الوطنية مفهومها ومظاهرها

ابراهيم الهلالي
1440/01/09 - 2018/09/19 23:00PM

الحمد لله ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴾ [ الأنعام: 1-3].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وعلى صحابته أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.أما بعد:

فاتقوا الله - تعالى - أيها المسلمون وخافوه وأطيعوا أمره ولا تعصوه: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ سارعوا لمرضاة ربكم واعلموا أن قد حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره، ولا مفر من المصير، ومن استطال الطريق ضعف مشيه ومن تعلق بالشهوات لم تصح له عزيمة.

      أيها المسلمون: شعورٌ كم خفقت به القلوب وشوقٌ كم كلفت به الأفئدة وحنينٌ يزلزل مكامن الوجدان.. حبٌّ أطلق قرائح الشعراء وهوى سُكبت له محابر الأدباء وحنينُ أمضّ شغاف القلوب وإلفٌ يأوي إليه كرام النفوس وسليم الفطر، حبٌّ لم تخل منه مشاعر الأنبياء وود وجد في قلوب الصحابة والأصفياء، بل هو شعور تغلغل في دواخل الحيتان تحت الماء ورفرفت لأجله أجنحة الطير في السماء، إنه أيها المسلمون حب الأوطان.

 قال أهل الأدب: "إذا أردت أن تعرف الرجل فانظر كيف تحنته إلى أوطانه وتشوقه إلى إخوانه وبكاؤه على ما مضى من زمانه".

وَلِي وَطَنٌ آلَيْتُ أَلاَّ أَبِيعَهُ *** وَأَلاَّ أَرَى غَيْرِي لَهُ الدَّهْرَ مَالِكَا

عَمَرْتُ بِهِ شَرْخَ الشَّبَابِ مُنَعَّمًا *** بِصُحْبَةِ قَوْمٍ أَصْبَحُوا فِي ظِلاَلِكَا

فَقَدْ أَلِفَتْهُ النَّفْسُ حَتَّى كَأَنَّهُ *** لَهَا جَسَدٌ إِنْ بَانَ غُودِرَ هَالِكَ

    أيها المؤمنون: المحبة للأوطان والانتماء للأمة والبلدان أمر غريزي وطبيعة طبع الله النفوس عليها، وحين يولد الإنسان في أرض وينشأ فيها فيشرب ماءها ويتنفس هواءها ويحيا بين أهلها فإن فطرته تربطه بها فيحبها ويواليها، ويكفي لجرح مشاعر إنسان أن تشير بأنه لا وطن له، وقد اقترن حب الأرض بحب النفس في القرآن الكريم. قال الله - عز وجل -: ﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اُقْتُلُوا أَنْفُسكُمْ أَوْ اُخْرُجُوا مِنْ دِيَاركُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيل مِنْهُمْ ﴾ بل ارتبط في موضع آخر بالدين، قال - تعالى -: ﴿ لَا يَنْهَاكُمْ اللَّه عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَاركُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّه يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ ﴾

    ولما كان الخروج من الوطن قاسيًا على النفس فقد كان من فضائل المهاجرين أنهم ضحوا بأوطانهم هجرةً في سبيل الله.وفي سنن الترمذي بإسناد صحيح: عن عبد الله بن عدي بن حراء قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفا على الحزورة فقال: (إنكِ لخيرُ أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرِجت منك ما خرجت).قال العيني رحمه الله: "ابتلى الله نبيه بفراق الوطن".

      ولما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سيبقى مهاجرًا دعا بتحبيب المدينة إليه كما في الصحيحين وفي "صحيح البخاري": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قدم من سفر فأبصر درجات المدينة أوضع ناقته (أي أسرع به).قال ابن حجر - رحمه الله -: (فيها دلالة على فضل المدينة، وعلى مشروعية حب الوطن والحنين إليه.(

       قال الحافظ الذهبي : وهو من العلماء المدقِّقين – مُعَدِّدًا طائفةً من محبوبات رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ” وكان يحبُّ عائشةَ، ويحبُّ أَبَاهَا، ويحبُّ أسامةَ، ويحب سبطَيْه، ويحب الحلواء والعسل، ويحب جبل أُحُدٍ، ويحب وطنه”.

      ولتعلق النبي – صلى الله عليه وسلم – بوطنه الذي نشأ وترعرع فيه ووفائه له وانتمائه إليه؛ دعا ربه لما وصل المدينة أن يغرس فيه حبها فقال: ” اللهم حبِّبْ إلينا المدينةَ كحُبِّنا مكةَ أو أشدَّ”. البخاري ومسلم.

      وقد استجاب الله دعاءه، فكان يحبُّ المدينة حبًّا عظيمًا، وكان يُسرُّ عندما يرى معالِمَها التي تدلُّ على قرب وصوله إليها؛ فعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: “كان رسول الله إذا قدم من سفرٍ، فأبصر درجات المدينة، أوضع ناقتَه – أي: أسرع بها – وإن كانت دابة حرَّكَها”، قال أبو عبدالله: زاد الحارث بن عمير عن حميد: “حركها من حبِّها” رواه البخاري.

   ومع كل هذا الحب للمدينة لم يستطع أن ينسى حب مكة لحظة واحدة؛ لأن نفسه وعقله وخاطره في شغل دائم وتفكير مستمر في حبها؛ فقد أخرج الأزرقي في “أخبار مكة” عن ابن شهاب قال: قدم أصيل الغفاري قبل أن يضرب الحجاب على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، فدخل على عائشة -رضي الله عنها- فقالت له: يا أصيل: كيف عهدت مكة؟! قال: عهدتها قد أخصب جنابها، وابيضت بطحاؤها، قالت: أقم حتى يأتيك النبي، فلم يلبث أن دخل النبي، فقال له: “يا أصيل: كيف عهدت مكة؟!”، قال: والله عهدتها قد أخصب جنابها، وابيضت بطحاؤها، وأغدق إذخرها، وأسلت ثمامها، فقال: “حسبك -يا أصيل- لا تحزنا”. وفي رواية أخرى قال: “ويها يا أصيل! دع القلوب تقر قرارها”.

أرأيت كيف عبر النبي الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- عن حبه وهيامه وحنينه إلى وطنه بقوله: “يا أصيل: دع القلوب تقر”، فإن ذكر بلده الحبيب -الذي ولد فيه، ونشأ تحت سمائه وفوق أرضه، وبلغ أشده وأكرم بالنبوة في رحابه- أمامه يثير لواعج شوقه، ويذكي جمرة حنينه إلى موطنه الحبيب الأثير العزيز.

   الوطنُ، فيه الماضي والذكرياتُ، فيه المستقبلُ والأمنياتُ، فيه الأهلُ والأحبابُ، ومفارقتُه قطعةٌ من العذابِ، كما قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ) .. يقولُ الأصمعيُّ رحمَه اللهُ، سَمعتُ أَعرابياً يَقولُ: إذا أَردتَ أن تَعرفَ الرَّجلَ، فانظرْ كَيفَ تَحنُّنُهُ إلى أوطانِه، وتَشوُّقُهُ إلى إخوانِه، وبكاؤهُ على ما مضى من زَمانِه.

    أيها الناس: هل سمعتم بمَيسونَ بنتِ بَحْدَلٍ الكَلبيةَ؟ .. امرأةً ذَاتَ جَمالٍ بَاهرٍ، وحُسنٍ غَامِرٍ، تزوجَها أميرُ المؤمنينَ معاويةُ بنُ أبي سفيانَ رضيَ اللهُ عنه، ثُمَّ نقلها من الباديةِ إلى قصرٍ في الشَّامِ على الغُوطةِ، وفي يومٍ من الأيامِ، لبستْ أفخرَ ثيابِها، وتزيَّنتْ بالحُلِّي والجَواهرِ، ثم جَلستْ في رَوشنِها وحَولها الوصائفُ، فنظرتْ إلى الغُوطةِ وأشجارِها، وسَمعت تجاوبَ الطيرِ في أوكارِها، وشَمَّتْ نَسيمَ الأزهارِ، وروائحَ الرَّياحينِ والنُّوَّارِ، فتذكرتْ باديتَها، وحَنَّتْ إلى أهلِها ومسقطِ رأسِها، فبكتْ وتَنهدتْ، فقالتْ لها بعضُ جليساتِها: ما يُبكيكِ وأنتِ في مُلكٍ يُضاهي مُلكَ بلقيسَ، فَتنفسَّتْ الصُّعداءَ ثم أنشدتْ:

لَبَيْتٌ تخفِقُ الأرواحُ فيه *** أحبُّ إليَّ من قصرٍ مُنيفِ
وأصواتُ الرياحِ بكل فَجٍّ *** أحبُّ إليَّ من نَقْر الدُّفوفِ
وكلبٌ ينبح الطُرَّاق عنّي *** أحبُّ إليَّ من قِطٍّ ألوفِ
ولُبْسُ عباءةٍ وتقَرَّ عيْني *** أحبُّ إليَّ من لَبْسِ الشُّفوفِ
وأكْلُ كُسَيْرَة في كِسْرِ بَيْتي *** أحبُّ إليَّ من أَكْلِ الرَّغيفِ
خشونَةُ عِيشتي في البدْو أشهى *** إلى نفسي من العيشِ الظَّريفِ
فما أبْغي سُوى وَطني بَديلاً *** فحَسبي ذَاكَ من وَطنٍ شَريفِ

فسمعَ بهذا معاويةُ رضيَ اللهُ عنه، فطلَّقها وأرسلها إلى أهلِها، ومن يلومُها وقد قالَ الجاحظُ في كتابِه (الحنينُ إلى الأوطانِ): (وكانتِ العربُ إذا غزتْ وسافرتْ حملتْ معها من تُربةِ بلادِها، رملاً وعَفْراً، تستنشقُه عندَ نزلةٍ أو زكامٍ أو صداعٍ)، وهكذا النَّاسُ يُحبونَ أوطانَهم ولو لم يكن فيها شيءٌ جميلٌ، كما قالَ الشَّاعرُ:

بلادٌ ألفناها على كلِ حالةٍ *** وقد يُؤْلَفُ الشيءُ الذي ليسَ بالحَسنْ
وتُسْتعذبُ الأرضُ التي لا هواءَ بها *** ولا ماؤها عذبٌ، ولكنها وَطَنْ

     ولكن لا يحبُّ الوطنَ .. من يتعامى عن محاسنِه الأنيقةِ، ولا يرى إلا معايبَه الدَّقيقةَ، ينتقدُ بلادَه ولا يُثني، يَهدمُ أمجادَه ولا يبني، يعيبُ أهدافَه ولا يمدحُ، يحزنُ لإنجازاتَه ولا يفرحُ، يذهبُ يشتكي عليها عندَ المُنظَّماتِ والهيئاتِ، ويستعدي عليها عند أبوابِ السَّفاراتِ، فلا يرى في بلادِه إلا العيوبَ والأخطاءَ، وتعمى عُيونُهُ عن كلِّ المحاسنِ والآلاءِ، فهو يعيشُ في حَضنِ الأعداءِ، بوقاً يُردِّدُ الشَّتيمةَ في كلِّ لقاءٍ، يَعبثُ بوحدةِ الصَّفِّ وسَفكِ الدِّماءِ، ونسوا أو تناسوا نِعمَ اللهِ تعالى عليهم وهو العزيزُ الشَّكورُ، وما بذلتْه البلادُ لهم على مرِّ الدُّهورِ، ولسانُ حَالِ الوطنِ يقولُ لمثلِ هذا المغرورِ:

أُعَلِّـمُهُ الرِّمَـايةَ كُلَّ يَـومٍ *** فَلمَّـا اشْتَدَّ سَاعِدُه رَمانِي
وَكَمْ عَلَّمْتُـهُ نَظْمَ القَوَافي *** فَلَـمَّـا قَالَ قَافِيةً هَجـانِي

 فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَتَمَثَّلُوا الْعَبْدَ الصَّالِحَ فِي هَذَا الْبَلَدِ الْمُبَارَكِ؛ فَكُلُّ خَيْرٍ وَعِزٍّ وَمَجْدٍ وَازْدِهَارٍ مُرْتَبِطٌ بِطَاعَةِ الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ، قَالَ تَعَالَى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًاۚوَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله - تعالى - لي ولكم.

**********************************

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ حمدُ الشاكرين، تباركَ ربُنا وتقدسَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له تمتْ كلمتُه، وعمّتْ رحمتُه، وفاضتُ نعمتُه، وأشهدُ أن سيدَنا ونبيَنا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه، المبعوثُ رحمةً للعالمين، صلى اللهُ وسلمَ وباركَ عليه وعلى آلهِ وأصحابِه والتابعينَ ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ وسلمَ تسليماً كثيراً .. أما بعد:

     أيها المسلمون:البشر يألفون أرضهم على ما بها حتى ولو كان قبرا موحشاً، وحب الأوطان غريزةٌ متأصلة في النفوس تجعل الإنسان يستريح للبقاء فيه ويحن إليه إذا غاب عنه ويدفع عنه إذا هوجم ويغضب له إذا انتقص، والوطنية بهذا المفهوم الطبيعي أمرٌ غير مستغرب، وهذا السعادة به وتلك الكآبة لفراقه وذلك الولاء له مشاعر إنسانية لا غبار عليها ولا اعتراض، ولا يجوز أن تكون مفهومًا مشوهًّا يعارض به الولاء للدين؛ فالإسلام لا يغير انتماء الناس إلى أرضهم ولا شعوبهم ولا قبائلهم.فقد بقي بلال حبشيًّا وصهيب روميًّا وسلمان فارسيًّا ولم يتضارب ذلك مع انتمائهم العظيم للإسلام.. وعندما يفكر الإنسان في طبيعته فسيجد أن له محبةً وولاءً وانتماءً لأسرته وعشيرته وأهل قريته، كما يحس بانتمائه الكبير للأمة المسلمة باتساعها وتلون أعراقها ولسانها. إنه لا تعارض بين هذه الانتماءات ولا مساومة عليها، بل هي دوائر يحوي بعضها بعضا.

      أيُّها الأحبَّةُ .. لا يُحبُّ الوطنَ .. من يجاهرُ بالمعصيةِ ويُفَاخرُ بها أمامَ العِبادِ، فيكونُ سبباً في رفعِ العافيةِ عن البِلادِ، وقد قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (كُلُّ أَمَّتِي مُعَافًى إِلا المُجاهرينَ).

    ولا يُحبُّ الوطنَ .. من يُشيعُ الفاحشةَ وأخبارَها بينَ المؤمنينَ، في نَشرِ كَلِمةٍ أو مقطعٍ أو فِعلٍ مَشينٍ، ومن يُسخِّرُ قنواتِ الفُجورِ المُجرمةِ، لتزيينِ الرَّذيلةِ والعلاقاتِ الآثمةِ، وقد قالَ تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).وإذا ظهرتْ المعاصي والفواحشُ في مكانٍ، تَجرَّأَ عليها السُّفهاءُ وضُعفاءُ الإيمانِ، وأتوا بالشَّرِّ على بلادِهم وأهلِهم بل وعلى الجميعِ، وانتشرَ الفسادُ في الفضاءِ الوسيعِ، كما قالَ سبحانَه: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

     عبادَ اللهِ إننا نعيشُ في وطنٍ قد حوى بينَ جوانبِه الخيرَ العميمَ، ويحبُّه كلُّ مُسلمٍ على وجهِ الأرضِ لِما فيه من معالمِ الدِّينِ العظيمِ، فهذا بيتُ اللهِ عامرٌ تهوي إليه أفئدةُ المسلمينَ في كلِ مكانٍ، وهذا مسجدُ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ تُشدُ إليه الرِّحالُ في كلِ زمانٍ، أمنٌ وأمانٌ، وتحكيمٌ بشريعةِ الإيمانِ، شعائرُ التوحيدِ ظاهرةٌ، ومظاهرٌ الشركِ داحرةٌ، فلنحافظْ على هذه النِّعمِ، فإن اللهَ تعالى إذا شُكرَ باركَ وزادَ، وإذا كُفرِ عاقبَ وأبادَ، (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ(.

       وَحُبُّنَا أيها المؤمنون: لِهَذَا الْوَطَنِ يَتَجَلَّى بِالْحِرْصِ الأَكِيدِ عَلَى اجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ عَلَى الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ، وَالْقَضَاءِ الْمُحْكَمِ عَلَى أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ وَالْخِلاَفِ، وَقِيَامِ رُوحُ النَّصِيحَةِ وَالتَّعَاوُنِ وَالتَّكَاتُفِ فِي وَجْهِ التَّيَّارَاتِ الْقَادِمَةِ، وَالتَّحَزُّبَاتِ الْهَادِمَةِ الَّتِي تُضْعِفُ الْوَطَنَ وَتُوهِنُهُ، وَكَذَلِكَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ وَالنُّظُمِ الْمَرْعِيَّةِ الَّتِي تَسْعَى إِلَى جَمْعِ الْكَلِمَةِ بَيْنَ الرَّاعِي وَالرَّعِيَّةِ، سَمْعًا وَطَاعَةً بِالْمَعْرُوفِ، وَأَدَاءً لِلْحُقُوقِ وَالْوَاجِبَاتِ، كُلٌّ فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ. أدام الله أمننا وإيماننا ، وجمع على الحق كلمتنا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ووفقهم لما فيه صلاح العباد والبلاد ، وحمانا وإياهم من شر الأشرار وكيد الفجار.

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ

المشاهدات 2191 | التعليقات 0