تقدير المفاسد والمصالح بين الماضي والحاضر

الشيخ السيد مراد سلامة
1442/01/19 - 2020/09/07 12:07PM

Smiley face

تقدير المفاسد والمصالح بين الماضي والحاضر
الشيخ السيد مراد سلامة
الخطبة الأولى
الحمد لله الحميد، المبدئ المعيد، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العرش المجيد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خير العبيد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم التسليم المزيد.

أما بعد، فاتقوا الله-عباد الله -﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ [البقرة: 278].

أيها الإخوة الأعزاء: حديثنا في هذا اللقاء عن ق تقدير المفاسد والمصالح بين الماضي والحاضر وذلك من خلال القاعدة أصولية لا غنى لأي مسلم عن معرفتها وهي: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح بين الماضي والحاضر 

فما معنى هذه القاعدة؟

وكيف طبقها النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته وكيف نطبقها في حياتنا اليومية؟

أعيروني القلوب والأسماع

أولا معنى هذه القاعدة بأدق عبارة وأرق إشارة:

إذا تعارضت مفسدة ومصلحة وكانت المفسدة غالبة أو مساوية للمصلحة فيقدم دفع المفسدة على جلب المصلحة

فإذا أرد شخص مباشرة عمل يتيح له مصلحة ولكنه من الجهة الأخرى يستلزم ضررا مساويا لتلك المصلحة أو أكبر منها يلحق بالأخرين أو بنفسه فيجب أن يقلع عن إجراء ذلك العمل درءاً للمفسدة المقدم دفعها على جلب المصلحة 

وذلك أيها الإخوة لأن اعتناء الشرع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات لما يترتب على المناهي من الضرر المنافي لحكمة الشرع في النهي

 ثانيا: تطبيقات هذه القاعدة من حياة خير البرية صلى الله عليه وسلم-

هيا لنرى كيف طبق النبي –صلى الله عليه وسلم – في حياته الدعوية:

أولا: هدم الكعبة وبناؤها على قواعد إبراهيم – عليه الصلاة والسلام -فهدم الكعبة وبناؤها على قواعد سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام سيحقق مصلحة شرعية ولكن سيترتب على ذلك مفاسد أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث عن عائشة، قال -صلى الله عليه وسلم -: لولا قومك حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين: باب يدخل الناس منه، وباب يخرجون -ففعله ابن الزبير. ([1])

فبناء الكعبة على قواعد إبراهيم مصلحة ولكن افتتان الضعفاء وتشهير الأعداء مفسدة راجحة على تلك المصلحة فتركه النبي – صلى الله عليه وسلم –

يقول ابن بطال رحمه الله -قال المهلب: فيه أنه قد يترك شيئًا من الأمر بالمعروف إذا خشي منه أن يكون سببًا لفتنة قوم ينكرونه ويسرعون إلى خلافه واستبشاعه.

وفيه: أن النفوس تحب أن تساس بما تأنس إليه في دين الله من غير الفرائض، بأن يترك ويرفع عن الناس ما ينكرون منها.

قال أبو الزناد: إنما خشي أن تنكره قلوب الناس لقرب عهدهم بالكفر، ويظنون أنما يفعل ذلك لينفرد بالفخر دونهم.

المثال الثاني-قتل المنافقين فقتلهم مصلحة لتصفية الصفوف من مكرهم: ولكن هناك مفسدة أعظم منها حديث الناس أن محمدا – صلى الله عليه وسلم -يقتل أصحابه

فعن عمرو بن دينار أنه سمع جابرا -رضي الله عنه يقول غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا وكان من المهاجرين رجل لعاب فكسع أنصاريا فغضب الأنصاري غضبا شديدا حتى تداعوا وقال الأنصاري يا للأنصار وقال المهاجري يا للمهاجرين فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما بال دعوى أهل الجاهلية ثم قال ما شأنهم فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاري قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم دعوها فإنها خبيثة وقال عبد الله بن أبي ابن سلول أقد تداعوا علينا لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فقال عمر ألا نقتل يا رسول الله هذا الخبيث لعبد الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه )([2])

يقول النووي رحمه الله -قوله صلى الله عليه وسلم: (دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه)

فيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الحلم، وفيه ترك بعض الأمور المختارة، والصبر على بعض المفاسد خوفا من أن تترتب على ذلك مفسدة أعظم منه، وكان صلى الله عليه وسلم يتألف الناس، ويصبر على جفاء الأعراب والمنافقين وغيرهم لتقوى شوكة المسلمين، وتتم دعوة الإسلام، ويتمكن الإيمان من قلوب المؤلفة، ويرغب غيرهم في الإسلام، وكان يعطيهم الأموال الجزيلة لذلك، ولم يقتل المنافقين لهذا المعنى ([3])

 المثال الثالث عدم سب ألهة المشركين لما يترتب عليه من سبهم الله و رسوله و تلك مفسدة كبرى قال الله تعالى:﴿ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: 108].

وجه الدلالة: أن الله منَع المسلمين من أن يسبُّوا آلهة المشركين؛ خوفًا من مفسدةِ سبِّ المشركين لله تعالى

ويُثاب المرء إذا التزم بهذه الآية الكريمة؛ فقد نَهى الإسلام عن سب آلهة المشركين مع ما فيه من المصلحة، ولكن مفاسدها أكبر.

المثال الرابع: رد النبي –صلى الله عليه وسلم التبتل على عثمان بن مظعون –رضي الله عنه-

عَن سعد بن أبي وَقاص قَالَ: رد رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَلَى عُثْمَان بن مَظْعُون التبتل، وَلَو أذن لَهُ لاختصينا.([4])

فالاختصاء فيه منعه وهي الانقطاع للعبادة وتفريغ القلب من شواغل الشهوة ولكن فيه مفسدة كبرى وهي انقطاع نسل المسلمين فيقل عدد المسلمين ويكثر عدد الكفار وهو خلاف المقصود من البعثة المحمدية

نسأل الله أن يرزقنا الفقه في الدين، وأن يهدينا إلى صراطه المستقيم.... أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب.

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد.

ثالثا: أمثلتها في الواقع المعاصر:

إخوة الإسلام: إن من تطبيقات تلك القاعدة في الواقع المعاصر: نازلة كورونا التي ضربت العالم فشلت حركته وأوقفت مسيرته وأغلقت الدول حدودها خوفا من ذلك الفيروس ....

فقد تم إغلاق المساجد في تلك الفترة ونحن نعلم أن فتح المساجد فيه مصلحة للعباد في دينهم و ديناهم و لكن سيترتب على ذلك مفاسد كبرى وهي انتشار تلك الأوبئة مما يؤدي إلى الوفاة و الشريعة الإسلامية الغراء إنما جاءت من أجل الحفاظ على الأروح من الهلكة كما في قوله تعالى {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]

فالمقصد العام من تشريع الأحكام الشرعية هو تحقيق مصالح الناس في العاجل والآجل معًا، فإذا كان حضور الجُمع والجماعات من شعائر الإسلام الظاهرة، فإن تحقيق مصالح الناس ودفع المفاسد عنهم هو أساس إرسال الرسل وتشريع الأحكام التي أرسلوا بها ما يعني أنها مُقدمة على تلك الشعائر. فبرغم كون الجمعة فرضًا من الفروض وصلاة الجماعة سنة مؤكدة على القول الراجح، إلا أنه هناك أعذار تمنع من حضورهما دفعا للضرر الناشئ عن التجمع عن قرب في مكان واحد ومن هذه الأعذار، المرض.

وكذلك تم تعليق الحج والعمرة وفيهما مصالح دينية ودنيوية ولكن أيها الإخوة المفاسد التي سيترتب عليها أكبر بكثير من تلك المصالح لذا صدرت الفتاوى من الهيئات العلمية بوجوب تعليق الحج والعمرة لدرء مفاسد ذلك الوباء

ولقد روى إمامنا مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن حازم، عن ابن أبي مليكة، أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – رأى امرأة مجذومة تطوف بالبيت، فقال لها: ” يا أمة الله لا تؤذي الناس، لو جلست في بيتك، فجلست، فمر بها رجل بعد ذلك، فقال لها: إن الذي كان قد نهاك قد مات فاخرجي، فقالت: ما كنت لأطيعه حيا وأعصيه ميتا ” ([5])

قال أبو عمر: فيه أنه يحال بين المجذوم، ومخالطة الناس لما فيه من الأذى، وهو لا يجوز، وإذا منع أكل الثوم من المسجد، وكان ربما أخرج إلى البقيع في العهد النبوي، فما ظنك بالجذام، وهو عند بعض الناس يعدي، وعند جميعهم يؤذي

رابعا: قاعدة درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة بعد عودة فتح المساجد:

أيها الإخوة و لقد من الله تعالى علينا و خف ذلك الوباء و عادة المساجد بعودة المساجد جمعا و جماعات لذا أيها الإخوة ينبغي علينا أن نأخذ بالحذر و الحيطة و إذا مرض إنسان أو أحس بأي عرض من أعراض ذلك الوباء فإنه يجب عليه شرعا أن يلزم بيته و أن يعزل نفسه وألا يأتي إلى المسجد لشهود الجمعة أو الجماعة حتى لا يضر غيره و نبينا صلى الله عليه وسلم علمنا ذلك كما في الحديث عَن ابْن عَبَّاس قَالَ، قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لَا ضَرَر وَلَا إِضْرَار([6])

خامسا تجريم التعدي على الأراضي الزراعية بالبناء

 فمعلوم أن البناء فيه مصلحة للباني ولكن المفسدة المترتبة على ذلك البناء أكبر وأكثر حيث تتقلص الرقعة الزراعية ويقل الإنتاج الزراعية وفي ذلك تهديد كبير للأمن الغذائي و في هذا ضرر بالمجتمع عَن ابْن عَبَّاس قَالَ، قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لَا ضَرَر وَلَا إِضْرَار([7])

والتعدي على الأراضي الزراعية هو عكس مراد الشرع الذي حث على الزرع والغرس، ففي الصحيحين عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ)([8]). وقوله: (إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ، وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا)([9])

وللحاكم تقييد المباح للضرورة العامة، فإذا منع ولي الأمر البناء على الأراضي الزراعية فله ذلك، لما جاء في الحديث أن الصحابة الكرام قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يَا رَسُولَ اللهِ نَهَيْتَ عَنْ إِمْسَاكِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلَاثٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ عَلَيْكُمْ، فَكُلُوا وَتَصَدَّقُوا وَادَّخِرُوا) ([10]) .... فإذا منع ولي الأمر مثل هذا كان هناك معنى زائد في المنع؛ إذ ولي الأمر منوط به أن يتصرف بما فيه مصلحة الرعية.

الدعاء .........................................................

[1] - أخرجه مالك (الموطأ) صفحة (238)، وأحمد (6/176). والبخاري (2/179) ومسلم (4/97والنسائى (5/214) وابن خزيمة (2726)

[2] - أخرجه احمد ح 12147و   البخاري ح 3257 ومسلم ح 3372

[3] - شرح النووي على مسلم -(ج 8 / ص 392)

[4] - أخرجه أحمد 1/175(1514) و"البخاري" 7/5(5073)

[5] - أخرجه الإمام مالك في الموطأ كتاب العدوى و الطيرة حديث رقم : 961.

[6] - خرجه أحمد (1/225) (2307) وابن ماجة (2337)

[7] - خرجه أحمد (1/225) (2307) وابن ماجة (2337)

[8] - أخرجه عبد بن حميد (1011) و"مسلم" 5/27(3968)

[9] - مسند أحمد:ج3/ص183 ح12925

[10] - أبي داود في سننه ج3/ص100 ح2812 وصحيح سنن أبي داود: 2812

المرفقات

خطبة-تقدير-المفاسد-والمصالح-بين-الماض

خطبة-تقدير-المفاسد-والمصالح-بين-الماض

المشاهدات 3881 | التعليقات 0