مِيزَانُ المُطَفِفِين

يوسف العوض
1439/06/13 - 2018/03/01 13:44PM
الخطبة الأولى :
الْحَمْدُ للهِ مُنشيءِ الْمَوْجُودَاتِ، وَبَاعِثِ الْأموَاتِ، وَسَامِعِ الْأَصْوَاتِ وَمجُيِبِ الدَّعَوَاتِ، وَكَاشِفِ الْكُرُبَاتِ،وَرَافِعِ الدَّرَجَاتِ، وعَالِمِ الْأَسْرَارِ، وَغَافِرِ الْأوْزَارِ، وَمُنَجِّي الْأَبْرَارِ وَمُهْلِكِ الْفُجَّارِ .
الَّذِي عَلِمَ وَأَلْهَمَ، وَأَنْعَمَ وَأَكْرَمَ، وَحَكَمَ وَأَحكَمَ، وَأَوْجَبَ وَأَلْزَمَ ( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) وَأشْهَدُ أَنْ لَا إلْهَ إلا اللَّهُ, وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, لَهُ الْمُلْكُ, وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَي كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَحَبيبَنَا وَشَفِيعَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَصَفِيُّهُ مِنْ خَلْقِهِ وَحَبيبُهُ صلّى اللّهُ عليهِ وعَلَى آلِهِ وأَصْحَابِهِ ومَنْ سَارَ على نَهجِهِ وتَمسَّكَ بِسُنَتِهِ واقْتَدى بِهَدْيهِ وتْبِعَهُم بِإحْسَانٍ إلي يَومِ الدِّينِ ونَحَنُ مَعَهُم يَا أرْحَمَ الرَاحِمِينَ.
عِبَادَ اللَّهِ : يَقُولُ اللهُ تَعَالى ( وَيْلٌ لِلْمطففِينَ الَّذِينَ إذاَ اِكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإذاَ كَالُوهُمْ أَوْ وَزَّنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ كَمَا يَأْخُذُ مِنَ النَّاسِ الَّذِي لَهُ، يَجِبُ عَلَيهِ أَنْ يُعَطَيَهُمْ كُلَّ مَا لَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْمُعَامَلَاتِ، يَقُولُ الشَّيْخُ اِبْنُ عُثَيْمِين فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الآيَاتِ : ( إِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ ضَرْبِ الْمَثَلِ، وَإِنَّ الْمُرَادَ بإيفاءِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ إيفاءُ الْحُقوقِ كُلِّهَا، يَعْني إذاَ كَانَ عَلِيكُمْ حُقوقٌ، فَأَوْفَوْا الْحُقوقَ ... )
عِبَادَ اللَّهِ : إِنَّ التَّطْفِيفَ لَا حُدودَ لَهُ و لَا قَيْدَ وإِنَّمَا يَكْوُنُ فِي كُلِّ نشَاطِ الْإِنْسَانِ حَيْثُ يَشْمَلُ الْعَلَاقَاتِ الإجْتِمَاعِيةَ و الْقَضَايَا الْفِكْرِيَّةَ و الْأُمُورَ الْمَعْنَوِيَّةَ وَالمِثَالُ يُوَضِّحُ المَقَالَ  ..
المُطَفِّفُون مِنَ الْأَزْوَاجِ مَثَلاً يَحْرِصُ الزَّوْجُ مِنْهُم عَلَى كَامِلِ حُقوقِهِ مِنَ الزَّوْجَةِ و يَعْتَبِرُهَا وَاجِبَةً ولا يَتَنَازَلُ عَنْهَا ! بَينَما هُوَ لَا يُوَفِّيَ الزَوجَةَ حُقوقَهَا و لَا يَلْتَزِمُ بِعُهُودِهِ ويستهينُ بَتَرْكِ وَاجِبَاِتِهِ نَحوَهَا !! وَمِثْلُهُ تَطْفِيفُ الزَّوْجَةِ مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ بَلْ يَتَجَاوَزُ ذَلِكَ إِلَى ظُلْمِهِ فَتْدَخُلُ فِي الْوَعِيدِ ( وَيْلٌ لِلْمطففِينَ) فَتُثْقِلُ كَاهِلَ الزَّوْجِ بِالطَّلَبَاتِ دُونَ مُرَاعَاةٍ لِظُرُوفِهِ !  ومنه التَّطْفِيفُ أيضاً مِنَ الْآبَاءِ الَّذِينَ يُطَالِبُونَ أَبْنَاءَهُمْ بِالْبَرِّ الْكَامِلِ الْمَادِّيِّ و الْمَعْنَوِيَّ و هُمْ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنْ قِيَامِهِمْ بِوَاجِبِهِمْ نَحوَ الْأَبْنَاءِ !! و كذلك الْأَبْنَاءُ الَّذِينَ يُزْعِجُونَ الْآبَاءَ بِالطَّلَبَاتِ الكَثِيرَةِ دُونَ أَنْ يُبَادِلُوهُمْ الْإحْسَانَ بِالْإحْسَانِ و الْبَرَّ بِالْبَرِّ !! وكَذَلِكَ التَّطْفِيفُ مِنَ الْجِيرَانِ الَّذِينَ يَتَذَمَّرُونَ مِنْ بَعْضِهُمْ و لَا يُبَالُونَ بِمَا يَقُومُونَ بِهِ و أَبْنَاؤهُمْ مِنْ الْإِسَاءةِ و الإعْتِداءِ و الضَّوْضَاءِ صَيْفًا وشِتَاءًا لَيلاً ونَهَاراً و لَا يُبَالُونَ بِمرضى ولا نَومَى و لَا بِغَيْرِهِمْ ،!! ومنه أيضاً تَطْفِيفُ الْمُوَظَّفِينَ مِنْ كَثْرَةِ التَّبَرُّمِ و الشَّكْوَى مِنَ الْوَضْعِ الْقَائِمِ سَابِقًا و لَاَحِقًا و مِنْ رُؤَسَائِهِمْ دُونَ أَنْ يَحْرِصُوا هُمْ عَلَى تَحَمُّلِ مَسْؤُولِيَاتِهِمْ فِي الْوَقْتِ و الْإِتْقَانِ و الْمُوَاظَبَةِ و الْإِنْجَازِ !! أَلَيْسَ ذَلِكَ أَكَبِرَ تَطْفِيفٍ ؟! وَهُوَ الَّذِي حَذَّرَنَا اللَّهُ مِنهُ !!
و مِثْلُهُمْ رُؤَسَاؤُهُمْ و أَصْحَابُ الْعَمَلِ يَتَذَمَّرُونَ مِنَ الْعُمَّالِ دُونَ أَنْ يُوَفُّوهُمْ أَجُوْرَهُمْ و يُعْطُوهُمْ حُقوقَهُمْ الْمُخْتَلِفَةَ مُخَالِفِينَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ لِقَولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ و سَلَّمَ حِكَايَةً عَنْ رَبّهِ في الحَديثِ القُدسي ( ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصَمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنهُمْ رَجُلٌ اِسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنهُ و لَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ ) رواه البخاري .
عِبَادَ اللَّهِ : والتَّطْفِيف أيْضَاً يَكُونُ فِي اللِّسَانِ بِالْغِيْبَةِ و النَّمِيمَةِ فرُبَّ كَلَمَةِ تَطْفِيفٍ تَنْسِفُ حَقًّا و تَزْهَقُ رُوحًا و تُفَرِّقُ جَمْعًا و تُثِيرُ فِتنةً  قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ و سَلَّم  ( إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالَاً يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا فِي الْجَنَّةِ ، و إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالَاً يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَمِنْهُ أيضاً التَّطْفِيفُ فِي الْأَحْكَامِ و الْقَضَاءِ و أَدَاءِ الشَّهَادَةِ أَوْ كِتْمَانِهَا فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيّ اللَّهُ عَنْهُا قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقَولُ : ( لَيَأْتِيَنَّ عَلَى الْقَاضِي الْعَدْلِ يَوْمَ  الْقِيَامَةِ سَاعَةٌ يَتَمَنَّى أَنّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اِثْنَينِ فِي تَمْرَةٍ قَطُّ ) رواه أحمد وصحَّحه ابنُ حِبْانَ.
إلَى غَيْرِ ذلك مِنْ أَنْوَاعِ التَّطْفِيفِ عِنْدَ أهْلِ الْحِرَفِ و الصِّنَاعَاتِ وَ التِجَارَاتِ وفِي البَيعِ والشِّرَاءِ ,,, فَلَيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ أَمْرَ اللَّهِ  اِنْتِهَاكَ حُدودِهِ ونَسْيَانَ الْآخِرَةِ و لْيَتَذَكَّرْ الْمُطَفِفُ هَولَ  يَوْمٍ  يَشَيبُ  مِنهُ الرَّضِيعُ فِي يَوْمٍ يُوضَعُ الْقِسْطُ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ..
 
الخطبة الثانية :
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي بِنِعمتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ، وَالصَّلَاَةُ وَالسَّلَامُ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ الْمَبْعُوثِ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ وَبَعْدُ:
عِبَادَ اللَّهِ : وَمِنْ التَّطْفِيفِ التَّطْفِيفُ فِي الصَّلَاَةِ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يُتِمُ شُرُوطَهَا أَوْ أَرْكَانَهَا أَوْ وَاجِبَاتِهَا، فَلَا تَصِحُّ مِنهُ وَلَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ فَعَنْ أَبِيَ هُرَيْرَةَ رَضِيّ اللَّه عَنهُ أَنَّ رَجُلَاً دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَصَلَّى ثَمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيهِ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ( وَعَلَيْكَ السّلَامُ اِرْجِعْ فَصَلِّ فَإِنّكَ لَمْ تُصَلِّ )، فَرَجَعَ فَصَلَّى ثَمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ فَقَالَ (وَعَلَيْكَ السَّلَامُ ، فَاِرْجِعْ فَصَلِّ فَإِنّكَ لَمْ تُصَلِّ )، فَقَال فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الَّتِي بَعْدَهَا: عَلِّمْنِي يا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ ( إذاَ قُمْتَ إِلَى الصَّلَاَةِ فأسبغِ الْوَضُوءَ، ثَمَّ اْسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ فَكبِّرْ ، ثَمَّ اِقْرَأْ بِمَا تَيْسَّرَ مَعكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثَمَّ اِرْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثَمَّ اِرْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِي قَائِمًا، ثَمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثَمَّ اِرْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ثَمَّ اِسْجَدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثَمَّ اِرْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثَمَّ اِفْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاَتِكَ كُلِّهَا ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِم .

اللهم يا عظيمَ العفوِ، يا واسِعَ المغفرة، يا قريبَ الرَّحمة، هَبْ لنا من لدُنك مغفرةً ورحمةً، وأسعِدنا بتقواك واجعلنا نخشاك كأننا نراك يا أرحم الراحمين.اللهم ارحم موتانا، وعافِ مُبتلانا، واشفِ مرضانا، وانصُرنا على مَن عادانا يا ربَّ العالمين.

المشاهدات 1984 | التعليقات 0