في الميراث، أو استغلال مواردها المالية بغير حق، وأيضا إهانتها واعتبارها أقل من أن تقرر مستقبلها ومصيرها.
ومن العادات المشؤومة أيضا: الاكتفاء برعايتها ماديا، وعدم الاهتمام بتربيتها على المنهج النبوي الشريف، وسنتناول هذه القضايا بالتفصيل في الفقرات التالية:
المرأة بين الرجل المؤمن ورجل الجاهلية:
إذا كانت أصابع اليد الواحدة تختلف عن بعضها البعض؛ فإن جنس الرجال ليس واحدا في صفاته وخصائصه، وأهم سبب في هذا الاختلاف يرجع إلى اختلاف البيئة التي نشأ فيها الرجل، فمن نشأ في بيئة تعرف معاني الاحترام والإكرام والرحمة والحوار، فإنه عادة ما يكون إنسانا راقيا في أفكاره وتعاملاته، أما إذا نشأ في بيئة أسرية ومجتمعية تقدم الحلول العنيفة على أدوات الحوار، وتهمش الاحترام، ولا تهتم بكرامة البشر، فلا شك أنها ستنتج شخصا عديم الشفقة والرحمة، مهينا لمن حوله، قاهرا ظالما، بالتالي فإن الحقيقة التي تتجلى أمامنا هي أن البيئة الأسرية والاجتماعية هي التي تؤثر بشكل مباشر في إنتاج أنواع الرجال، ولهذا كانت القاعدة الاجتماعية القائلة: "الإنسان ابن بيئته" قاعدة صحيحة تؤكدها نصوص شرعية عديدة، منها: أن النصيحة التي وجهها العالم للرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسا كانت أمرا بالخروج من بيئته السيئة، فقال له: "لا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء" (رواه البخاري ومسلم)، وأمره أن يرحل إلى أرض أخرى قائلا: "انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناساً يعبدون الله -تعالى- فاعبد الله معهم".
إذن النتيجة التي نصل إليها هي أن الظلم الواقع على المرأة من الرجل المستبد نتاجه البيئة التي تنتج كل أشكال الاستبداد.
وهنا وقفة هامة لا يمكن القفز عليها بعد تقرير هذه الحقيقة، وهي أن الدعوات التي تشجع المرأة على التمرد على شقيقها الرجل، هي دعوات تروج للوهم، فالصراع يجب أن يكون مع الفساد والاستبداد الذي يعشش في المجتمع كله، ومع مصادره التي تضمن وجوده واستمراره، وهذا ما فعله الإسلام عندما جاء إلى الناس، حيث حرص على محاربة مصادر الظلم والطغيان في مكة، وإعادة صناعة الإنسان والأسرة والمجتمع؛ وعليه فإن مسؤولية إصلاح وتغيير البيئة الاجتماعية من بيئة تنضح بالشر والخوف والقهر إلى بيئة تثمر الرحمة والعدالة والحرية والاحترام هي مسؤولية الجميع، وهذا ما يجب أن يترسخ في الذهن.
أما دعوات التحرر من استبداد العادات للوقوع في استبداد الشهوات ما هي إلا أوهام من صدقها فقد إنسانيته، وضيّع ثقته بنفسه، وأضاع طريقه.
إذن ما دامت البيئة هي المسؤول الأول عما تنتجه فإن الإشارة إلى أن أسمى بيئة عرفتها البشرية كانت بيئة العهد النبوي الذي خرّج للعالم أرقى الرجال وأعظمهم فكرا، ومعاملة، وأخلاقا، وتحضرا، عرفته الحياة: أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، وحتى تُعرف قيمة الرجل المؤمن الذي ربته الرسالة النبوية، فلا شك أن التعريج على حقيقة الرجل في الجاهلية وسيلة لمعرفة هذه القيمة، فبضدها تتميز الأشياء.
قبل مجيء الإسلام كان الرجل مستبدا ومنحرفا، قد مسخت الجاهلية فطرته، حتى جعلته لا يحسن التعامل حتى مع أقرب الناس إليه، فمثلا لم يكن يجد حرجا في بيع والدته إذا مات والده، ولا يتورع عن وأد ابنته اتباعا للعادات الجاهلية، لم يكن لمسائل الزواج والحداد والطلاق والميراث أي قواعد تحكمها؛ لذلك كانت خاضعة للغريزة والعادات الاجتماعية الظالمة المبنية على القوة والقهر، وهذا ما جعل هذا الرجل لا يعرف معاني البر مع والديه، ولا معاني الرّعاية مع ابنته، ولا يدرك معنى الحب والرحمة مع زوجته، فقد جعلته بيئته قاسي القلب، فظاً غليظ الطبع، هذه هي الصورة التي كان عليها الرجل الجاهلي -عموما-، صورة قد يجزم كل من درسها باستحالة تغيُّره، لكن الإسلام غيرها عندما غير البيئة التي أنتجت إنسان الاستبداد.
تغيير البيئة وتغير الإنسان:
نجح الإسلام في تغيير وجه الحياة بالكامل في الجزيرة العربية بعد أن أدخل إليها مفاهيم وتصورات ربانية تحيي إنسانية الإنسان، وتفجر فيه ينابيع الحنان والرأفة والشفقة، وانتهى عصر رجل الوأد والقهر، ليبدأ عصر رجل الرحمة والشهامة.
لم يكن هذا التغيير ليحدث لولا تلك المبادئ والأخلاق التي غرسها النبي -عليه الصلاة والسلام- في مجتمعه، ومن بين النصوص التي غيرت عقلية المجتمع، وأنهت عصر احتقار المرأة، ورفعت شأنها نجد النص الآتي: عن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ الله حرَّم عليكم عقوق الأمهات، وَمَنْعاً وهات، ووَأد البنات، وكَرِهَ لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال" (رواه البخاري) لقد كان هذا النص كافيا لإنهاء المجازر التي كانت تحدث بحق الصبيات والفتيات، وليوقف مسلسلا طويلا من القتل والوأد، كانت فصوله وقصصه تجعل كل أنثى نجت منه وهي صغيرة، تخشى أن يطولها وهي فتاة، لكن هذا النص وأمثاله لم يغير الواقع بمجرد وجوده، بل إن النبي -عليه الصلاة والسلام- هيّأ البيئة الاجتماعية بعد تفكيك القيم السلبية والجاهلية التي كانت تقوم عليها، ثم أعاد تركيبها وفق القيم السماوية السامية، وهذا ما يسفر عن قبول المجتمع لهذا التغير، الذي جاء من الداخل، والتغيير الناجح والذي يغير التاريخ هو الذي يأتي من الداخل، ويركز على إصلاح الإنسان في فكره وتصوراته عن الأفكار، والأشياء، والأشخاص.
وإذا كان الإسلام قد نجح في قلب المجتمع العربي من مجتمع متوحش إلى مجتمع حضاري، وأنهى كل المظالم، فإنه حريّ بالمسلمين أن يعوا أن خلاصهم في تطبيقهم إياه بمقاصده السامية، وتنقيته من شوائب العادات والفهوم التي تعدت على الخطاب الشرعي، ولبست لباس التقديس.
والذي غير المجتمع الجاهلي من حالة الشقاء والتعاسة إلى حالة الهناء والسعادة هو القادر على تغيير أي مجتمع، في أي مكان وزمان.
وإذا كان الإسلام قد نجح في إنهاء الاستبداد وتكريم الإنسان فإن الحضارة المادية -التي يجعلها الكثير من المناوئين للإسلام الحل المثالي للخلاص من سياط الاضطهاد المسلط على فئات كثيرة من البشر وخاصة المرأة-، قد فشلت فعلافي إعطاء الإنسان تلك الكرامة والحرية التي منحها الله إياه، رغم كثرة الشعارات العالمية التي تدعو إلى احترام حياة الإنسان وحمايتها وصونها.
فقد كانت منتوجاتها القانونية على المستوى الصناعي والتجاري والسياسي، خالية من الأخلاق، وأحيانا تلبس ثوب الأخلاق لكنها تفصلها بعنصرية لصالح صنف معين من البشر، وقد جعلت هذا الصنف يرضى بذلك بعد أن هدمت فيه روح الإنسان، وسلخت منه ضميره، وجعلته كالآلة، بلا شعور ولا ضمير ولا مسؤولية.
ولعل المرأة أبرز من عانى من هذه المنظومات التي أنتجها حضارة اليوم في ظل اصطباغ العصر بصبغة مادية جارفة.
الجمعيات النسوية في العالم العربي:
لم ينته حديث الكثير من المفكرين الغربيين -العقلاء- عن المدنية، حتى بدأ حديثهم عن المادية الشرسة التي اكتسحت كل العالم، وجعلت الحياة تسير وفق مبدئي العرض والطلب؛ ليتحول الإنسان إلى سلعة خاضعة لشروط الاقتصاد الرأسمالي والأسواق الحرة، في ظل هذه البيئة تضاعفت معاناة المرأة المسلمة -العربية خاصة- بشكل خطير، وزادت معاناتها أكثر بعد ظهور الجمعيات النسوية في العالم العربي التي تتاجر بالظلم الواقع على المرأة من طرف أفراد وفئات هي نتاج نظام علماني ملحد، مناقض للإسلام، فهذه الجمعيات التي أفرزها النظام العلماني العربي تحاول أن تتصدى للمسلمين الذين يريدون رجوع الإسلام للحياة، من خلال تبني سياسة هجومية تتهم الإسلام صراحة ومن تسميهم: "رجال الدين" بأنهم وراء معاناة المرأة وتخلفها.
إذن هذه الجمعيات هي أداة من أدوات الأنظمة العلمانية المعادية للإسلام، وهي الصورة الحقيقية لهذه الأنظمة الوضعية التي تحكم بنظام بشري أساسه الحقيقي هو الغريزة، وغايته تحقيق الشهوات البدائية.
إذن دون الدخول إلى تلك الشعارات البراقة التي تتبناها هذه الجمعيات يجب الحديث عن مصدرها وأصلها، فإذا كان أصلها فاسدا، أي أنها ثمرة من ثمار النظم الاستبدادية، فهل يعقل أن يصدق المرء دعاويها التي تهدف إلى تحقيق غاية واحدة وهي المتاجرة بالمرأة والتكسب من ورائها، وأكبر دليل على ذلك أن الكثير من الناشطات في هذه الجمعيات وهذا المجال كشفن عن حقائق خطيرة، لا تبدو غريبة على المتابع لتطورات النظم الوضعية في الوطن العربي.
ويمكن تلخيص هذه الحقائق في:
- استغلال الجمعيات النسوية العلمانية مظالم بعض النساء للحصول على امتيازات مالية.
- تستغل الكثير من هذه الجمعيات الفتيات والنساء اللاتي صدقن مزاعم هذه الجمعيات، ويكون الاستغلال أحيانا إعلاميا وماليا وأخلاقيا، خاصة في دول المغرب العربي ولبنان ومصر.
- سببت هذه الجمعيات شرخا كبير في بعض الأسر بعد أن تبنت خطابا محاربا للإسلام، متهمة قوانين الأسرة المستمدة من الشريعة الإسلامية بأنها ظالمة وأنها تمثل عارا على الدولة المدنية.
- كل من تنشطن في الجمعيات النسوية العلمانية لا تعترفن بالإسلام، ولا يعرفن معاني الحياء والفضيلة، والحياء رأس الأخلاق، كما أنهن يروجن لصورة سطحية تافهة مفادها أن التبرج والتعري دليل التحضر والحداثة.
- أهم دعاويها معاداة الرجل تحت غطاء محاربة التمييز وتحقيق المساواة الذي تنادي به في الأخير نساء غير سويات فكريا ولا أخلاقيا بشهادة الكثير ممن كن في هذا المجال، والتقارير الصحفية طافحة باعترافات وحقائق تؤكد ذلك.
- ترتبط هذه الجمعيات بأذرع النظام العالمي المسيطر اليوم على العالم، والذي يقود الحروب والصراعات، ويتاجر بالبشر وخيراتهم، ويقمعهم بأيد ناعمة، فهي تطبق مخططاته الرامية في الأخير إلى تحطيم الإسلام، وإبادة أهله، بعد أن يكون الانحلال الأخلاقي قد تمكن منهم.
إذن هذه الجمعيات لم تأت فعلا لتحرير المرأة بل جاءت لتدمير كل المجتمع، وتمزيقه أكثر، فهي في الحقيقة أداة من أدوات الاستبداد، ومظهر من مظاهره، لا تختلف عن الأحزاب العلمانية في شيء، سوى في الشراسة التي تحارب بها الهُوية الإسلامية للمجتمع العربي، وتتجلى في حربها الشرسة على الحجاب وقانون الأحوال الشخصية، وهذا دليل قاطع على أنها جمعيات هدفها الأخير العبث بالأمن الاجتماعي، فهي عندما تنادي مثلا بإزالة الولي من عقد الزواج إنما تبحث عن تفكيك المجتمع العربي المسلم المبني أصلا على التكافل، ولا تزال الأسرة فيه قوية وفاعلة، فلو تزوجت مسلمة من دون ولي لخسرت في البداية أهلها، ولو انفصلت عن الذي تزوجها من دون ولي، وكان لديها أولاد فإن مصير هؤلاء هو الرفض المجتمعي، والتشرد والمعاناة، ثم السجون والموت مستقبلا.
بالتالي فإن القاعدة أو النتيجة التي نصل إليها هي أن الاستبداد الواقع على المرأة المسلمة لم يكن الإسلام سببه الأول، بل كان إبعاد الإسلام، وتقزيم دور العلماء، وتسقيف دور المساجد، ومحاربة كل الدعوات الخيّرة، وكسر روح التكافل، وتبني نظام اجتماعي مادي هو سبب الظلم الذي تتجرعه المسلمة، وعليه فإن المرأة المسلمة بل والمجتمع المسلم كله مدعو لمحاسبة هذه المنظومات الوضعية التي تعادي آخر الرسالات السماوية، وكشفها وفضحها، وبلغة واضحة صريحة، فلم يعد الوضع الدفاعي لائقا بالمسلمين، وهم يرون كل أنواع الخراب التي أنتجها الحكم بغير الإسلام تفتك بهم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم