دليل النجاة

إبراهيم بن صالح العجلان
1439/11/07 - 2018/07/20 01:39AM

دليل النجاة

7/5/1439هـ

الخطبة الأولى:

إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: سَمِعَ مِنْ حَبِيبِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحَادِيثَ وَهِدَايَاتٍ، وَوَصَايَا وَتَوْجِيهَاتٍ، فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا، وَاسْتَنَارَ بِهَا وَاسْتَبْصَرَ فَحْوَاهَا.

سَمِعَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مِنْ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِدَّةَ أَحَادِيثَ فِي شَأْنِ الْفِتَنِ، تَعْصِفُ بِالْمُجْتَمَعِ، وَتُغَيِّرُ الْمَفَاهِيمَ.

فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، فَارْتَجَّ مِنْهَا قَلْبُ عُقْبَةَ، وَارْتَجَفَ لِهَوْلِهَا فُؤَادُهُ، وَاسْتَوْقَفَ نَبِيَّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَبْحَثُ عَنِ النَّجَاةِ مِنْهَا، وَحُقَّ لَهُ أَنْ يَقِفَ، فَجَاءَ الْجَوَابُ بِوَصَايَا عَظِيمَةٍ، وَهِدَايَاتٍ مُنْجِيَةٍ.

إِنَّهَا تَوْجِيهَاتٌ مِنْ مُشْفِقٍ عَظِيمٍ رَؤُفٍ بِأُمَّتِهِ كَرِيمٍ.

لَقِيَ عُقْبَةُ نَبِيَّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَمَا سَمِعَ مِنْ أَخْبَارِ الْفِتَنِ مَا سَمِعَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا النَّجَاةُ؟ فقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ".

كَلِمَاتٌ مَعْدُودَاتٌ يَعُدُّهَا الْعَادُّ، لَكِنَّهَا عَظِيمَةٌ فِي مَعْنَاهَا، كَبِيرَةٌ فِي مُحْتواها، هِيَ لَيْسَتْ لِعُقْبَةَ وَحَسْبُ، بَلْ هِيَ لَهُ وَلِمَنْ أَتَى مِنْ بَعْدِهِ، فَيَا سَعْدَ الْمُسْتَمْسِكِينَ بِهَا، وَيَا حَظَّ الْعَامِلِينَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ.

فَيَا مَنْ أَرَادَ السَّلَامَةَ وَالنَّجَاةَ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ: أَرْعِ لَنَا السَّمْعَ مَعَ هَذِهِ الْوَصَايَا الْمُحَمَّدِيَّةِ نَغُورُ فِي مَعَانِيهَا، وَنَسْتَكْشِفُ شَيْئًا مِنْ هِدَايَاتِهَا، (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى)[طه: 123].

أُولَى تِلْكَ الْوَصَايَا: يَا عَبْدَ اللَّهِ: "أَمْسِكُ عَلَيْكَ لِسَانَكَ".

وَالْمَقْصُودُ إِمْسَاكُ اللِّسَانِ إِلَّا عَنِ الْخَيْرِ، فَالذِّكْرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَالتَّوْجِيهُ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ، وَالصَّبْرُ عَلَيْهِ كُلُّ هَذَا مِنَ الْإِيمَانِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ الْإِيمَانُ إِلَّا بِهَذَا، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ"، (خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ).

فَطَبِيعَةُ الْفِتَنِ أَنَّهَا تَعْصِفُ بِالنَّاسِ فَيَلْتَبِسُ فِيهَا الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، وَتَكْثُرُ الشَّائِعَاتُ وَالْإِرْجَافَاتُ، وَتُفَسَّرُ الْكَلِمَةُ عَلَى غَيْرِ مَعْنَاهَا، فَيَنْخَدِعُ النَّاسُ بِالْكَاذِبِ فَيُصَدَّقُ، وَيُشَكُّ فِي الصَّادِقِ وَيُكَذَّبُ، وَيُوثَقُ بِالْخَائِنِ وَيُؤْتَمَنُ، وَيُخَوَّنُ الْأَمِينُ وَيُمْتَحَنُ، وَتُسْتَنْطَقُ الْأَصَاغِرُ وَالرُّوَيْبِضَاتُ وَيُسْتَكْتَبُونَ وَيُسْمَعُ لَهُمْ.

فِتَنٌ صَارِفَةٌ خَاطِفَةٌ، مَنِ اسْتَشْرَفَ لَهَا اسْتَشْرَفَتْهُ وَابْتَلَعَتْهُ.

فِتَنٌ عَاصِفَةٌ قَاصِفَةٌ، يَظْهَرُ فِيهَا الطَّمَعُ، وَيَرِقُّ الدِّينُ، وَتُبَاعُ فِيهَا الضَّمَائِرُ، وَتَتَغَيَّرُ مَعَهَا الْمَبَادِئُ.

فَخَطَرُ اللِّسَانِ فِي الْفِتَنِ سَرِيعٌ، وَشَرَارَتُهُ مُحْرِقَةٌ، وَنِهَايَتُهَا مُؤْسِفَةٌ، وَقَدِيمًا قَالَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ: فَإِنَّ النَّارَ بِالْعُودَيْنِ تُذْكَى *** وَإِنَّ الْحَرْبَ مَبْدَؤُهَا كَلَامُ

وَإِذَا كَانَ إِمْسَاكُ اللِّسَانِ مَطْلُوبًا شَرْعًا فِي كُلِّ حِينٍ، فأَكْثَرِ مَا يَلِجُ النَّاسُ بِهِ النَّارَ الْأَجْوَفَانِ الْفَمُ وَالْفَرْجُ" (خَرَّجَهُ أَحْمَدُ)، فَإنَّ رَبْطُ اللِّسَانِ زَمَنَ الْفِتَنِ أَوْجَبُ وَآكَدُ.

فَبِاللِّسَانِ تَتَكَاثَرُ السَّيِّئَاتُ، وَتَحِلُّ الْعُقُوبَاتُ وَالْخَطِيئَاتُ، وَغَضَبُ الْجَبَّارِ قَدْ يَتَنَزَّلُ لِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ.

بِاللِّسَانِ قَدْ يَهْوِي الرَّجُلُ سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي سَقَرَ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سَقَرَ.

فَسَلَامَةُ الْعَبْدِ أَنْ يَصُونَ كَلَامَهُ، وَيُعِفَّ لِسَانَهُ، فَلَا يَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ، وَلَا يَتَكَلَّمُ بِغَيْرِ عِلْمٍ مَعَ الْجَاهِلِينَ.

وَإِنِ احْتَاجَ الْمَرْءُ لِلْكَلَامِ فَلْيُكُنْ بِعِلْمٍ وَعَدْلٍ، (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا)[الْأَنْعَامِ: 152]، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْآخَرِينَ، أَوْ فِي تَقْيِيمِ الْحَوَادِثِ وَالنَّوَازِلِ، وَفِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)[الزُّخْرُفِ: 86].

وَمِنَ الْعِلْمِ: التَّثَبُّتُ مِمَّا يُقَالُ، ثُمَّ الْكَلَامُ بِعِلْمٍ وَعَدْلٍ عَمَّا يُقَالُ.

فَلَيْسَ مِنَ الْعَدْلِ بَخْسُ النَّاسِ أَشْيَاءَهُمْ، وَشَيْطَنَةُ أَفْعَالِهِمْ وَتَارِيخِهِمْ، وَدَفْنُ حَسَنَاتِهِمْ، وَالطَّعْنُ فِي نِيَّاتِهِمْ.

وَنَحْنُ -أَهْلَ السُّنَّةِ- أَرْحَمُ الْخَلْقِ بِالْخَلْقِ، وَأَعْدَلُ الْخَلْقِ مَعَ الْخَلْقِ، وَأَحْرَصُ الْخَلْقِ عَلَى جَمْعِ الْكَلِمَةِ وَرَدْمِ الْفُرْقَةِ وَالْجَفْوَةِ.

وَمِنَ الْعِلْمِ وَالْعَدْلِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ لَا يُخْتَلَفَ عَلَيْهِ، وَالَّتِي يَجِبُ أَنْ يُرْفَعَ بِهَا الصَّوْتُ وَيُؤَكَّدَ، الِاجْتِمَاعُ عَلَى مُحْكَمَاتِ الدِّينِ، وَتَعْظِيمِ الْحُرُمَاتِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ.

وَبِالْأَخَصِّ الْمُتَعَلِّقَةُ بِأَمْرِ الْعَامَّةِ، مِنْ حُرْمَةِ الدِّمَاءِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الظُّلْمِ، وَالْأَمْرِ بِالْعَدْلِ، وَحِفْظِ الْحُقُوقِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الْفَسَادِ بِكُلِّ أَنْوَاعِهِ.

فَأَمْسِكْ يَا عَبْدَ اللَّهِ لِسَانَكَ عَنْ نَشْرِ الشَّائِعَاتِ، وَإِشَاعَةِ الْمَسْتُورَاتِ.

أَمْسِكْ يَا عَبْدَ اللَّهِ الْكَلَامَ عَنْ غِيبَةِ الْخَلْقِ وَبُهْتَانِ الْأَنَامِ.

أَمْسِكْ لِسَانَكَ عَنْ فُحْشِ الْقَوْلِ، وَإِيذَاءِ النَّاسِ بِالْحَدِيثِ عَنْ عُيُوبِهِمْ وَمَثَالِبِهِمْ، وَرَجْمِهِمْ بِالتَّصْنِيفِ وَالتَّحْرِيضِ، وَالْبِدْعَةِ وَالتَّحْزِيبِ، "فَالْمُسْلِمُ مِنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ".

أَمْسِكْ لِسَانَكَ بِاسْتِشْعَارِ مُرَاقِبَةِ اللَّهِ الْقَائِلِ: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ)[الزُّخْرُفِ: 80].

أَمْسِكِ اللِّسَانَ عَمَّا لَا يَعْنِيكَ، "فَمِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ".

أَمْسِكِ اللِّسَانَ عَنِ الْحَدِيثِ بِكُلِّ مَا تَسْمَعُ: "فَكَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ".

أَمْسِكِ اللِّسَانَ بِوَزْنِ كَلِمَاتِكَ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ، وَأَمْسِكِ اللِّسَانَ بِكَثْرَةِ مُحَاسَبَتِكَ لِأَقْوَالٍ لَفَظْتَهَا كَانَتْ عَلَيْكَ لَا لَكَ.

أَمْسِكْ لِسَانَكَ عَنْ هَذَا كُلِّهِ بِكَثْرَةِ تَحْرِيكِ اللِّسَانِ فِي الْخَيْرِ وَالْقَوْلِ الْحَسَنِ، حَتَّى تُصْبِحَ الْكَلِمَةُ الْخَبِيثَةُ غَرِيبَةً مُسْتَقْبَحَةً عَلَى لَفْظِكَ وَمَنْطِقِكَ.

أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ مِنْ أَجْلِ نَجَاتِكَ، فَكُلُّ جَارِحَةٍ فِيكَ تُنَادِي اللِّسَانَ: "اتَّقِ اللَّهَ فِينَا؛ فَإِنَّكَ إِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا" (خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ).

وَمِمَّا يُعِينُ عَلَى إِمْسَاكِ اللِّسَانِ الْعَمَلُ بِالْوَصِيَّةِ النَّبَوِيَّةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي تَقُولُ: "وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ"؛ أَيْ: أَنْ يَنْشَغِلَ الْعَبْدُ بِخَاصَّةِ نَفْسِهِ، فَيَسْعَى فِي تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ، وَتَرْبِيَةِ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، وَإِصْلَاحِهِمْ وَحِفْظِهِمْ مِنْ كُلِّ انْحِرَافٍ فِكْرِيٍّ، أَوْ سُلُوكِيٍّ.

وَهَذَا الِانْشِغَالُ لَيْسَ هُوَ اعْتِزَالًا عَنِ الْمُجْتَمَعِ، بَلْ هُوَ إِصْلَاحٌ لِلْمُجْتَمَعِ، فَإِصْلَاحُ الْبَيْتِ وَتَرْبِيَةُ الْأَجْيَالِ هُوَ اللَّبِنَةُ الْأُولَى فِي الْإِصْلَاحِ، وَالْمَرْءُ -أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ- عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ خَاصَّةِ أَهْلِهِ، "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلَّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ".

وَكُلَّمَا كَانَ الْعَبْدُ مَشْغُولًا بِهَذَا الْعَمَلِ الْعَظِيمِ كَانَ أَبْعَدَ عَنِ الْفِتَنِ، وَحَالُهُ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِ الْخَائِضِينَ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي".

وَإِذَا لَزِمَ الْعَبْدُ شَأْنَهُ الْخَاصَّ وَأَصْلَحَ نَفْسَهُ وَبَيْتَهُ حَفِظَ دِينَهُ، وَأَشْرَقَتْ عَلَيْهِ شَمْسُ السَّعَادَةِ فِي دُنْيَاهُ، فَقَدِ اتَّقَى الْآفَاتِ وَالْإِيذَاءَ، وَصَانَ نَفْسَهُ عَنِ الْجِدَالِ وَالْمِرَاءِ، وَبِالْأَخَصِّ مَعَ شَرِيحَةٍ خُنْفُشَارِيَّةٍ مُتَعَالِمَةٍ، تَعْتَقِدُ أَنَّهَا الْأَفْهَمُ وَالْأَبْصَرُ فِي كُلِّ سَابِقَةٍ وَنَازِلَةٍ، وَشَارِدَةٍ وَوَارِدَةٍ.

وَقَوْلُهُ: "وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ" لَيْسَ هُوَ اعْتِزَالًا بِالْأَبْدَانِ، وَإِنَّمَا اعْتِزَالٌ فِي الْخَوْضِ فِي الْفِتَنِ الْمُلْهِيَةِ عَنِ الْخَيْرِ، وَإِلَّا فَالْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ.

بَلْ رُبَّمَا اعْتَزَلَ الْعَبْدُ الْفِتَنَ بِجَسَدِهِ وَانْغَمَسَ فِيهَا بِهَمِّهِ وَقَلَمِهِ وَلِسَانِهِ، فَرُبَّمَا نَاصَرَ بَاطِلًا بِمُكَالَمَةٍ، أَوْ نَشَرَ مُنْكَرًا بِرِسَالَةٍ، أَوْ هَتَكَ سِتْرًا بِتَغْرِيدَةٍ، أَوْ ظَلَمَ مَخْلُوقًا وَبَهَتَهُ عَبْرَ أَيِّ وَسِيلَةٍ، فَكَانَ بِهَذَا مِنَ الْخَائِضِينَ السَّاعِينَ إِلَى الْفِتَنِ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، أَوْ مَكْتَبِهِ.

وَيَكْفِي اعْتِزَالُ الْفِتَنِ وَالِانْشِغَالُ بِالشَّأْنِ الْخَاصِّ خيراً أَنْ يَزْدَادَ الْمَرْءُ ثَبَاتًا عَلَى دِينِهِ، فَلَا أَغْلَى مِنَ الْحِفَاظِ عَلَى جَوْهَرَةِ الدِّينِ فِي زَمَنِ اسْتِرْخَاصِ الدِّينِ.

فَلُزُومُ الْمَسْكَنِ وَالِانْشِغَالُ بِالشَّأْنِ الْخَاصِّ هُوَ الْأَمَانُ وَالْمَلَاذُ وَالنَّجَاةُ، وَقَدِيمًا نَصَحَتِ النَّمْلَةُ الْحَكِيمَةُ قَوْمَهَا حِينَ اسْتَبْصَرَتِ الْمِحْنَةَ: (ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)[النَّمْلِ: 18].

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ...

 

الخطبة الثانية:

أَمَّا بَعْدُ فَيَا أَهْلَ الْإِيمَانِ: وَتَأْتِي خَاتِمَةُ الْوَصَايَا لِتَقُولَ لِمَنْ رَامَ النَّجَاةَ: "وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ"، لِمَاذَا؟

لِأَنَّ مِنْ طَبِيعَةِ الْفِتَنِ انْشِغَالَ النَّاسِ فِيهَا، وَالْتِهَاءَهُمْ بِهَا، فَالْكُلُّ مَشْغُولٌ بِمُتَابَعَةِ الْمَزِيدِ، وَالْخَوْضِ فِي تَحْلِيلِ الْجَدِيدِ، وَمَعَ كُلِّ خَبَرٍ تَتَعَدَّدُ الرُّؤَى، وَتَزِيدُ التَّحْلِيلَاتُ وَالظَّنِّيَّاتُ، ورُبَّمَا انْشَغَلَتْ شَرِيحَةٌ بِخَلْقِ اللَّهِ وَأَفْعَالِهِمْ وَتَقْوِيمِهَا أَوْ تَقْزِيمِهَا، مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يُخْلَقُوا لِهَذَا، وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِهَذَا، وَلَنْ يُسْأَلُوا عَنْ هَذَا.

وَمَعَ هَذَا الْحَالِ وَذَاكَ الِانْشِغَالِ تَقِلُّ الْعِبَادَةُ، وَتَنْدُرُ الْمُحَاسَبَةُ، وَيَسْتَكْثِرُ النَّاسُ النَّصِيحَةَ، وَتُسْتَغْرَبُ الدَّعْوَةُ لِلتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ لِكَشْفِ الْبَلَاءِ وَالْغُمَّةِ، وَلِذَا كَانَ مِنْ خَيْرِ الْأَعْمَالِ -زَمَنَ الْفِتَنِ- هُوَ الِاشْتِغَالُ بِالْعِبَادَةِ، وَمِنْهَا النَّدَمُ عَلَى التَّقْصِيرِ، وَالْبُكَاءُ عَلَى الْخَطَايَا، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ" (خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ).

وَبِقَدْرِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْإِيمَانِ يَكْفِي اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الشُّرُورَ، (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا)[آلِ عِمْرَانَ: 120]، لِذَا كَانَ السَّلَفُ يَقُولُونَ: "عَلَى قَدْرِ الْعُبُودِيَّةِ تَكُونُ الْكِفَايَةُ".

وَفِي الْوَصِيَّةِ الثَّالِثَةِ دَلَالَةُ أَلَّا يَغْتَرَّ الْعَبْدُ بِثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ، فَهُوَ أَدْرَى بِعُيُوبِهِ وَخَطِيئَاتِهِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ.

وَفِي الْأَمْرِ بِالْبُكَاءِ عَلَى الْخَطِيئَةِ إشارة لتَعْظِيمُ الْخَطَايَا وَعَدَمُ اسْتِحْقَارِ الذُّنُوبِ، وَأَنَّ مِنَ الْخَيْرِ لِلْعَبْدِ أَنْ يَسْتَشْعِرَ ذَنْبَهُ، وَيُفَتِّشَ عَيْبَهُ، وَيُصَارِحَ نَفْسَهُ، فَدَمْعَتُكَ -أَيُّهَا النَّادِمُ- لَا يَمْسَحُهَا إِلَّا أَنْتَ، وَمُحَاسَبَتُكَ وَمُصَارَحَتُكَ لِنَفْسِكَ فِي خَلْوَتِكَ لَنْ يُحَاكِمَكَ فِيهَا أَحَدٌ، وَلَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهَا إِلَّا الْوَاحِدُ الْأَحَدُ، فَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ، لِتَكُونَ بِهَا وَمَعَهَا نَجَاتُكَ.

فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ عَقِلَ عَنْ نَبِيِّهِ هَذِهِ الْوَصَايَا أَنْ يَمْتَثِلَهَا وَيَسْتَمْسِكَ بِهَا، لِيَحْفَظَ اللَّهُ لَهُ دِينَهُ وَدُنْيَاهُ مِنْ نَارِ الْفِتَنِ وَشَرَرِهَا، وَدُخَانِهَا وَسَمُومِهَا، (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)[فُصِّلَتْ: 35].

صَلُّوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى خَيْرِ الْبَرِيَّةِ، وَأَزْكَى الْبَشَرِيَّةِ...

المرفقات

النجاة-مشكلة

النجاة-مشكلة

المشاهدات 2437 | التعليقات 0