خطبة : ( حياة طيبة )

عبدالله البصري
1440/01/18 - 2018/09/28 08:02AM
حياة طيبة     18 / 1 / 1440
 
 
الخطبة الأولى :
 
أَمَّا بَعدُ ، فَـ" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، مِمَّا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ عَنهُ كَثِيرًا وَيَطلُبُونَهُ ، وَيَشقَونَ في دُنيَاهُم طَوِيلاً لِتَحصِيلِهِ وَيَتَنَافَسُونَ لأَجلِ التَّلَبُّسِ بِهِ وَلَو ظَاهِرًا ، السَّعَادَةُ ، نَعَم – أَيُّهَا الإِخوَةُ – السَّعَادَةُ مَطلَبٌ طَالَمَا تَعِبَتِ العُقُولُ في مَعرِفَةِ سِرِّهِ ، وَجَرَتِ الأَقدَامُ يَمِينًا وَشِمَالاً لِلبَحثِ عَن مَقَرِّهِ ، وَأُنفِقَت في ذَلِكَ أَموَالٌ وَعُصِرَت أَفكَارٌ ، وَمَعَ هَذَا لم تَزَلْ تَتَرَدَّدُ عَلَى الأَلسُنِ الشَّكوَى مِنَ الزَّمَانِ وَأَهلِهِ ، وَضِيقِ الحَيَاةِ وَالمَلَلِ مِنَ العَيشِ في هَذِهِ الدُّنيَا . وَإِنَّهُ لَو تَأَمَّلَ مُتَأَمِّلٌ في كِتَابِ اللهِ – عَزَّ وَجَلَّ – لَعَلِمَ أَنَّ السَّعَادَةَ لم تُذكَرْ فِيهِ لأَهلِ الدُّنيَا ، وَإِنَّمَا ذُكِرَت لأَهلِ الجَنَّةِ وَحدَهُم ، قَالَ – تَعَالى - : " إِنَّ في ذَلِكَ لآيَةً لِمَن خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَومٌ مَجمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَومٌ مَشهُودٌ . وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَعدُودٍ . يَومَ يَأتِ لا تَكَلَّمُ نَفسٌ إِلاَّ بِإِذنِهِ فَمِنهُم شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ . فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُم فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ . خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ . وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيرَ مَجذُوذٍ " نَعَم – أَيُّهَا الإِخوَةُ – سَعَادَةُ المُؤمِنِينَ الكَامِلَةُ لا تَكُونُ إِلاَّ في الجَنَّةِ دَارِ الخُلدِ وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ ، وَأَمَّا في الدُّنيَا فَلَيسَ هُنَالِكَ سَعَادَةٌ مُطلَقَةٌ ، وَلا رَاحَةٌ تَامَّةٌ ، وَلا هُدُوءٌ كَامِلٌ لا تُكَدِّرُهُ عَوَاصِفُ الحَيَاةِ المُختَلِفَةِ ، وَالدُّنيَا خَلِيطٌ مِن غِنًى وَفَقرٍ ، وَسُرُورٍ وَحَزَنٍ ، وَاجتِمَاعٍ وَافتِرَاقٍ ، وَعَافِيَةٍ وَابتِلاءٍ ، وَمَرَضٍ وَشِفَاءٍ ، وَكَدَرٍ وَصَفَاءٍ ، وَشِدَّةٍ وَرَخَاءٍ ، وَخِتَامُهَا المَوتُ وَالفَنَاءُ . وَلِقَائِلٍ أَن يَقُولَ : وَهَل مِن عَدلِ اللهِ أَن يَجزِيَ مَن آمَنَ بِهِ وَعَمِلَ صَالِحًا بِغَيرِ السَّعَادَةِ وَالهَنَاءَةِ ؟! فَنَقُولُ : لا ، فَهُوَ – تَعَالى - شَكُورٌ لِمَن آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ، وَقَد قَالَ – سُبحَانَهُ - : " إِنَّ الَّذِينَ يَتلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقنَاهُم سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرجُونَ تِجَارَةً لَن تَبُورَ . لِيُوَفِّيَهُم أُجُورَهُم وَيَزِيدَهُم مِن فَضلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ " وَقَالَ – جَلَّ وَعَلا - : " وَمَن يَقتَرِف حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسنًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ " وَلَكِنَّهُ – تَعَالى – وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ ، قَضَى أَن تَكُونَ السَّعَادَةُ الأَبَدِيَّةُ لِلمُؤمِنِينَ في دَارِ النَّعِيمِ المُقِيمِ ، وَأَمَّا في الدُّنيَا فَلا بُدَّ فِيهَا في الظَّاهِرِ مِنَ الضِّيقِ وَالكَدَرِ وَبَعضِ الشَّقَاءِ ، لِئَلاَّ يَطمِئَنَّ النَّاسُ بِهَا وَيَركَنُوا إِلَيهَا ، غَيرَ أَنَّهُ – سُبحَانَهُ – بِفَضلِهِ وَرَحمَتِهِ ، أَبدَلَهُم فِيهَا أَنوَاعًا مِنَ الجَزَاءِ الحَسَنِ ، الَّذِي تَلتَفِتُ بِهِ نُفُوسُ المُؤمِنِينَ عَمَّا يَطرُدُهُ النَّاسُ بَحثًا عَن تِلكُمُ السَّعَادَةِ المَوهُومَةِ ، وَهُوَ في الوَاقِعِ سَبَبُ شَقَائِهِم وَضِيقِ حَيَاتِهِم ، وَسِرُّ شُعُورِهِم بِالمَلَلِ وَحَرَجِ الصُّدُورِ ، قَالَ – عَزَّ وَجَلَّ - " مَن عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجزِيَنَّهُم أَجرَهُم بِأَحسَنِ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ " إِنَّكُم تَرَونَ – أَيُّهَا المُؤمِنُونَ – أَنَّهُ – جَلَّ وَعَلا – جَعَلَ جَزَاءَ العَمَلِ الصَّالِحِ مَعَ الإِيمَانِ حَيَاةً طَيِّبَةً في هَذِهِ الأَرضِ ، لم يَقُلْ : لَنُحيِيَنَّهُم سُعَدَاءَ ، وَإِنَّمَا قَالَ : " لَنُحيِيَنَّهُم حَيَاةً طَيِّبَةً " وَإِنَّهُ لَفَرقٌ بَينَ الحَيَاةِ السَّعِيدَةِ الَّتِي تَتَخَيَّلُهَا عُقُولُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ ، وَتَرَاهَا في بَيتٍ وَاسِعٍ وَزَوجَةٍ حَسنَاءَ ، وَمَالٍ مَمدُودٍ وَبَنِينَ شُهُودٍ ، وَمَنصِبٍ مَرمُوقٍ وَجَاهٍ عَرِيضٍ ، وَمَكَانَةٍ عَالِيَةٍ وَنَسَبٍ وَحَسَبٍ ، وَبَينَ الحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ ، الَّتي يَشعُرُ فِيهَا المُؤمِنُ بِالرِّضَا عَن رَبِّهِ ، وَالقَنَاعَةِ بِمَا قَسَمَهُ لَهُ ، وَالطَّمَعِ فِيمَا عِندَهُ في دَارٍ لا تَفنَى وَلا تَبلَى وَلا تَزُولُ وَلا تَحُولُ ، أَجَل – أَيُّهَا الإِخوَةُ – في الحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ يَقنَعُ المُؤمِنُ بِمَا قُسِمَ لَهُ مِن رِزقٍ ، فَلا يَكثُرُ لِلدُّنيَا تَعبُهُ ، وَلا يَعظُمُ فِيهَا نَصَبُهُ ، وَلا يَتَكَدَّرُ فِيهَا عَيشُهُ بِالتَّلَهُّفِ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنهَا ، أَو حِرصِهِ عَلَى مَا لَعَلَّهُ لا يُدرِكُهُ فِيهَا . في الحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ يُخَيِّمُ الاطمِئنَانُ عَلَى قَلبِ المُؤمِنِ وَتَسكُنُ جَوَارِحُهُ ، لا يُهِمُّ أَن تَكُونَ حَيَاةً نَاعِمَةً وَلا العَيشُ فِيهَا رَغدًا بِتَوَفُّرِ المَالِ وَحُصُولِ مُختَلِفِ الشَّهَوَاتِ ، فَقَد تَكُونُ الحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ مَعَ المَالَ وَقَد تَكُونُ دُونَهُ ، وَقَد تَتَوَفَّرُ فِيهَا بَعضُ الشَّهَوَاتِ الَّتي أَحَلَّهَا اللهُ وَقَد لا تَتَوَفَّرُ ، وَلَكِنَّهَا حَيَاةٌ تَشتَمِلُ عَلَى أَشيَاءَ كَثِيرَةٍ وَغَالِيَةٍ غَيرِ المَالِ وَغَيرِ المَنصِبِ وَالجَاهِ ، وَغَيرِ الزَّوجَةِ الحَسنَاءِ وَالقَصرِ الوَاسِعِ وَالرَّزقِ الوَفِيرِ ، إِنَّهَا حَيَاةُ كَفَافٍ وَعَفَافٍ وَكِفَايَةٍ ، وَهُدُوءٍ وَعَافِيَةٍ وَسَلامَةٍ ، وَسِترٍ وَصِحَّةٍ وَرِضًا وَبَرَكَةٍ ، حَيَاةٌ فِيهَا رَاحَةُ البَالِ وَسَكَنُ النَّفسِ ، وَانشِرَاحُ الصَّدرِ وَنَعِيمُ الرُّوحِ ، وَأُنسُ البُيُوتِ وَلَو كَانَت صَغِيرَةٍ ، وَحَلاوَةُ المَآكِلِ وَالمَشَارِبِ وَلَو كَانَت قَلِيلَةً ، مَعَ مَوَدَّةٍ في القُلُوبِ وَمَحَبَّةٍ مُتَبَادَلَةٍ ، وَتَعَاوُنٍ عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى ، وَتَنَاهٍ عَنِ الإِثمِ وَالعُدوَانِ ، حَيَاةٌ يَفرَحُ المَرءُ فِيهَا بِالعَمَلِ الصَّالِحِ ، وَيَشعُرُ بِآثَارِ إِيمَانِهِ بِرَبِّهِ وَثِقَتِهِ بَوَعدِهِ وَيَقِينِهِ بِوَعِيدِهِ ، وَيَجِدُ ذَلِكَ رَاحَةً في قَلبِهِ ، وَهُدُوءًا لِنَفسِهِ ، وَنَقَاءً في سَرِيرَتِهِ وَسَلامَةً لِصَدرِهِ ، وَمَحَبَّةً لِمَن حَولَهُ وَرَحمَةً بِهِم وَشَفَقَةً عَلَيهِم ، وَكَفًّا لِلأَذَى عَنهُم ، وَقَصرًا عَنِ إِيصَالِ الشِّرِّ إِلَيهِم ، وَخُلُوَّ دَاخِلَةٍ مِنَ الغِلِّ أَوِ الحِقدِ أَوِ الحَسَدِ ، أَو تَمَنِّي زَوَالِ النِّعمَةِ عَن غَيرِهِ ، نَعَم – أَيُّهَا المُؤمِنُونَ – إِنَّ أَقوَى مَا في الحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ وَأَعظَمَهُ وَأَحسَنَهُ ، الاتِّصَالُ بِاللهِ ، وَالثِّقَةُ بِهِ ، وَالاطمِئنَانُ إِلى رِعَايَتِهِ وَعِنَايَتِهِ وَرِضَاهُ ، وَحِينَ يَتَّصِلُ القَلبُ بِمَا هُوَ أَعظَمُ وَأَزكَى وَأَبقَى عِندَ اللهِ ، تَغدُو هَذِهِ الدُّنيَا عِندَهُ كَنُقطَةٍ مِنَ بَحرٍ ، أَو هُبَاءَةٍ في مَهَبِّ رِيحٍ ، لا يَقُوُم لَهَا ، وَلا يَقعُدُ مِن أَجلِهَا ، وَلا يَفرَحُ بِكَثِيرٍ مِنهَا ، وَلا يَحزَنُ لِقَلِيلٍ وَلا فَائِتٍ ، وَبَينَمَا يَسعَى النَّاسُ فِيهَا وَيَكدَحُونَ ، وَيَجرُونَ خَلفَهَا وَيَركُضُونَ ، وَيَشقَونَ لأَجلِهَا وَيَبحَثُونَ ، وَيُضَحُّونَ في سَبِيلِهَا وَيَبذُلُونَ ، وَيُضنُونَ أَنفُسَهُم وَيَتعَبُونَ ، فَإِنَّ مَن أَحيَاهُ اللهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ، لا تَمتَدُّ عَينَاهُ إِلى ذَلِكَ كَثِيرًا ، وَلا يَلتَفِتُ إِلَيهِ قَلبُهُ إِلاَّ بِقَدرِ مَا يَكفِيهِ لِسَفَرِهِ ؛ يَتَمَتَّعُ النَّاسُ بِالشَّهَوَاتِ وَالمَلَذَّاتِ ، وَيَأنَسُونَ بِالمَجَالِسِ اللاَّهِيَةٍ اللاَّغِيَةِ ، وَيَجِدُ لَذَتَّهُ في رَكَعَاتٍ وَسَجدَاتٍ ، وَأُنسَهُ في قِرَاءَةِ آيَاتٍ أَو رَفعِ كَفٍّ بِدَعَوَاتٍ ، أَو في تَرطِيبِ لِسَانٍ بِذِكرٍ وَتَسبِيحِ ، أَو تَهلِيلٍ أَو تَكبِيرٍ ، وَحِينَ يَرتَاحُ أَربَابُ الأَموَالِ وَأَصحَابُ الغِنَى بِمَا أَخَذُوا وَجَمَعُوا وَحَازُوا ، وَبِمَا غَلَبُوا بِهِ الآخَرِينَ وَلَو بِطُرُقِ الحَرَامِ وَالكَذِبِ وَالتَّزوِيرِ ، تَرَاهُ يَجِدُ رَاحَةَ رُوحِهِ وَأُنسَ نَفسِهِ وَانشِرَاحَ صَدرِهِ ، في البَذلِ وَالعَطَاءِ ، وَتَفرِيقِ المَالِ في وُجُوهِ الخَيرِ ، وَتَسلِيطِهِ عَلَى هَلَكَتِهِ في الحَقِّ ، وَبِالجُملَةِ – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – فَإِنَّ حَالَ صَاحِبِ الحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ ، لَيسَت كَحَالِ البَاحِثِينَ عَن سَعَادَةِ الدُّنيَا المَوهُومَةِ ، فَهُوَ في وَادٍ وَهُم في وَادٍ ، وَشَتَّانَ بَينَ مَن هَمُّهُ دُنيا فَانِيَةٌ ، وَمَن غَايَتُهُ الدَّارُ البَاقِيَةُ ، وَاللهُ – تَعَالى – مُعطٍ كُلاًّ عَلَى قَدرِ نِيِّتِهِ ، وَمُيَسِّرٌ كُلاًّ لِمَا خُلِقَ لَهُ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ فَرِيضَةً وَاحِدَةً مِن فَرَائِضِ اللهِ ، يُؤَدِّيهَا المُسلِمُ في بَيتٍ مِن بُيُوتِ اللهِ مُبَكِّرًا إِلَيهَا ، مُكمِلاً طَهَارَتَهَا وَأَركَانَهَا وَوَاجِبَاتِهَا ، حَرِيصًا عَلَى سُنَنِهَا وَمُستَحَبَّاتِهَا ، خَاشِعًا في رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَأَذكَارِهَا ، مُتَنَفِّلاً قَبلَهَا وَبَعدَهَا ، إِنَّهُ لا يَكَادُ يَنفَتِلُ مِنهَا وَيَخرُجُ مِن مَسجِدِهِ بَعدَهَا ، إِلاَّ وَقَد أَحسَّ بِرَاحَةٍ وَأَيِّ رَاحَةٍ ، وَإِنَّ دِرهَمًا يُنفِقُهُ المَرءُ لِوَجهِ اللهِ ، مُيَسِّرًا بِهِ عَلَى مُعسِرٍ ، أَو مُفَرِّجًا بِهِ عَن مَكرُوبٍ ، أَو قَاضِيًا بِهِ حَاجَةَ مُحتَاجٍ ، أَو مُدخِلاً بِهِ السُّرُورِ عَلَى مُسلِمٍ ، أَو مُكرِمًا بِهِ ضَيفًا أَو قَاضِيًا بِهِ حَقًّا ، إِنَّهُ لِيُورِثُ صَاحِبَهُ انشِرَاحًا في صَدرِهِ ، لا يَجِدُهُ الَّذِينَ يُبذُلُونَ أَموَالَهُم في غَيرِ طَاعَةٍ ، وَيُبَدِّدُونَها في غَيرِ صِلَةٍ ، وَيُفَرِّقُونَهاَ في غَيرِ بِرٍّ وَلا مَعرُوفٍ ، أَجَل – أَيُّهَا الإِخوَةُ – إِنَّ الحَيَاةَ الطيِّبَةَ في القُربِ مِنَ اللهِ ، وَإِذَا لم تَطِبِ الحَيَاةُ بِالقُربِ مِنهُ – تَعَالى - فَبِمَن تَطِيبُ ؟! إِنَّهَا في تَحرِيرِ النُّفُوسِ مِن قُيُودِ المَادَّةِ وَأَغلالِ الشَّهَوَاتِ ، وَالسُّمُوِّ بها عَن حَاجَاتِ الجَسَدِ الفَاني إِلاَّ في حَاجَةٍ ، وَالاستِجَابَةِ لِحَاجَاتِ الرُّوحِ دُونَ أَن تُنسَى حُقُوقُ الآخَرِينَ . وَالحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ بِهَذَا لا تَتَرَاجَعُ بِتَرَاجُعِ صِحَّةِ الجَسَدِ ، وَلَكِنَّهَا تَزِيدُ بِزِيَادَةِ إِقبَالِ النَّفسِ عَلَى رَبِّهَا وَلَو كَانَ الجَسَدُ مَحبُوسًا في دَائِهِ ، وَلا تَنتَهِي بِالمَوتِ وَانقِطَاعِ النَّفَسِ وَالخُرُوجِ مِمَّا يَملِكُهُ الإِنسَانُ ؛ وَلَكِنَّهَا تَبدَأُ بِفِرَاقِ الدُّنيَا وَالإِقبَالِ عَلَى الآخِرَةِ ، الحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ لا تَضمَنُهَا أَعرَاضٌ زَائِلَةٌ كَالمَالِ وَالسُّلطَانِ وَالجَاهِ ، وَلَكِنَّهَا هِبَةٌ مِن رَبٍّ كَرِيمٍ ، يَمنَحُهَا لِلمُؤمِنِينَ الصَّالِحِينَ ، أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – وَلْنَعمَلْ صَالِحًا ، وَلْنُعطِ كُلَّ دَارٍ حَقَّهَا ، فَإِنَّ الدُّنيَا مَتَاعُ الغُرُورِ ، وَالعِبرَةُ بِالفَوزِ العَظِيمِ الكَبِيرِ ، قَالَ – سُبحَانَهُ - : " وَعَدَ اللهُ المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً في جَنَّاتِ عَدنٍ وَرِضوَانٌ مِنَ اللهِ أَكبَرُ ذَلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيمُ " وَقَالَ – تَعَالى - : " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم جَنَّاتٌ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ ذَلِكَ الفَوزُ الكَبِيرُ " وَقَالَ – عَزَّ وَجَلَّ - : " كُلُّ نَفسٍ ذَائِقَةُ المَوتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّونَ أُجُورَكُم يَومَ القِيَامَةِ فَمَن زُحزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدخِلَ الجَنَّةَ فَقَد فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ " اللَّهُمَّ بِعِلمِكَ الغَيبَ وَقُدرَتِكَ عَلَى الخَلقِ ، أَحيِنَا مَا عَلِمتَ الحَيَاةَ خَيرًا لَنَا ، وَتَوَفَّنَا إِذَا عَلِمتَ الوَفَاةَ خَيرًا لَنَا ، وَنَسأَلُكَ خَشيَتَكَ في الغَيبِ وَالشَّهَادَةِ ، وَكَلِمَةَ الإِخلاصَ في الرِّضَا وَالغَضَبِ ، وَنَسأَلُكَ نَعِيمًا لا يَنفَدُ ، وَقُرَّةَ عَينٍ لا تَنقَطِعُ ، وَنَسأَلُكَ الرِّضَا بِالقَضَاءِ ، وَبَردَ العَيشِ بَعدَ المَوتِ ، وَلَذَّةَ النَّظَرِ إِلى وَجهِكَ ، وَالشَّوقَ إِلى لِقَائِكَ ، وَنَعُوذُ بِكَ مِن ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَفِتنَةٍ مُضِلَّة ، اللَّهُمَّ زَيِّنَا بِزِينَةِ الإِيمَانِ وَاجعَلْنَا هُدَاةً مُهتَدِينَ ،، وَأَقُولُ هَذَا القَولَ وَأَستَغفِرُ اللهَ .
 
 
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ – تَعَالى - وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ ، وَاعلَمُوا أَنَّ لَذَّاتِ الدُّنيَا وَشَهَوَاتِهَا الَّتي يَحسَبُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ السَّعَادَةَ فِيهَا ، لَيسَت هِيَ السَّعَادَةَ الحَقِيقِيَّةَ ، وَلا هِيَ الحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ ، لأَنَّهَا حَيَاةٌ مُشتَرَكَةٌ بَينَ المُؤمِنِينَ وَالكُفَّارِ وَالأَبرَارِ وَالفُجَّارِ ، فَكُلُّهُم عَلَى حَظِّهِ مِن طِيبِ المَأكَلِ وَالمَشرَبِ ، وَتَوَفُّرِ المَسكَنِ وَالمَلبَسِ وَالمَنكَحِ ، بَل رُبَّمَا زَادَ بَعضُ أَعدَاءِ اللهِ عَلَى أَولِيَائِهِ في ذَلِكَ أَضعَافًا مُضَاعَفَةً ، وَلَكِنَّ اللهَ قَد ضَمِنَ لِكُلِّ مَن عَمِلَ صَالِحًا وَهُوَ مُؤمِنٌ أَن يُحيِيَهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ، وَهُوَ – تَعَالى - صَادِقُ الوَعدِ الَّذِي لا يُخلِفُ وَعدَهُ ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّهُ لا حَيَاةَ طَيِّبَةً لِمَن تَشَعَّبَ قَلبُهُ في كُلِّ وَادٍ مِن أَودِيَةِ الدُّنيَا وَتَفَرَّقَ هَمُّهُ في طَلَبِ شَهَوَاتِهَا ، وَلَكِنَّ الحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ هِيَ حَيَاةُ مَنِ اجتَمَعَت هُمُومُهُ كُلُّهَا فَصَارَت في مَرضَاةِ اللهِ ، فَأَقبَلَ عَلَيهِ وَاجتَمَعَت إِرَادَتُهُ إِلَيهِ ، فَأَكثَرَ مِن ذِكرِهِ ، وَطَلَبَ حُبَّهُ وَأَنِسَ بِقُربِهِ ، وَعَمِلَ صَالِحًا شَوقًا إِلى لِقَائِهِ ، وَاجتَهَدَ وَجَاهَدَ طَمَعًا في نَيلِ رَحمَتِهِ وَدُخُولِ جَنَّتِهِ ، اللَّهُمَّ أَحيِنَا مُسلِمِينَ ، وَأَمِتْنَا مُؤمِنِينَ ، وَأَلحِقنَا بِالصَّالِحِينَ ، غَيرَ خَزَايَا وَلا مَفتُونِينَ ...
المرفقات

طيبة

طيبة

طيبة-2

طيبة-2

المشاهدات 2294 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا