خطبة: شعبان كالتقدمة بين يدي رمضان

محمد بن عبدالله التميمي
1440/08/09 - 2019/04/14 07:55AM

الحمد لله خالقِ الدُّجى والصباح، ومسبِّبِ الهدى والصلاح، عزَّ فارتفع، وفرَّق وجمع، ووصل وقطع {الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح}أحمده سبحانه وأستعينه وأتوكل عليه، وأسأله التوفيق لعمل يقرب إليه، وأشهد بوحدانيته راجيا بذلك الفلاح، وأشهد أن محمداً عبده المقدم ورسوله المعظم وحبيبه المكرم صلى الله عليه وسلم، أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وجانبوا الهوى، فبالتقوى يُتوقى ما منه يُخشى، ومن وافق الهوى هوى إلى محل الإضاعة، فكان مزجى البضاعة، وفي مواسم الطاعات  يدرك المحسنون بتوفيق ربهِم وحسن عملِهم، زيادة رأس مالِهم بصالح أعمالِهم، لما به بعد رحمة الله نجاتُهم، أما الذين لأنفسهم ظالمون  فتقطعهم سوف التي هي مَوئِل التلف، وبه تقطع الآمال وفيه تنقطع الآجال{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} .

عباد الله.. حقيقٌ بالمرء أن يَفْطِمَ النفسَ ويُلَهِّيها لتكونَ لما يريد من الخير منقادة، فإذا بلغ رمضان، كان بيده بعد توفيق الله الزِّمام، فليس الفِطام يحصل إلا مع مر الأيام، فكذلك فِطام النفس عن المعاصي والآثام، فإن ميزان العدل يوم القيامة تبين فيه الذَّرَّة فيُجزَى العبدُ على الكلمة والنظرة، فيا من زَادُه من الخير طفيف، احذر فميزان العدل لا يحيف.

والتمرين قبل شهر رمضان لا يقتصر على الكفّ عن المآكل والمشارب، ذلك أن للصوم حقائق، باجتناب البوائق، وسدِّ كل ما يخل به من الطرائق، بالكف عن كل منكَر، من مسموع ومُبْصَر، ومتلفظ به بابتداء، ولو لرد اعتداء، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل إني امرؤٌ صائم)

عباد الله..  شعبان كالتقدمة بين يدي رمضان، وقد شُرع فيه ما يحصل به التأهب والاستعداد وترويض النفس على طاعة الله، روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان"، وفي لفظ لمسلم عنها: "كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلًا"

وإنه يا عباد الله لما اكتنف شهرَ شعبان شهران عظيمان: الشهرُ الحرام وشهرُ الصيام، اشتغل الناس بهما عنه، فصار مغفولًا عنه ، كما روى الإمام أحمد والنسائي من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! لم أرك تصوم شهرًا من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: "ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم".

فيُستَحَبُّ عمارةُ أوقات غفلة الناس بالطاعة، وذلك محبوب لله عز وجل،.وفي ذلك من الفوائد: أن العمل بها أخفى، وذلك بالإخلاص أحرى . ومن ذلك: أنه أشق على النفس، لقلة المعين، فيَعظم حالتئذ ثوابُ العاملين .

والمؤمن عن نفسه مسؤول وعلى عمله محاسَب، فحريٌّ به أن يُجَنِّبَها العَطَبَ، ويستدرك زَمَنَ الـمُهلة، كان عون بن عبدالله رحمه الله يقول: "وَيْحِي! كيف أغفل عن نفسي، وملك الموت ليس بغافل عني؟! وَيْحِي! كيف أَتَّكِلُ على طول الأمل، والأجل يطلبني؟!"وكان محمد بن النضر الحارثي رحمه الله يقول: "تذَكَّرْ أنَّكَ لن يُغْفَلَ عنك، فبادِرْ إلى العمل الصالح، قبل أن يُحَال بينك وبينه".

فاليَقَظةَ اليَقَظة.. فإنها  - كما يقول ابن القيم رحمه الله تعالى -: أولُ مفاتيح الخير؛ فإن الغافلَ عن الاستعداد للقاءِ ربه والتزودِ لمعادِه بمنزلة النائم، بل أسوأُ منه حالاً؛ إذ العاقلُ يعلم وعدَ الله ووعيدَه، وما تتقاضاه أوامرُ الرب تعالى ونواهيه وأحكامُه من الحقوق، لكن يحجِِبُه عن حقيقة الإدراك، ويُقعِدُه عن الاستدراك: سِنَةُ القلب، وهي: غفلته التي رقد فيها فطال رقوده، وركد وأخلد إلى نوازع الشهوات، فاشتد إخلاده وركوده، وانغمس في غمار الشهوات، واستولت عليه العادات، ومخالطة أهل البطالات، ورضي بالتشبُّه بأهل إضاعة الأوقات .

اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واجعل أعمالنا مبلِّغةً إيانا رضوانَك وجنتَك، وأستغفر الله فاستغفروه

الخطبة الثانية

أما بعد: فإن المسلم في هذا الشهر يُعنى، بما به شهر رمضان يسمَّى؛ إذ فيه أُنزل، فكما كان شهر رمضان شهر القرآن، فقد روي عن السلف تلقيب شهر شعبان بشهر القراء، قال سلمة بن كهيل: كان يقال: شهر شعبان شهر القراء، وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: هذا شهر القراء. وكان عمرو بن قيس المُلائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرغ لقراءة القرآن ؛ وذلك –عبادَ الله- ليحصل التأهب لتلقي رمضان، وترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن (تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة)

فجِدُّوا عباد الله في العمل لما يقربكم إلى الله، كم مؤمِّلٍ إدراكَ شهرٍ ما أدركَه، فَجَأه الموتُ بغتة فأهلكَه، كم ناظرٍ إلى صومه بعين الأمل، طمسها بالممات كَفُّ الأجل .

المرفقات

كالتقدمة-بين-يدي-رمضان-1

كالتقدمة-بين-يدي-رمضان-1

المشاهدات 1173 | التعليقات 0