اقتباس
غالب المسلمين يدور في فلك ضيق من العادات والمألوفات اليومية، والروتين الممل الذي يكون أشبه بالسجن الذي لا يستطيع الفكاك منه، حتى يدخل شهر رمضان، حيث يثور على ألف عاداته، ويسمو بروحه بممارسة شعيرة الصيام، ولكنها ساعات معدودات حفها كثير من الناس بما يبطل مقاصدها من...
قال تعالى في محكم التنزيل: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ...) [الحج:26-27].
وعند التأمل في هذه الآية الكريمة نجد أن الله -عز وجل- وهو يحث عباده المؤمنين على شد الرحال إلى بيت الله الحرام لأداء فريضة وركن الحج، رغبهم في هذه الشعيرة العظيمة بقوله: (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ)، ومنافع الحج أعظم وأوسع مما يعتقده كثير من الناس الذين يحصرونها في المنافع الدنيوية المادية البحتة، لذلك ورد اللفظ: "منافع" بصيغة التنكير لتفيد العموم والشمول.
ونحن في هذا المقام سنغوص في معاني وأسرار ومنافع الحج الخفية لنستخرج كنوزاً ودرراً يحتاج إليها كل حاج وهو متوجه لأداء ركن الإسلام الأعظم.
ومن أهم هذه المنافع الخفية على كثير من الناس:
أولاً: منفعة الاعتياد والضبط:
غالب المسلمين يدور في فلك ضيق من العادات والمألوفات اليومية، والروتين الممل الذي يكون أشبه بالسجن الذي لا يستطيع الفكاك منه، حتى يدخل شهر رمضان، حيث يثور على ألف عاداته، ويسمو بروحه بممارسة شعيرة الصيام، ولكنها ساعات معدودات حفها كثير من الناس بما يبطل مقاصدها من أكلة متخمة، ونوم طويل، وراحة مفسدة.
لذلك فالمسلم يحتاج بعد هذه الصلوات التي يؤديها، وشهر رمضان الذي يصومه، الزكاة التي يؤديها، يحتاج إلى موسم يغير فيه نمط حياته، يحتاج لئن يشهد موسما للحب والشوق حيث يلتقي مع المخلصين والمحبين.
لذلك جاء موسم الحج كفرصة سانحة لتحويل الروتين اليومي والاعتياد الدنيوي من خانة الدنيا إلى خانة الآخرة، وكسر هذا الناموس اليومي في حياة الإنسان، ومن أبرز العبادات التي يعتادها المسلم في موسم الحج:
اعتياد الذكر: فالذكر مقصود العبادات الأعظم، والذكر يتجلى غاية التجلي في الحج، فما شرع الطواف بالبيع، ولا السعي بين الصفا والمروة، ولا رمي الجمار إلا لإقامة ذكر الله كما قال عليه الصلاة والسلام.
فإذا أكثر الحاج من الذكر في تلك المواضع أنس بالذكر، واطمأنت نفسه به، وزاد قرباً من ربه، وكان داعياً لاعتياد الذكر، والإكثار منه بعد الحج.
اعتياد الدعاء: فرحلة الحج من أولها إلى آخرها فرصة للدعاء والابتهال إلى الله -عز وجل- إذ يجتمع للحاج من دواعي الإجابة ما لا يجتمع لغيره من شرف الزمان، والمكان ولحال الداعي وتلبسه بتلك الشعيرة العظيمة، ولكثرة المواضع التي يشرع فيه الدعاء، وترجى الإجابة؛ فالطواف، والسعي، والوقوف بعرفة، وعند المشعر الحرام، وبعد رمي الجمرة الصغرى، وبعد رمي الجمرة الوسطى، كل هذه المواضع مواضع دعاء، ومظان للإجابة.
وهذا يبعث المؤمن إلى كثرة الدعاء، وإلى اعتياده في سائر أيامه المستقبلة.
اعتياد انتظار الفرج: فإذا رأى الحاج جموع الحجيج المزدحمة عند الطواف، والسعي، وفي رمي الجمرات ظن أن تلك الجموع لن تتفرق، وأنه لن يصل إلى مبتغاه من إكمال الطواف، أو السعي أو رمي الجمار، وربما أدركه الضجر، وبلغت به السآمة مبلغها، وربما أضمر في نفسه أنه لن يحج بعد عامه هذا، وما هي إلا مدة يسيرة، ثم تنتقل الجموع، ويتيسر أداء المناسك.
وهذا درس عظيم، وسر بديع يتعلم منه الحاج عبودية انتظار الفرج، وهي من أجلّ العبوديات، وأفضل القربات؛ فلا ييأس بعد ذلك من روح الله، وقرب فرجه مهما اشتدت الظلمة، ومهما استبد الألم، ومهما عظم المصاب سواء في حاله أو في حال أمته، بل يكون محسناً ظنه بربه، منتظراً فرجه ولطفه، وقرب خيره عز وجل فيجد في حشو البلاء من روح الفرج ونسيمه، وراحته ما هو من خفي الألطاف، وما هو فرج معجل.
ولا بعد في خير وفي الله مطمع ولا يأس من روح وفي القلب إيمان.
اعتياد اغتنام الأوقات: فالوقت رأس مال الإنسان، والوقت أجل ما يصان عن الإضاعة والإهمال.
وفي الحج يقوم الحاج بأعمال عظيمة، وفي أماكن مختلفة متباعدة مزدحمة، وفي أيام محدودة قد لا تتجاوز أربعة أيام.
وفي هذا دليل على أن في الإنسان طاقة هائلة مخزونة، لو استثارها لآتت أكلها ضعفين أو أكثر.
وهذا درس عظيم يبعث المسلم إلى أن يعتاد اغتنام الأوقات، وأن يحرص على ألا يضيع منها شيئا في غير فائدة.
اعتياد مراغمة الشيطان: فالشيطان عدو للإنسان مبين، ولقد حذرنا الله -تبارك وتعالى- من الشيطان وأمرنا بأن نتخذه عدواً، وألا نتبع خطواته، فمراغمة الشيطان مرضاة للرب -جل وعلا-.
وهذا الأمر يتجلى في الحج، وأعظم ما يتجلى في رمي الجمار؛ فالحجاج لا يرمون الشيطان، وليس الشيطان بواقف لهم يرجمونه.
وإنما يرجمون المواقف التي وقف فيها الشيطان لأبيهم إبراهيم، فرجمه الخليل -عليه السلام- فهم يرجمونه لا لمجرد التكرار، وإنما للانتفاع والاعتبار؛ فعليهم أن يتأملوا كيف عرف أبوهم إبراهيم الذي وقف له ليصده عن تنفيذ أمر ربه أنه شيطان؛ حيث تمثل له ثلاث مرات؛ ليثنيه عن ذبح ابنه، فرجمه إبراهيم ثلاث مرات كل مرة سبع حصيات، وقال له: ليس لك عندي إلا الرجم، فخنس وخسأ، وخاب ظنه، ونكص على عقبيه. فأولو الألباب يعتبرون بهذا الجرم، ويأخذون منه دروساً وعبراً؛ إذ يعاملون كل شيطان من شياطين الجن والإنس ممن يريدون صرفهم عن طاعة ربهم بالرجم المعنوي الذي هو بغض مَنْ صدّ عن سبيل الله، وعصيانه، و مراغمته، والابتعاد عنه، والاستعاذة بالله منه، فيعرفون أن كل من حاول صدهم عن طاعة ربهم، أو فتنتهم في دينهم أنه شيطان مهما لبس من لبوس، ومهما أظهر من مودة وتصنع.
وكما أن الحج فرصة عظيمة لاعتياد الطاعات وجعلها جزءاً من الروتين اليومي لحياة المسلم، فإن الحج أيضا فرصة عظيمة لتعلم الضبط والنظام وهي علاج أعظم آفات العصر؛ الفوضوية.
فالإحرام يكون من الميقات ولا يجوز أن يتعداه من أراد الحج دون أن يحرم منه، ومن تجاوزه فإنه يجب عليه أن يعود إليه ويحرم منه، وإلا وجب عليه دم شاة يذبحها ويوزعها على فقراء الحرم.
ولكل منسك من مناسك الحج وقته وزمنه وأعماله التي لا يصح دونها، فلا يصح الوقوف في عرفة يوم التروية، ولا يصح الدفع من عرفة قبل غروب الشمس، ولو كانت الحاجة ملحة إلى ذلك، ولا يصح طواف الإفاضة يوم عرفة ولا يصح رمي الجمرة الصغرى أو الوسطى يوم النحر فلكل عمل وقته وأعماله ومخالفة ذلك تؤدي إلى وقوعه على غير الوجه المشروع.
وهذا شأن كل العبادات في الإسلام، فالإسلام جعل من أوقات العبادات تربيةً على الانضباط واحترام المواعيد، فالصلاة لا تجوز قبل دخول وقتها لغير عذر، ولا يجوز التعبد لله بصوم الشهر الواجب إلا في رمضان، وهكذا نجد أن معظم العبادات تنمي في المسلم روح الانضباط والوقوف عند الأوامر والحدود وعدم الجرأة على تخطيها.
ثانياً: منفعة استعادة الهوية:
من أكثر الأمور التي تعرضت للضياع والتشويه في حياة المسلمين هي قضية الهوية.
فالحيرة والضياع والتيه هي شعار القرنين الأخيرين في حياة الأمة الإسلامية، بعد أن استبدلت الروابط والوشائج الإسلامية والإيمانية بالروابط والوشائج الأرضية والمادية، وضاعت حقيقة الانتماء للدين والأمة بين انتماءات وولاءات شتى، كلها لا خلاق لها عند الله -تعالى-.
والانتماء لهذا الدين هو هوية الأمة الحقيقية، وهو وحده القادر على جمعها، بعد أن ثبت فشل كل النظم والمناهج الدخيلة من قومية وبعثية وشيوعية واشتراكية وعلمانية وغيرها، قال تعالى: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) [المؤمنون: 52].
فملايين الحجاج يوم عرفة لا هم لديهم سوى الدعاء والتضرع والخضوع والسؤال، وبعد عرفة تجمعهم فكرة المبيت بمزدلفة، وهكذا، وفي يوم النحر تجمعهم هموم عدة لكنها مشتركة بين الجميع، ما بين رمي وحلق ونحر وطواف وسعي، فاجتماع الملايين من مختلف الأجناس والألوان ومن شتى البلدان والأصقاع في بزي واحد لأداء شعائر واحدة في وقت واحد، أكبر برهان على قدرة الإسلام على حشد الناس كلهم على تباينهم في صعيد واحد، إلى قبلة واحدة، ربهم واحد، وقبلتهم واحدة.
فموسم الحج يربي المسلمين على الأخوة الإسلامية، فالحاج يستشعر معنى الأخوة الإسلامية من خلال لقائه بإخوانه المسلمين من شتى بقاع الأرض ومن كل قطر مصر يراهم وقد تصافحت أيديهم وتآلفت قلوبهم يظهر بعضهم لبعض المحبة والعطف والتعاون والتسامح.
شعارهم: وشيجة الدين هي أقوى الوشائج والصلات.
فالناس سواسية في الحقوق والواجبات، وهم سواسية في هذا البيت لا فضل للساكن فيه على الباد والمسافر، فهم كلهم متساوون في البيت الحرام، لا فرق بين الألوان والجنسيات، وليس لأحد أن يفرق بينهم.
وحدة في المشاعر ووحدة في الشعائر، وحدة في الهدف، وحدة في العمل، وحدة في القول، عدة ملايين يقفون كلهم في موقف واحد، وبلباس واحد، لهدف واحد، وتحت شعار واحد، يدعون ربًا واحدًا، ويتبعون نبيًا واحدًا.. وأي وحدة أعظم من هذه؟! وأي ألفة تلك التي وحدت القلوب الحائرة والنفوس النافرة، ألفة أغلى من كنوز الأرض ذهباً لو وزنت به، قال تعالى: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) [الأنفال:63].
ثالثاً: منفعة إثارة الأشواق:
الإسلام دين لا يؤمن بالوساطة بالعبد وربه، ولا مشهد محسوس يركز عليه الإنسان تفكيره، ويصرف إليه همته، ليتخيل به الإله الذي لا تدركه الأبصار، ويرتبط به خياله، ويتمسك بأذياله، فلا وسائط ولا مظاهر، ولا صور ولا أصنام، ولا كهان ولا سدنة، قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: 186]، وقال: (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) [الزمر: 2 - 3] فالإسلام يتطلب تجردا في الخيال، وسموا في التفكير، ونقاءً في الإرادة والنية، وإخلاصا في العمل والتطبيق، ومستوى في العقيدة، لم تبلغ الإنسانية ولا الأديان الفلسفات الوضعية والعقلية مثله أو قريب منه.
وإن صلة الإنسان بربه ليست صلة قانونية أو عقلية فقط، إنما هي صلة حب وشوق، بذل وتضحية؛ كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ) [البقرة: 165]، لذلك فإن الله -عز وجل- أطال في القرآن الكريم في ذكر صفاته وأفعاله، وهي من أقوى ما يثير عاطفة الحب والشوق لله -سبحانه-.
وعاطفة الشوق إلى الله -سبحانه- بمثابة الوقود الذي يشغل تروس العبد فيقبل على طاعة ربه بلا كلل ولا ملل ولا انقطاع، الشوق هو الذي يجعل العبد يري في العبادة أعظم مطلوب وأهم محبوب، إذ أنها عنوان التوحيد ودليل الانقياد وبريد التسليم، ولو تخلف الشوق عن العبد وخلا قلبه منه وخربت نفسه من آثاره وعلاماته، ماتت العبادة وصارت جسداً بلا روح، فروح العبادة هو الشوق إلى الله -عز وجل-.
لكن الفطرة البشرية تحتاج إلى شيء تراه بعينها، فيوجه المرء إليه أشواقه، ويقضي بها حنينه، ويشبع رغبته الملحة في التعظيم والمشاهدة.
لذلك فإن الله -جل في علاه- قد اختار أمورا ظاهرة ومحسوسة، اختصت به، ونسبت إليه، وتجلت عليها رحمته وعظمته، أمورا إذا رآها الناس ذكروا الله، وذكروا آلاءه ونعمه وأيامه، ودينه وتوحيده وأنبيائه، هذه الأمور سماها الله -عز وجل-: "الشعائر" وهي التي يجعل الله -عز وجل- من تعظيمها تعظيما له، ومن التفريط فيها إساءة وتفريطا في جنبه.
وأذن الله لعباده أن يقضوا حنينهم الكامن في نفوسهم ورغبتهم الفطرية في الدنو والمشاهدة في هذه الأمور أو الشعائر، قال تعالى: (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32].
ومناسك الحج وشعائره من أعظم الأمور التي تثير الشوق والمحبة لله -عز وجل-، قال الغزالي: "فالشوق إلى لقاء الله -عز وجل- يشوقه إلى أسباب اللقاء لا محالة، وهذا مع أن المحب مشتاق إلى كل ما له إلى محبوبه إضافة، والبيت مضاف إلى الله -عز وجل-، فالبحري أن يشتاق إليه لمجرد هذه الإضافة، فضلا عن الطلب لنيل ما وُعد عليه من الثواب الجزيل" وصدق الغزالي، فربما يشتاق الإنسان إلى ربه أشد الشوق، فيحتاج إلى شيء يقضي به شوقه فلا يجده إلا في الحج.
وإذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في الحديث: "إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته تسعها ثمنها سبعها سدسها خمسها ربعها ثلثها نصفها"، وإذا كان بن عباس قال: ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها، فإن هاتين القاعدتين يمكن إن تنسحبا على عبادات أخرى منها مناسك الحج والعمرة.
وبالتالي فعلى الحاج أو المعتمر أن يعلم أنه ليس له من عبادته إلا ما عقل منها ووعى, وكان قلبه حاضرا مستشعرا المعنى والمغزى من كل منسك أو شعيرة في تلكم الرحلة بدءا من مجرد التفكير فيها حتى ما بعد العودة منها.
رابعاً: منفعة التسليم والانقياد:
كثير من الآفات المجتمعية والأخلاقية ترجع في الأساس لخلو القلوب من التسليم لأمر الله والانقياد لحكمه، وبالتالي تجد كثيراً من القلوب عاصية ونفوسها شاردة عن طاعة الله -تعالى-.
ومن منافع الحج الخفية: تربية العبد على الاستسلام والخضوع لله -تعالى- وحده فيتربى العبد في الحج على الاستسلام والانقياد والطاعة المطلقة لله رب العالمين، سواء في أعمال الحج نفسها من: التجرد من المخيط والخروج من الزينة، والطواف والسعي، والوقوف، والرمي، والمبيت والحلق، أو التقصير ونحو ذلك من الأمور التي قد لا تكون جلية المعنى، بل قد تكون إلى الأمر المجرد الذي ليس فيه لنفس العبد حظ ورغبة ظاهرة، أو فيما تحمله تلك الأعمال في طياتها من ذكريات قديمة من عهد إبراهيم -عليه السلام-، وما تلاه من استسلام وخضوع وإيثار لمحاب الله -تعالى- ومرضاته على شهوات النفس وأهوائها.
وعندها يتعود العبد على استحسان شعائر الله وحرماته، وإجلالها ومحبتها، والتحرج من المساس بها، أو هتكها، قال تعالى في ثنايا آيات الحج: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32].
وتظهر آثار هذا التسليم والانقياد في التهذيب والتغيير الذي يقع في حياة الحاج، وذلك في أمور عديدة منها:
1- العفة: قال تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ) [البقرة: 197] والرفث هو الجماع، ودواعيه من القول والفعل.
2- كظم الغيظ وترك الجدال والمخاصمة، قال الله: (وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ) قال عطاء: "والجدال: أن تجادل صاحبك حتى تغضبه ويغضبك"، والأظهر أن المراد بنفي الجدال في الآية نفي الجنس المراد به المبالغة في النهي عن الجدال المذموم فقط، وهو النزاع والمخاصمة في غير فائدة شرعية.
3- الرفق واللين والسكينة: قال صلى الله عليه وسلم عندما سمع زجراً شديداً وضرباً وصوتاً للإبل في الدفع من مزدلفة: "أيها الناس: عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع".
4- إنكار الذات والاندماج في المجموع: ففي الحج ينكر العبد ذاته، ويتجرد عما يستطيع أن يخص نفسه به، ويندمج مع إخوانه في الحجيج في اللباس والهتاف والتنقل والعمل.
5- تحمل تبعة الخطأ: ويظهر ذلك جلياً في الفدية الواجبة على من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام عمداً، وعلى من أخطأ الوقوف بعرفات، أو دفع إلى مزدلفة قبل غروب الشمس... إلخ..
وإجمالاً فإن الله تعالى لم يكلف الخلق بعبادته للعنت والمشقة ، ولم يفرضها عليها رغبة في الزيادة في ملك أو طمعاً في السلطان ، فهو سبحانه الغني المستغني عن عباده ، بل لا غنى للخلق عن ربهم طرفة عين ، قال تعالى في الحديث القدسي :" يا عبادي ، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ..." إنما فرضها لما لها من أثر في النفس وعلى الأخلاق والسلوك ، وبما تعود علي العبد من منافع في الدنيا والآخرة ، وإن أعظم ما يعود على العبد من منافع الحج ما خفي عن الخلق ولم يحط به إلا الخالق ، مما سبق وبيناه أعلاه . وإن المسلم الذي يطلب المنافع المادية وينسى المنافع الخفية المعنوية يفوته روح عبادة الحج ولبها والغاية العظمى من تشريعها ، وهذه وأيم الله للخسارة التي ما بعدها خسارة ، والفوات الذي لا يدرك أبداً . نسأل الله أن يرزقنا جميعاً حج بيته الحرام والانتفاع بتلكم الفريضة العظمى بما يعود بصلاح العبد والأمة بأسرها .
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم