رمضان ربيع المؤمن

ناصر محمد الأحمد
1439/08/28 - 2018/05/14 04:37AM

رمضان ربيع المؤمن

3/9/1439ه

د. ناصر بن محمد الأحمد

الخطبة الأولى :

إن الحمد لله ..

أما بعد: أيها المسلمون: نحمد الله جل وعلا على أن بلّغنا جميعاً شهر رمضان، فالحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. ووصلت البشارة إلى المنقطعين بالوصل، وإلى المنيبين بالعفو، والمستوجبين النار بالعتق، فيا غيوم الغفلة عن القلوب تقشَّعي، ويا شموس التقوى والإيمان اطلعي، ويا صحائف أعمال الصائمين ارتفعي، ويا قلوب الصائمين اخشعي، ويا أقدام المتهجِّدين اسجدي لربك واركعي، ويا عيون المجتهدين لا تهجعي، ويا ذنوب التائبين لا ترجعي، ويا أرض الهوى ابلعي ماءك ويا سماء النفوس أقلعي، قد مُدَّت في هذه الأيام موائد الإنعام للصُوَّام، فما منكم إلاَّ مَن دُعِي، فيا همم المؤمنين أسرعي.

بين الجوانح في الأعماق سكناهُ                 فكيف أنسى ومَنْ في الناس ينساهُ

في كل عامٍ لنا لُقْيا مُحَبَّبةٌ                 يهتزُّ كل كياني حين ألقاهُ

بالعين بالقلب بالآذان أرقبه             وكيف لا وأنا بالروح أحياهُ

والليل تحلو به اللُّقيا وإن قصرت         ساعاتها ما أحيلاها وأحلاهُ

وكلهم بات بالقرآن مندمجاً              كأنه الدم يسري في خلاياه

فالأُذن سامعةٌ والعين دامعةٌ             والروح خاشعة والقلب أَوَّاهُ

عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً: "افعلوا الخير دهرَكم، وتعرَّضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده". أخرجه الطبراني بإسناد صحيح.

من رُحم في رمضان فهو المرحوم، ومن حُرِم خيره فهو المحروم، ومَن لم يتزوَّد لمعاده فهو الملوم، والناصح لنفسه لا تخرج عنه مواسم الطاعات وأيام القربات عُطْلاً، فإن الأبرار ما نالوا البرَّ إلاّ بالبرِّ.

الصوم: لا عدْل له ولا مثل، والصوم عنوانه الإخلاص، والتقوى حكمة الصوم العليا، قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون) (البقرة: 183).

فإعداد القلوب للتقوى والخشية من الله تعالى الغاية الكبيرة من الصوم، وصوم رمضان شعور بقيمة الهدي الزاخر لهذه الأمة: (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون) (البقرة: 185).

والصوم: إعداد للأمة التي فُرِض عليها الجهاد والقوامة والسيادة على البشرية. والصوم: يحيي المراقبة لله تعالى في النفوس، والصائمون هم السائحون.

والصوم: أضافه الله إلى نفسه تعالى من دون العبادات، تشريفاً لقدره وتعريفاً بعظيم فخره.

وفي الصوم: رفعة الدرجات، فإن الكريم إن كان بنفسه المتولِّي للجزاء دلَّ هذا على شرف العطاء وسرعته، والله تعالى وملائكته يصلُّون على المتسحِّرين. والصوم: كفارة للخطيئات، وجُنّة من النار.

والصوم: في الصيف يُورث السُّقيا يوم العطش الأكبر، وفي الشتاء الغنيمة الباردة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرَّيَّان باب في الجنة لمعاشر الصوَّام، لا يدخل معهم أحدٌ سواهم، فإذا دخلوا أُغلق من ورائهم، من دخل فيه شرب، ومن شرب لا يظمأ أبداً، فطوبى لمن أظمأ نفسه ليوم الريِّ الكامل، طوبى لمن جَوَّع نفسه ليوم الشِّبَع الأكبر، طوبى لمن ترك شهوات حياة عاجلة لموعدِ غيبٍ لم يَرَه، متى اشتد عطشك إلى ما تهوى، فابسط أنامل الرجاء إلى من عنده الريّ الكامل، وقل:

وقد صمتُ عن لذّات دهريَ كلها              ويوم لقاكم ذاك فِطْرُ صيامي

الصوم: سبيل إلى الجنات، قال صلى الله عليه وسلم: "من خُتم له بصيام يوم دخل الجنة" حديث صحيح. وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ في الجنة غُرفاً يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدَّها الله لمن أطعم الطعام، وألان الكلام، وتابع الصيام، وصلى الليل والناس نيام". رواه أحمد وابن حبان.

الصوم: يشفع لصاحبه يوم القيامة، ودعوة الصائم لا تُرَدُّ، فهي مستجابة. والصوم وقيام الليل شعار الأبرار، وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، وخُلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك.

الصوم: رقَّة للقلب وصيانة للجوارح، وجُنَّةٌ من المعاصي، وتوفير للطاعات، وتكثير للصدقات، وإحسان إلى ذوي الحاجات، لأنه إذا صام وشعر بألم الجوع سارع إلى إطعام الجائعين.

فطوبى لقوم عرفوا معنى الصوم، فدفعهم صوم رمضان إلى الإكثار من صوم النافلة فكان رمضانهم دائماً وشوّالهم صائماً قائماً.

قال صلى الله عليه وسلم: "من صام يوماً في سبيل الله بعَّد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً" رواه البخاري ومسلم. وأخرج الترمذي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض". فما مات عمر رضي الله عنه حتى سرد الصوم، وقُتل عثمان رضي الله عنه وهو صائم، وصام داود بن أبي هند مفتي أهل البصرة أربعين سنة لا يعلم به أهله، وكان خزّازاً يحمل معه غداءه، فيتصدّق به في الطريق.

أيها المسلمون: قال الله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْءَانُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَان) (البقرة: 185)، وقال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِين) الدخان: 3. نزل القرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في ليلة القدر من شهر رمضان، ثم أُنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم على ما أراد الله إنزاله إليه. وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان، وأُنزلت التوراة لستٍّ مضت من رمضان، وأُنزل الإنجيل لثلاث عشرة مضت من رمضان، وأُنزل الزبور لثماني عشرة خلت من رمضان، وأُنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان" رواه أحمد.

وكان السلف يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة وغيرها. قال ابن رجب رحمه الله: "كان الأسود يختم القرآن في رمضان كل ليلتين، وكان يختم في غير رمضان في كل ست ليالٍ، وكان قتادة يختم القرآن في كل سبع ليالٍ مرة، فإذا جاء رمضان يختم في كل ثلاث ليالٍ مرة، فإذا جاء العشر يختم في كل ليلة مرة، وكان النخعي يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصة، وفي بقية الشهر في ثلاث. وقال عبد الرزاق: كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن.

أيها المسلمون: ورمضان شهر التراويح والتهجُّد: وكم من فوائد ومعانٍ في التهجد والتراويح. قال صلى الله عليه وسلم: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه" أخرجه أصحاب الكتب الستة.

وهذا فيضُ الكريم وجوده يسوقه صلى الله عليه وسلم، وفيه الغُنْمُ كل الغُنْم: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأدَّيتُ الزكاة، وصمتُ رمضان وقمتُه، فمِمَّن أنا؟ قال: من الصِّدِّيقين والشهداء" أخرجه البزار وابن حبان وهو صحيح. وما زاد الصحابي الجليل على أركان الإسلام إلا قيام رمضان واستحق بهذه الزيادة اسم الصِّديق والشهيد.

كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا دخل أول ليلة من رمضان يُصلي المغرب ثم يقول: "أما بعد، فإن هذا الشهر كُتب عليكم صيامه، ولم يُكتب عليكم قيامه، فمن استطاع منكم أن يقوم فليقم، فإنها نوافل الخير التي قال الله".

ومن قام مع إمامه حتى ينصرف كُتب له قنوت ليلة. جاء في حديث أبي ذر رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم: "من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة" رواه الترمذي.

وعن أبي إسحاق الهمداني قال: خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أول ليلة من رمضان والقناديل تزهر في المسجد، وكتاب الله يُتلَى، فجعل ينادي: نوَّر الله لك يا ابن الخطاب قبرك كما نوَّرت مساجد الله بالقرآن!.

فاتقِ الله في عمرك، وأقبل على صلاة التروايح يُقبل الله عليك، وانظر إلى سلفك من الصحابة رضي الله عنهم.

 

بارك الله ..

الخطبة الثانية:

الحمد لله ..

أما بعد: أيها المسلمون: في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان جبريل يلقاه كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة" ، وزاد أحمد في آخره: "لا يُسأل عن شيء إلاَّ أعطاه".

ورمضان شهر مضاعفة الأعمال، فعمرة في رمضان كحجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسارع يا أخي إلى إطعام البطون الجائعة. فقد روى ابن أبي الدنيا والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الأعمال أن تُدخل على أخيك المؤمن السرور، أو تقضي عنه دَيْناً، أو تُطعمه خبزاً". جاء سائل إلى الإمام أحمد فدفع إليه رغيفَيْن كان يعدُّهُما لفطره ثم طوى وأصبح صائماً.

لا تقعدنّ لذكرنا في ذكرهم              ليس الصحيح إذا مشى كالمقعدِ

أيها المسلمون: رمضان شهر تكفير الذنوب، وشهر فتح أبواب الجنان، وشهر غلق أبواب النيران، وشهر الصبر والتربية، وشهر الشكر والدعاء المستجاب، وشهر مضاعفة الأجر، وشهر تصفيد الشياطين، وشهر غُنْم للمؤمن ونقمة للفاجر، وشهر تربية المجتمع.

رمضان شهر ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر؟ ليلة القدر خير من ألف شهر.

ورمضان شهر الجهاد والفتوحات، وشهر النصر في يوم بدر، وشهر فتح مكة وهدم الأصنام كلها، وشهر معركة البويب والانتصار العظيم فيها للمسلمين على جبهة العراق، وشهر فتح بلاد النوبة، وفتح جزيرة رودس، وفتح الأندلس وجنوب فرنسا، وشهر فتح عمورية، وموقعة حارم والنصر الشهير فيها لنور الدين محمود زنكي، وشهر فتح أنطاكية، والنصر في عين جالوت، وفتح أرمينيا الصغرى، وشهر النصر في معركة شقحب، وفتح البوسنة والهرسك، وشهر فتح بلغراد على يد السلطان سليمان القانوني، وشهر فتح بلاد الحبشة.

فيا له من شهر هو سيد الشهور، وتاجٌ على مفرق الأيام والدهور، سلّمه الله لنا، وتسلَّمه منا متقبلاً بمنّه وكرمه آمين!.

أنفاسَك أنفاسَك في هذا الشهر أوقفها على طاعة الله، واملأ خزائنك في الآخرة في هذا الشهر من البرِّ، عساك تنعم بالقرب من مولاك، والنظر إلى وجهه الكريم في الفردوس الأعلى في جنات النعيم.

 

اللهم ..

المشاهدات 1651 | التعليقات 0