حج بلا زحام

هلال الهاجري
1441/11/04 - 2020/06/25 07:07AM

الحمدُ للهِ الذي أَكملَ لهذهِ الأمةِ شرائعَ الإسلامِ، وفرضَ على المستطيعِ منهم حَجَّ بيتِه الحرامِ، ورَتَّبَ عليه جزيلَ الفضلِ والإنعامِ، فمن حَجَّ البيتَ ولم يَرفثْ ولم يَفسقْ خرجَ كيومِ ولدتْهُ أُمُّه نَقيَّاً من الذُّنوبِ والآثامِ، وذلك هو الحجُّ المبرورُ ليسَ جزاءً إلا الفوزَ بالجنةِ دارِ السَّلامِ، أحمدُه وأشكرُه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ هو الملكُ القدوسُ السَّلامُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه أفضلَ من صلَّى وزكى وحَجَّ وصامَ، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وأصحابِه البررةِ الكرامِ، وعلى التَّابعينَ لهم بإحسانٍ ما تعاقبتْ الليالي والأيامُ، وسَلمَ تسليماً كثيراً، أما بعدُ:

فاتقوا اللهَ سُبحانَه كما أمركَم بقولِه: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ).

إليك يا من لم يحجَّ .. لقد جاءتكَ الفرصةُ التي قد لا تُعوَّضُ .. فإن كُنتَ تخافُ الزِّحامَ، فجاءكَ حجٌّ لا زِحامَ فيه ولا كثيرَ عددٍ.. وإن كُنتَ تخافُ التَّدافعَ، فجاءَك حجٌّ لا تَقاربَ فيه ولا التِحامَ .. وإن كُنتَ تخافُ الأمراضَ، فجاءكَ حجٌّ باحترازاتٍ طبيَّةٍ مُشدَّدةٍ .. والأعظمُ من ذلكَ والأكبرُ .. اطمئنْ فمنْ خرجَ حاجَّاً فإنَّهُ في حفظِ اللهِ ورعايتِه منذُ خروجِهِ من بيتِهِ حتى يَرجعَ، كما في الحديثِ: (ثَلاثَةٌ فِي ضَمَانِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: رَجُلٌ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ مَسَاجِدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَرَجُلٌ خَرَجَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَرَجُلٌ خَرَجَ حَاجًّا) .. فماذا تنتظرُ؟ .. اعزمْ وتوكَّلْ على اللهِ تعالى.

تأملوا معي هذه الآيةَ .. (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)، ففيهِ وجوبُ الحجِّ على المستطيعِ، ولكن اسمعْ معي لبقيةِ الخِطابِ فيمن تركَ الحجَّ مع الاستطاعةِ، (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)، لا إلهَ إلا اللهُ .. فالأمرُ خطيرٌ جِدَّاً.

فما هو عذرُكَ يا من تستطيعُ الحجَّ وما حججتَ؟، ما هو عذرُكَ وقد أعطاكَ اللهُ صِحةً وغِنىً؟، ما هو عذركَ وقد أصبحتْ الطُّرقُ أكثرَ أَمناً؟، ما هو عذرُكَ وقد أصبحتْ المسافاتُ قصيرةً؟، وما هو عذركَ وقد أصبحتْ المناسكُ يسيرةً؟، عَن أبي هريرةَ رَضيَ اللهُ عنه قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَمَ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ قَد فَرَضَ عَلَيكُمُ الحَجَّ، فَحُجُّوا)، فماذا تنتظرُ يا مَن لم يحجَّ؟.

قَالَ السَّريُّ السَّقَطيُّ رحمَهُ اللهُ: خرجتُ إلى الحجِّ؛ فلقيتُ جاريةً حَبَشيةً، فقلتُ: إلى أينَ يا جاريةُ؟، فقالتْ: إلى مَكةَ، فقلتُ: إنَّ الطَّريقَ بَعيدٌ، فأَنشدتْ تَقولُ:

بعيدٌ على الكسلانِ أو ذُو مَلالةٍ *** وأمَّا على المُشتاقِ فهو قَريبُ

فماذا ننتظرُ بتسويفِنا وتأجيلِنا للحجِّ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوْ الدَّجَّالَ، فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوْ السَّاعَةَ، فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ، يقول عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ، فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ، وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ).

مَن مِنَّا يُريدُ فتحَ صفحةٍ جديدةٍ لِعُمرِه؟، نستدركُ فيها ما كانَ من خطايا، ونُعوِّضُ فيها ما كانَ من بلايا، ونُجدِّدُ الأعمالَ مع اللهِ تعالى والنَّوايا، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)، اللهُ أكبرُ .. أيامٌ معدوداتٌ .. تمحو سنينَ عديداتٍ .. فيصبحُ الواحدُ بعدَها كطفلٍ وَليدٍ .. فماذا عسى أن تفعلَ بعُمرِكَ الجديدِ؟.

مَن منكم قد اشتاقَ إلى الجِهادِ في سبيلِ اللهِ تعالى؟ .. هل تعلمونَ ما هو أفضلُ الجهادِ؟ .. عَنْ أُمِّ المُؤمِنينَ عَائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا قَالتْ: (يا رسولَ اللهِ، نرى الجهادَ أفضلَ العملِ، أفلا نجاهِدُ؟ قال: لا، لكنَّ أفضلَ الجهادِ حجٌّ مبرورٌ)، ولذلكَ كانَ أجرُ الحجِّ المبرورِ عظيماً .. فقد قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةَ)، فماذا ننتظرُ؟.

هل تشتكي من قلةِ البركةِ في الرِّزقِ؟ .. هل تعاني من الأزماتِ الماليةِ المُتكرِّرةِ؟ .. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ، كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) .. سُبحانَ اللهِ .. دواءٌ نافعٌ .. لرزقٍ واسعٍ.

إليـكَ إلهـي قــد أتيـــتُ مُلَبّيَــا *** فبارِك إلهــي حجّتِـي ودُعائــيَا
أتيتُ بلا زادٍ وَجُودُك مَطْعَمِي *** وما خابَ من يهْفُو لجُودِك ساعيَا
إليكَ إلهِي قد حضرتُ مؤمِّلًا *** خلاصَ فؤادي مِن ذنوبي مُلَبّيَا
قصدتُك مضطرًا وجئتُكَ باكيَا *** وحاشاك ربي أن ترُدَّ بُكَائيَــا

أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ من كلِّ ذَنبٍ، فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ على نعمائه، والشُّكرُ له على فضلِه وآلائه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، عَبدَ ربَّه في سَرائه وضرائه، صلى اللهُ وسلمَ وباركَ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأتباعِه، أما بعدُ:

وأما لحظاتُ الوقوفِ بعرفةَ .. فقد لا تمرُّ عليكَ في حياتِكَ لحظاتٌ مِثلُها .. هناكَ يجتمعُ الحُجَّاجُ في لباسٍ واحدٍ .. في موقفٍ واحدٍ .. يتوجهُّونَ إلى إلهٍ واحدٍ .. قد كشفوا رؤوسَهم للسَّماءِ .. ورفعوا أيديهم بالدُّعاءِ .. في يومٍ قد وعدَ اللهُ فيه بالعطاءِ .. هُناكَ تُناخُ المطايا .. وتُحطُّ الخطايا .. وتَكثرُ العطايا .. هُناكَ تُسكبُ العَبراتُ .. وتَهمِلُ الدَّمعاتُ .. وتُسمعُ الآهاتُ .. هناكَ السُّرورُ قد تمَّ .. والشَّملُ قد التمَّ .. وذهبَ الهمُّ والغمُّ، قالَ صلى اللهُ عليه وسلمَ: (وأمَّا وقوفُك عَشيَّةَ عرفةَ؛ فإنَّ اللهَ يهبِطُ إلى سماءِ الدُّنيا فيُباهي بكُم الملائكةَ، يقول: عِبادي جاؤني شُعثًا مِن كلِّ فجٍّ عَميقٍ، يَرجونَ جنَّتي، فلَو كانتْ ذنوبكُم كعَددِ الرَّملِ، أو كقَطْرِ المطرِ، أو كزَبدِ البحرِ؛ لغَفرتُها، أفيضوا عبادِي مغفورًا لكُم، ولمن شَفعتُمْ لهُ).

ويدْنُو بهِ الجبّارُ جَلَّ جلالُهُ *** يُباهِي بهمْ أمْلاكَه فهو أكرَمُيقولُ عِبادِي قدْ أتونِي مَحَبَّةً *** وَإنِّي بهمْ بَرٌّ أجُودُ وأرْحَمُفأشْهِدُكُمْ أنِّي غَفَرْتُ ذنُوبَهُمْ *** وأعْطيْتُهُمْ ما أمَّلوهُ وأنْعِمُفبُشراكُمُ يا أهلَ ذا المَوقفِ الذِي *** به يَغفرُ اللهُ الذنوبَ ويَرحمُ

فجزى اللهُ هذه الدولةَ المباركةَ أن أقامتْ حجَّ هذا العامَ لتقرَّ برؤيتِه عيونُ المسلمينَ، وتفرحُ بمشاعرِه قلوبُ المؤمنينَ، مع ما يعيشُه العالمُ من جائحةٍ وبلاءٍ، مع الاحتياطاتِ الذي تضمنُ به سلامةَ الحُجَّاجِ بإذنِ اللهِ تعالى، فهي كانت ولا زالتْ حريصةً على أرواحِ المواطنينَ والمُقيمينَ، وباذلةً لتحقيقِ ذلكَ الرَّخيصَ والثَّمينَ.

اللهمَّ يَسِّرْ لمنْ أرادَ الحجَّ والعُمرةَ، اللهم اجعل حجَهم مبرورًا، وسعيَهم مشكورًا، وذنبَهم مغفورًا، اللهم رُدَّهم إلى أهليهم سَالمينَ، وبلباسِ التَّقوى مُتجملينَ، ولكل خيرٍ وفضلٍ غَانمينَ، وبالمغفرةِ فائزينَ، ومن النَّارِ مَعتوقينَ، ولرضوانِكَ حَائزينَ، اللهمَّ واجعلنا معهم من المرحومينَ المقبولينَ الفائزينَ، اللهمَّ لا تحرمنا فضلَك وجودَكَ وعطاءَك وكرمَك بسوءِ ما عندنا، اللهم اغفر ذنوبَنا، واستر عيوبَنا، وارحم ضعفَنا، واسلل سخيمةَ صدورِنا، اللهمَّ وفقْ ولاةَ أمرِ المسلمينَ للحكمِ بكتابِك والعملِ بسنةِ نبيِّك، ووفقْ ولاةَ أمرِنا خاصةً للخيرِ، اللهم خذْ بأيديهم لما فيه خيرُ البلادِ والعبادِ، واجزهم خيرَ الجزاءِ لِما يُقدمونَه للحجاجِ والمعتمرينَ والزائرينَ، ولما يبذلونَه في خِدمةِ الحرمينِ الشَّريفينِ يا ربَّ العالمينَ، واذكروا اللهَ يذكركم، واشكروه على نعمِه يزدكم، ولذكرُ اللهِ أكبرُ، واللهُ يعلمُ ما تَصنعونَ.

المشاهدات 2166 | التعليقات 2

المرفقات

المرفقات

https://khutabaa.com/forums/رد/360242/attachment/%d8%ad%d8%ac-%d8%a8%d9%84%d8%a7-%d8%b2%d8%ad%d8%a7%d9%85

https://khutabaa.com/forums/رد/360242/attachment/%d8%ad%d8%ac-%d8%a8%d9%84%d8%a7-%d8%b2%d8%ad%d8%a7%d9%85

https://khutabaa.com/forums/رد/360242/attachment/%d8%ad%d8%ac-%d8%a8%d9%84%d8%a7-%d8%b2%d8%ad%d8%a7%d9%85-2

https://khutabaa.com/forums/رد/360242/attachment/%d8%ad%d8%ac-%d8%a8%d9%84%d8%a7-%d8%b2%d8%ad%d8%a7%d9%85-2


لا يوجد مرفقات