لم يوقف الحج بحمد الله. 1441/11/5هـ

عبد الله بن علي الطريف
1441/11/05 - 2020/06/26 05:53AM
لم يوقف الحج بحمد الله. 1441/11/5هـ
الحمدُ للهِ الملكِ العلامِ، الذي فرضَ علينا الحجَ إلى بيتِه الحرامِ، وجعلَه مرةً في العُمرِ لا كلَ عامٍ، وجعلَ ذلك ركناً من أركانِ الإسلامِ، أحمدُه سبحانَه على الرخاءِ والنعماءِ، وأشكرُه في السراءِ والضراءِ، وأشهدُ ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن نبينا محمداً عبدُه ورسولُه، أرسلهُ اللهُ رحمةً للعالمين. اللهم صلّى وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]
أما بعد أيها الإخوة: أداءُ مَا فَرضَ اللهُ عليكم من الحجِ إلى بيتِه الحرامِ واجبٌ على الفورِ لِمنْ استطاع إليه سبيلاً، لقولِ اللهُ تعالى: (وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا..) [آل عمران:97]. وقوله سبحانه: (وَأَتِموا الْحَج وَالْعُمْرَةَ لِلهِ..) [البقرة:196] والأدلة على ذلك كثيرة جداً.. وأمرَ اللهُ تعالى منْ تولى أمرَ البيتِ الحرامِ أنْ يُطَهِرَهُ من الشركِ والمعاصي، ومن الأنجاس والأدناس فقال: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [الحج:26] وأضافَ الرحمنُ الْبَيْتَ إلى نفسِهِ، لشرفِهِ، وفضلِهِ، ولتعظُمَ محبتُه في القلوب، وتنصبَّ إليه الأفئدةُ من كلِّ جانبٍ، وليكونَ أعظم لتطهِيره وتعظيمِهِ، لكونه بيتَ الرَّبِ للطائفين به والعاكفين عنده، المقيمين لعبادةٍ من العبادات من ذكرٍ، وقراءةٍ، وتعلمِ علمٍ وتعليمِهِ، وغير ذلك من أنواع القرب، وأمر تعالى بتطهيره لهؤلاء الفضلاء من الطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، الذين همُّهم طاعةُ مولاهم وخدمتُه، والتقرُّبُ إليه عند بيته، فهؤلاء لهم الحقُ، ولهم الإكرامُ، ومن إكرامِهم تطهيرُ البيتِ لأجلِهم.. 
أيها الإخوة: ذكرت كُتبُ التاريخ الإسلامي أن الحج منذ فرضه اللهُ في السنةِ التاسعةِ من الهجرة يقام كل عام، وتوقف تماماً أو كان الوصول إلى مشاعره محدداً بأهل بلد أو عدد محدد أربعين مرة.. وسبب توقفه أحداثٌ أو جوائح منها‏:‏ انتشار الأمراض والأوبئة‏، أو الاضطرابات السياسية‏ وعدم الاستقرار الأمني، أو الغلاء الشديد والاضطراب الاقتصادي،‏ أو‏ فساد الطرق‏ من قبل اللصوص وقُطاع الطرق.‏
وأول الأحداث تسبباً في وقف الحج وأفظعها ما حدث سنة 317 من الهجرة ففي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ خَرَجَ أبو طاهر الْقُرْمُطِيّ على الحجاجِ وأهلِ مكةَ فَانْتَهَبَ أَمْوَالَهُمْ وَاسْتَبَاحَ قتلهم، وقتل في رحاب مكة وشعابها وفي المسجد الحرام وفي جوف الكعبة من الحجاج خلقاً كثيراً، قُدِرَ بثلاثين ألفاً، وجلسَ قبحه الله ولَعْنَه عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ، وَالرِّجَالُ تُصْرَعُ حولَه، والسيوفُ تعملُ في النَّاسِ في المسجدِ الحرامِ في الشهرِ الحرامِ فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، الَّذِي هُوَ مِنْ أَشْرَفِ الأيام، وَهُوَ يرْتَجِزُ:
                                                                                أنا بالله وبالله أنا **** يخلق الخلق وأفنيهم أنا.
فكان الناسُ يَفِرونَ من القتلِ فَيَتَعَلَّقُونَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَلَا يُجْدِي ذَلِكَ عَنْهُمْ شَيْئًا، بَلْ يُقْتَلُونَ وَهُمْ كَذَلِكَ، وَيُقْتَلُونَ وَهُمْ يَطُوفُونَ.. ولما قضى القرمطيُ أمرَهُ وفَعَلَ ما فَعَلَ بالحجيجِ من الأفاعيلِ القبيحة، أمرَ أن تُدْفَنَ جُثَثَ القتلَى في بِئرِ زمزمَ، ودُفن كثِيرٌ منهم في أماكنِهم مِنَ الحرمِ، وفي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.. قال ابنُ كثيرٍ رحمَهُ اللهُ: وَيَا حَبَّذَا تِلْكَ الْقِتْلَة، وَتِلْكَ الضَجْعَة، وذلك الـمَدْفَن والمكان، ومع هذا لم يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُكَفَّنُوا وَلَمْ يُصلَّ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ محرمون شهداء في نفس الأمر.
وَهَدَمَ الخَبِيثُ قُبَّةَ زَمْزَمَ وَأَمَرَ بِقَلْعِ بَابِ الْكَعْبَةِ وَنَزَعَ كِسْوَتَهَا عَنْهَا، وَشَقَّقَهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَأَمَرَ رجُلاً أنْ يَصْعَدَ إلى مِيزابِ الكعبةِ فيقْتَلِعَهُ، فَسَقَطَ على أُمِ رَأْسِهِ فمَاتَ إلى النَّارِ.
فعند ذلك اِنْكَفَ الخبيثُ عَنِ الْمِيزَابِ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَنْ يُقْلَعَ الْحَجَرُ الأسودُ وأخذَهُ إلى بلادِه، وكان أبو طاهرٍ هذا قد بَنَى بها داراً سَمَّاها دَارَ الهجرةِ، فوضعَ فيها الحَجَرَ الأسود ليتعطل الحج إلى الكعبة ويرتحل الناس إلى مدينة "هجر"، وقد تعطل الحج إلى بَيتِ اللهِ الحرامِ عشرةَ أعوامٍ وقيل أكثر، ولم يقفْ أحدٌ بعرفةَ ولم تُؤدَ المناسكُ، وذلك لأولِ مرةٍ، منذ أنْ فُرِضَتْ الشَعِيرَةُ. فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
قال ابن كثير: وَقَدْ أَلْحَدَ هَذَا اللَّعِينُ فِي المسجد الحرام إلحاداً لم يسبِقْهُ إليهِ أحد ولا يَلْحَقْهُ فيه، وسيجازِيه عَلَى ذَلِكَ الَّذِي لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ، وَلَا يَوْثِقُ وِثَاقَهُ أَحَدٌ.. وَإِنَّمَا حَمَلَ هَؤُلَاءِ على هذا الصنيعِ أَنَّهم كُفْاراً زَنَادِقَةً..
وفي سنة ثلاثمائة وسبع وخمسين عرضَ للناسِ داءُ الماشري فمات به خلق ٌكثير، وَفِيهَا مَاتَ أَكْثَرُ جِمَالِ الْحَجِيجِ فِي الطَّرِيقِ مِنَ الْعَطَشِ، وَلَمْ يَصِلْ مِنْهُمْ إِلَى مَكَّةَ إلا القليل، بل ماتَ أكثرُ من وصلَ منهم بعد الحج..
وتفشت الأوبئةُ في موسم الحج عدةَ مرات وماتَ بسببِها كل مرة خلقٌ كثير من الحُجاجِ وغيرهم، ففي إحدى السنوات مات ثمانية آلاف بسبب الطاعون، وتسببَ في أخرى بمقتل ما لا يقل عن ثلاثة أرباع الحُجاج الوافدين آنذاك.. وفي منتصف القرن التاسع عشر تفشي وباء شديد الخطورة، ضمن ما سمي "وباء الكوليرا الرابع" وكان يموت ألف حاجٍ يوميًا.. وفي كل سنةٍ من السنين الأربعين يبتلى الناس بجائحة تمنع الحجَ أو تقلل الحجاج أو يموت في الموسم آلاف منهم.. فاللهم لطفك بنا وإليك المفزعُ والتُكلان ولا حول ولا قوة إلا بك.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم..
 الثانية:
الحَمدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ والشُكرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وامتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، تَعظِيماً لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الـمُؤيَدُ بِبُرهَانِـهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِراً.. أَمَا بَعْدُ:
أَيُهَا الإِخْوَةَ: اتَقُوا اللهَ حَقَ التَقْوَى، واعْلَمُوا أَنَّ إقامةَ الحجِ كُلَ عامٍ فرضُ كفاية حتى لا يتعطل بيت الله الحرام من إقامة الشعيرة، ويحصل هذا بحج طائفة من المسلمين وإن قلَّ عَدَدُهم..
وبحمدِ اللهِ مُنْذُ أَنْ مَنَّ اللهُ تعالى على هَذِهِ البلاد بتوحيدِ أرجائِها على يد المؤسس الملك عبدالعزيز رحمه الله جَندتْ هذه البلادُ إمكانَاتِها البشرية والمادية لتهيئِةِ بيتَ اللهِ الحرام والمشاعرَ المقدسة لروادها ممن يريد الحج والعمرة واستنفرت كل طاقتها لخدمة الحجاج والمعتمرين والزائرين قياماً بواجبها الشرعي، وفي كل عام يؤمها ملايين المسلمين ولم يتوقف الحج عاماً وحداً بحمد الله وتوفيقه..
وفي هذا العام بفضل الله تعالى لن يوقف الحج بسبب جائحة كورونا التي تجتاح العالم، ولكن لمصلحة الأمة وحفاظاً على الأنفس المعصومة فقد رأى ولات لأمر تقليل عدد الحجاج، وقصره على الموجودين داخل المملكة من الراغبين بالحج من المواطنين والمقيمين حسب ترتيب وعدد معين، بناء على التقارير الصحية التي بينت ضرر الاجتماعات الكبيرة والزحام، وأنها سبب لانتقال العدوى بهذا الداء الخطير أجارنا الله والمسلمين منه وطهر العالم منه ومن ضرره، وأصدرت هيئة كبار العلماء بالمملكة تأييداً لما قررته حكومة المملكة العربية السعودية بأن يكون الحج هذا العام 1441هـ بعددٍ محدود جداً من داخل المملكة حفاظاً على صحة الحجاج وسلامتهم.. ومن عزم على الحج ولم يستطع هذا العام فله أجر النية.. نسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يجلي الغمة ويعافي الأمة وصلوا وسلموا ....
 
 
 
المشاهدات 1037 | التعليقات 1

لم يوقف الحج بحمد الله. 5/11/1441هـ
الحمدُ للهِ الملكِ العلامِ، الذي فرضَ علينا الحجَ إلى بيتِه الحرامِ، وجعلَه مرةً في العُمرِ لا كلَ عامٍ، وجعلَ ذلك ركناً من أركانِ الإسلامِ، أحمدُه سبحانَه على الرخاءِ والنعماءِ، وأشكرُه في السراءِ والضراءِ، وأشهدُ ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن نبينا محمداً عبدُه ورسولُه، أرسلهُ اللهُ رحمةً للعالمين. اللهم صلّى وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]
أما بعد أيها الإخوة: أداءُ مَا فَرضَ اللهُ عليكم من الحجِ إلى بيتِه الحرامِ واجبٌ على الفورِ لِمنْ اسْتَطاعَ إليه سَبيلاً، لقولِ اللهِ تعَالى: (وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا..) [آل عمران:97]. وقولِه سُبحانه: (وَأَتِموا الْحَج وَالْعُمْرَةَ لِلهِ..) [البقرة:196] والأدلة على ذلك كثيرةٌ جداً.. وأمرَ اللهُ تعالى مَنْ تولى أَمرَ البيتِ الحرامِ أنْ يُطَهِرَهُ من الشركِ والمعاصِي، وَمِنْ الأنجاسِ والأدناسِ فقال: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [الحج:26] وأَضافَ الرحمنُ الْبَيْتَ إلى نفسِهِ، لِشرفِهِ، وفَضلِهِ، ولِتَعْظُمَ محبتُهُ في القلوبِ، وتَنصَبَّ إليه الأفئدةُ من كُلِّ جَانبٍ، ولِيكونَ أَعظَمَ لتطْهِيرِه وتعظيمِهِ، لِكونِه بيتَ الرَّبِ للطائفينَ به والعاكِفين عِنده، المقيمينَ لِعِبَادةٍ من العِبادَات من ذِكرٍ، وقِراءةٍ، وتَعلمِ عِلمٍ وتعليمِهِ، وغير ذلك من أنواعِ القُربِ، وأمرَ تعالى بتطهِيرِه لهؤلاءِ الفُضَلاءِ من الطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، الذين همُّهم طاعةُ مولاهم وخِدْمتُه، والتقرُّبُ إليه عند بيتِهِ، فهؤلاءِ لهم الحقُ، ولهم الإكرامُ، ومن إِكْرامِهم تَطهِيرُ البيتِ لأَجلِهم.. 
أيها الإخوة: ذكرت كُتبُ التاريخ الإسلامي أن الحج منذ فرضه اللهُ في السنةِ التاسعةِ من الهجرة يقام كل عام، وتوقف تماماً أو كان الوصول إلى مشاعره محدداً بأهل بلد أو عدد محدد أربعين مرة.. وسببُ توقفِه أحداثٌ أو جوائحُ منها‏:‏ انتشارُ الأمراضِ والأوبِئة‏، أو الاضطراباتُ السياسية‏ وعدمُ الاستقرار الأمني، أو الغلاءُ الشديد والاضطرابُ الاقتصادي،‏ أو‏ فسادُ الطرقِ‏ من قبلِ اللصوصِ وقُطاع الطرق.‏
وأولُ الأحداثِ تسبباً في وقف الحج وأفظعُها ما حدثَ سنة 317 من الهجرة ففي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ خَرَجَ أبو طاهر الْقُرْمُطِيّ على الحُجاجِ وأهلِ مكةَ فَانْتَهَبَ أَمْوَالَهُمْ وَاسْتَبَاحَ قتلهم، وقتلَ في رحابِ مكةَ وشِعابِها وفي المسجدِ الحرامِ وفي جوفِ الكعبةِ من الحُجاجِ خَلقاً كثيراً، قُدِرَ بثلاثينَ ألفاً، وجَلسَ قبحَه اللهُ ولَعْنَه عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ، وَالرِّجَالُ تُصْرَعُ حَولَه، والسْيُوفُ تَعملُ في النَّاسِ في المسْجدِ الحرامِ في الشهرِ الحرامِ فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، الَّذِي هُوَ مِنْ أَشْرَفِ الأيام، وَهُوَ يرْتَجِزُ:
                 أَنَا بِاللَّهِ وَبِاللَّهِ أَنَا **** يَخْلُقُ الْخَلْقَ وَأُفْنِيهِمْ أَنَا.
فكان الناسُ يَفِرونَ من القتلِ فَيَتَعَلَّقُونَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَلَا يُجْدِي ذَلِكَ عَنْهُمْ شَيْئًا، بَلْ يُقْتَلُونَ وَهُمْ كَذَلِكَ، وَيُقْتَلُونَ وَهُمْ يَطُوفُونَ.. ولما قضى القرمطيُ أمرَهُ وفَعَلَ ما فَعَلَ بالحجيجِ منْ الأفاعيلِ القبيحةِ، وَأَمَرَ أن تُدْفَنَ جُثَثَ القتلَى في بِئرِ زمزمَ فألقي فيها ثلاثةُ آلاف جُثة، ودُفن كثِيرٌ منهم في أماكنِهم مِنَ الحرمِ، وفي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.. قال ابنُ كثيرٍ رحمَهُ اللهُ: وَيَا حَبَّذَا تِلْكَ الْقِتْلَةُ، وَتِلْكَ الضِّجْعَةُ، وذلك الـمَدْفَن والمكان، ومع هذا لم يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُكَفَّنُوا وَلَمْ يُصلَّ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ شُهَدَاءُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ مِنْ خِيَارِ الشُّهَدَاءِ..
وَهَدَمَ الخَبِيثُ قُبَّةَ زَمْزَمَ وَأَمَرَ بِقَلْعِ بَابِ الْكَعْبَةِ وَنَزَعَ كِسْوَتَهَا عَنْهَا، وَشَقَّقَهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَأَمَرَ رجُلاً أنْ يَصْعَدَ إلى مِيزابِ الكعبةِ فيقْتَلِعَهُ، فَسَقَطَ على أُمِ رَأْسِهِ وَصَارَ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ، فَانْكَفَّ اللَّعِينُ عِنْدَ ذَلِكَ عَنِ الْمِيزَابِ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَنْ يُقْلَعَ الْحَجَرُ الأسودُ وأخذَهُ إلى بلادِه، وكان أبو طاهرٍ هذا قد بَنَى بها داراً سَمَّاها دَارَ الهجرةِ، فوضعَ فيها الحَجَرَ الأسود ليتعطل الحج إلى الكعبة ويرتحل الناس إلى مدينة "هجر"، وقد تعطل الحج إلى بَيتِ اللهِ الحرامِ عشرةَ أعوامٍ وقيل أكثر، ولم يقفْ أحدٌ بعرفةَ ولم تُؤدَ المناسكُ، وذلك لأولِ مرةٍ، منذ أنْ فُرِضَتْ الشَعِيرَةُ. فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
قال ابن كثير: وَقَدْ أَلْحَدَ هَذَا اللَّعِينُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلْحَادًا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ أَحَدٌ وَلَا يَلْحَقُهُ فِيهِ، وَسَيُجَازِيهِ عَلَى ذَلِكَ الَّذِي لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ، وَلَا يَوْثِقُ وِثَاقَهُ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا حَمَلَ هَؤُلَاءِ عَلَى هَذَا الصَّنِيعِ أَنَّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا زَنَادِقَةً..
وفي سنة ثلاثمائة وسبع وخمسين عرضَ للناسِ دَاءُ الْمَاشَرَا، فَمَاتَ بِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ فَجْأَةً، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَفِيهَا مَاتَ أَكْثَرُ جِمَالِ الْحَجِيجِ فِي الطَّرِيقِ مِنَ الْعَطَشِ، وَلَمْ يَصِلْ مِنْهُمْ إِلَى مَكَّةَ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَمَاتَ أَكْثَرُ مَنْ وَصَلَ مِنْهُمْ عَامَهُ ذَلِكَ..
وتفشت الأوبئةُ في موسم الحج عدةَ مرات وماتَ بسببِها كل مرة خلقٌ كثير من الحُجاجِ وغيرهم، ففي إحدى السنوات مات ثمانية آلاف بسبب الطاعون، وتسببَ في أخرى بمقتل ما لا يقل عن ثلاثة أرباع الحُجاج الوافدين آنذاك.. وفي منتصف القرن التاسع عشر الميلادي تفشي وباءٌ شديدُ الخطورة، ضمن ما سمي "وباء الكوليرا الرابع" وكان يموت بسببه ألف حاجٍ يوميًا.. وفي كل سنةٍ من السنين الأربعين يبتلى الناس بجائحة تمنع الحجَ أو تقلل الحجاج أو يموت في الموسم آلاف منهم.. فاللهم لطفك بنا وإليك المفزعُ والتُكلان ولا حول ولا قوة إلا بك.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم..
 الثانية:
الحَمدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ والشُكرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وامتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، تَعظِيماً لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الـمُؤيَدُ بِبُرهَانِـهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِراً.. أَمَا بَعْدُ:
أَيُهَا الإِخْوَةَ: اتَقُوا اللهَ حَقَ التَقْوَى، واعْلَمُوا أَنَّ إقامةَ الحجِ كُلَ عامٍ فرضُ كفاية حتى لا يتعطل بيت الله الحرام من إقامة الشعيرة، ويحصل هذا بحج طائفة من المسلمين وإن قلَّ عَدَدُهم..
وبحمدِ اللهِ مُنْذُ أَنْ مَنَّ اللهُ تعالى على هَذِهِ البلاد بتوحيدِ أرجائِها على يد المؤسس الملك عبدالعزيز رحمه الله جَندتْ هذه البلادُ إمكانَاتِها البشرية والمادية لتهيئِةِ بيتَ اللهِ الحرام والمشاعرَ المقدسة لروادها ممن يريد الحج والعمرة واستنفرت كل طاقتها لخدمة الحجاج والمعتمرين والزائرين قياماً بواجبها الشرعي، وفي كل عام يؤمها ملايين المسلمين ولم يتوقف الحج عاماً وحداً بحمد الله وتوفيقه..
وفي هذا العام بفضل الله تعالى لن يوقف الحج بسبب جائحة كورونا التي تجتاح العالم، ولكن لمصلحة الأمة وحفاظاً على الأنفس المعصومة فقد رأى ولات لأمر تقليل عدد الحجاج، وقصره على الموجودين داخل المملكة من الراغبين بالحج من المواطنين والمقيمين حسب ترتيب وعدد معين، بناء على التقارير الصحية التي بينت ضرر الاجتماعات الكبيرة والزحام، وأنها سبب لانتقال العدوى بهذا الداء الخطير أجارنا الله والمسلمين منه وطهر العالم منه ومن ضرره، وأصدرت هيئة كبار العلماء بالمملكة تأييداً لما قررته حكومة المملكة العربية السعودية بأن يكون الحج هذا العام 1441هـ بعددٍ محدود جداً من داخل المملكة حفاظاً على صحة الحجاج وسلامتهم.. ومن عزم على الحج ولم يستطع هذا العام فله أجر النية.. نسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يجلي الغمة ويعافي الأمة وصلوا وسلموا ....