أدب الهدية

عبدالله اليابس
1440/01/17 - 2018/09/27 19:57PM

أدب الهدية                                                  الجمعة 18/1/1439هـ

الحمدُ للهِ مُجيبِ الدّعَوات، مُجزلِ العَطَايَا والهِبات، يُجيبُ دَعوةَ المُضطَرّين ويَكشِفُ السُّوءَ ويُنزِلُ الرَّحَمَات، أَحمدُه تَعالى وأَشكُره، وأُثني عليهِ وأَستغفِرُه، لَهُ الخلقُ والأَمرُ، وَبِيَدِهِ تَدبيرُ الأرضِ وَالسمَواتِ، سُبحَانَكَ رَبَّنا مَا أَعظَمَك، سُبحانكَ رَبَّنا ما أَحلَمَكَ، تُطاعُ فَتَشكُر، وتُعصَى فتَغْفِر، سَتَرتَ عُيُوبَنَا، فَاغفِر ذُنُوبَنَا، وَأَجِرنا مِنْ خِزيِ الدُّنيَا وَعَذَابِ الآَخِرَة، وَأَشهَدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ له، يُعطِي وَيَمْنَع، وَيَخفَضُ وَيَرفَعُ، وَأَشهدُ أنَّ مُحمدًا عبدُهُ ورسولُه، عَلَّقَ بِرَبِّهِ رَجَاهُ وَجَنَانَه، فأُجيب قَبلَ أَنْ يَبْرَحَ مَكَانَه، صلى الله عليه وعلى آلهِ وَصَحبِهِ، وَسَلَّمَ تَسلِيمًا كثيرًا.

أَمَّا بَعْدُ: {ياأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}.

يا أمةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم.. حَديثُنا اليومَ بإذن اللهِ تعالى عَنْ خَصلَةٍ جَمِيلَةٍ, وعادةٍ مَحبوبة, هي مفتاحُ كثيرٍ من الُقلوبِ, وسَدٌ لكثيرٍ من العَدَاواتِ, لم يَزلِ الناسُ منذُ قِدَم الدُّنيا يَفعلونَها, مَنْ فَعَلها يبتغي بها وجهَ اللهِ تعالى أُجِرَ ... إنها الهدية.

الهديةُ تورِث المحبة, وتُكذِبُ سوءَ الظنِّ, وَتَسْتَلُّ سَخَائمَ القلوبِ, الهديةُ تُدني البعيدَ, وتُشيعُ رُوحَ الأُلفة, وتُعينُ على قَطعِ دَابِرِ الفُرقة, فهي إذاً شُعبةٌ إيمانية, وخَصلةٌ أَخلاقية.

لقد كَانَتِ الملوكُ تَتَهَادَى منذُ القِدَم, ولذلكَ أَهدَت بلقيسُ لسُليمانَ عليهِ السلامُ: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}.

وروى البخاريُ في الأدبِ المُفردِ وحَسَّنَهُ الألبانيُّ مِنْ حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه أن رسول اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم قال: (تَهَادُوا تحابُّوا).

قالَ حَكيمٌ: "الهديةُ سِحرٌ, والبِشرُ سِحرٌ, والمُساعَدَةُ سِحرٌ".

إِنَّ الهَديةَ حُلوَةٌ       *** كالسِّحرِ تَجتَذِبُ القُلوبَا
تُدني البَعيدَ مِنَ الهَوى *** حَتَّى تُصَيِّرَهُ قريبَا
وتُعيدُ مُضطَغَنَ العَدا *** وَةِ بَعدَ بُغضَتِهِ حبيبَا

تَنفِي الضَّغينَةَ عَنْ ذَوِي الشَّـــ *** ــحنا وتَمتَحِقُ الذنوبَا

قال الهيثمُ بنُ عَدِيٍ: "كانَ يُقالُ: ما ارتُضيَ الغَضبانُ, ولا استُعْطِفَ السُلطانُ, ولا سُلِبَتِ الشَّحناءُ, ولا دُفِعَتِ المَغارِمُ, ولا تُوُقِيَّ المَحذُورُ, ولا استُعمِلَ المهجورُ, بمثلِ الهديةِ والبِرِّ".

أيها الإخوة.. مَنْ أُهديَت إليهِ هَدِيَةٌ فَمِنَ السُّنةِ أنْ يَقبَلَها وأَن يُثيبَ عَليها, روى ابنُ عُمرَ رضي اللهُ عنهُما وصححهُ الألبانيُ رحمه الله أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ صَنَعَ إِليكُمْ مَعرُوفًا فَكَافِئُوه, فَإِنْ لَم تَستَطِيعُوا فَادعُوا لَهُ حَتَى تَعلَمُوا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأتُمُوهُ).

وَقَد جَعَلَ بَعضُ العُلَمَاءِ النَّاسَ فِي الهَدَايَا عَلَى ثَلاثِ طَبَقَاتٍ: الأُولَى مِنهَا: هِبَةُ الرَّجلِ إِلَى مَنْ هوَ دُونَهُ، فِهيَ إِكرامٌ وإِلطافٌ لا تَقتَضِي الثَوابَ والمُكافَأةَ بالِمثلِ.

وثَانِيَاً: هِبَةُ الشخصِ إلى مساوٍ له.

وثالثاً: هبةُ الأَدنى إلى الأَعلى، فإذا أهدى الأدنى للأعلى فإنه يكونُ مِنَ المُؤكَّد فِي حَقِّ الأَعلَى أَن يُثيبَهُ عليها، وَذَلك بِمَا جرى به العُرفُ وَالعَادَةُ.

ولو سَأَلَ سائلٌ: لِمَنْ تَكونُ الهَدِيَةُ؟

فيقالُ: بأنَّ السُّنَّةَ جاءت بِذكرِ أَصنافٍ يُستَحَبُّ الإهدءُ لَهُم, فمِن ذلكَ الأقاربُ, وأعظَمُهُم ولا شَكَّ الوالدَينِ وقرابَتُهُما, روى البخاريُّ عن كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ مَيْمُونَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً لَهَا, فَقَالَ لَهَا: (وَلَوْ وَصَلْتِ بَعْضَ أَخْوَالِكِ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكِ) .

ومِنَ السُنَّةِ الإهداءُ إلى الجيرانِ, الأقربَ فالأقرب, روى البخاريُ في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ أمِ المؤمنينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالت: قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: (إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا).

وتتأكدُ الهديةُ لصاحِبِكَ أو قَريبِكَ عِندَ حَاجتِهِ إلى الهدية, كما فَعَل جابرٌ رضي اللهُ عند أثناءَ حَفرِ الخندقِ, إذْ أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابِهِ لَحمًا وخُبزَ شعيرٍ لَمَّا رَأى ما بِهِم من الجوع.

أيها الإخوة.. كَمَا سَبَقَ فإنَّ الإهداءَ للآخرينَ محمودٌ, إلا أنَّ هناكَ أشخاصًا وأحوالاً لا يجوزُ الإهداءُ لهم.

فَمِنْ ذَلِكَ: هَدَايَا الموظفين, فَكُلُّ موظَفٍ أُهديتْ لَهُ هديةٌ بسبب وظيفتِهِ فلا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُها, فقد جاءَ في الحديث الذي رواهُ البخاري ومسلمٌ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أرسل ابنَ اللُّتبِيَّة ليجمع له صَدَقاتِ بني سُليم, فلما جاءَ قال: "هذا مالُكُم, وَهَذَا هَديةٌ". فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (فَهَلَّا جَلَستَ في بيتِ أبيكَ وأمِّكَ، حتى تأتِيَك هَديتُك إنْ كنتَ صادقًا).

وَقَدْ تَكونُ الهَدِيَةُ للموظفِ بِأَشكالٍ كثيرة، كَأنْ يقولَ صَاحبُ ورشةٍ للموظفِ الذي حاجتُهُ عندَه: هاتِ أُصلِحْ لَكَ السيارة، أو صاحبُ محل أثاثٍ: سنعطيكَ أثاثاً بنصفِ السعرِ، وهكذا, فَهَذا كُلُّهُ سُحتٌ، سواءً كان بشيءٍ مادِّي، أَو خصمٍ، أو خدمةٍ أو غيرِها.

ومنَ الأشخاصِ الذينَ لا يجوزُ الإهداءُ إليهم الكافرُ المحارِبُ, أما غيرُهُ من الكُفارِ فيجوزُ إهداؤُهم وقَبولُ الهديةِ منهم, {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}, وقد قَبِل النبيُ صلى الله عليهِ وسَلمَ هديةً من أُكَيْدِرِ دُومة ومِنَ اليهودِ لمَّا أَهدَوهُ شاةً وغيرِ ذلك, لكِن إذا خافَ المُسلمُ أن يكونَ قَبولُه الهديةَ سببًا لِلوُدِّ بينه وبينَ الكافر فلا يَقبلْها.

يقول الشيخ حافظ حكمي رحمه اللهُ عَنِ الهديةِ:

يُشرعُ للمسلمِ أَنْ يَقْبَلَهَا *** وَأَنْ يُثيبَ كَرَمَاً فَاعِلَهَا
إِذْ صَحَّ مَرْوِيَاً عَنِ النَّبيِّ *** وَهوَ دَليلُ الخُلُقِ المَرضِيِّ
وَبَينَ مُسلِمٍ وَكَافِرٍ تَحِلّْ *** مَالَمْ يَخَفْ وُدَّاً لِمَنْعٍ قَدْ نُقِلْ

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, قد قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَه إِلَّا اللهُ رَبُّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ وَقَيَّومُ السَّمَاوَات وَالأَرَضِين، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى الْمَبْعُوثِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ, وَأَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين، وَعَلَى مَنْ سَارَ عَلَى هَدْيِهِ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّين.

أَمَّا بَعْدُ :  {ياأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}.

يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. بعدما تَقَدَمَ في الهَدِيَّةِ وفضلِها وبَعضِ أحكامِها, فإنَّ لَها آداباً وذَوقًا, فمِن ذلكَ:

سَترُها, وتَعجِيلُها, وتَصغيرُها ولو كانت كبيرةً, قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: "لا يَتِمُّ المَعروفُ إلا بِثلاثٍ: بِتعجيلِهِ, وتَصغيرِه, وسَترِهِ, فإذا عَجَّله هَنَّأَه, وإذا صغَّرَهُ عَظَّمَه, وإذا سَتَرَهُ تمَّمَه".

ومن ذوقِ الهديةِ حُسنُ اختيارِها, وكونُها لائقةً بالمُهدِي والمُهدَى إليهِ, قال بَعضُهُم: "الهديةُ إذا كانت من الصغيرِ إلى الكبيرِ فكُلَّما لَطُفَت ودَقَّت كانَ أبهى لَها, وإذا كانت مِنَ الكبيرِ إلى الصغيرِ فكُلَّما عَظُمَت وَجَلَّت كانَ أوقَع لَها وأَنْجَع".

ومِنْ أَدِبِ الهديةِ أن لا تَحتَقِرَ أيَّ هديةٍ مَهما كانَت, روى البخاريُ ومسلمٌ من حديثِ أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: (يا نساءَ المُسْلِماتِ، لا تَحقِرنَّ جارةٌ لجارتِها ولو فِرسِنَ شاةٍ) أي: لا تَحقِرَنَّ أن تُهديَها ولو حافِرَ شاةٍ.

ومِن أَدَبِ الهديةِ وذوقِها مُراعاةُ زَمانِ تقديمِ الهديةِ, كَأَنْ يُهديَ لِصَاحِبِهِ قِماشًا شِتويًا مَعَ بدايةِ دُخولِ الشتاء, أو يُهديَ لوالدَيهِ نُقودًا جَديدةً قُربَ دُخولِ العيدِ, وهكذا.

ومن جميلِ أدبِ الهديةِ إصحابُ الهديةِ بمعاني الوُدِّ واللُّطفِ, كما نُقِل أنَّ أبا العتاهيةِ أهدى إلى الفضلِ بنِ الربيع نَعلاً, وَكتَبَ على شِراكِها:

نَعلٌ بَعثتُ بِها لِتَلبَسَها *** قَدَمٌ تسيرُ إلى المجدِ
لَو كَانَ يُمكِنُ أَنْ أُشَرِّكَهَا  *** جِلدِي جَعَلتُ شِرَاكَهَا خَدَّي

ومن أَدبِ الهديةِ بالنسبةِ للمُهدِي نِسيانُها والحَذَرُ من التذكيرِ بِها, بينما من ذوقِ الهديةِ بالنسبةِ للمُهدَى إليهِ ألَّا يَنسى مَن أَهدَى إليهِ.

قال رجلٌ لِبَنِيهِ: "إذا اتخذتُم عندَ رجلٍ يَدًا فانسَوها".

أَفسَدْتَ بالمَنِّ ما أسديتَ مِنْ حَسَنٍ *** لَيسَ الكريمُ إذا أَسدَى بِمَنَّانِ

ومن الهدايا المغفولِ عنها: الهدايا المَعنويةِ, كتعليمِ مَعلومةٍ, وإسداءِ نصيحةٍ, واقتراحٍ مُفيدٍ.

قيلَ: "أَكرمُ الهدايا: عِلمٌ نافِعٌ ونصيحةٌ موثوقٌ بِها, ومِدحَةٌ صادقة".

وقالَ رجلٌ لأبي الدرداء رضي الله عنهُ: "إن فلاناً يُقرِؤكَ السلامَ"، فقال: "هَديَةٌ حَسَنَةٌ, وَمَحمَلٌ خَفِيفٌ".

 أَلَا وإنَّ مِنْ أعظَمِ الهدايا على الإطلاقِ الدُعاءُ بِظهرِ الغيبِ, روى مسلمٌ في صحيحه عن أبي الدرداءِ رضي الله عنه قال: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَدْعُو لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، إِلاَّ قَالَ الْمَلَكُ: وَلَكَ بِمِثْلٍ).

فاللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان, ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.

يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. اعلموا أن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.

المرفقات

الهدية-18-1-1440

الهدية-18-1-1440

المشاهدات 1279 | التعليقات 0