حقوق العمل

إبراهيم بن صالح العجلان
1440/02/23 - 2018/11/01 20:11PM

مراعاة حقوق العمل 24 / 2 / 1440 هـ 

إخوة الإيمان:

طرقتُه الحاجة، وأوْجعتْهُ الخماصة، فقرَّرَ بعد هذه الحال أنْ يُغادرَ أرضَه التي نشأ فيها، وتَأَقْلَمَ على أجوائِها وهوائِها، (وما أقسى هجران الديار).

غادر بلادَه، وترك أهلَه وأولادَه ، يَسْعى لِلُقْمة القيش، وكفِّ الوجه عن السؤال.

وصل تلك الديارَ الجديدةَ يحملُ معه ألواناً من الآلام التي يستدفعها، ألمَ الغربة، وألمَ الحاجة، وألمَ فراق الأهل والأحباب.

نزل إلى سوقِ العمل، وقدْ طافَ في خَياله مستقبلٌ مُشْرقٌ، فَبَذَلَ من أجل ذلك جهدَه ووقتَه، واستفرغَ وِسْعَهُ وَنَشَاطَه, تحمَّلَ حرَّ الشمس، وتعايشَ مع دَرَّاتِ العَرَقِ، ولم يُبالِ بِشَحَابَةِ وجْهِهِ، ورداءَةِ هِنْدَامِه.

حتى إذا مضت من الأيام ثلاثون ذهب إلى كفيله ومشى، ليقبض أجر ما تعبَ وتعنَّى، فما كان من صاحب العمل إلا أن راغ وتنكر، وضاق وتنمّر، وادّعى الرداءة في الإنتاج ، والضعف في العمل، وماطل الأجير ، وعاب الجهد، وبرر منع الأجرة أو تقليل المستحق.

لا تسل بعد ذلك عن مرارات الظلم المتجرعة ، ولا عن لوعات الضمير الحارقة.

رجال مغتربون، يحتبسون الدموع والعبرات، ويتغصصون الآهات، ويكابدون القهر والحسرات.

ظلم العمال والأُّجراء والخدم ظاهرة فشت وانتشرت، وبانت أحوالها وأحزنت، استهان بها بعض ضعفاء الإيمان، وفقراء الأخلاق، ومن تمزقت عندهم خيوط الإنسانية.... وما علم هؤلاء المساكين أن المخاصمةَ أمامهم.

مخاصمة ممن ؟، من الله  الملك العدل، الذي لا يظلم الناس مثقال ذرة.

روى البخاري في صحيحه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلمَ قال: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:( ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ ).

إن هذا التجاوزَ في الحق، والاعتداءَ على الحقوقِ ما كان ليكون إلا لخفةٍ في الديانة، وضعفٍ في الأمانة، واستهانة بالوفاء.

فهذا الوافد إنما هاجر وطنه وتحمل ألم الغربة ليعملَ، ويُحفَظَ له حقُّه، ومن أعظم صور حفظ الحقوق كتابتها والالتزام بها.

والوفاء بالعقد حَتْمٌ لازمٌ على الطرفين، والقيام به تامَّاً مستوفى، من أعظم صور أداء الأمانة،  ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود).

 أثنى الله على أهل الوفاء بالعهود، ( والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون)، والتقصير في العقد نقص في الديانة، ومسئولية ومحاسبة، يقول المولى: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولاً)، وفي الحديث الصحيح : ( لا إيمانَ لمن لا أمانةَ له، ولا دينَ لمن لا عهد له) خرَّجه الإمام أحمد.

عباد الله :

وبسبب عدم كتابة عقود العمل أو التقصير في الالتزام بها، برزت صور وأخطاء، حقيق أن لا يُستهان بها:

ـ يأتي في مقدمتها: بخس الموظفين والخدم حقوقهم ورواتبهم .

 نعم .. لا ننكر وجود طائفة من العمال مستهترة مقصرة، وهذه الفئة حقها  المحاسبة على التقصير، لكن ليكن بعدل وإنصاف، لا أن تضيع جميع الحقوق لأجل تقصير أو تقصيرين.

 فالأصل أن يعطى المكفولُ أو العاملُ حقَّه بموجب العقد، ولا تُبخَس الأجور ولا تؤخّر، وقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عَرقُه" رواه ابن ماجه وحسنه الألباني .

ـ ومن صور التجاوز في العمل: إلزام الموظف فوق طاقته، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يكلَّف العامل فوق طاقته، فلا يطلب منه ما يعجز عنه أو يتعبه، فقد كان حبيبكم وقدوتكم صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يوصي بالأجير خيراً، فقد كان يقول: ( إخوانكم خَوَلكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلّفوهم ما يغلبهم، فإن كلّفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم).

ـ تغيير عقود العمل بعد مجيء العامل غدر وخيانه، وتحايل وقلة أمانة.

 يأتي العامل من بلده بمهنة تعلمها ومهر فيها، فيفاجأ بمهنة أخرى مرهقة، في طبيعة العمل أو في زيادة الوقت، فيصبح مضطرًا لقبول المهنة الجديدة ولو كانت كذلك للحاجة وقلة الحيلة.

ـ ومن صور المخالفة الصريحة: تحصيل الفيز والتأشيرات وبيعها على العمال بمبالغ باهظة، لا يستطيعها الموظَّف فضلًا عن عامل فقير غريب، وفي الحديث الصحيح:

 ( لا يحل مال امرئٍ مسلم إلا بطيب نفس منه).

وقد أصدرت اللجنة الدائمة للإفتاء بتحريم المتاجرة بالتأشيرات أو التستر على العمالة المخالفة المتخلفين من كفلائهم.

ـ ومن أخطاء العمل وصور المخالفة: استقدام عشرات العمال وربما المئات، وإلقاؤهم في الشوارع والطرقات، ومطالبتهم بدخل شهري ثابت، ولا يوفّر لهم الكفيل أو المؤسسة السكن المناسب، ولا الخدمات الضرورية التي يَنصّ عليها نظام العمل في البلد، بل ربما يُجْمَعون في غرف ضيقة، لا تفي بأدنى متطلبات الحياة، مما يهيئ الفرص لحصول الجرائم الاجتماعية والأخلاقية.

ـ ومن صور التقصير مع العمال: التقصير في دعوتهم دينيا وأخلاقياً، وعدم حضِّهم على الطاعة والخير، فيمكث العامل عند كفيله سنين وهو لا يحسن الضوء والصلاة، بل وللأسف قد يأمره بالعمل وقت الصلاة، وربما رأى منه أخلاقًا سيئة، فينقل ما يراه ويشاهده إلى بلاده،أو ما يشوِّهُ صورة الإسلام في نفسه.فلنحرص تعليمهم وتوجيههم إلى الخير، فهو والله باب خير، وحسنات دارَّة ، وفي الحديث: (من دعى إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً)

ـ ومن صور تضييع الحقوق وظلم الموظفين: الاستقطاع من كدهم وتعبهم شهريًا أو سنويًا مقابل الكفالة، وهذا مخالفة صريحة للنظام الذي وضع للمصلحة العامة، وفيه ما فيه من ظلم العامل الذي جاء بناء على اتفاق ، ليس فيه هذا الاستقطاع.

ـ التسلط على الموظفين واحتقارهم وشتمهم، بل ضربهم في بعض الأحيان سيئة وإساءة، وخسة ودناءة،  وهو مؤشر على خفوت مخافة الله من الصدور،  روى مسلم في صحيحه عن أبي مسعود البدري -رضي الله عنه- قال: "كنت أضرب غلامًا لي بالسوط، فسمعت صوتًا من خلفي: "اعلم أبا مسعود"، فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا مني إذا هو رسول الله، فإذا هو يقول: "اعلم أبا مسعود لله أقدر عليك منك على هذا الغلام"، فقلت: "لا أضرب مملوكًا بعده أبدًا" وفي رواية: "فسقط السوط من يدي هيبةً له" وفي رواية: فقلت: "يا رسول الله، هو حرٌّ لوجه الله تعالى-" فقال: "أما لو لم تفعل لَلَفَحَتْك النار" أو: "لمسَّتك النار".

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: : (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ).

بارك الله لي ولكم ...

 

الخطبة الثانية

أما بعد فيا إخوة الإيمان:

وكما للعامل حقوقٌ نصَّ عليها الشرعُ والنظامُ فكذلك عليه واجبات، وكما يؤكد على تحريم بخسه وظلمه يذكر كل موظف أنه لا يجوز له بحال أن يضر صاحب العمل أو يظلمه أو لا يفي بمقتضى العقد والعهد.

أخي الموظف الوافد.. تحيز وأنانية أنْ تطلبَ ما  لَكَ وتنسى ما  عليك، تقصيرك في الانجاز، وتهاونك في الاتقان، وتفريطك في ساعات العمل مخالفة وخَرْمٌ لعقد العمل، وإضرار لمن تستلم منه مراتباً ، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان.

أخي الوافد ... عملك مقصور على صاحب العمل، فما أتيت هذا البلد إلا باتفاق، دفع فيه صاحب العمل وتكلف، فعملك عند الغير من غير إذنه ورضاه مخالفة للنظام، وإضرار لصاحب العمل.

إخوة الإيمان: وإذا حفظت حقوق العامل، مع التعامل الحسن، تآلفت النفوس، وظهر الإخلاص والوفاء، والجد وصدق الانتماء، فكانت النتيجة نجاح واستمرار في العطاء.

أما إذا ضاعت الحقوق وضيعت الواجبات فهي شرارة الظلم، وبداية القهر، فلا تنتظر إلا تنافرَ النفوس، وانعدامَ البركة،  والخسارةَ في الدنيا قبل الآخرة.

وبعد عباد الله، فالشريعة الإسلامية جاءت بما فيه مصلحة الناس، والأنظمة التي تنظم العمل وترعى الحقوق وتذكر الواجبات فيها مصلحة بينة ظاهرة،  والوفاء بها من الواجبات اللازمة التي يشترك الجميع على المحافظة عليها.

اللهم أدم علينا الأمن والأمان، ووفقنا للعمل برضاك، واجعلنا من أهل طاعتك وهداك.

المرفقات

العمل-5

العمل-5

المشاهدات 2061 | التعليقات 0