الجنة بلاد الأفراح

د. محمود بن أحمد الدوسري
1441/09/22 - 2020/05/15 22:49PM
                                                                              الجنة بِلادُ الأفرح
                                                                     د. محمود بن أحمد الدوسري
      الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الكريم, وعلى آله وصحبه أجمعين, وبعد: قال اللهُ تعالى: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» رواه البخاري ومسلم.
      وكيف يُقدََّر قَدْرُ دارٍ غَرَسَها اللهُ بيده, وجعلها مقرًّا لأحبابه, وملأها من رحمته وكراماته ورِضوانه, ووصَفَ نعيمَها بالفوز العظيم, ومُلْكَها بالمُلك الكبير, وأوْدَعَها جميعَ الخير بحذافيره, وطَهَّرها من كلِّ عيبٍ وآفةٍ ونقص, فإنْ سأَلْتُم عن أرضِها وتُربتِها فهي المِسْكُ والزعفران, وإنْ سأَلْتُم عن سقفِها فهو عرش الرحمن, وإنْ سأَلْتُم عن بلاطها فهو المِسْكُ الأذفر, وإنْ سأَلْتُم عن حصبائها فهو اللؤلؤُ والجوهر, وإنْ سأَلْتُم عن بنائها فَلَبِنةٌ من فضة ولَبِنَة من ذهب, وإنْ سأَلْتُم عن أشجارها فما فيها شجرةٌ إلاَّ وساقُها من ذهب وفضة, لا من الحطب والخشب.
      وإنْ سأَلْتُم عن ثمرِها فأمثالُ القِلال؛ ألْيَنُ من الزُّبد, وأحلى من العسل, وإنْ سأَلْتُم عن ورَقِها فأحسن ما يكون من رقائق الحُلل, وإنْ سأَلْتُم عن أنهارها فأنهارٌ من لبنٍ لم يتغيَّرْ طعمُه, وأنهار من خمرٍ لذَّةٍ للشاربين, وأنهار من عسلٍ مُصفَّى, وإنْ سأَلْتُم عن طعامِهم ففاكهةٌ مِمَّا يتخيَّرون, ولحمُ طيرٍ مِمَّا يشتهون, وإنْ سأَلْتُم عن شرابهم فالتَّسنيم والزَّنجبيل والكافور. وإنْ سأَلْتُم عن آنيتهم فآنيةُ الذَّهَب والفضة في صفاء القوارير, وإنْ سأَلْتُم عن سعةِ أبوابها فبينَ المِصراعَين مَسيرةُ أربعين من الأعوام, وليأتينَّ عليه يومٌ وهو كظيظٌ من الزحام.
      وإنْ سأَلْتُم عن ظِلِّها ففيها شجرةٌ واحدةٌ يسيرُ الرَّاكبُ المُجِدُّ السَّريعُ في ظِلِّها مائةَ عامٍ لا يقطعها, وإنْ سأَلْتُم عن سعتها فأدنى أهلِها يَسِير في مُلكه وسُرُرِه وقُصورِه وبساتينه مَسِيرةَ ألفي عام, وإنْ سأَلْتُم عن خِيامِها و قِبابها فالخيمة الواحدة من دُرَّةٍ مُجوَّفةٍ طولها ستون مِيلاً من تلك الخيام.
      وإنْ سأَلْتُم عن عَلالِيها وقُصورِها فهي غرفٌ من فوقها غرفٌ مَبْنيَّة, تجري من تحتها الأنهار, وإنْ سأَلْتُم عن ارتفاعها؛ فانظرْ إلى الكوكب الطَّالع أو الغارب في الأُفق الذي لا تكاد تناله الأبصار.
      وإنْ سأَلْتُم عن لِباسِ أهلِها فهو الحرير والذَّهب, وإنْ سأَلْتُم عن فُرُشِها فبَطائِنُها من إستبرقٍ مفروشة في أعلى الرُّتب, وإنْ سأَلْتُم عن أرائكها فهي الأسِرَّة عليها الحِجالُ مُزرَّرة بأزرار الذهب؛ فما لها من فُروجٍ ولا خِلال, وإنْ سأَلْتُم عن وجوه أهلها وحُسْنِهم فعلى صورة القمر, وإنْ سأَلْتُم عن أسنانِهم فأبناءُ ثلاثٍ وثلاثين على صُورة آدم - عليه السلام - أبي البشر, وإنْ سأَلْتُم عن سماعهم فَغِناءُ أزواجِهم من الحُور العين, وأعلى منه سماعُ أصوات الملائكة والنبيين, وأعلى منهما خِطابُ ربِّ العالمين.
      وإنْ سأَلْتُم عن مطاياهم التي يَتَزاورون عليها فنجائب إنْ شاء اللهُ مِمَّا شاء, تَسِيرُ بهم حيث شاؤوا من الجِنان, وإنْ سأَلْتُم عن حُلِيِّهم وشارَتِهم فأساوِرُ الذهبِ واللؤلؤِ على الرؤوس مَلابِسُ التِّيجان, وإنْ سأَلْتُم عن غِلمانهم فَوِلدانٌ مُخلَّدون كأنَّهم لؤلؤ مكنون.
      وإنْ سأَلْتُم عن عرائسهم وأزواجهم فهُنَّ الكواعِبُ الأتراب, اللاَّتي جرى في أعضائِهِنَّ ماءُ الشباب, تجري الشمسُ من محاسِنِ وجهِها إذا برزت, ويُضيءُ البرقُ من بين ثناياها إذا ابتسمت, إذا قابلتْ حِبَّها فَقُلْ ما تشاء في تقابل النَّيِّرين, وإذا حادَثَتْه فما ظنُّك بمحادثة الحِبَّين, يرى وجْهَهُ في صَحْنِ خَدِّها كما يَرى في المِرآة التي جَلاَّها صَيْقَلُها, ويرى مُخَّ ساقِها من وراء اللحم, ولا يستره جِلدُها, ولا عَظمُها, ولا حُلَلُها.
      لو اطَّلَعَتْ على الدنيا لَمَلأَتْ ما بين الأرض والسماء رِيحاً, ولاستنْطَقَتْ أفواهَ الخلائقِ تهليلاً وتكبيراً وتسبيحاً, ولَتَزَخْرَفَ لها ما بين الخافِقَين, ولأغْمَضَتْ عن غيرِها كُلَّ عين, ولَطَمَستْ ضوءَ الشمس كما تطمسُ الشمسُ ضوءَ النجوم, ولآمَنَ مَنْ على ظهرها بالله الحيِّ القيوم.
       ونَصِيفُها على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها, ووِصالُها أشهى إليه من جميع أمانيها, لا تَزْداد على طُول الأحقاب إلاَّ حُسْناً وجَمالاً, ولا يزداد لها طول المدى إلاَّ محبةً ووِصالاً, مُبَرَّأةٌ من الحَمْلِ والوِلادةِ والحَيضِ والنِّفاس, مُطهَّرةٌ من المُخاطِ والبُصاقِ والبَولِ والغائطِ وسائرِ الأدناس.
      لا يَفنى شبابُها, ولا تُبلى ثيابُها, ولا يَخلَقُ ثوبُ جمالِها, ولا يُمَلُّ طِيبُ وصالِها, قد قَصَرَتْ طرفَها على زوجِها فلا تطمَحُ لأحدٍ سِواه, وقَصَرَ طرفَه عليها فهي غاية أُمنيته وهواه, إنْ نَظَرَ إليها سرَّته, وإنْ أمرها بطاعته أطاعته, وإنْ غاب عنها حفظته, فهو معها في غاية الأماني والأمان, هذا ولم يطمثها قبله إنسٌ ولا جان, كلَّما نَظَرَ إليها مَلأتْ قلبَه سروراً, وكلَّما حدَّثته ملأتْ أُذنَه لؤلؤاً منظوماً ومنثوراً, وإذا بَرَزتْ ملأتْ القصرَ والغُرفةَ نوراً.
      وإنْ سأَلْتُم عن السِّنِّ فأترابٌ في أعدلِ سِنِّ الشباب, وإنْ سأَلْتُم عن الحُسْنِ فهل رأيتَ الشمسَ والقمر, وإنْ سأَلْتُم عن الحَدَقِ فأحسنُ سوادٍ في أصفى بياضٍ في أحسنِ حَوَر, وإنْ سأَلْتُم عن حُسْنِ الخُلُق فهُنَّ الخَيِّراتُ الحِسَانُ, اللاَّتي جُمِعَ لهُنَّ بين الحُسْنِ والإحسان, فأُعْطِينَ جَمالَ الباطنِ والظاهر, فهُنَّ أَفراحُ النفوس, وقُرَّةُ النواظر.
      وإنْ سأَلْتُم عن حُسْنِ العِشْرَةِ ولذَّةِ ما هُنالك؛ فهُنَّ العُرُبُ المُتَحَبِّباتُ إلى الأَزواج بِلَطافَةِ التَّبعُّل التي تمتزج بالرُّوح أيَّ امتزاج, فما ظنُّكَ بامرأةٍ إذا ضَحِكَتْ في وجهِ زَوجِها أضاءت الجنةَ من ضَحِكِها, وإذا انتقلتْ من قصرٍ إلى قصرٍ؛ قُلْتَ: هذه الشمسُ مُتنقلة في بروج فلكها, وإذا حاضَرَتْ زوجَها فيا حُسْنَ تلك المُحاضَرة, وإنْ غَنَّتْ فيا لذَّةَ الأبصار والأسماع.
      عن أنسِ بنِ مالكٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَسُوقًا يَأْتُونَهَا كُلَّ جُمُعَةٍ؛ فَتَهُبُّ رِيحُ الشَّمَالِ فَتَحْثُو فِي وُجُوهِهِمْ وَثِيَابِهِمْ, فَيَزْدَادُونَ حُسْنًا وَجَمَالاً, فَيَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ, وَقَدِ ازْدَادُوا حُسْنًا وَجَمَالاً, فَيَقُولُ لَهُمْ أَهْلُوهُمْ: وَاللَّهِ لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالاً. فَيَقُولُونَ: وَأَنْتُمْ وَاللَّهِ لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالاً» رواه مسلم. 
                                                                                 الخطبة الثانية
       الحمد لله ... عبادَ الله .. وإنْ سأَلْتُم عن يومِ المَزِيد, وزيارةِ العزيزِ الحميد, ورؤيةِ وجْهِهِ المُنَزَّهِ عن التَّمثيلِ والتَّشبيه, كما تُرَى الشمسُ في الظهيرة, والقمرُ ليلة البدر؛ كما تواتَرَ عن الصَّادقِ المَصْدوق - صلى الله عليه وسلم  النقلُ فيه, وذلك مَوجودٌ في الصِّحاح, والسُّنن, والمسانيد, من روايةِ: جَريرٍ, وصُهيبٍ, وأنسٍ, وأبي هريرةَ, وأبي موسى, وأبي سعيدٍ - رضي الله عنهم أجمعين.
      فاسْتَمِعْ يومَ يُنادِي المُنادِي: يا أهلَ الجنة! إنَّ ربَّكم تبارك وتعالى يسْتَزِيرُكم؛ فحَيَّ على زيارته, فيقولون: سَمْعاً وطاعة, وينهضون إلى الزيارة مُبادرين, فإذا بالنَّجائب قد أُعِدَّتْ لهم, فيستَوون على ظهورها مُسرِعين, حتى إذا انتهوا إلى الوادي الأفيحِ الذي جُعِلَ لهم مَوعداً, وجُمِعُوا هناك فلم يُغادر الداعي منهم أحداً, أمَرَ الرَّبُّ تبارك وتعالى بِكرسِيِّه فنُصِبَ هناك, ثم نُصِبَت لهم مَنابِرُ من نور, ومَنابِرُ من لؤلؤ, ومَنابِرُ من زَبَرْجَد, ومَنابِرُ من ذهب, ومَنابِرُ من فِضَّة.
      وجَلَسَ أدناهم - وحاشاهم أنْ يكون فيهم دنيء - على كُثبان المِسْك, وما يرون أنَّ أصحابَ الكراسي فوقهم في العطايا, حتى إذا استقرَّتْ بهم مَجالِسُهم, واطمأنَّتْ بهم أماكِنُهم, نادى المُنادي: يا أهلَ الجنة! إنَّ لكم عند الله مَوْعِداً يُريد أنْ يُنجِزَكُمُوه, فيقولون: ما هو؟ ألَمْ يُبَيِّضْ وُجوهَنا, ويُثَقِّلْ موازينَنا, ويُدْخِلْنا الجنة, ويُزَحْزِحْنا عن النار؟ فبينما هم كذلك؛ إذْ سَطَعَ لهم نورٌ أشرقتْ له الجنةُ, فرفعوا رؤوسَهم فإذا الجَبَّارُ - جلَّ جلالُه, وتقدَّستْ أسماؤه - قد أشرفَ عليهم من فوقهم, وقال: يا أهلَ الجنةِ! سلامٌ عليكم, فلا تُرَدُّ هذه التَّحيةُ بأحسن من قولهم: اللهم أنتَ السَّلام, ومِنك السَّلام, تباركتَ يا ذا الجلالِ والإكرام[1].
      عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ - رضي الله عنه - قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ! فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ, وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ. فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى يَا رَبِّ؛ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ. فَيَقُولُ: أَلاَ أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ؛ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي, فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا» رواه البخاري ومسلم.
فَحَيَّ على جَناتِ عَدْنٍ فإنَّها ... مَنازِلُكَ الأُولى وفيها المُخَيَّمُ
ولَـكِنَّنا سَبْيُ العَـدُوِّ, فـهل تُرَى ...نَــعــودُ إلـى أوطــانِنَا وَنُــسِلِّـمُ؟
[1] انظر: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح, لابن القيم (ص193-195).
المرفقات

الجنة-بلاد-الأفرح

الجنة-بلاد-الأفرح

المشاهدات 526 | التعليقات 0