الأَخْفِيَاء

                                                      الأخفياء

                                                 1440/1/11هـ

                                                    الخُطْبَةُ الأُولَى

أمَّا بعد:

قامَ منَ الليلِ فهتفَ في مكانِ خلواتِه، ومحلِ أنسِه ومناجاتِه: يا ربِّ يا ربّ، نداءً خفيًّا، أخفاه عنْ أهلِ الأرض، همسًا بينَه وبينَ ربِّه..

كانَ أفضل أهلِ الأرضِ عندَ اللهِ في زمنِه، فخلدَ اللهُ أعمالَه في كتابِه، وأثنى على ندائِه الخفيِّ في جوفِ الليل: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)} قالَ قتادة: (إنَّ اللهَ يعلمُ القلبَ التقي، ويسمعُ الصوتَ الخفي).

أصواتُ الأخفياءِ الأنقياء= مسموعةٌ في السماء: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ}، {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ}، {وذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} ولقدْ كثُرت حَفاوة السلفِ الصالحِ بالنداءِ الخفي: {إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا}، ولمسُوا منْ شرفِ الخفاءِ= ثناءَ الربِ في السماء، قالَ سيدُ التابعينَ الحسنُ البصري: (ولقدْ كانَ المسلمونَ يجتهدونَ في الدعاءِ ومَا يُسْمَعُ لهمْ صوت -إنْ كانَ إلا همسًا بينهُم وبينَ ربِّهم- وذلكَ أنَّ اللهَ يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}، وذلك أن الله ذكر عبدًا صالحا، فرضيَ فعلَه فقال: {إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا}).

أيها الأحبة:

في صحيحِ الإمامِ مسلم منْ حديثِ سعد بنْ أبي وقاصَ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ).

منْ يريدُ الفضائلَ فليقرأْ هذا الحديث، فهوَ منْ جوامعِ الكلمِ التي أُوتِيَها نبيكُم صلى الله عليه وسلم، ومنْ أرادَ الآخرةَ فليتأملْ هذَا الحديث، ومنْ أرادَ الأمانَ فليتدبرْ هذَا الحديث، ومنْ أرادَ محبةَ الله فليأخذْ بهذَا الحديث.

عباد الله:

التقيُّ هوَ الكريمُ عندَ الله: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، وأمّا الغِنَى فهوَ غِنَى النفس، إذ أعظمُ ما يفسرُ به الحديثُ هو الحديث، وقد جاء في السنةِ كما عندَ البخاريُّ: (ولكنَّ الغنى غنَى النفس)، والخفيُ بالخاءِ يُرادُ بهِ الانقطاعُ إلى العبادة، والاشتغالُ بأمورِ النفس، ووردَ في بعضِ رواياتِ مسلم (الحفي) قالَ العلماءُ وهوَ: الواصل لرحمه، اللطيفُ بهم، وبغيرِهم منَ الضعفاء، وعندَ تأملِ سيرِ الأخفياءِ يظهرُ لنا أنَّ كلا المعنيينِ يتكاملانِ ولا يتعارضان، فالخفيُ في عبادتِه= حفيُّ بالضعفاءِ، رحيمٌ بالأقرباء.

في معاني الخفاءِ في قولِه صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ) تجتمعُ الفضائل، إنهُم الطليعةُ الذينَ انقطعُوا للعبادةِ فكانَ عملُهم سرًا كمَا قالتِ امرأةُ الربيعِ عنه: (كانَ عملُ الربيعِ كلُه سرًا إنْ كانَ ليجيءُ الرجل، وقدْ نشرَ المصحفَ فيغطيه بثوبِه).

 إنَّها (عبادة السِّر) تلكَ التي تورثُهم النجاةَ منَ الفتن، نعمْ فإنَّ للعبادةِ الحقةِ أثرًا على المرءِ في دنياه معَ الناس، فلا تراهُ يزاحمُهم على الدنيا، ولَا يضرمُ النارَ في الفتن.

الأخفياءُ الأحفياء= نجومٌ وإنْ لمْ يُروا، فرسانٌ وإنْ لمْ يركبُوا، مشاهيرٌ وإنْ لمْ يُعرَفوا!

هذَا أحدُهم رحمَه اللهُ تعالى يتكفلُ بإعالةِ مائةِ بيتٍ منْ أهلِ مدينتِه، ولمْ يعلمُوا به، وظنَّ أهله أنّه بخيل، ولمَّا ماتَ كانتِ المفاجأةُ لكلا الفريقين، أمَّا أهلُ البيوتِ فعلمُوا منْ أينَ كانَ يأتي معاشُهم حينَ فقدُوا مَا كانُوا يُؤْتَونَ بهِ في الليل.

وأما أهلُ بيتِه فعلمُوا جودَ الرجل، حينَ وجدُوا بظهرِه آثارَ سواد؛ فعلمُوا أنَّه كانَ يحملُ الدقيقَ ليلاً على ظهرِه إلى منازلِ الأرامل، حينَها قالَ أهلُ المدينةِ قوْلتَهم المشهورة: (مَا فقدْنا صدقةَ السِّرِ حتى ماتَ عليٌّ بنُ الحسينِ رحمَه اللهُ تعالى).

                  هَذا الّذي تَعرِفُ البَطْحاءُ وَطْأتَهُ    

                                                    وَالبَيْتُ يعْرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ

                  هذا ابنُ خَيرِ عِبادِ الله كُلّهِمُ   

                                               هذا التّقيّ النّقيّ الطّاهِرُ العَلَمُ

                   إذا رَأتْهُ قُرَيْشٌ قال قائِلُها: 

                                                   إلى مَكَارِمِ هذا يَنْتَهِي الكَرَمُ!

باركَ اللهُ لِي ولَكُمْ في القُرْآنِ العَظِيم..

                                               الخطبة الثانية

أمَّا بعد:

إنَّ صمامَ الأمانِ لنَا جميعًا يا عبادَ اللهِ في هذه الكلماتِ النبويةِ الصادقة: العبد التقي الغني الخفي.

عبادةُ السِّرِ تربي في النفسِ معانيَ التواضعِ وهضمِ الذات، ثمَّ لا تزالُ بهِ حتى يكونَ إمامًا في الرحمةِ واللطفِ والنقاء.

أمَّا حظُ الدنيا منْ هَذَا الحديثِ فَهُوَ في اعْتِزَالِ الفِتَن، وَهَذِهِ مِنَ مَعَاني الخَفَاء، فَإنَّ فاسْتِشْرافَ الفِتَنِ هَلاك، والنَّاسُ كَإبلِ مِئة لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَة.

وأمَّا حظُ الآخِرةِ فَهِيَ فِي طَاعَةِ الخَفَاءِ وَهِيَ كَمَا تَعْلَمونَ وصيةُ السلفِ لبعضِهم حيثُ كانُوا يستحبونَ أنْ يكونَ للرجلِ خبيئةً منْ عملٍ صالح، لا تعلمُ به زوجتُه ولا غيرُها.

إنَّ هذه الخبيئات الصالحة= هيَ مفاتيحُ الفرجِ في الدنيا، كمَا في قصةِ الثلاثةِ الذينَ أطبقتْ عليهم الغار، فإنَّهم ناجُوا ربَّهم بعباداتِ الخفاءِ التِي كانتْ بينَهم وبينَ ربِّهم، وأما الآخرةِ فيكفي أنَّ منْ السبعةِ الذينَ يظلُهم اللهُ في ظلِّه: (ورجلٌ تصدقَ صدقةً أخفاها.. ورجلٌ ذكرَ اللهَ خاليًا ففاضتْ عيناه).

أيها الإخوة في الله:

والخفاءُ بمعانيه الجامعةِ الواردةِ في الحديث، هوَ منْ أعظمِ أسبابِ الثباتِ على الدين، فقدْ قرَّرَ المحققونَ أن ذنوبَ الخلواتِ منْ أعظمِ أسبابِ الانتكاساتِ والعياذُ بالله، وعبادةُ الخفاءِ دليلُ النجاة، وعنوانُ الإخلاص، وعلامةُ المحبة، ولا يقوَى عليها الكاذبون، ولا يعرفُها الأدعياء.

أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}.

المرفقات

314006

314006

314008

314008

المشاهدات 1744 | التعليقات 0