دَهَالِيزُ الإِفْسَادِ

يوسف العوض
1439/08/09 - 2018/04/25 10:37AM
الخطبة الأولى:
الحمّد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، إله الأولين والآخرين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله ربه رحمة للعالمين صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين ، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾
عباد الله: إنّ إشغال الناس بالباطل، وإلهاءهم عن الحقِّ بكل أشكاله، وإغراقهم في حياة اللهو والتفاهة والانحلال وإفسادهم بفنون مختلفة من الملهيات مصيبة كبرى وجريمة عظمى! لأنهم يجعلون الناس يعيشون وهم موتى ؛ فلا يبقى لديهم وقت ولا عقل ولا قلب يتعبدون لله ولا يتلذذون فيه بطاعة الله.
وهذه الحيلة الشيطانية المفسدة للبشر والملهية للنفوس والمشغلة للقلوب قديمة فقد ابتكر كفار قريش ما يُسَمَّى بالإعلام المضاد لدين الإسلام،وتولى كبره رأس الخبث وعميل الشيطان المفسد المكار النضر بن الحارث لعنه الله فقد قام بإعلام مضادٍّ وبصورة غير مباشرة حيث لم يطعن مباشرة في الإسلام ؛ بل عَمِل على تقديم مشهيات وملهيات للناس، تشغلهم في نهارهم وليلهم؛ بل في نومهم وأحلامهم.
روى البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما وذكر القصة الذهبي وابن إسحاق وابن هشام : أن النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدَّار بن قصيٍّ، قام فقال: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّهُ وَاللهِ لَقَدْ نَزَلَ بِكُمْ أَمْرٌ مَا ابْتُلِيتُمْ بِمِثْلِهِ، لَقَدْ كَانَ مُحَمَّدٌ فِيكُمْ غُلاَمًا حَدَثًا أَرْضَاكُمْ فِيكُمْ وَأَصْدَقَكُمْ حَدِيثًا وَأَعْظَمَكُمْ أَمَانَةً حَتَّى إِذَا رَأَيْتُمْ فِي صُدْغَيْهِ الشَّيْبَ، وَجَاءَكُمْ بِمَا جَاءَكُمْ قُلْتُمْ: سَاحِرٌ. لاَ وَاللهِ مَا هُوَ بِسَاحِرٍ، قَدْ رَأَيْنَا السَّحَرَةَ وَنَفْثَهُمْ وَعَقْدَهُمْ، وَقُلْتُمْ: كَاهِنٌ. لاَ وَاللهِ مَا هُوَ بِكَاهِنٍ قَدْ رَأَيْنَا الْكَهَنَةَ وَحَالَهُمْ، وَسَمِعْنَا سَجْعَهُمْ. وَقُلْتُمْ: شَاعِرٌ. لاَ وَاللهِ مَا هُوَ بِشَاعِرٍ؛ لَقَدْ رَأَيْنَا الشِّعْرَ وَسَمِعْنَا أَصْنَافَهُ كُلَّهَا؛ هَزَجَهُ وَرَجَزِهِ وَقَرِيضَهُ، وَقُلْتُمْ: مَجْنُونٌ. وَلاَ وَاللهِ مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ؛ لَقَدْ رَأَيْنَا الْجُنُونَ فَمَا هُوَ بِخَنْقِهِ وَلاَ وَسْوَسَتِهِ وَلاَ تَخْلِيطِهِ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ انْظُرُوا فِي شَأْنِكُمْ فَإِنَّهُ وَاللهِ لَقَدْ نَزَلَ بِكُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ .
عباد الله : عادةً ما يقع أولئك الذين يصدُّون الناس عن الخير والهداية والصلاح في مشكلة كبيرة ! ألا وهي صعوبة الطعن بالإسلام مباشرة وخاصة وهم محسوبون على الإسلام !! فالمسلمون لا يقبلون ذلك ، وحينئذ يلجأون إلى الإلهاء عن الحقِّ والإشغال بالباطل فتلك حيلتهم التي لا فكاك منها ، ولا بديل عنها لضرب القيم وهدم الدين والأخلاق .
قال ابن اسحاق وكذلك ابن هشام : كان النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصيٍّ من شياطين قريش، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة ، تعلَّم بها أحاديث ملوك فارس، وأحاديث رستم و إسفنديار ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس مجلسًا فذكَّر بالله وحدَّث قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم، من نقمة الله خلفه في مجلسه إذا قام ثم يقول: أنا والله يا معشر قُريش أحسن حديثًا منه؛ فهلموا فأنا أحدثكم أحسن من حديثه. ثم يُحَدِّثهم عن ملوك فارس ورستم وإسفنديار، ثم يقول: ما محمد أحسن حديثًا مني! وقال ابن إسحاق أيضًا: حدثني رجل من أهل مكة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أنزل الله في النضر ثماني آيات، قول الله تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} وكل ما ذُكِر فيه الأساطير في القرآن .
لقد قطع النضر بن الحارث أكثر من أربعمائة وألف كيلومتر حيث الحيرة في العراق ، وكانت العراق كلها تحت الاحتلال الفارسي، وتعلَّم فيها فنًّا جديدًا على الناس، يستطيع أن يُلهي به شعب مكة عمَّا هم بصدده من مشروع الإسلام .
ذهب النضر بن الحارث إلى هناك، وبذل المال والوقت والجهد والفكر، للصدِّ عن سبيل الله، ولنشر الإباحية والمجون؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}.
وفي الحيرة تعلَّم النضر بن الحارث أحاديث ملوك الفرس، وقصص رستم وإسفنديار، وتعلَّم الأساطير الفارسية ودرس الحكايات والروايات، وكلها تحمل عوامل التشويق والإثارة وجذب الانتباه، وفيها تنشيط للشهوات وإباحية أحيانًا، وغموض أحيانًا أخرى، وصراع في أحيان ثالثة، ورومانسية في أحيان رابعة، وهزل وضحك أحيانًا خامسة، وهكذا فيها ما يوافق كل ذوق.
وإلى مكة عاد النضر بن الحارث بهذه الثقافة والبلادة في آن واحد ، والتي نقلها من غربته إلى بلدته ، ثمَّ بدأ في حربه ضدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسًا جادًّا فيه الوقار، وفيه ذكر الله، وترغيبٌ في جنته وترهيبٌ من ناره، جلس النضر بن الحارث بعده، يُحدِّث بحديثه الهزلي، ويمتِّع الناس برواياته ويقول: "والله ما محمد بأحسن حديثًا مني، وما حديثه إلا أساطير الأولين اكتتبتُها كما اكتتبَها محمد". فأنزل الله تعالى قوله: {وَقالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً  قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} ذكره ابن كثير في تفسيره.
عباد الله:وفي جهد مضاعَف لم يكتفِ النضر بذلك؛ بل اشترى مطربات وراقصات، وكلما سمع أن رجلاً قد مال قلبه إلى الإسلام، سلط عليه المطربات والراقصات يُلْهينه عن سماع دعوة الحقِّ وداعي الإيمان، وكلما نشط رسول الله صلى الله عليه وسلم نشط النضر بن الحارث؛ وقد نزل فيه -ومَنْ على شاكلته- قول الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لاَ تَبِيعُوا القَيْنَاتِ (المغنيات)، وَلاَ تَشْتَرُوهُنَّ، وَلاَ تُعَلِّمُوهُنَّ، وَلاَ خَيْرَ فِي تِجَارَةٍ فِيهِنَّ، وَثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ". في مثل هذا أُنْزِلَتْ هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ}. رواه الترمذي وأحمد وحسنه الألباني.
وهكذا تواصى أهل الباطل والمفسدون في الأرض بهذا المنهج، وهو شَغْل الناس باللهو والباطل، وبالأخص في مواسم الطاعة وفترات زيادة الإيمان فنسأل الله أن يكفينا شر الأشرار وكيد الفجار  !!
الخطبة الثانية : 
الحمد لله وحده والصلاة و السلام على من لا نبي بعده.
عباد الله : لأجل ذلك كله نفهم سرَّ النشاط الإعلامي الكبير الذي نراه في شهر رمضان المبارك؛ وذلك التكدُّس الضخم للأعمال الفنية الملهية عن أي شيء جادٍّ في الحياة اليومية، والملهية عن الدين وغير الدين، في عرض مستمرٍّ على مدار الأربع والعشرين ساعة، وعلى القنوات الأرضية والفضائية التي يصعب حصرها؛ ثمَّ يأتي التنوُّع غير المسبوق في المادَّة المقدَّمة، وتأتي العروض الأُوَل من الأفلام، والمسلسلات، والمسرحيات، والأغاني والرياضة والبرامج الضاحكة! كل هذا في شهر رمضان! شهر الصيام، والقيام، والقرآن، والصدقة، الذي من المفترض أن يكون هو أكثر شهور السَّنَة جدية وطاعة وقربًا من الله عز وجل؛ فالطبيعي في هذا الشهر ألا يجد المؤمن وقتًا للأنواع المختلفة من العبادة والطاعة التي يُريد أن يقوم بها، كما أنه من المفترض أن يكون قلب المؤمن فيه أكثر رقَّة واطمئنانًا وإيمانًا وقربًا من الله تعالى، فالشياطين مصفَّدة، والمساجد ملأى، وأبواب البرِّ والخير مفتوحة، ومضاعف ثوابها، وأعوان الخير كثر !!
إنَّ مثل هذه الثورة الإيمانية في قلب المؤمن تلفت أنظار أهل الباطل، فيتحرَّكون بنشاط أكبر، وجهد مضاعف في هذا الشهر الكريم، وهو أمر لم يَعُدْ يخفى على عاقل، وعلى أهل الإيمان أن يحذروا، فخطة النضر بن الحارث، وحيلته القديمة، ما زالت تتجدَّد وترى النور بين المسلمين من قبل المفسدين في الأرض قال تعالى (( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ )) .
اللهم أعنّا على العمل واعصمنا من الزَلل وألبسنا الحُلل وأسكنّا الظُلل ياربّ العالمين . 
المشاهدات 1610 | التعليقات 1

الإعلام الفاسد اليوم يقوم بنفس الدور الخبيث الذي قامت به قريش زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فيشغل الناس عن سماع الحق وعن العيش مع القرآن وعن الأنس بالمولى سبحانه ، تشابهت قلوبهم وخاب سعيهم !