( الشرف الحقيقي لا الشهرة الزائفة ) 29 رجب 1440 هـ .

د. عبدالله بن حسن الحبجر
1440/07/28 - 2019/04/04 10:59AM

بسم الله الرحمن الرحيم

( الشرف الحقيقي لا الشهرة الزائفة )  29 رجب 1440 هـ .

الحمد لله الَّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا‏. وأَشْهَدُ أَن لاَّ إلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ إِقْرَارًا بِهِ وَتَوْحِيدًا‏.‏ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تسليمًا مَزِيدًا‏.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
معاشر المسلمين: يقول أحد الدعاة الى الله تعالى: دعيت مرة لحفل تكريم في إحدى الدول ...
وأراد المنظمون أن يكون التكريم في المسجد يوم الجمعة، بعد ما أخطب الجمعة.
وكان في الحضور بعض الوجهاء ونواب من البرلمان وغيرهم من علية القوم...
وبعد الجمعة وقف الإمام وقال: سيكون التكريم اليوم جديدا من نوعه..
لن يسلم الهدية اليوم نائب من البرلمان...ولا وجيه من الوجهاء...
سيسلمها رجل آخر... لا نعرفه!! لكن الله يعلمه..
ثم نادى وقال: فليقم أول من دخل المسجد!!
تلفت الناس كلهم يمنة ويسرة، ثم فوجئوا برجل مغمور من بين الناس يقوم خجلا، ويمشي على استحياء نحو الإمام الذي طلب منه أن يسلمني هدية التكريم..
سلمني الرجل هديتي، ثم عاد إلى مكانه تتبعه الأبصار والقلوب على السواء...
يقول هذا الداعية: هذا المشهد البسيط يختزل مشهد الآخرة بامتياز...
رجل مغمور لا يعرفه أحد، ومشاهير يجلسون في الصفوف الأولى يعرفهم كل أحد...
لكن لما كان الاختيار على حسب مطالب الآخرة لا الدنيا...
قام المغمورون وقعد المشهورون.. 
ففي ميزان الله يسبق المغمور الصالح، ويتأخر المشهور الأقل منه صلاحا .
فقد روى ابوهريرة رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة" ثم قال: اقرؤوا: ﴿فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾ متفق عليه.
يقول الداعية: من يومها وأنا أوقن أن الشرف الحقيقي هناك، لا هنا...
وأن الوجاهة وجاهة الآخرة قبل الدنيا..  وأن يوم القيامة بحق: يوم المفاجآت...
وأن الأسماء اللامعة في الدنيا...ليس شرطا أن تلمع في الآخرة..
وأن كثيرا من الذين نظنهم منسيين، أو خاملي الذكر اليوم، ستشنف أسماؤهم سمع أهل المحشر يوم يعاد ترتيب الأسماء..
فانشغل بتسجيل اسمك في سجل الشرق الخالد ...  لا الشهرة الزائفة.
عباد الله: لقد وصف ربنا ذلك اليوم بقوله تعالى: ( إذا وقعت الواقعة * ليس لوقعتها كاذبة * خافضة رافعة) أي: تحفض أقواما إلى أسفل سافلين إلى الجحيم، وإن كانوا في الدنيا أعزاء . وترفع آخرين إلى أعلى عليين ، إلى النعيم المقيم ، وإن كانوا في الدنيا وضعاء . 
وأعظم من يُخفض في ذلك الموقف الرهيب من يتكبر على خالقه، الكفار الذي يُدعون إلى السجود في الدنيا وهم سالمون، فيتكبرون ويأنفون، فحينئذ ينخفضون .
معاشر المسلمين: في يوم القيامة هناك موازين أخرى جديدة ليست بالموازين الأرضية، {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بما كانوا بآياتنا يظلمون(9) ، فهناك ينخفض أقوام كانوا في غاية الرفعة في الدنيا، في غاية العلو، في غاية العزّ ،وفي غاية التسلط، وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - نماذج منهم، للحذر من صفاتهم وأفعالهم :
من ذلك ما روى عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: "يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ، يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، يُسَاقُونَ إِلَى سِجْنِ جَهَنَّمَ، يُقَالُ لَهُ : بُولَسُ، تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ، يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ: طِينَةِ الْخَبَالِ" خرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح
وذلك لأن الجزاء من جنس العمل، كانوا يتكبرون هناك فخفضوا هنا .
ومن ذلك أيضا: ما روى ثوبان بسند صحيح، قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لأعلمن أقوامًا من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضا، فيجعلها الله هباءً منثورا) قال ثوبان: يا رسول الله صفهم لنا، جَلِّهم لنا، ألا نكون منهم ونحن لا نعلم! قال: (أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) .
وفي موقف آخر: والرسول صلى الله عليه وسلم جالس بين أصحابه رضوان الله عليهم، وهم حوله يرقبون كلمة نور وهدي تتحرك بها شفتا النبي صلى الله عليه وسلم لبيان حكم أو تبليغ آية، إذا به يسألهم: (أَتَدْرُونَ مَن الْمُفْلِسُ؟) قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ فَقَالَ: (إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي من يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي وقَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ). رواه مسلم في صحيحه عن أَبِي هريرة رضي الله عنه.
هذه نماذج فقط للمثال لا الحصر، تجعل المسلم على وجل وحذر من كل عمل يكون سببا في ضياع الحسنات يوم القيامة .
وفي المقابل لذلك، نبه النبي عليه الصلاة والسلام على أعمال أخرى وعلى أشخاص آخرين، ربما لا يراهم الناس في الدنيا شيئا، لكنهم ميزانهم عند الله يختلف كثيرا .
من ذلك: حديث أبي هريرة  رضي الله عنه قال: قال رسول الله "رُبَّ أشعثَ أغبرَ مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره"  رواه مسلم.
قال النووي رحمه الله: "(لَوْ أقسم على الله لأبره) أي: لو حلف على وقوع شَيْءٍ أَوْقَعَهُ اللَّهُ إِكْرَامًا لَهُ بِإِجَابَةِ سُؤَالِهِ وَصِيَانَتِهِ مِنَ الْحِنْثِ فِي يَمِينِهِ، وَهَذَا لِعِظَمِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَقِيلَ مَعْنَى الْقَسَمِ هُنَا الدُّعَاءُ ، وَإِبْرَارُهُ إِجَابَتُهُ " انتهى .
وقال الحافظ رحمه الله : " أَيْ: لَوْ حَلَفَ يَمِينًا عَلَى شَيْءٍ أَنْ يَقَعَ طَمَعًا فِي كَرَمِ اللَّهِ بِإِبْرَارِهِ لَأَبَرَّهُ وَأَوْقَعَهُ لِأَجْلِهِ ، وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَن إِجَابَة دُعَائِهِ " انتهى .
ومن ذلك أيضا : ما روى البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ :"مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: (مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟ )  فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ ، هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لاَ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لاَ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا) .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ، في شرح رياض الصالحين" (3/ 52-53):
"في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا خير من ملء الأرض مثل هذا) أي: خير عند الله عز وجل من ملء الأرض من مثل هذا الرجل الذي له شرف وجاه في قومه؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا ينظر إلى الشرف، والجاه، والنسب، والمال، والصورة، واللباس، والمركوب، والمسكون، وإنما ينظر إلى القلب والعمل، فإذا صلح القلب فيما بينه وبين الله عز وجل، وأناب إلى الله، وصار ذاكراً لله تعالى خائفاً منه، مخبتاً إليه، عاملاً بما يرضي الله عز وجل، فهذا هو الكريم عند الله، وهذا هو الوجيه عنده، وهذا هو الذي لو أقسم على الله لأبره .
فيؤخذ من هذا فائدة عظيمة، وهي أن الرجل قد يكون ذا منزلة عالية في الدنيا، ولكنه ليس له قدر عند الله، وقد يكون في الدنيا ذا مرتبة منحطة، وليس له قيمة عند الناس، وهو عند الله خير من كثير ممن سواه" .
وحاصل ذلك كله: أن مكانة العبد عند الله تعالى إنما هي باعتبار ما في قلبه من محبة لله، وإخلاص وإخبات، وخوف ورجاء وتقوى، وباعتبار العمل الذي يبرهن به صاحبه على ما في قلبه من خصال الإيمان .
اللهم اجعلنا ممن رفعت قدره في عليين،  ولا تخزنا يوم يبعثون . أقول قولي هذا ...
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
ففي سياق الحديث عن الشرف الحقيقي والشهرة الزائفة وأنواع المشاهير، برزت مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي اسماء كثيرة ، في مجالات متنوعة، صار لها من المتابعين بعشرات بل بمئات الآلاف أحيانا، ومن التجرد والإنصاف، وإمعان النظر والتدقيق في كثير منها، بل في أكثرها لا تجد أنها تستحق ذلك، واللوم لا يقع على هؤلاء المشاهير بقدر ما يقع على من كانوا سببا في ذلك، وهم المتابعون لهم .
وأذكر في هذا السياق يا عباد الله: أنه في أمريكا وكندا و أستراليا ودول الاتحاد الأوروبي انتشرت في الآونة الأخيرة لوحات تحذيرية مكتوب فيها :
*" توقّف عن جعل الناس الأغبياء مشهورين ."
فالدفع بالتافهين إلى واجهة العمل الاجتماعي والإعلامي، هو جريمة بحق الأجيال الناشئة .
لو أخذنا جولة مطولة على حسابات المشاهير الجدد في مواقع التواصل الاجتماعي، في جميع دول العالم، لوجدنا أن كثيراً منها يشترك في سمة واحدة هي: اعتمادها بشكل رئيسي على صناعة التفاهة، أو ما يمكن أن نطلق عليه باللهجة العامية : ( الاستهبال )
اقفز، ارقص، اصرخ، أصدر أصواتاً غريبة، تكلم بكلام لا معنى له، خالف قيم المجتمع، استفز مشاعر الآخرين ..
وتأكد أنك ستشتهر .. وستجد من يصفق لك ..
وبعد أن يتجاوز عدد متابعيك المليون ستنهال عليك عروض الاستضافة في وسائل الإعلام والمهرجانات والمنتديات !
وماذا بعد هذا العبث؟
*أخلاق تنحدر، ذائقة تتشوه، ثقافة تتسطح، قيم تتلاشى، جيل بأكمله يضيع*
ومن المسؤول عن هذا كله؟
كلنا مسؤولون، من أفراد ومؤسسات، فلولا تناقل الناس لمقاطعهم لما اشتهروا، وأصبحوا مؤثرين في الأجيال الناشئة ..
ومن باب الإنصاف يا عباد الله، لا ينكر دور من لهم مشاركة طيبة في وسائل التواصل الاجتماعي، ممن ينقل الفائدة العلمية، أو المعلومة الصحيحة الهادفة، أو الاختيار الأمثل لما يُنْشَرُ وينقل لمن يتابعه .
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت ...
اللهم اجعل أعمالنا صالحة، ولوجهك العظيم خالصة، وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المشاهدات 1218 | التعليقات 0