الطَّعْنَةُ الأَخِيرَةُ (الجمعة 1442/1/23 هـ )

يوسف العوض
1439/08/02 - 2018/04/18 10:38AM
الخطبة الأولى
أَحْمَدُهُ سُبْحَــــــانَهُ وَأَشْكُرُهْ *** وَمِنْ مَسَـــــــــــاوِي عَمَلِي أَسْتَغْفِرُهْ
وَأَسْتَعِينُهُ عَلَى نَيْـــــــلِ الرِّضَا  *** وَأَسْتَمِدُّ لُطْـــــــــفَهُ فِي مَا قَضَى
وَبَعْــــــدُ إِنِّي بِالْيَـــــــقِينِ أَشْهَــدُ  *** شَهَادَةَ الْإِخْـــــــــلَاصِ أَنْ لَا يُعْبَدُ
بِالْحَقِّ مَأْلُوهٌ سِوَى الرَّحْمَنِ  *** مَنْ جَلَّ عَنْ عَيْبٍ وَعَنْ نُقْصَـــانِ
وَأَنَّ خَيْــــرَ خَــــــلْقِهِ مُحَمَّدَا  *** مَنْ جَــــــــاءَنَا بِالْبَيِّنَـــــــــــاتِ وَالْهُدَى
رَسُـــــولُهُ إِلَى جَمِيـــــعِ الْخَــــــلْقِ  *** بِالنُّـــــورِ وَالْهُـــــــدَى وَدِينِ الْحَقِّ
صَلَّى عَـلَيْـــــــهِ رَبُّنَا وَمَجَّــــــــــدَا  *** وَالْآلِ وَالصَّــــــحْبِ دَوَامًا سَرْمَدَا
وبعد.. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) . 
عبادَ اللهِ : البشرُ أفرادٌ وجماعاتٌ يتشابهون في الأفعالِ والصفاتِ عبرَ التاريخِ، فالتاريخُ جملةٌ واحدةٌ ، ترتكزُ على الصراعِ بينَ الحقِ والباطلِ ، لا يتغيرُ جوهرُها منْ جيلٍ إلى جيلٍ ، ولا مِنْ زمنٍ إلى زمنٍ ، وحدَها الوجوهُ والأشكالُ هي المتغيرةُ ! فمرةً يزولُ الباطلُ ويعلو الحقُ ، ومرةً تدبُ الحياةُ في أوصالِ الباطلِ ، وهكذا تعادُ الكرةُ حتى تنتهي الحياةُ ، وبينَ أيدينا صورةٌ منْ صورِ الصراعِ بينَ الحقِ والباطلِ ممثلةً في صحابيةٍ شريفةٍ عاشت في زمانِها عمراً قصيراً ، لكنّ فصولَ التاريخِ حملتْها إلينا مُلهمةً للثابتينَ على الحقِ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ ، ومثالاً ناصعاً على الانتصارِ باللهِ ، والاعتزاز ِ بالانتسابِ إلى دينهِ ، فتهونُ حينها الحياةُ ولا يهونُ الدين ، إنها السيدةُ سميةُ بنتُ خياطٍ رضي اللهُ عنها تلك الصحابيةُ الجليلةُ ، وأولُ شهيدةٍ في الإسلامِ زوجةُ الصحابي ياسرِ بنِ عامر ٍ وأمُّ الصحابي عمارِ بنِ ياسرٍ أسلمت في مكةَ وكانت أحدَ السبعةِ الذين أظهروا إسلامَهم فيها ، كانت السيدةُ سميةُ ممن بذلوا أرواحَهم لإعلاءِ كلمةِ اللهِ عزّ وجلّ ، وهي من المبايعاتِ الصابراتِ الخيراتِ اللاتي احتملنَ الأذى في ذاتِ الله، وكانتْ منَ الأولينَ الذينَ دخلوا الإسلامَ ، فهي سابعُ سبعةٍ ممن اعتنقوا الإسلامَ بمكةَ بعدَ الرسولِ صلى اللهُ عليه وسلم وأبي بكرٍ الصديقِ وبلالٍ وصهيبٍ وخبابٍ وعمارٍ ابنِها رضي اللهُ عنهم ، كانت عظيمةً لا تنكسرُ أمامَ الابتلاءِ والاضطهادِ ، حيث لم يكنْ لها أحدٌ يمنعُها أو يحميها منَ المشركينَ ، فالرسولُ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ، منعَه عمُه ، وأبوبكر الصديقُ منعَه قومُه، أما هي والباقونَ فقد ذاقوا أصنافَ العذابِ وأُلبسوا الدروعَ الحديديةَ وصُهروا تحتَ لهيبِ الشمسِ الحارقةِ.
عبادَ اللهِ : كانت السيدةُ سميةُ بنتُ خياطٍ أمةً لأبي حذيفةَ بنِ المغيرةَ بنِ عبدِ الله بن عمر َبن مخزومٍ ، تزوجت من حليفهِ ياسرِ ابنِ عامرِ بنِ مالكٍ بنِ كنانه بنِ قيسِ العَنْسي وكان ياسرُ عربياً قحطانياً مذحجيًا من بني عنْس ، أتى إلى مكةَ هو وأخواه الحارثُ والمالكُ طلباً في أخيهما الرابعِ عبدِ الله ، فرجع الحارثُ والمالكُ إلى اليمنِ وبقي هو في مكةَ ، وحالفَ ياسرُ أبا حذيفةَ ابنَ المغيرةَ بنِ عبدِ الله بن عمرَ بن مخزومٍ ، وتزوجَ من أمتِه سميةَ ، وأنجبَ منها عماراً فأعتقَه أبوحذيفةَ ، وظلَّ ياسرُ وابنُه عمارُ مع أبي حذيفةَ إلى أنْ ماتَ ، فلما جاءَ الإسلامُ أسلمَ ياسرُ وأخوه عبدُالله وسميةُ وعمارُ ، حينَ أسلمَ آلُ ياسرِ عذبَهم المشركون أشدَّ العذابِ من أجلِ اتخاذِهم الإسلامَ ديناً، وصبروا على الأذى والحرمانِ الذي لاقوه من قومِهم ، فقد ملأَ قلوبَهم بنورِ اللهِ- عز وجل- فعن عمار أنّ مشركي بني مخزومٍ عذبوه عذاباً شديداً ، فاضطرَّ عمارُ لإخفاءِ إيمانِه عن المشركينَ وإظهارِ الكفرِ ، وقد أُنزلت آيةٌ في شأنِ عمارِ في قوله عزَّ وجلَّ : ( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ..) رواه الطبري في تفسيره وحينما يأتيه الرسولُ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ويسألُه: ما وراءَك؟ فيقولُ عمارُ وهو يبكي: شرٌ يا رسولَ الله ! ما تُركتُ حتى نلتُ منكَ وذكرتُ آلهتَهم بخيرٍ ! فقالَ له الرسولُ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: كيفَ تجدُ قلبَكَ؟ قالَ: مطمئناً بالإيمانِ قال: فإنّ عادوا لك فعدْ لهم ) رواه الطبري في تفسيره، ونقله عنه ابنُ كثيرٍ.
عبادَ اللهِ : ظلتْ سميةُ رضي اللهُ عنها معَ الفئةِ المؤمنةِ، يُعذبون بالأَبطحِ في رمضاءَ مكةَ ، وكان رسولُ اللهِ يمرُّ بهم ويدعو اللهَ -عزّ وجلّ- أنْ يجعلَ مثواهم الجنةَ ، وأن يجزيَهم خيرَ الجزاءِ ، وتبقى سميةُ تحتَ العذابِ ومحاولاتِ مستميتةٍ لردها عن دينِها ، لكنّ رحمةَ اللهِ بها أمكنت الإيمانَ من قلبها فهانت روحُها، ولم يهن دينُها وإذا بالفاجرِ أبي جهلٍ يرميها بحربةٍ في موطِ عفتِها، ولم يرحم ضعفَها كإنسانٍ ، ولم يرحم ضعفَها كامرأةٍ ، كما لم يرحم ضعفَها ولا عجزَها كامرأةٍ مسنةٍ لا تقوى على العذابِ ، نالت سميةُ الشهادةَ بعدَ أن طعنَها أبو جهل بحربتِه ، لتكونَ أولَ شهيدةٍ في الإسلامِ ، لتكونَ سيرتُها رسالةً للثابتين وخاصةً النساءِ المسلماتِ اللاتي يتعرضن لهجمةٍ شنيعةٍ شرسةٍ في عفتِهن وشرفِهن وحجابِهن وسترهن وحيائِهن على مرِّ الأيامِ والسنين، لكي يَشددنّ على دينِهن بكلِّ ما أُوتين من قوةٍ ولا يَسمعن لدعاوى المُرجفين المفسدين في الأرضِ في هتكِ السترِ ونزعِ الحجابِ !! فلا يوجدُ  أغلى من الدين ِ ولا أحلى من الإيمانِ .
أقول ما سمعتم وأستغفر ربي لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات ..
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ الواحدِ الديانِ، ونشهدُ أن لا إله إلا اللهُ جعلَ الناسَ عُرضةً للابتلاءِ والامتحانِ، ونشهدُ أن سيدَنا محمدا عبدُه ورسولُه المؤيَّدُ بالمعجزاتِ والبرهانِ ، المبعوثُ ليتممَ مكارمَ الأخلاقِ فكانَ خلقُه القرآنَ ، اللهمَ صلِّ وسلمَ عليه وعلى آله وأصحابِه أهلِ الصدقِ والإيمانِ ، وعلى التابعين لهم بإحسانٍ إلى يومِ القسطِ والميزانِ.
عبادَ اللهِ : لم تنتَه قصةُ سميةَ بموتِها، فبقي الجزءُ الآخرُ المتعلقُ بقاتلِها أبي جهلٍ -لعنه اللهُ- الذي لقي جزاءَه في غزوةِ بدرِ الكبرى، حين طعنه شبلا الإسلامِ معاذُ بنُ الحارث وأخوه معوذُ ابنا الحارثِ ، ولكنه لم يمت على أثرِ طعناتِهما بسببِ ضخامةِ جسدِه ، لكنه لفظَ أنفاسَه الأخيرةَ على يدِ عبدِ الله بنِ مسعودٍ رضي الله عنه الذي أجهز َ عليه حينها كانتْ مقولةُ النبي صلى اللهُ عليه وسلم لعمارِ بنِ ياسر ِ، بعدَ مقتلِ عدوِ اللهِ أبي جهلٍ : ( قتلَ اللهُ قاتلَ أمِّك ياعمارُ  ) رواه ابن سعد ، ووصف ابن حجر سنده بالصحيح.
عبادَ اللهِ :وقبل أنْ نُسدلَ الستارَ على السيرةِ العظيمةِ لسميةَ وأسرتِها أحبُّ أنْ أعقدَ مقارنةً بينَ ما كانَ عليهِ هؤلاءِ المستضعفون من قوةٍ في الإيمانِ وصبرٍ على العذابِ في سبيلِ الله ، وبين ما نحنُ عليه اليومَ فمعظمُنا يعيشون في أمانٍ ، ويتمكنون من أداءِ شعائرِ دينِهم بحريةٍ تامةٍ ، ومع ذلك لا يُكلّفُ أحدُنا نفسَه الصبرَ على معاناةِ أيِّ شيءٍ  فلا يصبرُ على فعلِ الطاعاتِ ، ولا يصبرُ عن المعاصي والمنكراتِ ، فلا يستطيعُ ضبطَ عينيه ، ولا ضبطَ لسانِه ، ولا يديه ولا رجليه ولا ضبطَ ذهنِه وخيالِه ، ثم بعدَ هذا كلِه يرجو الجنةَ وثوابَها !! ولهؤلاء المقصّرين المتكاسلين ولنفسي يقول الشاعرُ : 
تضعُ الذنوبَ على الذنوبِ وترتجي *** طلبَ الجنانِ وطيبَ عيشِ العابدِ
ونسيتَ أنّ اللهَ أخرجَ آدمَ *** منها إلى الدّنيا بذنبٍ واحدِ
أعاذنا اللهُ من النارِ وما يُوصلُ إليها من قولٍ وعملٍ ، وسهّلَ اللهُ لنا طريقَ الجنةِ وما يوصلُ إليها من قولٍ وعملٍ .. 
المشاهدات 2838 | التعليقات 2

اللهمّ ثبتنا على دينك يارب العالمين


جزاك الله خيرا