الخسوف آية وعبرة

ابراهيم الهلالي
1439/11/13 - 2018/07/26 22:26PM

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْبَرِّ الرَّحِيمِ؛ أَفَاضَ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ نِعَمِهِ، وَهَدَاهُمْ إِلَى دِينِهِ، وَدَلَّهُمْ عَلَى طَرِيقِهِ، وَخَوَّفَهُمْ بِآيَاتِهِ «فَمَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ» نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ مَنْ أَحَبَّهُ أَحَبَّهُ، وَمَنْ رَجَاهُ وَجَدَهُ، وَمَنْ خَافَهُ أَمَّنَهُ، وَمَنْ أَطَاعَهُ فَازَ بِرِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَعْلَمُ النَّاسِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَأَتْقَاهُمْ لَهُ، وَأَشَدُّهُمْ خَشْيَةً مِنْهُ، وَكَانَ يُقْسِمُ عَلَى ذَلِكَ فَيَقُولُ: «أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ» صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَقِيمُوا دِينَهُ، وَامْتَثِلُوا أَمْرَهُ، وَاجْتَنِبُوا نَهْيَهُ، وَاعْتَبِرُوا بِآيَاتِهِ وَنُذُرِهِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ الْعُذْرَ، فَيُنْذِرُ عِبَادَهُ قَبْلَ أَنْ يُعَاقِبَهُمْ ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فَاطِرٍ: 24]، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.

أَيُّهَا النَّاسُ: مُوجِبَاتُ خَوْفِ الْإِنْسَانِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَثِيرَةٌ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَمْ يَمْلِكْ وُجُودَهُ فِي الْأَرْضِ، وَلَا يَمْلِكُ حَيَاتَهُ وَلَا مَوْتَهُ وَلَا نَشُورَهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ صِحَّتَهُ وَمَرَضَهُ، وَلَا غِنَاهُ وَفَقْرَهُ، وَلَا أُنْسَهُ وَبُؤْسَهُ، وَلَا فَرَحَهُ وَحُزْنَهُ، فَذَلِكَ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ، وَالْقُلُوبُ يَمْلِكُهَا اللَّهُ تَعَالَى فَيُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ، وَيَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا يَشَاءُ. وَكُلُّ مَا يَعْمَلُهُ الْإِنْسَانُ فِي حَيَاتِهِ مِنْ عِنَايَتِهِ بِنَفْسِهِ، وَبِنَاءِ أُسْرَتِهِ، وَحِرْصِهِ عَلَى رَغَدِ عَيْشِهِ، وَتَخْطِيطِهِ لِمُسْتَقْبَلِهِ؛ فَإِنَّمَا هِيَ أَسْبَابٌ يَعْمَلُهَا، وَفَوْقَهَا رَبٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ يُقَدِّرُ مَا يَشَاءُ، وَلَا خُرُوجَ لِلْعَبْدِ عَنْ قَدَرِهِ ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الْفُرْقَانِ: 2]، فَإِذَا كَانَتْ دُنْيَا الْإِنْسَانِ بِكُلِّ تَفَاصِيلِهَا خَاضِعَةً لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ تَحْتَ حُكْمِهِ وَقَدَرِهِ سُبْحَانَهُ، وَكَانَ عَجْزُ الْإِنْسَانِ وَكَيْسُهُ بِقَدَرٍ، وَكَانَ مَصِيرُهُ فِي الْآخِرَةِ بِقَدَرٍ؛ وَجَبَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَخْضَعَ لِصَاحِبِ الْقَدَرِ، وَأَنْ يَخَافَ مِنْهُ، وَأَنْ يُحِبَّهُ وَيَرْجُوَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ أَصَابَهَا فَبِقَدَرِهِ سُبْحَانَهُ، وَكُلَّ مَكْرُوهٍ صُرِفَ عَنْهُ فَبِقَدَرِهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ [النَّحْلِ: 53]، وَمَا يُصِيبُهُ مِنْ مَصَائِبَ فَبِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَسَبَبُهَا ذُنُوبُ الْعَبْدِ ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشُّورَى: 30].

وَالْخَوْفُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ دَأْبُ الصَّالِحِينَ مِنَ السَّابِقِينَ، وَالنَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، يَرُدُّونَ الْبَلَاءَ بِالدُّعَاءِ، وَيَدْفَعُونَ الْعَذَابَ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَيُحَصِّنُونَ أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُعْلِنُونَ خَوْفَهُمْ مِنْهُ سُبْحَانَهُ.

أيها الإخوة .. يترقب الناس هذه الليلة حدثا كونيا، وتخويفا ربانيا، حيث من المتوقع أن يحصل خسوف كلي للقمر.إن الشمس والقمر نعمتان عظيمتان من نعم الله، وخَلْقان من بديع صنعه، فبهما يتوالى الليل والنهار، وتعرف السنينُ والحساب، وتعرف الأوقاتُ والأماكن، وتنار الأرض (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)، (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا)، (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ)، آية الليل هي القمر، وآية النهار هي الشمس.

      هذا القمر آية عظيمة من آيات الله، (وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)، أقسم الله به في كتابه، بل سميت سورة كاملة من القرآن باسمه. خلقه الله وسخره لنا فقال ممتنا على عباده: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

وهو يسبح الله ويسجد له خضوعا وانقيادا، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ..).

إنّ آيَاتِ رَبّنَا ثَاقِبَاتٌ … لَا يُمَارِي فِيهِنّ إلّا الْكَفُورُ

خُلِقَ اللّيْلُ وَالنّهَارُ فَكُلّ … مُسْتَبِينٌ حِسَابُهُ مَقْدُورُ

انكسفتِ الشَّمسُ في اليومِ الذي ماتَ فيه إبراهيمُ ابنُ النَّبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ رضي الله عنه؛ فقالَ الناسُ: انكسفتِ الشمسُ لموتِ إبراهيمَ، وكَانُوا في الجَاهِليَّةِ يَقُولُونَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَخْسِفَانِ إلّا لِمَوْتِ عَظِيمٍ، فخرجَ صلى اللهُ عليهِ وسَلمَ فَزِعًا يَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ، ومِن فَزعِه أنَّه أخطأَ في لباسِه، فأخذَ دِرعَ أهلِه بدَلَ الرِّداءِ، وخرجَ وهو يجُرُّه جَرًّا ولم يَنتظرْ ليلبسَه حتى أَتى المسجدَ، كما قالتْ أسماءَ رضيَ اللهُ عنها: (كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَزِعَ فَأَخْطَأَ بِدِرْعٍ حَتَّى أُدْرِكَ بِرِدَائِهِ بَعْدَ ذَلِكَ).

حتى انتهى إلى المسجدِ واجتمعَ إليهِ النَّاسُ، فصلَّى بهم رَكعتينِ أَطَالَهما، أطَالَ الْقِيَامَ قِيَاماً طَوِيلاً نَحْوًا من قِرَاءَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، حتى كَانَ بَعْضُ من يُصلي يَنْتَضِحُ بِالْمَاءِ وجَعَلُوا يَخِرُّونَ، ثُمَّ تَأَخَّرَ وَتَأَخَّرَتِ الصُّفُوفُ خَلْفَهُ حتى انْتَهَوا إلى النِّسَاءِ، ثُمَّ تَقَدَّمَ وَتَقَدَّمَ النَّاسُ معه، ثُمَّ رَكَعَ ركوعًا طَوِيلاً، ثُمَّ قَامَ ولم يَسْجُدْ قِيَاماً طَوِيلاً وهو دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعاً طَوِيلاً وهو دُونَ رُكُوعِهِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ فَأَطَالَ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ فَصَنَعَ كَذلكَ، فَكَانَتْ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، فَجَعلَ في سجودِهِ يَنْفُخُ في الأَرْضِ ويَبكي، فَقالَ: أُفٍّ أُفٍّ، رَبِّ لِمَ تُعَذِّبُهُمْ وأنا فِيهِمْ، يا رَبِّ لِمَ تُعَذِّبُنَا وَنَحْنُ نَسْتَغْفِرُكَ، يا ربِّ ألم تعدْني ألَّا تعذِّبُهم وأَنا فيهم، ألم تَعدْني أن لا تُعذِّبُهم وهُمْ يَستغفرونَ، ثُمَّ سَلَّمَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ وقد تَجَلَّتِ الشَّمْسُ.

ثُمَّ رَقِىَ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عليه، ثُمَّ ماذا قالَ في هذا المقامِ العظيمِ؟، أولاً: صحَّحَ عقيدةَ الجاهليةِ الباطلةَ، فقَالَ: (أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ من آيَاتِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ ولا لحياتِه)، ثُمَّ ذكرَ الحكمةَ من هذه الآيةِ المُذهلةِ، فقالَ: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يُرْسِلُهَا يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ، فإذا رَأَيْتُمْ شيئًا من ذلك فَصَلُّوا حتى تَنْجَلِيَ)، فالحكمةُ من كسوفِ الشَّمسِ وخسوفِ القمرِ هو تخويفُ اللهِ تعالى لعبادِه من أشياءٍ قد وقعتْ لعلَّهم يرجعونَ، وإلى ربِّهم يتوبونَ، حتى وإن كانتْ ظَاهِرةُ الخسوفِ معروفةَ السَّببِ، معلومَةَ الوقتِ، ولكنْ يبقى أثرُها إذا وَقَعتْ، وانظروا إلى من حُكمَ عليه بالقِصاصِ، كيفَ يعلمُ سببَ الحُكمِ، ووقتِ القِصاصِ، ولكن إذا حضرَ الموعدُ، انهارَتْ قُواهُ، ولم تحمِلْه رِجلاهُ.

ثُمَّ ذكرَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، رؤيتَه للنَّارِ فقالَ: (والذي نفسي بيدِه لقد عُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارَ، وَذَلِكُمْ حينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَنِي من لَفْحِهَا، حتى إني لأُطْفِئُهَا خَشْيَةَ أَنْ تَغْشَاكُمْ، وَلَقَدْ رأيتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا حينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ)، فالمقامُ مقامُ تخويفٍ وترهيبٍ، لا مقامَ تبشيرٍ وترغيبٍ، وتصوير وتوثيق.

ثُمَّ ذكرَ بعضَ أهلِ النَّارِ، تحذيراً للأمَّةِ من أعمالِهم، والتي تجلبُ غضبَ اللهِ تعالى وعقابَه، فقالَ: (وَرَأَيْتُ فيها ابنَ لُحَيٍّ -أَبَو ثُمَامَةَ عَمْرَو بنَ مَالِكٍ-، وهو الذي سَيَّبَ السَّوَائِبَ يَجُرُّ قُصْبَهُ -أمعاءَه- في النَّارِ).

فهذا الرَّجلُ هو أولُ من أتى بالأوثانِ إلى جزيرةِ العربِ، وهو أولُ من بدَّلَ دينَ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، من التَّوحيدِ الخالصِ إلى عبادةِ الأصنامِ، وقَلِّبْ طَرفَكَ اليومَ في بلادِ الإسلامِ شَرقاً وغَرباً، وانظرْ إلى عددِ الأضرحةِ والمَشَاهدِ، التي يزورُها ويَحجُّ إليها الملايينُ، فتُراقُ على عَتباتِها دِماءُ التَّوحيدِ كلَّ حينٍ، فتُدعى ويُطلبُ منها الرِّزقَ والولدَ من دونِ ربِّ العالمينَ، ويُحلفُ بها، ويُنذرُ لها، وتُساقُ إليها القَرابينُ، بخشوعٍ وتَضرُّعٍ ويَقينٍ، فإذا نُصحَ أحدُهم، قالَ: إنما هؤلاءِ أولياءُ يشفعونَ لنا عندَ اللهِ، فسبحانَ اللهِ، ما أشبهَ اللَّيلةَ بالبَارحةِ، قالوا كما قالَ أسلافُهم: (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ).

  وانظرْ يا أخا الإسلام:  كَم مِن ساحرٍ وكاهنٍ وعرَّافٍ، يتزاحمُ عندَ بابِه الآلافُ من المسلمين، وكم من تميمةٍ قد عُلِّقتْ على الصُّدورِ وفي الأيدي، لتأتيَ بالخيرِ أو تدفعَ الشر، فالحذرَ يا عبادَ اللهِ من الشِّركِ وأسبابِه، صغيرِه وكبيرِه، عظيمِه وحقيرِه.

    ثُمَّ قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (وَرَأَيْتُ فيها _ أي في النار_ صَاحِبَةَ الْهِرَّةِ -امْرَأَةً من حِمْيَرَ سَوْدَاءَ طُوَالَةً-، تُعَذَّبُ بِهِرَّةٍ لها تَرْبِطُهَا فلم تُطْعِمْهَا ولم تَسْقِهَا، وَلاَ تَدَعُهَا تَأْكُلُ من خَشَاشِ الأَرْضِ حتى مَاتَتْ جُوعًا، أُريتُها كُلَّمَا أَقْبَلَتْ نَهَشَتْهَا، وَكُلَّمَا أَدْبَرَتْ نَهَشَتْهَا)، فإذا كانَت هذه المرأةُ عُذِّبتْ في حيوانٍ، فكيفَ سيُفعلُ بمن يظلمُ الإنسانَ، واللهُ تعالى يقولُ: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)، بل كيفَ بمن يظلمُ زوجته أو أقاربه وذوي رحمه، شوه سمعتهم، أو منع حقوقهم، أو جرجرهم إلى ردهات الشُرط والمحاكم، وأراق مياه وجوههم، ومنع حقوقهم،وقطع كل صلة معهم لأجل دنيا أو ميراث، أو لعاعةٍ من الدنيا حقيرة، وليتذكر أن الظُّلمُ ظُلماتٌ يومَ القيامةِ.

والقريةُ التي يَشيعُ فيها الظلمُ يقصِمُها الجبَّارُ سبحانَه وتعالى: (وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ)، ولكنَّ اللهَ تعالى قد جعلَ لكلِّ شيءٍ أجلاً، (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا)، فإن لم يكنْ عقابُ الظُّلمِ في الدُّنيا، فهناكَ موعدٌ آخرُ، هو أشدُّ وأخطرُ، (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ). نسأل الله أن يتولانا برحمته ، ويتوب علينا بفضله وإحسانه ويخلصنا من حقوق عباده.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم .... الخ.

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَخَافُوا عَذَابَهُ، وَلَا تَأْمَنُوا مَكْرَهُ ﴿فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾

عباد الله : نرجع لسياق موعظة النبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف فقد قالَ صلى اللهُ عليه وسلمَ: (ورأيتُ فيها صَاحِبَ الْمِحْجَنِ، مُتَّكِئاً في النَّارِ على مِحْجَنِهِ، كان يَسْرِقُ الْحَاجَّ بِمِحْجَنِهِ، فَإِنْ فُطِنَ له قَالَ: إنما تَعَلَّقَ بِمِحْجَنِي، وَإِنْ غُفِلَ عنه ذَهَبَ بِهِ)، فسَّرقةُ النَّاسِ وأكلُ حقوقِ الآدميينَ، إثمٌ عظيمٌ يستوجبُ غضبَ ربِّ العالمينَ، ملعونٌ على لسانِ أشرفِ المُرسلينَ، كما قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ، يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ).

   فكيف بمن يسرق لقمة العمال والمكفولين الذين تحت كفالته، ويمنعهم حقوقهم، ويستولي على معاشاتهم أو أرباحهم أو يشاركهم فيها بالقوة فإذا امتنعوا هددهم بإبلاغ الجهات المسؤولة ببلاغ كاذب تنالهم منه عقوبة، أو تهديدهم بتسفيرهم لبلادهم فتتراءى أمام أحدهم حاجة عياله ، ومسغبة ذويه ، فيرضخ للظلم والظالمين غير أنه قد رفع الشكوى لمن لا يغفل أو ينام سبحانه وتعالى.

   ثُمَّ قالَ صلى اللهُ عليه وسلمَ: (والذي نَفْسِي بيدِه لَقدْ أُرِيتُ النَّارَ، فلم أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ، قالوا: بِمَ يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قال: بِكُفْرِهِنَّ، قِيلَ: يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟، قالَ: يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ لو أَحْسَنْتَ إلى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شيئاً، قالتْ: ما رأيتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ)، فإيَّاكم وكُفرَ النِّعمةِ والإحسانِ، لمن أَسدى إليكَ نِعمةً مِن إنسانٍ، أو لصاحبِ النِّعمِ الملكِ العزيزِ المنَّانِ، كما قالَ تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ).

ثُمَّ يُنادي بأبي هو وأمي عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بأرَقِّ وألطفِ نداءٍ، حيثُ نسبَ الأمَّةَ لنفسِه، فقالَ: (يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ إِنْ أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا)، فيا اللهِ .. كَمْ يَغارُ اللهُ تعالى على ما يحدثُ في كلِّ وقتٍ من هذه المعصيةِ العظيمةِ، التي أصبحتْ سُوقاً لأهلِ الباطلِ رابحةً، ورَاجتْ فيها الأفلامُ والقنوات والمواقع الفاضحةُ، وأصبحَ في بعضِ البُلدانِ دُورُ الدَّعارةِ طافحةً، وفي بعضِ البُلدانِ يُسمونَها صداقاتٍ ناجحةً، رجَعوا بالمرأةِ إلى الجاهليةِ الجَهلاءِ، بعدَ أن رفعَها الإسلامُ إلى العَلياءِ، ثُمَّ نقولُ إذا خسفَ القمرُ: لماذا يُخوِّفُ اللهُ تعالى البشرَ؟. بل نحن هذه الأيام في وقت مناسبات وأفراح، وحتماً سيكون وقت الخسوف أفراح قائمة، ولا يخفى ما تعج به أفراح المسلمين، خاصة في مجتمع النساء من عري فاضح، وصل ببعضهن قلة الحياء من الله وخلقه إلى أن تلبس الثياب الرقيقة الشفافة وتلبس القصير من الثياب لتبرز عورتها ومفاتنها أفٍ لحضارة أسقطت الحياء والغيرة، فإذا أضفت لذلك المعازف والموسيقى الصاخبة التي تصم الآذان في تحدٍ صريح لحكمها وحرمتها، واستمرأها الصالح والطالح بغير نكير، ولولا رحمة الله تعالى وأن رحمته سبقت غضبه لمسخنا كما مسخ من قبلنا لما باتوا على غناء ومنكرات فلسنا بأكرم عند الله ولا أمان لنا عنده إلا بطاعته وتقواه.

أيها المؤمنون: حَرِيٌّ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ أَنْ يَعْتَبِرُوا بِنُذُرِ اللَّهِ تَعَالَى وَآيَاتِهِ، وَأَنْ يُحَافِظُوا عَلَى الْفَرَائِضِ، وَيَجْتَنِبُوا الْمَحَارِمَ، وَيَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَتَنَاصَحُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَيَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ، وَيَأْخُذُوا عَلَى أَيْدِي السُّفَهَاءِ مِنْهُمْ؛ لِئَلَّا يَحِلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ فَلَا يَنْفَعُ نَدَمٌ. وَلَنَا عِبْرَةٌ فِي قَوْمِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَوَادِرَ الْعَذَابِ وَنُذُرَهُ رَجَعُوا إِلَى رَبِّهِمْ، وَتَابُوا مِنْ ذُنُوبِهِمْ، فَنَجَّاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ [يُونُسَ: 98]، قَالَ قَتَادَةُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: «لَمْ يَنْفَعْ قَرْيَةً كَفَرَتْ ثُمَّ آمَنَتْ حِينَ حَضَرَهَا الْعَذَابُ، فَتُرِكَتْ، إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ: لَمَّا فَقَدُوا نَبِيَّهُمْ، وَظَنُّوا أَنَّ الْعَذَابَ قَدْ دَنَا مِنْهُمْ، قَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ التَّوْبَةَ، وَلَبِسُوا الْمُسُوحَ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ بَهِيمَةٍ وَوَلَدِهَا، ثُمَّ عَجُّوا إِلَى اللَّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً. فَلَمَّا عَرَفَ اللَّهُ الصِّدْقَ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَالتَّوْبَةَ وَالنَّدَامَةَ عَلَى مَا مَضَى مِنْهُمْ، كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ بَعْدَ أَنْ تَدَلَّى عَلَيْهِمْ».

بِخِلَافِ عَادٍ قَوْمِ هُودٍ؛ فَإِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَوَادِرَ الْعَذَابِ وَنُذُرَهُ اسْتَبْشَرُوا بِهِ مِنْ شِدَّةِ غَفْلَتِهِمْ وَأَمْنِهِمْ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ تَعَالَى﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾

فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ -عِبَادَ اللَّهِ- مِنَ الذُّنُوبِ، وَالْخَوْفَ الْخَوْفَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِيَّاكُمْ وَالْأَمْنَ مِنْ مَكْرِهِ سُبْحَانَهُ.وعلينا أيُّها الأحبَّةُ بوصايا النَّبيِّ صلى اللهُ عليه وسلمَ وقتَ وقوعِ الخُسوفِ، حينَ قالَ: (فَإِذَا انْكَسَفَ أَحَدُهُمَا فَافْزَعُوا إِلَى الْمَسَاجِدِ)، وقالَ: (فتصدقوا وصَلُّوا وكبِّروا وادعوا اللهَ)، ولنحذرْ الغفلةَ عن آياتِ اللهِ تعالى فإنَّ العِقابَ خطيرٌ، فنجعلَها حدثاً يستحِّقُ المشاهدةَ والتَّصويرَ، وننسى ما أرادَه مِنَّا العزيزِ الخبيرِ.

بل ينبغي أن يُذكِّرَنا خسوفُ القمرِ بأشراطِ يومِ القيامةِ؟، كما قالَ تعالى: (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ)، فعلينا عبادَ اللهِ بالخوفِ إذا خسفَ القمرُ، فإنَّ اللهُ تعالى يُخوِّفُنا لنخافَ، فإذا لم نَخَفْ، فعذابُ اللهِ إذا جاءَ، ليسَ لهُ حدٌ ولا أطرافٌ، وغضب الله الجبار لا قِبَل لأحد به ولا طاقة، نسأل الله الكريم أن يتولانا والمسلمين بلطفه وإحسانه.

هذا وصلوا وسلموا...الخ .

المشاهدات 1785 | التعليقات 0