إتحاف النبلاء بفضل خلق الوفاء

إتحاف النبلاء بفضل خلق الوفاء

إن الوفاء خصلة كريمة من خصال الإسلام، وشعبة عظيمةٌ من شُعبِ الإيمان ، إن الوفاء خُلق الكرام، به يسعد الفرد في الدنيا والآخرة وبه يعيش المجتمع في أمن وأمان فالحقوق محفوظة والأعراض مصونة والحب والتراحم يسود بين أفراد المجتمع وبه ينال المسلم رضا ربه ويهنأ بدخول جنته .

معنى الوفاء لغةً:

الوفاءُ ضد الغَدْر يقال وَفَى بعهده وأَوْفَى إذا أتمه ولم ينقض حفظه.

معنى الوفاء اصطلاحًا:

الوفاء: حفظ للعهود والوعود، وأداء للأمانات، واعتراف بالجميل، وصيانة للمودة والمحبة. عن الأصمعي قال: إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل ووفاء عهده فانظر إلى حنينه إلى أوطانه وتشوقه إلى إخوانه وبكائه على ما مضى من زمانه.

الوفاء في القرآن الكريم

أمر الله تعالى- بالوفاء بالعهد، فقال الله تعالى: ( وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً )  [الإسراء: 34] ، قال الطبري في تفسير هذه الآية: (وأوفوا بالعقد الذي تعاقدون الناس في الصلح بين أهل الحرب والإسلام، وفيما بينكم أيضًا، والبيوع والأشربة والإجارات، وغير ذلك من العقود ( إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ) [الإسراء: 34] يقول: إن الله جلَّ ثناؤه سائلٌ ناقضَ العهد، عن نقضه إياه، يقول: فلا تنقضوا العهود الجائزة بينكم، وبين من عاهدتموه أيها الناس فتخفروه، وتغدروا بمن أعطيتموه ذلك. وإنما عنى بذلك أنَّ العهد كان مطلوبًا) وقال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ) [النحل: 91] وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:10] ، - وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة: 1]. وقال في سورة (المؤمنون) في صفات المؤمنين الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون:﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ [المؤمنون: 8]، وقال في علامات الصادقين المتَّقين في سورة البقرة: ﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177].

ثانيًا: الوفاء في السنة النبوية

ضمن النبي صلى الله عليه وسلم الجنة للأوفياء فعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم : اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ ، وَأَضْمَنُ لَكُمُ الْجَنَّةَ : اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ ، وَأَدُّوا إِذَا ائْتُمِنْتُمْ ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ) مسند الإمام  أحمد ( 5 / 323  ) وصححه الالباني في السلسلة الصحيحة ( 4 / 1470 ) .

مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلاَ ينقضه أخرج البيهقي عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : كَانَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَبَيْنَ الرُّومِ عَهْدٌ وَكَانَ يَسِيرُ نَحْوَ بِلاَدِهِمْ حَتَّى إِذَا انْقَضَى الْعَهْدُ غَزَاهُمْ فَجَاءَ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ أَوْ بِرْذَوْنٍ وَهُوَ يَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَفَاءٌ لاَ غَدْرَ فَنَظَرُوا فَإِذَا عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ :« مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلاَ يَشُدَّ عُقْدَةً وَلاَ يَحُلَّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُهَا أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ ». فَرَجَعَ مُعَاوِيَةُ ) صححه الألباني في صحيح الجامع الصغير ( 3 / 6480 ) السلسلة الصحيحة (2357 ) .  (ومعنى قوله ينبذ إليهم على سواء، أي: يعلمهم أنَّه يريد أنَّ يغزوهم، وأنَّ الصلح الذي كان بينهم قد ارتفع، فيكون الفريقان في ذلك على السواء ) .

نقض الوفاء بالعهد خصلة من خصال النفاق فَعَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: ((أَربَعٌ مَنْ كُنَّ فيهِ كانَ مُنافِقاً خالِصاً، وَمَنْ كانَ فِيهِ خصْلَةٌ مِنْهُنَّ كانَ فِيهِ خِصلَةٌ مِنَ النِّفاقِ حَتَّى يَدَعَها: إِذا اؤتِمنَ خَانَ، وإِذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإِذا عاهَدَ غَدَرَ، وإِذا خَاصَمَ فَجَرَ)) متفق عليه ، وفِي رِوايَةِ أَبِي هُرَيرَةَ  رَضِي اللهُ عَنْهُ : ((آيَةُ المُنافِقِ ثَلاَثٌ، إِذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإِذا وَعَدَ أَخلَفَ، وإِذا اؤتِمنَ خَانَ) زاد في رواية لمسلم: ((وإن صام وصلَّى، وزَعَم أنه مسْلِم))؛ (رياض الصالحين للنووي - ج1/ ص 388). ولقد وصف الله إسماعيل عليه السلام بقوله : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً) [مريم:54].

جزاء الغدر والخيانة الفضيحة يوم القيامة فعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ فَقِيلَ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ » صحيح مسلم ( 5 / 4627 ) قال النووي: (معناه لكل غادر علامة يشهر بها في الناس؛ لأنَّ موضوع اللواء الشهرة مكان الرئيس علامة له، وكانت العرب تنصب الألوية في الأسواق الحفلة لغدرة الغادر؛ لتشهيره بذلك) وقال القرطبي: (هذا خطاب منه للعرب بنحو ما كانت تفعل؛ لأنهم كانوا يرفعون للوفاء راية بيضاء، وللغدر راية سوداء؛ ليلوموا الغادر ويذموه، فاقتضى الحديث وقوع مثل ذلك للغادر؛ ليشتهر بصفته في القيامة فيذمه أهل الموقف)

خيار الناس من عرف بالوفاء  عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنّ خِيارَ عِبادِ الله المُوَفُّونَ المُطَيَّبُونَ ) قال الشيخ الألباني : ( صحيح ) انظر حديث رقم : ( 2062 ) في صحيح الجامع .

وفاء النبي صلى الله عليه وسلم

كان صلى الله عليه وسلم  خير البرية أقصاها وأدناها ، وهو أبر بني الدنيا وأوفاها ، وما وُجِدَ على الأرض أنقى سيرة وسريرة ، وأوفى بوعد وعهدٍ منه صلى الله عليه وسلم  . عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ، أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ - أي النبي صلى الله عليه وسلم - فَزَعَمْتَ: «أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاَةِ، وَالصِّدْقِ، وَالعَفَافِ، وَالوَفَاءِ بِالعَهْدِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ»، قَالَ: وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ.

خَيْرُ البَرِيَّةِ أَقْصَاهَا وَأَدْنَاهَا       وَهْوَ أَبَرُّ بَنِي الدُّنْيَا وَأَوْفَاهَا
أَتَى بِهِ اللَّهُ مَبْعُوثًا وَأُمَّتُهُ        عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَأَنْجَاهَا
وَأَبْدَلَ الخَلْقَ رُشْدًا مِنْ ضَلالَتِهِمْ وَفَلَّ بِالسَّيْفِ لَمَّا عَزَّ عُزَّاهَا

وفائه صلى الله عليه وسلم  في قضاء دينه عن عبد اللّه بن أبي ربيعة الصحابي رضي اللّه عنه قال : استقرضَ النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم منِّيَ أربعين ألفاً، فجاءَه مال فدفعَه إليَّ وقال : " بارَكَ اللَّهُ لَكَ في أهْلِكَ ومَالِكَ، إنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ الحَمْدُ والأداءُ ) تحقيق الألباني : صحيح ، ابن ماجة ( 2424 )، الإرواء ( 2424 ) .

وفائه صلى الله عليه وسلم  مع أعدائه عن حُذَيْفَة بْنُ الْيَمَانِ قَالَ مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلاَّ أَنِّى خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِى - حُسَيْلٌ - قَالَ فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ قَالُوا إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا فَقُلْنَا مَا نُرِيدُهُ مَا نُرِيدُ إِلاَّ الْمَدِينَةَ. فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلاَ نُقَاتِلُ مَعَهُ فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ فَقَالَ « انْصَرِفَا نَفِى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ ». صحيح مسلم ( 5 / 4740 ) .

وفائه صلى الله عليه وسلم  مع الْمُطْعِم بْنُ عَدِيٍّ هـذا رسول الله صلى الله عليه وسلم – سيد الأوفياء كان وفيًّا حتى مع الكفار، فحين رجع من الطائف حزينًا مهمومًا بسبب إعراض أهلها عن دعوته، وما ألحقوه به من أذىً، لم يشأ أن يدخل مكة كما غادرها، إنما فضل أن يدخل في جوار بعض رجالها، فقبل المطعم بن عدي أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة في جواره، فجمع قبيلته ولبسوا دروعهم وأخذوا سلاحهم وأعلن المطعم أن محمدًا في جواره، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم الحرم وطاف بالكعبة، وصلى ركعتين، ثم هاجر وكون دولة في المدينة، وهزم المشركين في بدر ووقع في الأسر عدد لا بأس به من المشركين؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَي لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ ) صحيح البخاري ( 4 / 3139 ) .

وفائه صلى الله عليه وسلم  مع أبي البحتري بن هشام فانظروا إلى الوفاء حتى مع المشركين…. وهــذا أبا البحتري بن هشام؟ إنه أحد الرجال القلائل من المشركين الذين سعوا في نقض صحيفة الحصار والمقاطعة الظالمة التي تعرض لها رسول الله وأصحابه في شعب أبي طالب فعرف له الرسول جميله وحفظه له، فلما كان يوم بدر قال صلى الله عليه وسلم: «من لقي أبا البحتري بن هشام فلا يقتله»

وفائه صلى الله عليه وسلم  مع خديجه وأصدقائها عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ :(( مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ ، هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي ، وَمَا رَأَيْتُهَا قَطُّ لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا ، وَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ ، وَإِنْ كَانَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ فَيُهْدِي فِي خَلائِلِهَا مِنْهَا مَا يَسَعُهُنَّ ، وفي لفظ (ثُمَّ يُهْدِي فِي خُلَّتِهَا مِنْهَا) ، وفي لفظ (وَإِنْ كَانَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ فَيَتَتَبَّعُ بِهَا صَدَائِقَ خَدِيجَةَ فَيُهْدِيهَا لَهُنَّ ) (البخاري 3534، مسلم 4463 ) . وَلِلْبُخَارِيِّ فِي الأَدَب الْمُفْرَد بسند صحيح مِنْ حَدِيث أَنَس قال : (( كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُتِيَ بِالشَّيْءِ يَقُول : اِذْهَبُوا بِهِ إِلَى فُلانَة فَإِنَّهَا كَانَتْ صَدِيقَة لِخَدِيجَة ) وعند أَحْمَد عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ :

(( كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ ، قَالَتْ : فَغِرْتُ يَوْمًا فَقُلْتُ : مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا ، حَمْرَاءَ الشِّدْقِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا خَيْرًا مِنْهَا ، قَالَ صلى الله عليه وسلم : مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا ، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلادَ النِّسَاءِ ) وفي رواية تقول عائشة رضي الله عنها: ما غرتُ على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرتُ على خديجة، هلكت قبل أن يتزوجني وما رأيتها، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من ذكرها ولم يكن يسأم من ثنائه عليها واستغفاره لها، فذكرها يوماً، تقول: فحملتني الغيرة، فقلت: لقد عوضك الله من كبيرة السن. قالت:: (( فرأيته غضب غضبًا ، أُسْقطْتُ في خلدي ، وقلت في نفسي : اللهم إن أذهبت غضب رسولك عني لم أعد أذكرها بسوء ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما لقيتُ ، قال : (( كيف قلتِ ؟ والله لقد آمنت بي إذ كذبني الناس ، وآوتني إذ رفضني الناس ، ورزقت منها الولد ، وحرمتموه مني )) قالت : فغدا وراح عليَّ بها شهرًا) قال شعيب الأرناؤوط ، إسناده حسن ، ونسبه الحافظ في الإصابة إلى كتاب الذرية الطاهرة للدولابي(سير أعلام النبلاء 1/112) .

 وجَاءَتْ عَجُوزٌ إِلى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فأَحسَنَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- استِقبالَها، فَقالَ لَها: ((كَيفَ أَنتُم؟ كَيفَ حَالُكُم؟ كَيفَ كُنْتُم بَعْدَنا؟ قَالَتْ: بِخَيْرٍ بأَبِي أَنْتَ وأُمِّي يَا رَسولَ اللهِ، فَلَّما خَرَجَتْ، قُلْتُ: يَا رَسولَ اللهِ، تُقْبِلُ عَلَى هَذِهِ العَجُوزِ هَذا الإِقبَالَ؟ فَقالَ: يا عائشَةُ إِنَّها كَانَتْ مِنْ صَواحِبِ خَديجَةَ، وإِنَّها كَانَْت تَأتِينا زَمانَ خَديجةَ، وإِنَّ حُسْنَ العَهْدِ مِنَ الإِيمانِ))

وفائه صلى الله عليه وسلم  مع اخته من الرضاعة الشيماء بنت الحارث تأتيه أخته من الرضاعة صلى الله عليه وسلم، وقد ابتعدت عنه ما يقارب أربعين سنة، فتأتيه وهو لا يعرفها وهي لا تعرفه، مرت سنوات وسنوات، وأيام ، وأعوام، وتسمع وهي في بادية بني سعد في الطائف بانتصاره، فتأتي لتسلم على أخيها من الرضاع وهو تحت سدرة عليه الصلاة والسلام، والناس بسيوفهم بين يديه، وهو يوزع الغنائم بين العرب، فتستأذن، فيقول لها الصحابة: من أنت؟ فتقول: أنا أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، أنا الشيماء بنت الحارث أرضعتني أنا وإياه حليمة السعدية، فيخبرون الرسول عليه الصلاة والسلام فيتذكر القربى والوشيجة والعلاقة، التي أنزلها الله من السماء، ويقوم لها ليلقاها في الطريق ويعانقها عناق الأخ لأخته بعد طول المدة، وبعد الوحشة والغربة، ويأتي بها ويجلسها مكانه، ويظللها من الشمس .

وفائه صلى الله عليه وسلم  مع سُفانَةَ بِنْت َ حَاتِمِ الطَّائيِّ فَقَدْ أَورَدَ ابنُ هِشامٍ أَنَّ سُفانَةَ بِنْتَ حَاتِمِ الطَّائيِّ وَقَعَتْ فِي أَسْرِ المُسلِمينَ، فَمَرَّ عَلَيها النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقالَتْ لَهُ: ((يَا رَسولَ اللَّهِ! امْـنُنْ عَلَيَّ؛ مَنَّ اللَّهُ عَليكَ، فَقَدْ هَلَكَ الوَالدُ، وغابَ الوافِدُ،  ولا تُشْمِتْ بِي أَحياءَ العَرَبِ، فَإِنِّي بِنْتُ سَيدِّ قَومِي، كَانَ أَبِي يَفُكُّ الأَسِيرَ ويَحْمِي الضَّعِيفَ، ويَقْرِي -أَي يُكْرِمُ- الضَّيفَ، ويُشْبِعُ الجائعَ، ويُفرِّجُ عَنِ المَكْروبِ، ويُطْعِمُ الطَّعامَ ويُفْشِى السَّلامَ، ولَمْ يَرُدَّ طَالِبَ حَاجَةٍ قَطُّ، أَنا بِنْتُ حاتِمِ الطَّائِيّ))، فَقالَ لَها رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : ((يا جَارِيةُ، هَذِهِ صِفَةُ المُؤمِنِ، لَو كَانَ أَبوكِ مُسلِماً لَتَرَحَّمنا عَلَيهِ))، ثُمَّ قَالَ لأَصْحابِهِ: ((خَلُّوا عَنْها، فَإِنَّ أَباها كانَ يُحِبُّ مَكارِمَ الأَخلاَقِ)) ثُمَّ قَالَ لَها: ((فَلاَ تَعْجَلِي حَتَّى تَجِدي ثِقَةً يُبلِّغُكِ بِلادَكِ ثُمَّ آذِنينِي))، فَلَمَّا قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ أَهلِها أَرادَتِ الخُروجَ مَعَهم، وذَهَبَتْ إِلى رَسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تَستأْذِنُهُ، فَأَذِنَ لَها وكَساها مِنْ أَحسَنِ ما عِنْدَهُ مِنَ الثِّيابِ، وجَعَلَ لَها مَا تَركَبُهُ، وأَعطَاها نَفَقَةً تَكْفِيها مَؤونَةَ السَّفَرِ وزِيادَةً )

قصص من عجائب الوفاء

قصة أعجب من الخيال كان النعمان بن المنذر له يومين يومَ بُؤسٍ من صادفه فيه قتله!! ، ويومَ نعيمٍ من لَقِيَه فيه أحسن إليه!! وهذا من عجيب أمره ، فذات يوم خرج النعمان للصيد على فرسه ، وقد انفرد عن أصحابه فأخدته السماء ( أي أصبحت ليلاً ) ، وحال ذلك بينه وبين العودة إلى رفاقه ، فطلب ملجأً يلجأ إليه ، فوجد بناءً فإذا فيه رجل من طيء يقال له حنظلة ومعه امرأةٌ له ، فقال لهما : هل من مأوى ؟!! فقال الرجل : نعم ، فخرج إليه فأنزله ولم يكن للطائي غير شاة ، وهو لا يعرف النعمان ، فقال لامرأته : أرى رجلاً ذا هيئة ، وما أحراه أن يكون سيداً شريفا ، فما الحيلة ؟!! قالت : عندي شيء من طحين كنت إدخرته ، فاذبح الشاة لأتخذ من الطحين مَلّة ، فأخرجت المرأة الدقيق فخبزت منه مَلّة ، وقام الطائي إلى شاته فاحتلبها ثم ذبحها ، وأطعمه من لحمها ، وسقاه من لبنها ، وجعل يحدثه بقية ليلته ، فلما أصبح النعمان لبس ثيابه وركب فرسه ثم قال : يا أخا طيء أطلب ثوابك ، أنا الملك النعمان ، فقال حنظلة : أفعل إن شاء الله . ثم لحق النعمان بالخيل ومضى نحو الحيرة ، ومكث الطائي بعد ذلك زماناً حتى رماه حادث دهره بالفقر وساءت حاله ، فقالت له امرأته : لو أتيت الملك لأحسن إليك . فأقبل حتى انتهى إلى الحيرة فوافق يوم بؤس النعمان!! فإذا هو واقفٌ في خيله في السلاح ، فلما نظر إليه النعمان عرفه وساء ه مكانه فقال له : أفلا جئت في غير هذا اليوم ؟!! قال : أبيتُ اللعن ، ما كان علمي بهذا اليوم!! فقال النعمان : والله لو خرج ابني في هذا اليوم لم أجد بُدّاً من قتله ، فاطلب حاجتك من الدنيا ، وسل ما بدا لك فإنك مقتول ، قال الطائي : وما أصنع بالدنيا بعد نفسي ؟!! فقال النعمان : إنه لا سبيل إليها . فلما علم الطائي أنه مقتول ، قال : حيّا الله الملك إنَّ لي صبيةً صغار وأهلاً جِياع وقد أقدمني سوء الحظ على الملك في هذا اليوم العبوس ، وقد قربت من مقر الصبية و الأهل ، ولن يتفاوت الحال في قتلي بين أول النهار وآخره ، فإن رأى الملك أن يأذن لي في أن أوصل إليهم هذا القوت وأوصي بهم أهل المروءة من الحي لئلا يهلكوا ضياعاً ثم أعود إلى الملك وأُسلم نفسي لنفاذ أمره ، فلما سمع النعمان مقاله ورأى تلهُفه على ضياع أطفاله رقّ لهُ غير أنه قال له : لا آذن لك حتى يضمنك رجلٌ معنا فإن لم ترجع قتلناه ، وكان شريك بن عدي بن شرحبيل نديم النعمان معه فالتفت الطائي إلى شريك وقال له :

يا شريك بن عدي .. ما من الموتِ انهزام

مَنْ لأطفالٍ ضِعافٍ عدمُوا طعمَ الطعام
  بين رجوعٍ وانـتظارٍ  وافتقارًا وسقام
يا أخا كلّ كريـمٍ ..    أنت من قومٍ كِرام
يا أخا النعمان جد لي . بــضمانٍ والتزام
ولكَ الله بأنّي         راجع ٌ قبل الظلام

فقال شريك بن عدي : أصلح الله الملك ، عليَّ ضمانه فمرَّ الطائي مسرعاً وصار النعمان يقول لشريك : إن صدر النهار قد ولىّ ولم يرجع ، وشريك يقول : ليس للملك عليَّ سبيل حتى يأتي المساء ، وكان النعمان يشتهي أن يقتل شريكاً ليُفلتَ الطائي من القتل ، فلمّا قرب المساء قال النعمان لشريك : قد جاءَ وقتك قم تأهب للقتل. فقال شريك : هذا شخصٌ قد لاح مقبلاً وأرجو أن يكونَ الطائي فإن لم يكن فأمرُ الملك مُمتثل ، فبينما هم كذلك وإذ بالطائي قد اشتدَّ عدوُه في سيرهِ مسرعاً حتى وصل ، فقال : خشيتُ أن ينقضي النهارُ قبل وصولي ثم وقف قائماً وقال : أيُّها الملك مُر بأمرك ، فقال له النعمان : ما حملك على الرجوع بعد إفلاتك من القتل ؟!! قال : الوفاء . فأطرقَ النعمان ثم رفع رأسه وقال : والله ما رأيتُ أعجبَ منكما أما أنتَ يا طائي فما تركتَ لأحدٍ في الوفاءِ مقاماً يقومُ فيه ولا ذِكراً يفتخرُ به ، وأمَّا أنتَ يا شُريك فما تركتَ لكريمٍ سماحةً يُذكر بها الكرماءُ ، والله ما أدري أيهما أوفى وأكرم أهذا الذي نجى من القتل فعاد أم هذا الذي ضمنه ، والله لا أكون أَلْأَم الثلاثة ، وإنِّي قد رفعتُ يومَ بُؤسي عن الناس ونقضتُ عادتي كرامةً لوفاء الطائي وكرمُ شريك . وأحسن النعمان إلى الطائي ووصله بما أغناه ، وأعاده مكرماً إلى أهله .

ومن عجيب قصص الوفاء ما ذكره  شرف الدين حسين بن ريان قال : أغرب ما سمعته من الأخبار، وأعجب ما نقلته عن الأخيار، ممن كان يحضر مجلس عمر بن الخطاب، أمير المؤمنين، ويسمع كلامه قال: بينما الإمام جالس في بعض الأيام، وعنده أكابر الصحابة، وأهل الرأي والإصابة، وهو يقول في القضايا، ويحكم بين الرعايا، إذ أقبل شاب نظيف الأثواب، يكتنفه شابان من أحسن الشبان، نظيفا الثياب، قد جذباه وسحباه وأوقفاه بين يدي أمير المؤمنين، ولبباه. فلما وقفوا بين يديه، نظر إليهما وإليه، فأمرهما بالكف عنه. فأدنياه منه وقالا: يا أمير المؤمنين، نحن أخوان شقيقان، جديران باتباع الحق حقيقان. كان لنا أب شيخ كبير، حسن التدبير، معظم في قبائله، منزه عن الرذائل، معروف بفضائله، ربانا صغاراً، وأعزنا كباراً، وأولانا نعماً غزاراً، كما قيل:

لنا والدٌ لو كان للناس مثله ... أبٌ آخرٌ أغناهم بالمناقب

خرج اليوم إلى حديقة له يتنزه في أشجارها، ويقطف يانع ثمارها، فقتله هذا الشاب، وعدل عن طريق الصواب. ونسألك القصاص بما جناه، والحكم فيه بما أراك الله، قال الراوي: فنظر عمر إلى الشاب وقال له: قد سمعت، فما الجواب؟ والغلام مع ذلك ثابت الجأش، قد خلع ثياب الهلع، ونزع جلباب الجزع، فتبسم عن مثل الجمان، وتكلم بأفصح لسان، وحياه بكلمات حسان ثم قال: يا أمير المؤمنين، والله لقد وعيا ما ادعيا، وصدقا فيما نطقا وخبرا بما جرى، وعبرا بما ترى، وسأنهي قصتي بين يديك والأمر فيها إليك: اعلم، يا أمير المؤمنين، أني من العرب العرباء، أبيت في منزل البادية، وأصيح على أسود السنين العادية، فأقبلت إلى ظاهر هذا البلد بالأهل والمال والولد، فأفضت بي بعض طرائقها، إلى المسير بين حدائقها، بنياق حبيبات إلي، عزيزات علي، بينهن فحل كريم الأصل، كثير النسل، مليح الشكل، حسن النتاج، يمشي بينهن كأنه ملك عليه تاج. فدنت بعض النوق إلى حديقة قد ظهر من الحائط شجرها، فتناولته بمشفرها، فطردتها من تلك الحديقة. فإذا شيخ قد زمجر، وزفر، وتسور الحائط، وظهر وفي يده اليمنى حجر، يتهادى كالليث إذا خطر، فضرب الفحل بذلك الحجر، فقتله وأصاب مقتله. فلما رأيت الفحل قد سقط لجنبه وانقلب، توقدت في جمرات الغضب، فتناولت ذلك الحجر بعينه، فضربته به، فكان سبب حينه، ولقي سوء منقلبه، والمرء مقتول بما قتل به بعد أن صاح صيحة عظيمة، وصرخ صرخة أليمة فأسرعت من مكاني فلم يكن بأسرع من هذين الشابين، فأمسكاني وأحضراني كما تراني ، فقال عمر: قد اعترفت بما اقترفت، وتعذر الخلاص، ووجب القصاص، ولات حين مناص ، فقال الشاب: سمعاً لما حكم به الإمام، ورضيت بما اقتضته شريعة الإسلام، لكن لي أخ صغير، كان له أب كبير، خصه قبل وفاته بمالٍ جزيل، وذهب جليل، وأحضره بين يدي، وأسلم أمره إلي، وأشهد الله علي، وقال: هذا لأخيك عندك، فاحفظه جهدك، فاتخذت لذلك مدفناً، ووضعته فيه، ولا يعلم به إلا أنا، فإن حكمت الآن بقتلي، ذهب الذهب، وكنت أنت السبب، وطالبك الصغير بحقه، يوم يقضي الله بين خلقه، وإن أنظرتني ثلاثة أيام، أقمت من يتولى أمر الغلام، وعدت وافياً بالذمام، ولي من يضمنني على هذا الكلام ، فأطرق عمر، ثم نظر إلى من حضر، وقال: من يقوم على ضمانه والعود إلى مكانه؟ قال: فنظر الغلام إلى وجوه أهل المجلس الناظرين، وأشار إلى أبي ذَرّ دون الحاضرين، وقال: هذا يكفلني ويضمنني ، قال عمر: يا أبا ذر، تضمنه على هذا الكلام؟ قال: نعم، أضمنه إلى ثلاثة أيام ،فرضي الشابان بضمانة أبي ذرّ وأنظراه ذلك القدر. فلما انقضت مدة الإمهال وكاد وقتها يزول أو قد زال، حضر الشابان إلى مجلس عمر والصحابة حوله كالنجوم حول القمر، وأبو ذرّ قد حضر والخصم ينتظر. فقالا: أين الغريم يا أبا ذرّ؟ كيف يرجع من فر، لا تبرح من مكاننا حتى تفي بضماننا ،فقال أبو ذَرّ: وحق الملك العلام، إن انقضى تمام الأيام، ولم يحضر الغلام، وفيت بالضمان وأسلمت نفسي، وبالله المستعان ، فقال عمر: والله، إن تأخر الغلام، لأمضين في أبي ذرّ، ما اقتضته شريعة الإسلام، فهمت عبرات الناظرين إليه، وعلت زفرات الحاضرين عليه، وعظم الضجيج وتزايد النشيج، فعرض كبار الصحابة على الشابين أخذ الدية واغتنام الأثنية، فأصرا على عدم القبول، وأبيا إلا الأخذ بثأر المقتول، فبينما الناس يموجون تلهفاً لما مر، ويضجون تأسفاً على أبي ذرّ إذ أقبل الغلام ووقف بين يدي الإمام وسلم عليه أتم السلام ووجهه يتهلل مشرقاً ويتكلل عرقاً وقال: قد أسلمت الصبي إلى أخواله، وعرفتهم بخفي أمواله وأطلعتهم على مكان ماله. ثم اقتحمت هاجرات الحر، ووفيت وفاء الحر، فعجب الناس من صدقه ووفائه، وإقدامه على الموت فقال: من غدر لم يعف عنه من قدر، ومن وفى، رحمه الطالب وعفا، وتحققت أن الموت إذا حضر، لم ينج منه احتراس، كيلا يقال: ذهب الوفاء من الناس ، فقال أبو ذَرّ: والله، يا أمير المؤمنين، لقد ضمنت هذا الغلام، ولم أعرفه من أي قوم، ولا رأيته قبل ذلك اليوم. ولكن نظر إلي دون من حضر فقصدني وقال: هذا يضمنني، فلم أستحسن رده، وأبت المروءة أن تخيب قصده، إذ ليس في إجابة القاصد من بأس، كيلا يقال: ذهب الفضل من الناس  فقال الشابان عند ذلك: يا أمير المؤمنين، قد وهبنا هذا الغلام دم أبينا، فبدل وحشته بإيناس، كيلا يقال: ذهب المعروف من الناس ، فاستبشر الإمام بالعفو عن الغلام وصدقه ووفائه، و مروءة أبي ذرّ دون جلسائه، واستحسن اعتماد الشابين في اصطناع المعروف، وأثنى عليهما أحسن ثنائه. وتمثل بهذا البيت:

من يصنع الخير لم يعدم جوائزه ... لا يذهب العرف بين الله والناس

ثم عرض عليهما أن يصرف من بيت المال دية أبيهما. فقالا: إنما عفونا ابتغاء وجه ربنا الكريم، ومن نيته هكذا لا يتبع إحسانه مناً ولا أذى ،  قال الراوي: فأثبتها في ديوان الغرائب، وسطرتها في عنوان العجائب) (القصة في كتاب إعلام الناس بما وقع للبرامكة للاتليدي ) .

 

صور الوفاء

الوفاء بالعهد الذي بين العبد وربه: والوفاء مع الله يكون بطاعته، وعبادته، وتوحيده فإنَّ الله قد أخَذَ على آدمَ وذريَّتِه أنْ يَعبُدوه ولا يُشرِكوا به شيئًا؛ قال الله جل وعلا في كتابه الكريم: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [الأعراف: 172، 173] ،وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا: لَوْ كَانَتْ لَكَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ أَنْ لاَ تُشْرِكَ - أَحْسَبُهُ قَالَ - وَلاَ أُدْخِلَكَ النَّارَ فَأَبَيْتَ إِلاَّ الشِّرْكَ ».

ومن الوفاء مع الله الوفاء بطاعته عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ، جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَ حُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً؟ اقْضُوا اللَّهَ فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالوَفَاءِ».

ومن الوفاء مع الله عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ فَلَا تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي عَهْدِهِ فَمَنْ قَتَلَهُ طَلَبَهُ اللَّهُ حَتَّى يَكُبَّهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ ) ((فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ ) ((فلا تخفروا الله في عهده) قال في النهاية: خفرت الرجل: أجرته وحفظته. وأخفرت ( الرجل: إذا نقضت عهده وذمامه)  أي في عهده وأمانه في الدنيا والآخرة .

ومن الوفاء مع الله الوفاء بالنذر- والنذر: هو أن يلتزم الإنسان بفعل طاعة لله -سبحانه-. ومن صفات أهل الجنة أنهم يوفون بالنذر، يقول تعالى: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا) [الإنسان: 7]. ويشترط أن يكون النذر في خير، أما إن كان غير ذلك فلا وفاء فيه -: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ»

 الوفاء في سداد الدين:

اهتمَّ الإسلام بالدَّيْن؛ لأنَّ أمره عظيم، وشأنه جسيم، وقد أكَّد النبي صلى الله عليه وسلم على قضاء الدين، وكان لا يصلي على الميت إذا كان عليه دين حتى يُقضى عنه. وقد قال: ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدَّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها، أتلفه الله))

الوفاء بإعطاء الأجير أجره:

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أعْطُوا الأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ »  قال الألباني صحيح ) الارواء 1498 ، المشكاة 2987 ، الروض 193) وعَنْ أَبِي هُريرةَ أَيضاً -رَضِيَ اللهُ عنهُ- قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- : ((قَالَ اللهُ تَعالَى: ثَلاثَةٌ أَنا خَصْمُهم يَوْمَ القِيامَةِ: رَجَلٌ أَعطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، ورَجَلٌ باعَ حُرّاً فَأَكَلَ ثَمنَهُ، ورَجُلٌ استأَجَرَ أَجيراً فَاستَوفَى مِنهُ العَملَ ولَمْ يُوفِهِ أَجرَهُ)

 الوفاء بشروط عقد النكاح

عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الفُرُوجَ ».

وفاء العامل بعمله:

وذلك بأن يعمل العامل، ويعطي العمل حقه باستيفائه خاليًا من الغش والتدليس، فعن عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ الْجَرْمِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي كُلَيْبٍ أَنَّهُ شَهِدَ مَعَ أَبِيهِ جَنَازَةً شَهِدَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا غُلَامٌ أَعْقِلُ وَأَفْهَمُ، فَانْتَهَى بِالْجَنَازَةِ إِلَى الْقَبْرِ وَلَمْ يُمْكِنُ لَهَا، قَالَ فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " سَوُّوا لَحْدَ هَذَا " حَتَّى ظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ سُنَّةٌ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: " أَمَا إِنَّ هَذَا لَا يَنْفَعُ الْمَيِّتَ وَلَا يَضُرُّهُ، وَلَكِنَّ اللهَ يُحِبُّ مِنَ الْعَامِلِ إِذَا عَمِلَ أَنْ يُحْسِنَ ) صححه الألباني في السلسلة الصحيحة ( 3 / 1113) .

وفاء الرجل لأبيه بأن يصل أهل وده بعد موته

عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ كَانَ لَهُ حِمَارٌ يَتَرَوَّحُ عَلَيْهِ إِذَا مَلَّ رُكُوبَ الرَّاحِلَةِ وَعِمَامَةٌ يَشُدُّ بِهَا رَأْسَهُ فَبَيْنَا هُوَ يَوْمًا عَلَى ذَلِكَ الْحِمَارِ إِذْ مَرَّ بِهِ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ أَلَسْتَ ابْنَ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ قَالَ بَلَى. فَأَعْطَاهُ الْحِمَارَ وَقَالَ ارْكَبْ هَذَا وَالْعِمَامَةَ - قَالَ - اشْدُدْ بِهَا رَأْسَكَ. فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ أَعْطَيْتَ هَذَا الأَعْرَابِيَّ حِمَارًا كُنْتَ تَرَوَّحُ عَلَيْهِ وَعِمَامَةً كُنْتَ تَشُدُّ بِهَا رَأْسَكَ. فَقَالَ إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ صِلَةَ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّىَ ». وَإِنَّ أَبَاهُ كَانَ صَدِيقًا لِعُمَرَ) صحيح مسلم ( 8 / 6679 ) .

الوفاء بالكيل والميزان:

 فالمسلم يفي بالوزن، فلا ينقصه، لأن الله -تعالى- قال: (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [هود:85] فمن غش في بيعه وشراءه وسلعته فليس من الإسلام في شيء، قال صلى الله عليه وسلم: «من غشنا فليس منا ) .

الوفاء بالعقود والعهود:

 فالإسلام يأمر ويوصي باحترام العقود وتنفيذ الشروط التي تم الاتفاق عليها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «المسلمون عند شروطهم» [البخاري]، وقد عقد النبي صلى الله عليه وسلم العهود والعقود مع المشركين والنصارى واليهود، ووفَّى لهم بما تضمنته هذه العقود .

وفاء الولاة والأمراء بالعهود والمواثيق في علاقاتهم مع الدول:

وقد دلَّت على ذلك عمومات النصوص، وأكَّد الرسول صلى الله عليه وسلم على احترام الأحلاف المعقودة في الجاهلية، وقال صلى الله عليه وسلم مؤكِّدًا على ضرورة الوفاء بأحلاف الجاهلية: كما في سنن الترمذي عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ أَوْفُوا بِحِلْفِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُهُ يَعْنِي الْإِسْلَامَ إِلَّا شِدَّةً وَلَا تُحْدِثُوا حِلْفًا فِي الْإِسْلَامِ  ) حسنه الألباني في المشكاة حديث رقم ( 3983 ) . قال النووي: (واتفق العلماء على جواز خداع الكفار في الحرب وكيف أمكن الخداع إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل) .

هذا وصلى الله على النبي المختار صلوات الله تعالى عليه .

المشاهدات 1607 | التعليقات 0