يَفْرَحُونَ بِالمَوْتِ ( مشكولة مع الافتتاح والدعاء)

راشد بن عبد الرحمن البداح
1440/04/28 - 2019/01/04 10:18AM

28 ربيع الثاني 1440هـ الحمدُ للهِ ربِّ كلِّ شيءٍ ومليكِه؛ [وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ] وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له [فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ] وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه؛ أعلمُ الخلقِ بربِّه، وأخشاهُم له، يخشى العذابَ وقد غُفرَ له ما تَقدمَ من ذنبِه وما تَأخرَ، صلى الله وسلمَ عليهِ وعلى آلهِ وأصحابِه، ومن تبعهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ أما بعدُ:

فأوصيكم -أيُّها الناس- ونفسي بتقوى اللهِ عزَّ وجل؛ ومِن أعظمِ ما يعينُ على تقواهُ: الاستعدادُ لساعةِ الختامِ التي هي الملخصُ لحياةِ الإنسان. كما قَالَ رَسُولُ اللهِ e: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ، فَقِيلَ: كَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ قَبْلَ الْمَوْتِ([1]).

وليس المقصودُ من ذِكر الموتِ(النّوْحَ عَلَى الْحَيَاةِ، وَالتّخْوِيفَ بِالْمَوْتِ؛ فَإِنّ هَذَا أَمْرٌ لَا يُحَصِّلُ فِي الْقَلْبِ إيمَانًا بِاَللّهِ..وَلَا بَعْثًا لِلنّفُوسِ عَلَى مَحَبّتِهِ،وَالشّوْقِ إلَى لِقَائِهِ)([2]).

أيها الأحبةُ: كيفَ مرَّتْ ساعةُ الخِتامِ على سلفِنا الصالحِ الذينَ عاشوا على طاعةِ اللهِ، وماتوا على ذكرِ الله. لقد كانوا يَفرحون بالموت كما نفرحُ بالحياة.

فها هو سيدُنا وسيدُهم، بل سيدُ الخلقِ أجمعينَ  rوهو في سكراتِ الموت، تقولُ له ابنتُه فاطمةُ رضي الله عنها: واكَرْبَ أبَاهُ، فيقولُ لها r استبشاراً بلقاء ربِّه وحسنِ خاتمتِه: لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ([3]).

وتَحضرُ الوفاةُ مؤذنَه بلالَ بنَ رباحٍ t فيردِّدُ:

غَدًا نَلْقَى الأحِبةْ     محمدًا وصَحْبَهْ

فتَبكيْ امرأتُه قائلةً: وَابِلالاه واحُزناهُ، فيقولُ: وَافَرَحَاه.

ويَنزلُ الموتُ بمعاذِ بنِ جبلٍ t فيقولُ: مرحبًا بالموتِ، حبيبٌ جاءَ على فَاقَة، اللهم إني كنتُ أخافُكَ، فأنا اليومَ أرجوك..

ولما احتُضِرَ الخليفةُ الراشدُ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ قالَ لمَن حولَه: اخرُجُوا عني فلا يَبقى أحد، فخَرجُوا فقَعَدُوا على البابِ، فسمعُوهُ يقولُ: مرحبًا بهذهِ الوجوهِ، ليستْ بوجوهِ إنسٍ ولا جانٍ، ثم قالَ: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، ثم قُبِضَ رحمهُ الله ([4]).

أيُّها المؤمنونَ: إنَّ الموتى لو تَكلمُوا لقالُوا لنا: تَزوَّدُوا بالعملِ الصالحِ؛ فإنها فُرصة، وقد تكون الفرصةَ الأخيرةَ. إن الموتى لو بَكَوا، لم يَبكُوا من مجردِ الموت! وإنما سيَبكونَ من حَسرةِ الفَوتِ. فقد تَركوا دارًا لم يَتزودُوا منها، ودَخلوا دارًا لم يَتزدوا لها {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ(99)لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }.

أمَا نَعتبرُ بكثرةِ الموتَى مِن حوادثِ السياراتِ، ومِن مَوتَى الفَجْأةِ والسَّكَتَاتِ؟! فكَم مِن إنسانٍ خرجَ من بيتهِ فلَمْ يَعُدْ، وكمْ مِن صحيحٍ سليمٍ يبلغُك موتُه بَغتةً. ولقدْ دَفَنَّا أمسِ الخميسَ ثمانيةً شبابًا وشيباً وأصحاءَ ومرضَى -تغمدهُم اللهُ برحمتِه- لِيَعِظَنا اللهُ أن الموتَ لا يأتيْ المريضَ ويدعُ الصَّحيحَ، ولا يأتي ذا الشيبةِ ويدعُ الشابَّ.

وإنَّ مما يُحَثُّ عليهِ كلُّ أَحَدٍ، ويَتأكدُ في حقِّ المريضِ والكبيرِ: المبادرةَ بكتابةِ الوصيةِ؛ فهي سنةٌ نبويةٌ، لقولِه e: مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ. رواهُ البخاريُّ ومُسلم([5]).

والكثيرون يَستصْعِبون أمرَ الوصيةِ، ويَظنونَ أنها لا تصِحُّ إلا أن تُكتَبَ في المَحكمةِ، وما علموا أنه إذا كتبَها بقلمِهِ، وأشْهَدَ عليها اثنينِ كفَى.

____2___ بماذا تدعُو للميتِ في صَلاةِ الجَنازةِ؟ هلْ تقولُ هذا الدعاءَ الجليلَ الجميلَ الذي لما سمِعَه أحدُ الصحابةِ قَالَ: تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْمَيِّتَ؟!. قَالَ e في صلاتِه عَلَى جَنَازَةٍ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلاً خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، أَوْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ([6]).

حقًا إنهُ دعاءٌ جليلٌ جميلٌ، فلتحفظْهُ جيدًا. ولنتدارسِ الآنَ مَعنى بعضِ عِباراتِهِ.

 (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ) أي: بِمَحْوِ السَّيِّئَاتِ. (وَارْحَمْهُ) بِقَبُولِ الطَّاعَاتِ. (وَعَافِهِ) مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ. (وَاعْفُ عَنْهُ) مِنَ التَّقْصِيرَاتِ([7]).

 (وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ) يعنيْ ضيافتَه؛ لأن الميتَ في ضيافةِ اللهِ عز وجل.

(وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ) ذَكَرَ الثلجَ والبردَ؛ لأنَّ الذنوبَ عقوبتُها حارةٌ، فناسَبَ أنْ يَقْرِنَ معَ الماءِ الثلجَ، فيحصلَ بالماءِ التنظيفُ، ويَحصُلَ بالثلجِ والبردِ التبريدُ..وذَكَرَ الثوبَ الأبيضَ؛ لأنهُ هوَ الذيْ يَظهرُ فيهِ أدنَى دَنَسٍ([8]).

(وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ) والقبرُ يكونُ خيرًا منَ الدنيا إذا فُسحَ للإنسانِ مَدُّ بَصرهِ، وقيلَ له: نَمْ صالحًا، وفُتحَ له بابٌ إلى الجنةِ، وأتاهُ منْ رِيحِها ونَعيمِها، وفُرشَ له من الجنةِ، فيكونُ -واللهِ- أحسنَ من الدنيا ألفَ مَرَّةٍ، ولهذا قالَ: وأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلاً خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ ([9])

 اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِنا مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِنا، وَتَوَفَّنا إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لنا.. اللَّهُمَّ نسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ..([10]).

اللَّهُمَّ امْنُنْ علينا بتوبةٍ نصوحٍ قبلَ الموتِ، وبشهادةٍ عندَ الموتِ، وبرحمةٍ بعدَ الموتِ، اللَّهُمَّ إنا نعوذُ بكَ أنْ يَتَخبَّطَنا الشيطانُ عندَ الموتِ.

اللَّهُمَّ ارحَمْ غُربَتَنا في الدنيا، ومصرعَنا عندَ الموتِ، وَوَحشَتَنا في القبرِ.

([1])سنن الترمذي (2142)

([2]) زاد المعاد لابن القيم (1/ 407).

([3])صحيح البخاري (4462)

([4]سير أعلام النبلاء (9 / 253)

([5])صحيح البخاري (2738) وصحيح مسلم (4291)

([6])صحيح مسلم (2276)

([7])مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (3/ 1197)

([8])شرح رياض الصالحين لابن عثيمين(4/ 541)

([9])فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام لابن عثيمين(2/ 569)

([10])رواه النسائي، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والذهبي، وقال ابن الجوزي وابن مفلح: إسناده جيد.

المرفقات

بالموت

بالموت

بالموت-2

بالموت-2

المشاهدات 1405 | التعليقات 1