الإسلام دين النظافة .. إعداد / الشيخ السيد طه

الفريق العلمي
1439/06/03 - 2018/02/19 11:08AM

الحمد لله رب العالمين .. اعتنى عناية كبيرة بصحة الإنسان , وسن له التشريعات والمبادئ التي تحقق له حياة آمنة مطمئنة فقال تعالي (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)سورة البقرة . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ..له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيئ قدير ..وهب الإنسان نعما كثيرة وميزه وكرمه علي كثير من مخلوقاته؛ فقال تعالي ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ) [الإسراء: 70]. وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم ربط بين الإيمان والطهارة فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (الطهور شطر الإيمان). فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين .

 

أما بعـــد .. فيا أيها المؤمنون . إن الله أكمل لنا الدين وأتمّ علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا، وأكرمنا بشريعة تعالج أمراض القلوب وتقي أمراض الأبدان، وأنزل علي نبيه ومصطفاه كتابا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقال فيه : ” ما فرطنا في الكتاب من شيء ” . والشريعة جاءت بحفظ الكليات الخمس : الدين والنفس والمال والعرض والعقل، ومن حفظ النفس العناية بصحة الأبدان، لأن البدن أمانة من الله عندنا وهو مطيتنا في رحلة هذه الحياة، فقال صلي الله عليه وسلم ” إن لجسدك عليك حقا ”، وما أُعطي عبد أفضل من نعمة العافية . فنسأل الله دوام العافية في الدين والدنيا والآخرة، كما نسأله دوام الشكر علي العافية . * روي مسلم عن أبي موسي الأشعري قال سمعت رسول الله يقول : ” الطهور شطر الإيمان ” . فالإسلام دين النظافة والطهارة، جاء ليبني أمة طاهرة، طاهرة في عقيدتها وعبادتها وفهمها وسلوكها، وجاءت الطهارة في نصوص الكتاب والسنة بمعناها الواسع الشامل ليتطهر المسلم ظاهرا وباطنا، فمما جاء في أوائل السور المكية قوله سبحانه :” يا أيها المدثر . قم فأنذر . وربك فكبر . وثيابك فطهر “لذلك كان حديثنا عن الإسلام دين النظافة والطهارة من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية :ــ

1ـ حقيقة النظافة في الإسلام.

2ـ بيان عظمة الإسلام الحنيف .

العنصر الأول : حقيقة النظافة في الإسلام :ـ

الإسلام دين النظافة بأوسع معانيها،نظافة العقائد من الشرك والخرافات، ونظافة الأخلاق من الرذائل والمنكرات، ونظافة اللسان من الكفر والفحش، ونظافة القلم من الكذب والفجور، ونظافة الأجساد والثياب من الأوساخ والقاذورات، ونظافة المسجد، ونظافة الطريق والبيوت وسائر جوانب الحياة حتى يكون المجتمع المسلم شامة بين الأمم . عن خريم فاتك الأسْدي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إنكم قادمون على إخوانكم، فأصلحوا رحالكم، وأصلحوا لباسكم، حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس ؛ فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش ) وفي رواية: ( حتى تكونوا كالشامة في الناس ) رواه الإمام أحمد في المسند، وهو في سنن أبي داود قال الشيخ الألباني عنه :ضعيف ،ورواه الحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي. لقد اعتنى الإسلام بالنظافة بمفهومها الواسع؛ فهي جزء من حياة المسلم وطابع لا غنى له عنه، وقد سبق الإسلام في ذلك النظم البشرية كلها. والنظافة التي جاء بالاهتمام بها الإسلام على ضربين: نظافة حسية ونظافة معنوية. فعلى المسلم الاعتناء بالنظافة على قسميها؛ ففيها السعادة الدنيوية والأخروية.

 

أولا :ـ النظافة الحسية :ـ وهي: طهارة الظاهر من الأحداث والأنجاس والفضلات، وقد جعل الإسلام هذه المرتبة، جزءاً من حياة المسلم، وطابعاً لا غنى له عنه، وعملاً لا ينفك منه في اليوم والليلة، ويتولى الوضوء الشرعي كبر هذه المرتبة، وفيه من الأجر العظيم والثواب الجزيل أضعاف ما له من الآثار الحسنة على نظافة المسلم .

 

الطهارة لإقامة الصلوات الخمس :ـ فقد أمرنا ربنا – عز وجل – بنظافةِ الظاهرِ، وأخذِ الزينةِ في مواطنَ، ومنها عند إرادةِ الصلاةِ، بقوله تعالى"يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ" [الأعراف: 31]، وأمرنا بالطهارة عند إرادةِ الصلاةِ بقوله – تعالى"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا" [المائدة: 6]، ورتَّب على ذلك الفضلَ العظيمَ، ومن ذلك قولُه – صلى الله عليه وسلم (إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن، فغسل وجهَه، خرج من وجهه كلُّ خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه، خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتْها يداه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه، خرجت كل خطيئة مشتْها رجلاه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقيًّا من الذنوب) رواه مسلم. وأيضا جعله النبي صلى الله عليه وسلم سبباً لمحو الخطايا ورفعة الدرجات، كما في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وعن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء، خرجت خطاياه من جسده، حتى تخرج من تحت أظفاره ". وقال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: «أرأيتُم لو أن نهرًا ببابِ أحدِكم يغتسِلُ منه كلَّ يومٍ خمسَ مراتٍ؛ هل يبقَى من درَنه شيء؟». قالوا: لا يبقَى من درَنه شيءٌ. قال: «فذلك مثَلُ الصلوات الخمسِ، يمحُو اللهُ بهنَّ الخطايا»؛ متفق عليه. ومن أضافَ إلى طُهوره كلمةَ التوحيد فُتِّحَت له أبوابُ الجنةِ الثمانية؛ قال – عليه الصلاة والسلام -: «ما منكم من أحدٍ يتوضَّأُ فيُسبِغُ الوضوءَ، ثم يقول: أشهدُ أن لا إله إلا الله، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، إلا فُتِّحَت له أبوابُ الجنةِ الثمانية يدخلُ من أيِّها شاءَ»؛ رواه أحمد. بل قد جعل المصطفى -صلى الله عليه وسلم- الطهور شطر الإيمان، كما في صحيح مسلم من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه. الله أكبر! يا لِسعة فضل الله، وإكثاره طرق الخير لعباده! ولكن أين المحتسبون المتبعون الذين يقومون بهذا العمل إخلاصاً لله، ورغبةً فيما عنده، واتباعاً لسنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في ذلك؟! ومن عناية الإسلام بالوضوء: أنه جعله مرتبطاً بأهم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي الصلاة، فهو شرطٌ لصحتها، ومفتاحها، ومقدمتها.

 

ومن مظاهر عناية الإسلام بطهارة الظاهر:

إيجابه الاغتسال عند حدوث موجباته، كالجنابة، والحيض والنفاس بالنسبة للمرأة، كما شرع الإسلام الاغتسال في حالاتٍ: كالجُمع والأعياد، والإحرام، وحضور الاجتماعات العامة، ومن ذلك حثه على التطيب، والسواك والختان، وأخذ الزينة عند حضور المساجد والصلاة. ومن ذلك أيضاً خصال الفطرة التي أفصح عنها حديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، كما في حديث عائشة رضي الله عنها عند مسلم وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء -يعني: الاستنجاء- " قال مصعب : ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة.

 

كما حرص ديننا الحنيف في هذا الجانب على ما يتصل بحياة الناس اتصالاً مباشراً، ومن ذلك: نهي الإسلام عن التبول في المياه الراكدة، والبراز في الطرق والظل وموارد الناس، كما أمر الإسلام بنظافة البيوت والطرق والطعام والشراب، واللباس والمرافق العامة، وجعل إماطة الأذى عن الطريق شعبةً من شعب الإيمان، وأخبر المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "أن الله جميلٌ يحب الجمال " وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالتطهر، فقال: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4]. كما مدح سبحانه أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال سبحانه وتعالى: فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108]. طهارة الفم والأسنان :ـ كذلك أمر الإسلام بتنظيف الفم والعناية به، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يستخدم السواك ويقول: “لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة“. صحيح البخاري.

 

الاعتناء بالنظافة عند تناول الطعام:ـ أيضاً أوجب الإسلام الحرص على نظافة الطعام، فعلى الإنسان أن يتخلص من كل الفضلات وآثارها وروائحها، وهذا يعد من باب النقاء والتطهير للمسلم. عن سيدنا سلمان الفارسي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده“. سنن أبي داود. والمقصود بالوضوء هنا غسل اليدين قبل الطعام وبعده، فالوضوء لغة هو مطلق الغسل.

 

الاعتناء بصحة الجسم:ـ حتى العلاج والدواء الذي يتناوله الإنسان هو جزء مما دعا إليه إسلامنا العظيم. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم آمراً بالتداوي من باب العناية بالصحة: “ما أنزل الله عز وجل داءً إلا أنزل له دواءً“. مسند أحمد. والتداوي جزء من حفظ المسلم لقوة بدنه القوة المادية(وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ…) سورة الأنفال (60).

 

الاعتناء بالزينة والتطيّب:ـ عُني ديننا العظيم عناية كبيرة بزينة الإنسان وجماله. قال تعالى (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ…) سورة الأعراف (31). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “من كان له شعرٌ فليكرمه“. سنن أبي داود. وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: “إن الله جميلٌ يجب الجمال“. صحيح مسلم. وكان عليه الصلاة والسلام يُعنى بنظافة ثوبه والطيب كذلك، وهو الذي يقول: “حُبِّبَ إلي من الدنيا النساء والطيب، وجُعلت قرّة عيني في الصلاة“. مسند أحمد.

 

طهارة الثوب: لقد عُني الإسلام بنظافة الإنسان بشكل عام؛ نظافة الطريق والبيت والثياب، فلا بد أن يُعنى المسلم بثيابه ونظافتها وطيبها، فقد أخبر سيدنا جابر رضي الله تعالى عنه أن ذلك الرجل الذي كان يلبس ثياباً وسخة لم تعجب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “أما كان هذا يجد ما يغسل به ثوبه؟!“. صحيح ابن حبان. يحرص النبي عليه الصلاة والسلام بذلك على ضرورة نظافة الثوب، وأن يكون ثوبنا نظيفاً وأنيقاً بشكل دائم. جاء في حديثٍ آخر عن رجل يقال له “أبو الأحوص” قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في ثوبٍ دونْ فقال: “ألك مال؟”. فقلت: نعم. قال: “من أي المال؟”. قال قد آتاني الله تعالى من الإبل والغنم والخيل والرقيق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “فإذا آتاك الله مالاً فليرَ أثر نعمة الله عليك وكرامته، إن الله تعالى يحب من أحدكم إذا أنعم الله عليه نعمة أن يرى أثر نعمته عليه“. قال تعالى(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) سورة الضحى (11).

 

فطالما أن الله سبحانه وتعالى قد آتاك مالاً كثيراً ومتنوعاً ومتعدداً فالبس ثياباً جديدة ونظيفة حتى تُرِيَهُ سبحانه وتعالى أثر نعمته عليك. و العناية بالثياب أمر ضروري، وهو جزء من شخصية المسلم التي ينبغي على كل مسلم أن يبرزها بصورة لائقة ومحببة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعنى هو شخصياً بثيابه؛ فقد كان له جبة يمانية يلبسها يوم العيدين، ويلبسها يوم الجمعة، ويلبسها إذا استقبل الوفود. وقد كان له ثياب أخرى يلبسها مع أهله وعياله، وثياب أخرى يلبسها في الجهاد في سبيل الله تعالى. وكان عليه الصلاة والسلام يحب لبس البياض، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم نص صريح في فضل لبس الثياب البيضاء وخاصة في الصيف حيث قال: “البسوا البياض فإنها أطهر وأطيب، وكفّنوا فيها موتاكم“. سنن الترمذي. وقد ورد عن بعض الحكماء قولهم: “مَن نَظَّفَ ثوبَه قَلَّ همُّه، ومن طاب ريحه زاد عقله”. وفي ذلك دعوة إلى العناية بنظافة الثوب وطيب الرائحة وهو جزء من توجيه النبي صلى الله عليه وسلم. * طهارة المكان:ـ

 

ومن أنواع النظافة التي ركّز عليها الإسلام نظافة المسكن؛ فالنفس تنشرح عندما ترى مكاناً نظيفاً، وتشمئز عندما ترى مكاناً قذراً، وبيتنا الذي نقيم فيه هو بيت للعبادة والطاعة قبل أن يكون بيتاً للنوم والطعام والشراب، فالله سبحانه وتعالى قد طهّر بيته (البيت الحرام) وعهد إلى سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل عليهما السلام أن يحرصا على طهارة البيت الحرام، وأن يظل مهيَّأً للراكعين والطائفين والساجدين، فقال الله سبحانه وتعالى(وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) سورة البقرة (125). فهذا التطهير يشمل التطهير من القذر، ومن مظاهر الشرك والوثنية، فقد طهر الله سبحانه وتعالى البيت الحرام من الأصنام والأوثان التي كانت حوله، وقد أصبح البيت من فضل الله تعالى نظيفاً وطاهراً من حيث الظاهر والباطن.

 

طهارة الطريق :ـ لقد أعلى النبي عليه الصلاة والسلام من شأن النظافة، حتى أنه مرة ذكر لأصحابه أنه رأى رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس. فالله تعالى أعطاه ثوابه عظيماً وأجراً كبيراً. فما أروع أن يظل الطريق نظيفاً بعيداً عن كل أذى، وعن كل أنواع الأوساخ والأقذار التي تُلقى في الشوارع، لا بد أن نُعنى بنظافة شوارعنا حرصاً على الصحة والمظهر العام، وأن نُذهب الأذى عنها، فقد عدّ النبي صلى الله عليه وسلم إماطةَ الأذى عن الطريق شعبة من شعب الإيمان، فقال عليه الصلاة والسلام: “الإيمان بضعٌ وسبعون، فأفضلها قول (لا إله إلا الله)، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان“. متفق عليه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في بيان فضل إماطة الأذى عن الطريق، وأنها من أفضل أعمال الأمة التي تلقى بها وجه الله سبحانه وتعالى: “عُرِضت عليّ أعمال أمتي؛ حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يُماط عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها النخامة تكون في المسجد لا تُدفَن“. صحيح مسلم.

 

ثانيا : النظافة المعنوية :ـ

طهارة القلب :ـ فإذا كانت طهارةُ الظاهرِ من البدن بهذه المنزلةِ والفضلِ، فطهارةُ القلبِ أولى بذلك؛ فلا خير في حسنٍ ظاهر، مع فسادٍ باطن، وكم من جميل منظره خبيثٌ مخبره. لأنَّ مدارَ الأعمالِ، والثوابَ والعقابَ، والقبولَ والردَّ عليها، فلا تُدخَل الجنةُ دخولاً ابتدائيًّا من غير عقاب، إلا بطهارة القلب "يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ" [الشعراء: 88، 89]. وطهارة القلب ليست بالماء، والثيابِ النظيفةِ كطهارة البدن، إنما بالتخلص من الأوصافِ الذميمةِ، والاتصافِ بالأوصافِ الجميلةِ، ومن ذلك التخلصُ من دغلِ الشرك وغلِّه، فأعمالُ طاهرِ القلبِ كلُّها لله، لا يطلب من المخلوقين مدحًا، ولا تقديرًا وإجلالاً؛ بل هو يستسرُّ في العبادة، يَودُّ لو لم يطلع عليه أحدٌ، ومع ذلك هو خائفٌ وَجِلٌ من أن يكون لأحدٍ نصيبٌ في أعماله، فإذا عَمِل عملاً، سأل نفسه: لماذا هذا العملُ؟ وإن ترك شيئًا، سأل نفسه: لماذا تركتِ هذا العملَ؟ فإنْ أحبَّ أحب في الله، وإن أبغض أبغض في الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن مَنع مَنع لله، وإن تقدَّم تقدم لله، وإن تأخر تأخر لله. فسَلِم من عبودية ما سوى الله، فلا يريد أن يكونَ لغيرِ الله فيه شركٌ بوجه من الوجوه، فقد أخلص عبوديته لله – تعالى. وهو قد طهَّر قلبَه من تحكيم غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، قد عقد قلبَه على الائتمامِ والاقتداءِ به وحدَه – صلى الله عليه وسلم – دون غيرِه، في الأقوالِ والأعمالِ، من أقوالِ القلبِ، وهي العقائدُ، وأقوالِ اللسان، وهي الخبرُ عما في القلب، وأعمالِ القلب، وهي الإرادةُ، والمحبةُ، والكراهةُ، وتوابعُها، وأعمالِ الجوارحِ، فيكون الحاكمُ عليه في ذلك كلِّهِ هو ما جاء به الرسول – صلى الله تعالى عليه وآله وسلم – فلا يتقدم بين يديه بعقيدةٍ، ولا قولٍ، ولا عملٍ، كما قال – تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ" [الحجرات: 1].

 

قد طهَّر قلبَه تجَاه إخوانِه المسلمين، فلا يحسدُهم على نعمةٍ أنعمها اللهُ عليهم؛ بل يفرح بها؛ لأنَّه يعلم أنَّ محبةَ الخير للمسلمين مما افترضه الله عليه، وأنَّه إذا أخلَّ بذلك أخل بالإيمان الواجبِ؛ لقوله – صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم، حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه)؛ رواه البخاري ومسلم. لا يحتقر إخوانَه المسلمين؛ لعلمه بعظمِ ذلك عند الله تعالى لقوله – صلى الله عليه وسلم (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) رواه مسلم. لا يتطرقُ الكِبرُ إلى قلبِه الطاهر؛ لأنَّه يعلمُ قولَ النبي – صلى الله عليه وسلم (لا يدخل الجنةَ مَن كان في قلبه مثقالُ ذرةٍ من كبر) رواه مسلم. يحمل ما يصدر من إخوانه المسلمين على المحمل الحسن، فهو لا يسيء الظنَّ بهم؛ بل يلتمس العذر لزلاَّتهم وهفواتهم، ممتثلاً أمر ربه عز وجل بقوله"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ" [الحجرات: 12]، يعلمُ أن ما هو فيه من خيرٍ، وصلاحٍ، واستقامةٍ، من نِعمِ الله عليه "يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ" [الحجرات: 17].

 

يبدأ إخوانه بالتحية، ولو كان عند الناس أنَّه أعلى منهم قدرًا؛ لأنَّه يعلم أنَّ هذه التحية سبب لدخول الجنة، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم (لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أَوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) رواه مسلم. طلْق المحيَّا، يقابل إخوانه بالابتسامة وطلاقة الوجه؛ تعبُّدًا لله، مستحضرًا قولَ النبي – صلى الله عليه وسلم (لا تحقرن مِن المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بِوَجْهٍ طَلْقٍ) رواه مسلم. يعلم أنه بحسن خلقه يدرك درجة الصائم القائم. إذا رأى مَن عليه آثارُ المعاصي تذكَّرَ أنَّ الأعمالَ بالخواتيم، وأنَّ الهدايةَ بيد الله، فخاف على نفسه من سوءِ الخاتمةِ، واستعاذ بالله من الحَورِ بعد الكورِ، وتذكَّرَ نعمةَ اللهِ عليه، فربما كان في وقت من الأوقات أسوأَ حالاً من هذا العاصي "كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ" [النساء: 94].

 

فعندما طهَّر قلبَه استقام لسانُه، فلا يتكلم إلا بخير، يَزِنُ كلامَه قبل أن يتكلمَ به؛ لأنَّه يعلمُ أن أقوالَه من أعمالِه، متذكرًا قوله – صلى الله عليه وسلم (مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا، أو ليصمت) رواه البخاري ومسلم. عالمًا أنَّ اللسانَ دليلٌ على صلاحِ القلب أو فسادِه؛ لقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم (لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ، حتى يستقيمَ قلبُه، ولا يستقيمُ قلبُه، حتى يستقيمَ لسانُه) رواه الإمام أحمد بإسناد حسن. الجنة الثمن :ـ لقد امتدح الله أقوامًا بأنهم يدعونه تعالى أن يطهِّر قلوبهم ويسلِّمها من البغضاء والشحناء فقال: ( وَٱلَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإيمَـٰنِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ [الحشر:10]. وأخبر سبحانه أنه لا نجاةَ يوم القيامة إلا لمن سلِم قلبه، وسلامةُ القلب تقتضي طهارتُه من الغلِّ والشحناء والبغضاء، يقول جل من قائل: يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89]. كما أنه سبحانه أتمَّ النعمة على أهل الجنة بأن نزعَ ما في قلوبهم من الغلّ وجعلهم إخوانًا، ذلك أن الغلَّ يُشقي صاحبه ويتعذَّب به، يقول سبحانه عن أهل الجنة: وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَـٰبِلِينَ [الحجر:47].

 

وبيَّن سبحانه أنّ من مقتضيات التقوى حصولَ ذلك الصلاح في ذات البين وطهارة القلوب وسلامتها، فقال سبحانه: فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ [الأنفال:1]. وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ” يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ” فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ، قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأُولَى، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ : إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي، فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ، قَالَ : نَعَمْ، قَالَ أَنَسٌ : وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِيَ الثَّلَاثَ، فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ، حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا، فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلَاثُ لَيَالٍ، وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ، قُلْتُ يَا عَبْدَ اللَّهِ : إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلَا هَجْرٌ ثَمَّ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَكَ : ثَلَاثَ مِرَارٍ يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مِرَارٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ فَأَقْتَدِيَ بِهِ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ : مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ، قَالَ : فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي فَقَالَ : مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ ” . ألا فاعلموا أيها الناس أن ثمن سلامة صدر العبد المؤمن على أخيه المؤمن ؟ جنة غالية، وهمة عالية. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ” تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ : أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا ” [ رواه مسلم ] . فأفضل طرق الجنة سلامة الصدر، قال تعالى : " يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ " [ الشعراء 88- 89 ] .

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قيل يا رسول الله أي الناس أفضل ؟ قال : ” كل مخموم القلب، صدوق اللسان ” قالوا : صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب ؟ قال : ” هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي، ولا غل ولا حسد ” [ رواه ابن ماجة بإسناد صحيح والبيهقي ] .

 

طهارة القلب في حياة السلف :ـ انظروا إلى المجتمع المسلم الأول، كيف نظفت نفوسهم، وطهرت قلوبهم، وزكت أفئدتهم، وسمت هممهم فكان مجتمع الصفاء والإخاء، والطهارة والنقاء، مجتمع تسوده الرحمة والألفة والمحبة، مجتمع يحب بعضه بعضاً، ويفدي بعضها بعضاً، مجتمع ترك الدنيا وزينتها، وطلب ما عند الله تعالى، مجتمع يحب لله، ويبغض لله، قال الله عنهم : " مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً " [ الفتح29 ] . ورؤي أبودجانة رضي الله عنه في مرض موته مشرق الوجه فسئل مالي وجهك متهللا يا أبا دجانة فقال: كنتُ لا أتكلّم فيما لا يعنيني، وكان قلبي للمسلمين سليمًا. لم يتذكر موقفه العظيم في يوم أحد حينَ أخذ السيف بحقِّه، فجالد به المشركين، لكنه تذكّر سلامة قلبه وطهارتَه لإخوانه المسلمين. وحين قال رجلٌ لعمرو بن العاص رضي الله عنه: والله، لأتفرغنَّ لك، قال له كلمة تنمّ عن حكمة عظيمة: إذا تقَعُ في الشُّغل. فإنّ من أشغَلَ قلبه بالآخرين غِلاً وحسَدًا وقع في الهمّ والبلاء، وأشغل نفسه ووقته بما لا يعنيه وما لا طائلَ له من ورائه. إن سلفنا الصالحَ قد راعَوا هذا الأمر واهتموا به أشدَّ الاهتمام فهذه بعض القدوات الرائعة من حياة السلف :ـ

الإمام أحمد :ـ هذا إمام السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وقد أوذي وسجن وعذِّب عذابًا شديدًا، لكنه بعد تلك المحنة يصفَح عن كلِّ من أساء إليه إبَّان سجنه فيقول لأحدهم: “أنت في حلٍّ، وكل من ذكرني في حلّ، إلا مبتدع، وقد جعلت أبا إسحاق في حلّ ـ يعني المعتصم أمير المؤمنين ـ رأيتُ الله يقول: وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ [النور:22]، وما ينفعك أن يعذَّب أخوك المسلم بسببك؟”.

 

الإمام الشافعي :ـ وهذا الإمام الشافعي رحمه الله بعدَ أن ناظره يونس الصّدفي، فلما لقيه بعد ذلك أخذ بيده وقال له: “يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكونَ إخوانًا وإن لم نتّفق في مسألة؟!” وهذا ما حمل الصدفي على القول: “ما رأيت أعقل من الشافعي”.

 

الإمام ابن تيمية :ـ أما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقد كان له موقفٌ من أعدائه وخصومه، حيث صفح عنهم وعفَا قائلاً: “لا أحبّ أن يُنتَصَر من أحد بسبب كذبه عليّ أو ظلمه وعدوانه، فإني قد أحللتُ كلَّ مسلم، والذين كذبوا وظلموا فهم في حل من جهتي”، وذكر تلميذه ابن القيم أنه ما رأى أحدًا أجمع لخصالِ الصفح والعفو وسلامة الصدر من ابن تيمية، وأن أحد تلاميذه بشّره بموتِ أكبر أعدائه الذين آذوه، فنهره ابن تيمية وغضب عليه واسترجع وقام من فوره، فعزّى أهل الميت، وقال لهم: “إني لكم مكانَه”.

 

فأين هذه المواقف ـ عباد الله من قلوب مُلِئت غلاً وبُغضًا؟! إنك لتجد الرجلين في مجلسٍ واحد وما بينهما أحدٌ، لكن في قلب كلِّ منهما مثل الجبل العظيم من الغلّ والحسد والبغضاء على الآخر، وإنك لتجد الجارين ليس بينهما إلا جدار واحدٌ لا يطيق أحدهم الآخر، فضلاً عما يحصل من السخرية والاستهزاء والهمز واللمز والتنابز بالألقاب والغيبة في المجالس.

 

العنصر الثاني :

بيان عظمة الإسلام الحنيف: إخوة الإسلام! قد عرفنا النظافة التي جاء بها الشرع بمفهومها الواسع، فهي ليست في جانبٍ ضيق يُعنى بالشكل على حساب الجوهر، كما أنها ليست كلماتٍ تُقال، ولا أيام تقام، بل هي ملازمة للمسلم لا تنفك عنه بحال، فهذا أكبر دليل علي عظمة هذا الدين الحنيف، فما أحرى ذلك أن يزيدنا تمسكاً بديننا، ووعياً أعمق في حكمه وأحكامه. وإن ديناً هذه تعاليمه، ينبغي لأتباعه أن يكونوا حريصين على النظافة بُكل أبعادها، ليكونوا أقوى الأمم؛ عقيدةً وإيماناً، وأسلمهم فكراً وعلماً، وأصلحهم قلوباً وأعمالاً، وأصحهم أجساداً وأبداناً، وأحسنهم هيأةً وأشكالاً، ليجمعوا بين صلاح الباطن والظاهر، وحسن المنظر والمخبر، وعند ذاك تحصل لهم القوة المادية والمعنوية، حيث يقوى الإيمان والعلم، ويحسن الخلق والمعاملة، وتصح الأبدان والعقول، فيكون لهم من الشوكة والهيبة والقوة ما يرهب أعداءهم بإذن الله. وقد سبق الإسلام في ذلك النظم البشرية كلها، وأثبت الطب الحديث صدق ما جاء به الإسلام -ولله الفضل والمنة- مما يجعل حضارة الإسلام وتقدمه لا توازيها حضارة مدعاة، وتقدمٌ مزعوم كان من انقلاب الموازين عند أفراده، من التنافس في القذارة وعمل الأوساخ، والتسابق إلى أعمالٍ تنفر منها الطباع السليمة، والأذواق الحسنة، مما يخالف فطرة الله السوية، وتعاليمه السمحة.

 

أيها المسلمون :ـ إن الإسلام دين الطهارة والنظافة واللطافة والجمال والكمال، والطهارة أمر وقائي، بل ركن أساسي للابتعاد عن الأمراض السارية والمعدية، فلْنحرِصْ جميعاً على التخلّق بأخلاق الإسلام، وعلى تنظيف بيوتنا من الظاهر والباطن، وعلى تنظيف أبداننا، وثيابنا، ومكان جلوسنا ونومنا، ومكان تناول طعامنا؛ لأن ذلك من تمام الإيمان والأخلاق. فالنظافة والتجمل والصحة والطهارة أسس لا بد منها لكل مسلم؛ حتى تنهض هذه الأمة بواجباتها. اللهم! اجعلنا ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

المشاهدات 721 | التعليقات 0