أخبار الفتن والمفتونين

ابراهيم الهلالي
1439/10/21 - 2018/07/05 21:40PM

الحمد لله المُتفرِّد بكل كمال، والمُتفضِّل بجزيل النوال، فله الحمدُ على كل حال، وفي كل حال، أحمدُه – سبحانه – وأشكرُه، وأُثنِي عليه بما هو أهلُه يبتدِئُ بالإحسان قبل السؤال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تنزَّه عن الأشباه والأنداد والأمثال، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه المنعوتُ بعظيم الخُلُق وشريف الخِصال، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى أصحابِه الغُرِّ الميامين خيرِ صحبٍ، وآله السادة الطاهرين الطيبين خيرِ آل، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم المآل، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

 أما بعد: فأُوصيكم – أيها الناس – ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله – رحمكم الله -، )وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ).

     أيها المسلمون: إن من منَّة الله على أهل الإسلام: أن وحَّد لهم مصدرَ التلقِّي، فلا تذبذُب ولا اضطراب في تلقِّي حقائق العقائد والأحكام وسُبل الهدى، المصدر: هو الوحي المعصوم الثابت من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه، وما صحَّ من سنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، يُؤمنُ أهل الإسلام بكل ما ثبتَ به اللفظ وصحَّ به الخبر فيما هو شاهد وفيما هو غائب، ما عقَلناه وما جهِلناه، ما أحطنا بحقائقه وما لم نُحِط، ومن طلبَ الحق في أمور الدين من الأحكام والعقائد والهُدى من غير هذا المصدر فقد ضلَّ سواء السبيل.

     ومن ظنَّ أنه يعتمِد على فهمه في هذه النصوص والأخبار دون النظر في فهمِ السلف الصالحين وأهل العلم الأثبات الراسخين، وأن فهمَه مُقدَّمٌ على فهومهم فقد سلكَ المسالكَ المُعوَجَّة.

     يُقال ذلك -أيها المسلمون- ويُقرَّر حين يكون الحديثُ عن الفتن وتبيُّنها وأخبار الملاحِم وأنباء الحوادث الكُبرى، أخبارٌ وأنباءٌ تتعلَّق النفوس بها وتبحث عن تأويلها وأوقات حُدوثها ومواعيد وقوعها، وهناك فتن خاصة وعامة، صغيرة وكبيرة، عاجلة وآجلة وكلَّها العاصمُ منها هو الله سبحانه وحده.

    وقد قال المولى تعالى في التحذير منها، وبيان عمومِ الضَّرر بها: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) وقولُ نبيِّنا -صلواتُ الله وسلامه عليه-: "ستكونُ فتنٌ القاعِدُ فيها خيرٌ من القائِم، والقائمُ فيها خيرٌ من الماشِي، والماشِي فيها خيرٌ من السَّاعِي، ومن تشرَّف لها تستشرفه". أي: تُهلِكُه، بأن يُشرِفَ منها على الهلاك. وحاصِلُه: أنَّ من تعرَّض لها بشخصِه تعرَّضَت له بشرِّها.ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: "ومن وجدَ ملجَأً أو معاذًا فليَعُذْ به". أي: فليلْجَأْ إليه. أخرجه الشيخان في صحيحيهما.

     وقولُه -عليه الصلاة والسلام-: "بادِرُوا بالأعمال فِتَنًا كقِطع الليل المُظلِم، يُصبِحُ الرجلُ مؤمنًا ويُمسِي كافرًا، أو يُمسِي مؤمنًا ويُصبِحُ كافرًا، يبيعُ دينَه بعَرَضٍ من الدنيا". أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

ولا ريبَ أن معرفةَ حقيقة الفتنةِ أصلُ درءِ خطرِها، وصون النفس عن الاصطِلاء بنارِها.

    والفتنةُ -كما قال ابن القيم رحمه الله- نوعان: "فتنةُ الشُّبهات -وهي أعظمُ الفتنتَيْن-، وفتنةُ الشَّهوات. وقد يجتمِعان للعبد، وقد ينفرِدُ بإحداهما. ففتنةُ الشُّبُهات ناشِئةٌ من ضعفِ البصيرة، وقِلَّة العلم، لا سيَّما إذا اقترنَ بذلك فسادُ القصد، وحُصولُ الهوَى، فهنالك الفتنةُ العُظمى، والمُصيبةُ الكُبرى".

فقُل ما شئتَ في ضلال سيِّئ القصدِ الذي حكَمَ عليه الهوَى لا الهُدى، مع ضعفِ بصيرتِه، وقِلَّة علمِه بما بعثَ اللهُ به رسولَه -صلى الله عليه وسلم-؛ فهو من الذين قال الله تعالى فيهم) :إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ) وقد أخبرَ الله -سبحانه- أن اتِّباعَ الهوى يُضِلُّ عن سبيلِه فقال:  (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ(.

    وهذه الفتنةُ -يا عباد الله- مآلُها إلى الكفر والنِّفاق، وهي فتنةُ المنافقين وفتنةُ أهل البِدَع على حسب مراتبِ بدَعهم، ولا يُنجِّي من هذه الفتنة إلا تجريدُ اتِّباع الرسُول -صلى الله عليه وسلم- وتحكيمُه في دقِّ الدين وجِلِّه، ظاهره وباطنِه، عقائِدِه وأعمالِه، حقائِقِه وشرائِعِه.

     فيُتلقَّى عنه -عليه الصلاة والسلام- حقائقُ الإيمان وشرائعُ الإسلام، وما يُثبِتُه لله من الصفاتِ والأفعال والأسماء، وما ينفِيه عنه، كما يُتلقَّى عنه وجوبُ الصلوات وأوقاتُها وأعدادُها، ومقاديرُ الزكاة ومُستحقُّوها، ووجوبُ الوضوء، وصومُ رمضان، وحجُّ البيت لمن استطَاع إليه سبيلاً، وغيرُ ذلك من شرائع الإسلام.

     فلا يجعلُه رسولاً في شيءٍ دون شيءٍ من أمور الدين؛ بل هو رسولٌ في كل شيءٍ تحتاجُ إليه الأمةُ في العلم والعمل، لا يُتلقَّى إلا عنه، ولا يُؤخَذُ إلا منه -عليه الصلاة والسلام-.

     وأما النوعُ الثاني من الفتنة: فهي فتنةُ الشَّهوات. وقد جمع -سبحانه- بين ذكرِ الفِتنتَيْن في قوله -عزَّ اسمُه: (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ) ؛ أي: تمتَّعوا بنصيبِهم من الدنيا وشهَواتِها، والخلاقُ هو النَّصيبُ المُقدَّر، ثم قال: (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا)، فهذا الخوضُ بالباطلِ وهو الشُّبُهات.

    فأشارَ -سبحانه- في هذه الآية إلى ما يكونُ به فسادُ القلوب والأديان من الاستِمتاع بالخلاقِ والخوضِ في الباطل؛ لأن فسادَ الدين إما أن يكون باعتِقاد الباطلِ والتكلُّم به، أو بالعمل بخلافِ العلمِ الصحيح.

     وأصلُ كلِّ فتنةٍ إنما هو من تقديمِ الرأي على الشرع، والهوى على العقل، وتقديمُ الرأي على الشرع أصلُ فتنةِ الشُّبهة، وتقديمُ الهوى على العقل أصلُ فتنةِ الشَّهوة. وفتنةُ الشُّبهات تُدفعُ باليقين، وفتنةُ الشَّهوات تُدفَعُ بالصبر.

     ولذلك جعلَ -سبحانه- إمامةَ الدين منوطةً بهذَين الأمرَيْن؛ فقال -عز وجل: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) ، وهو دليلٌ على أنه بالصبر واليقين تُنالُ الإمامةُ في الدين، ودليلٌ أيضًا على أن فتنةَ الشَّهوة تُدفَعُ بكمال العقل والصبر، وأن فتنةَ الشُّبهة تُدفَعُ بكمال البصيرةِ واليقينِ؛ أي: بما جاء عن الله من البيِّنات والهُدى.

فإذا عُلم وقع الفتن في كل زمان، وكثرتها في آخر الزمان، فالسؤال المهم: ما هي أسباب الفتن ودواعي المصائب؟ وما علاقة أهل الزمان بقلة الفتن أو كثرتها؟.

نجد الإجابة واضحةً في كتاب الله، فكلما انتشر الفساد وظهرت المنكرات وعمّت، وغاب المصلحون والمنكرون، وكثر الطالحون على حساب الصالحين، كلما اشتدت المصائب، واستحكمت الفتن، قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(

ويقول تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) ، ويقول تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).

     وهنا ملحظ لابد من التنبيه عليه حيث أن كثيرين من المسلمين يظنون أن الفتن تفرض عليهم وتأتي من غيرهم فحسب، وهذا ليس على كل حال بل أصل الفتن قد تأتي من المرء تارة، ومن تعرضه للفتن تارة، وتأمل أخي المسلم في آيات سورة الأعراف بين أثر الإيمان والتقوى، وآثار التكذيب والمعاصي والذنوب، يقول تعالى عن الأولى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) ثم يقول عن الأخرى: (وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ). ثم يقول تعالى: (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ). وهذا يعني ياعباد الله أن أهل الزمان هم المسؤولون عن المصائب والذنوب إذا فسدوا، وهم المستفيدون من آثار البركات والخيرات إذا صلحوا، وكلّ واحدٍ منهم بسلوكه الشخصي يُساهِمُ في إصلاح المجتمع وإفساده، ويتحمّل كِفْلَاً من تبعةِ هذا الفساد إذا كان من المفسدين، وله نصيبه من الأجر إن كان من المصلحين.

فاتقوا الله -عباد الله-، وحَذارِ ثم حذارِ من فتنِ الشُّبهات وفتنِ الشَّهوات.اللهم إنا نسألك الثَّباتَ على دينِك، والاستِقامةَ على شرعِك، ونسألُك أن تقِيَنا من مُضِلاَّت الفِتَن، إنك سميعٌ مُجيبُ الدعاء.

نفعَني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسُنَّة نبيِّه -صلى الله عليه وسلم-، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنبٍ، إنه كان غفَّارًا.

الخطبة الثانية

      الحمد لله أعادَ وأبدَى، وأنعمَ وأسدَى، أحمدُه – سبحانه – وأشكرُه، لا أُحصِي لآلائِه عدًّا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً خالصةً مُخلِصة أتخذُ بها عند الرحمن عهدًا، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه أكرِم به رسولاً وأنعِم به عبدًا، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِهِ وأصحابِه كانوا أقومَ سبيلاً وأهدى، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا دائمًا أبدًا سرمدًا. أما بعد:

    فيا أيها المسلمون: في أجواء الفتن وخضَمِّ الاضطرابات يحسُن التذكيرُ ببعضِ معالِم منهج السلف الصالِح أهل السنة والجماعة. فمن معالِم هذا المنهَج: أنهم يلتزِمون مُقتضَى الدليل، والمصلَحة الشرعيَّة في جهادِهم ودعوتهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيِهم عن المُنكر، ومواقِفهم من أهل البِدع، بداعِي النُّصح لله ولرسوله ولجماعة المؤمنين، وليس بداعي الانتقام والتشفِّي والتشهير.

 يستُرون عيوبَ المُسلمين، ولا يتتبَّعون عوراتهم، ولا يذكُرون أخطاءَ أهل العلم إلا لبيان الحق، مع لزوم الأدب، وحفظِ حقِّ كل ذي حقٍّ، ويلتمِسُون العُذر ما أمكَن؛ ذلكم أن من قلَّة الدين والفقه والورع وقِصَ النظر الظنَّ بأن المُخالِفَ تسقُطُ حقوقُه الشرعية، أو أن العدلَ معه ضعف.

 وإن من المُستقرِّ لدى أهل السنة والجماعة قد يُؤيِّد الدينَ بالرجل الفاجِر، وبأقوامٍ لا خلاقَ لهم، ولاسيَّما في حال الاضطراب والفتن.

 ومن معالِم منهجِهم – منهج السلف الصالِح أهل السنة والجماعة -: أن البِدع كسائر الذنوب، فيها الصغير والكبير، والظاهر والمُشتبِه، والمحفوظُ من حفِظَه الله. أما المُخالفةُ بالتأويل والخطأ والجهل فسِيمةُ أكثر الخلق.

 وإن من الدين والورع – حفظكم الله -: أن يتَّهم المرءُ نفسَه، ولاسيَّما ذوو الصلاح والعلم والفضل، ويُفتِّش في عيوبِه، وينشغِل بها؛ حفاظًا على إيمانه، وخوفًا على نفسِه، ويقبلُ الحقَّ ممن جاء به.

 نعم، إن أهل السنة والجماعة هم أكثرُ الناس ازدِراءً لأنفسهم، وأبعَدهم عن الكمال، لا يُزكُّون أنفسَهم لا بالألقاب، ولا بالشِّعارات، )لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ).

 يقبَلون توبةَ التائب، واعتِذارَ المُعتذِر، ويرجُون للمُحسِن، ويخافُون على المُسيء، ولا يفرَحون لعثَرات العاثِرين، ولا يُحبُّون وقوعَ العُصاة في المعاصِي، ويدعُون لصاحِب المعصيَة بالهداية، ويفقَهون معنَى الجهاد مع كل برٍّ وفاجِر في جهاد الميدان، وجهاد السياسة، وجهاد العلم، وجهاد الدعوة؛ لأن المقصود النِّكايةُ بالعدو المُستَبين.

 لا يبخَسون الناسَ أشياءَهم، يرتكِبون أخفَّ الضرَرين، ويجتنِبون أكبرَ المفسدَتَين، ويصبِرون على أهوَن الشرَّين، ويختارُون أيسرَ الأمرَين.

 والمُوالاةُ والمُعاداةُ في منهَجهم تكونُ على حقائِق، لا على الدعاوَى والأسماء. لا يشقُّون عن القلوب، ولا يُنقِّبون عن السرائر، ولا يُسيئون الظُّنُون، ويسألون الله ألا يجعل في قلوبهم غلاًّ للذين آمنوا.

 أقوياء في الحقِّ من غير غلُوٍّ، ورُحماءُ بالخلق من غير تهَاوُنٍ، وأشدَّاءُ على أهل الضلال من غير تعسُّفٍ ولا جَور.

 أهل السنة والجماعة مُتَّحِدون في منهَجهم وغاياتهم ومسلَكهم، مُتنوِّعون في مقاماتهم ومنازِلهم. فيهم العالِم، وفيهم المُجاهِد، وفيهم رجلُ الدعوة، وفيهم المُحتسِب، وكل من لم يلتبِس ببِدعةٍ فهو منهم.

 وسبيلُ الاتباع أقوَمُ السُّبُل وأهداها، وهو أرحبُها وأوسعُها، وقد وسِع ذلك السابقين من المهاجرين والأنصار والأعراب، ومُسلِمة الفتح، والطُّلقاء. وفي ذلك مراتِبُ من مقامات الإيمان ما لا يعلمُه إلا الله، على حدِّ قولِه – عزَّ شأنُه: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ).

 فيحمِلُ بعضُهم بعضًا على هذا السبيل، كلُّهم – بفضل الله ورحمته – إلى حُسن العاقبة صائِرون.

 ألا فاتقوا الله – رحمكم الله -، واعلَموا أن الفتن لا يتكلَّم فيها إلا أهلُ العلم والبصيرة؛ فإنهم إذا تكلَّموا فيها ورجَع الأمرُ إليهم انطفَأَت الفتن – بإذن الله – واضمحَلَّت، أما إذا خاضَ فيها الجُهَّال من حُدثاء الأسنان وسُفهاء الأحلام، والمجهولون خلف الأسماء المستعارة في وسائل التواصل، فسوف يزدادُ خطرُها، ويعظُمُ شرُّها، ويستطالُ شررُها.

 ومن هنا حذَّر السلفُ الخوضَ فيها: يقول الإمام أحمد – رحمه الله -: "الإمساكُ في الفتن سنةٌ ماضية، وأحبُّ لُزومَها؛ فإن ابتُليتَ فقدِّم نفسَك دونَ دينِك، ولا تُعِن على فتنةٍ بيدٍ ولا لسانٍ، ولكن اكفُف يدكَ ولسانَك وهواك، والله وحدَه هو المُعين". ومن المخارج العظيمة في الفتن الدعاء والتضرع لرب البرية أن يكشف البلية ففي صحيح البخاري عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: استيقظ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة فزعاً يقول: "سبحان الله! ماذا أنزل الله من الخزائن، وماذا أنزل من الفتن، من يوقظ صواحب الحجرات -يريد أزواجه- لكي يصلين؟ ".قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: وفي الحديث الندب إلى الدعاء والتضرع عند نزول الفتن، ولا سيما في الليل لرجاء وقت الإجابة لتكشف أو يسلم الداعي ومن دعا له.

    كما يجدر بالمسلم في أوقات الفتن الإكثار من العبادة، فللعبادة بشكل عام وأوقات الفتن بشكل خاص منزلة عظيمة، حتى قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "العبادة في الهرج كهجرة إلي".

والذي يظهر -والله أعلم- أن أوقات الفتن يضطرب الناس، وتنشغل القلوب، وتكلّ النفوس، وبالتالي ينشغل الناس عن بعض العبادات؛ ولذا أرشد المصطفى -صلى الله عليه وسلم- إليها لأن الملتفت إليها قليل، أو لما فيها -بإذن الله- من دفع الغوائل ورفع الكربات لما تشتمله على ذكر وتضرع لله تعالى، ولجوء إليه وحده، فهو كاشف البليات. نسأل الله أن يدفع عنا وعن المسلمين الفتن ما ظهر منها وما بطن.

 هذا، وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم، فقال عزَّ قائلاً عليمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).

المشاهدات 1067 | التعليقات 0