الشتاء والأمراض

إبراهيم بن صالح العجلان
1440/03/28 - 2018/12/06 20:36PM
الشتاء والأمراض 28/3/1440هـ
إخوة الإيمان:يأتي فَصْلُ الشِّتاءِ بِصَقِيْعِهِ وَلَذَعَاتِهِ،  فَتَتَغَيَّرُ معهُ حياةُ الإنسانِ، فَيقِلُّ نَشَاطُه، وَيَكْثرُ نَوْمُه، وَيَزدادُ غِذَائُه، وَتَزورُ الأَسْقَامُ أهلَها.
نَزْلَاتٌ بَرْديَّة، واحْتِقَاناتٌ حَلْقِيَّةٌ، والْتِهَابَاتٌ مِفْصَلِيَّة، وَنَوْبَاتٌ قَلْبِيَّةٌ.
أمراضٌ وأمراض، تكتسحُ الأبدان، وتُوهِنُ الأجسام، تطوف بين الناس وتزداد في فصل الشتاء تحديداً، ولا يَسْلم منها إلا القليل، وقليل ما هم.
وهذا من نقائص هذه الدار، التي خلقها ناقصةً مُنَغِّصةً مُكَدِّرَةً.
فحياةُ العلَّة والاعتلال ,وإن كانت قدَراً مكتوباً، وزائراً ثقيلاً ،  إلا أنَّ فيها من المواعظ والعبر ما يستحق التأمل والتذكير، فجديرٌ بأهل الإيمان أن ينظروا إلى هذه الأدواءِ بعين البصيرة، ومنظار الرِّسالة، ما يَزيدهم إيمانًا وقربةً، وسكينةً ورضًا.
الأمراضَ رسالة تقول بلسان الحال: ما أعظم آيات الله في خلقه، وما أكمل قدرته على عبده.فهذا الإنسان بينا هو يرفُلُ في كمالِ صحتِه، وعُنْفُوانِ عافيتِه، مفتولَ البِنْية، بهيَّ الطلعة، إذ حلَّ به الوَصَب، فتغيَّرت حالتُه، خارتْ قوتُه، وبانَتْ علَّتُه، وضعُفَتْ بِنْيَتُه، وظهر أنينُهُ، ويَبُسَ جبينُهُ، فسبحان مَن غيَّر الحال وبدَّل الشَّان، وأظهر ضعف الإنسان.
إنَّ هذه الأمراض يوم تجثُم على أهلها كأنما تُخاطبهم: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} {وأَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}. تُخاطبهم: أنَّ الإنسان مهما اغترَّ وطغَى، وأعرَضَ وبغَى، فليس بمُعجِزٍ في الأرض، وليس له من دون الله من ولي ولا نصير .
يا أهلَ الإيمان:إنَّ من المُقرَّر شرعًا: أنَّ الله لا يُقدِّر شرًّا محضًا، وأن قدر الله فيه من النفع والخيريَّة، ما يغيبُ عن نظرة البشر السَّطحية؛ فهذه الأمراض، وإن كانت محذورة ومُرَّة، إلا أنَّ فيها من المِنَح والخير ما يخفى على البعض سرُّها، ويغيبُ عنهم أجرُها، وفي الحديث: (من يُرِد الله به خيرًا يُصبْ منه)؛ خرَّجه البخاري في صحيحه.
إن سألتم عن أعظم مكاسب المرض وأهمِّ أسراره، فهي تلك النَّقلة التي يُحدِثُها المرض على صاحبه في إصلاح نفسه، وتهذيب ضميره، هذه الأمراضُ تَكسِر كأسَ
الهوى الجاثمَ على الصُّدور، وتسوق صاحبَها سوقًا إلى المحاسبة والتَّوبة، والإنابة والأوبة.فكم من ضالٍّ ما عَرَف طَريق صلاحه ونجاته إلاَّ بعد أن طَرَقَته الأمراض!
وكم من مُجاهرٍ ما تخلَّص من الكبائر إلاَّ يوم أن خَلَصتِ الأمراض إليه!
وكم من عبدٍ هامَ الحرامُ في خياله، ففكَّر فيه ودبَّر، وجمع له وادَّخَر، فجاورَته الأسقام، فجعل ما جمعه ووعاه صدقةً يجدها في ديوان حسناته!
إخوة الإيمان:
سعادةُ المرء وكرامتُهُ وشرفُهُ بقدرِ تحقيقه لعبودية ربِّه، وفي حال المرض يجتمع للعبد مِن العبودية لله ما لا يجتمع له في غيره.ترى المريضَ رقيقَ المشاعر، سريعَ الدَّمعة، شديدَ التذلُّل، عظيم الرَّجاء، ملازمًا للذِّكْر والدُّعاء، مطَّرحٌ بين يدي ربِّه، مُنتظرٌ فرجَ أرحم الرَّاحمين؛ {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ}.
وإذا اجتمع للعبد صلاحُ نفسٍ، ورجاءُ رحمة، وشكايةُ حالٍ، وانتظارُ فرجٍ فتلك مِن أعلى مقامات العبودية والتذلُّل لله تعالى.
ذاق طعمَ هذه العبودية أيوبُ عليه السلام فنادى ربه:{أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ}.
عباد الله:
ومن مِنَحِ المرضِ ومغانِمِه: أنَّ المريض وإنْ أعجَزَهُ العمل، وأعيَتْه الطاعة، فأجرُهُ محفوظٌ، وثوابُهُ مُدَّخَر؛ قال سيِّدُ البشر صلَّى الله عليه وسلَّم : (إذا مَرِض العبدُ أو سافر، كُتِبَ له مثلُ ما كان يعمل مُقيمًا صحيحًا)؛ رواه البخاري.
أبشِروا يا من زارَتْهم الأسقام، واعتادَتْهم الأوجاع، أبشِروا بفضل الله عليكم، فسيِّئاتُكم الماضية مُنحَطَّة، وخطيئاتُكُم الخالية ذاهبة؛ قال عليه الصلاة والسلام: (ما يُصيبُ المؤمنَ من وَصَبٍ ولا نَصَبٍ، ولا سَقَمٍ ولا حَزَنٍ، حتَّى الهمُّ يُهمُّه؛ إلاَّ كفَّر اللهُ به من سيِّئاته))؛ رواه مسلم.
وروى الإمام أحمد وغيره بسندٍ حسنٍ: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال:(لا يزالُ البلاء بالمؤمن أو المؤمنة في جسده، وفي ماله، وفي ولده، حتَّى يلقى اللهَ وما عليه مِن خطيئة).
قال بعض السَّلّف: "لولا مصائبُ الدنيا، لوردنا القيامةَ مفاليس".
فهذا المرض إذًا وما يتبعه من تمحيصٍ وثوابٍ هو - بإذن الله - سببٌ للرَّاحة الأبديَّة، والسَّعادة السَّرمديَّة في جناتٍ ونهر؛ بل وفي بلوغ درجاتها العُلى.قال صلَّى الله عليه وسلَّم:(إنَّ العبد إذا سبَقَت له مِن الله منزلةٌ لم يبلغها بعمله، ابتلاه الله في جسده، أو في ماله، أو في ولده، ثُمَّ صبَّرَه، حتَّى يُبلِّغَه المنزلة التي سبقت له منه))؛ رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وهو حديثٌ صحيحٌ.
أهل الأمراض أهلٌ للعطف والحَنان، والرَّحمة والإحسان، فالقُربُ منهم، والإحسانُ إليهم، وإسماعهم من الكلام ما يُخفف آلامهم عملٌ صالحٌ مبرور،
روى مسلم في صحيحه" من حديث ثوبانَ  رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((مَن عادَ مريضًا لم يَزلْ في خُرْفةِ الجنَّة حتَّى يرجع))، قيل: يا رسولَ الله، وما خُرْفة الجنَّة؟ قال: ((جَنَاها)).قال النَّووي: "أي: يؤول به ذلك إلى الجنَّة واجتناء ثمارها".
وصَدَق القائل:
قَدْ يُنْعِمُ اللهُ بِالبَلوَى وَإِنْ عَظُمَتْ** وَيَبْتَلِي اللهُ بَعْضَ القَوْمِ بِالنِّعَمِ
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنَّ ربِّي غفورٌ رحيمٌ.
الخطبة الثَّانية
الحمد لله وحدَه، والصَّلاة والسَّلام على مَن لا نبي بعدَه، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أمَّا بعدُ، فيا إخوة الإيمان:
ومع ما في المرض من الخير والمِنَح، فإنَّ المؤمن لا يتمنَّى المرض ولا يسأله، وإذا حلَّت به أقدارُ الأمراض، فإنَّ المُتعيّن على المؤمن أنْ يتعامل معها بالقدر الشَّرعيِّ الدِّيني.ومن الواجب الشَّرعيِّ تُجاهَ الأمراض: أن يصبر المرءُ على ألمها، ويتصبَّر على لأْوائها، ويحتسب قَدَرَها بعبادة الصَّبر، لا بمعصية الجزع؛ قال عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه: "إن صَبَرتَ، جَرَت عليك المقادير وأنت مأجورٌ، وإن جَزِعتَ، جَرَت عليك المقاديرُ وأنت مأزورٌ".
ومن الواجب تُجاهَ الأمراض: عدمُ سبِّها وشَتمها؛ فلا يجوز وصفُ المرض بأنَّه لعينٌ أو خبيثٌ، أو أيّ نوعٍ من أنواع السبِّ، فهذا نوعٌ من سبِّ الأقدار؛ وقد قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لأمِّ السَّائب حين سمعها تشتكي الحُمَّى، وتقول: لا بارك الله فيها، قال لها: (لا تسُبِّي الحُمَّى؛ فإنَّها تُذهِبُ خطايا بني آدم، كما يُذهِبُ الكيرُ خَبَثَ الحديد)؛ رواه مسلم.
ومن الواجب حالَ المرض: إحسانُ الظنِّ بالله، وتعلُّق القَلب به رجاءً وتذلُّلاً ومسكنةً، مع الاستيقان أنَّه لا كاشفَ للضُرِّ، ولا دافعَ للبأس إلاَّ ربُّ النَّاس.
ومن المشروع فعلُهُ مع الأمراض: الأخذُ بالأسباب الحِسِّيَّة من التَّداوي والعلاج، فهذا من استدفاع القَدَر بالقَدَر، لا يُنافِي التوكُّلَ على الله.
ومِن الأدوية التي نطق بها الشَّرع، وصَدَّقها الواقع والتَّجرِبة: استدفاعُ المرض بالصَّدقات؛ قال  عليه الصَّلاة والسَّلام :(داووا مَرْضاكم بالصَّدقة)؛ رواه الطبراني وغيره، وحسَّنه الألباني.
وممَّا ينبغي ذِكرُهُ وتَذكُّرُه مع الأمراض: أنْ يحرِصَ المريض على كتابة وصيته، وتتأكَّدُ وتجبُ إذا كانت عليه حقوقٌ للعباد، فتجبُ كتابةُ الوصية حِفظًا للحقوق، وصيانةً لعِرْضِ المريض ودِينه.
وأخيرًا، أخي المبارك: إذا نزل المرضُ وكلنا عُرضةٌ لهذا البلاء فإيَّاك، ثم إيَّاك أن تجعله سببًا لعصيان الله بالقنوط من رحمة الله، أو سوء الظنِّ بالله، أو الاعتراض على أقدار الله ، فلا تدري ما يخفيه لك الغيب من الخير لك وإن أتاك في صورة ما تكره.
وإذا نزل المرض فإياك إياك أن يضعف إيمانك وتهتز عقيدتك فتلجأ للسَّحرة والمُشعوذِين طلبًا للشِّفاء، فهذا إثم عظيم، ووزر كبير، يخشى عليك بعدها من سوء الخاتمة، فتخسر نفسك ودينك وآخرتك، فمَنْ أَتَى كَاهِنًا، أَوْ عَرَّافًا، فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ.
اللَّهمَّ ارزقنا الصبر على البلاء، والشكر بعد النعماء، والاستغفار عند الأخطاء.
صلوا بعد ذلك على خير البرية، وأزكى البشرية....
المرفقات

والأمراض

والأمراض

المشاهدات 2289 | التعليقات 2

متّع الله بكم فضيلة الشيخ....

وسلمت لك أناملك وذائقتك


وإياكم شيخ خالد ..... سددكم الله ورعاكم