قصة هود عليه السلام

فهد عبدالله الصالح
1439/04/03 - 2017/12/21 10:27AM

أيها المسلمون: لقد دعانا القرآن الكريم للنظر والاعتبار في حال الأمم والحضارات التي عاشت حيناً من الدهر وسادت، لكنهم لم يسخروا هذه الحضارة في عبودية الله، فزالت حضارتهم وأصبحوا أثراً بعد عين ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [الروم: 9].

نقف مع خبر من أخبار التأريخ، وقصة من القصص الحق، مليئة بالدروس مشحونة بالعبر، فيها تسلية للمستضعفين، ورسالة إنذار للطغاة والمتجبرين، مع خبر أمة لم ير مثلها في الطغيان والعناد  والبطش والفساد، ظلموا أنفسهم وعلو في الأرض، وما علموا أن الطغيان مهلكة للديار، مفسدة للأمصار، مسخطة للجبار، نهايته ومآله خيبة ومذلة ﴿ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ﴾ [طه: 111]، إنهم قوم عاد الذين تزاهوا بالمال، وتباهوا بالقوة، فأورثهم ذلك طغياناً وكفراً وعناداً وبطراً ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ﴾ [الفجر: 6، 7]، قال السدي: كانوا باليمن بالأحقاف، وهو جبل الرمل، بسط الله سبحانه لهذه الأمة قوة في أجسادهم وضخامة في أبدانهم كما قال تعالى ﴿ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً ﴾ [الأعراف: 69]، بل لم يخلق الله مثل قوتهم ﴿ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ﴾ [الفجر: 8]، فكانوا أقوى أهل زمانهم عسكرياً واقتصادياً وكانت لهم الخلافة بعد قوم نوح عليه السلام ﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ﴾ [الأعراف: 69]، كان قوم عاد أصحاب رقي وعمران وحضارة في البناء ومدنية في الحياة، فمساكنهم آية في الروعة والفن، أشار القرآن إلى شيء منها في قوله تعالى ﴿ ذَاتِ الْعِمَادِ ﴾ [الفجر: 7]، أي ذات البناء الرفيع، وزادهم الله بسطة في النعيم، فكانت أراضيهم جنات وعيوناً، فزادت مواشيهم، وفاضت أموالهم، وكثر أبناؤهم قال سبحانه ﴿ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴾ [الشعراء: 133، 134]، عاش قوم عاد حياة الترف  والالتهاء بالدنيا، فكان الواحد يحكم بنيانه ويرفعه ويباهي به، لا لحاجته بل للمفاخرة والتطاول كما قال تعالى ﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ﴾ [الشعراء: 128]، وتنافسوا أيضاً من الإكثار في المساكن والبروج الشاهقة ليخلد في الدنيا ذكرهم ﴿ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ﴾ [الشعراء: 129]، قابلت هذه الأمة العربية نعم الله بالكفران، وآلاءه بالجحود والنكران، فعبدوا الأوثان، واعتقدوا فيها النفع والضر، فلم تغن عنهم حضارتهم وتقدمهم شيئاً.

وكانت تلك الأمة قد فشا فيهم الظلم ﴿ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ﴾ [الشعراء: 130]، وفيهم طغاة يطاعون من دون الله ﴿ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ﴾ [هود: 59]، وغرتهم حضارتهم وقوتهم فقالوا من أشد منا قوة، فبعث الله لهم نبيهم هوداً عليه السلام، فدعا وذكر ونصح وأشفق فقال ﴿ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ﴾ [الأعراف: 68]، دعاهم إلى عبادة الله وحده ونبذ الأوثان ﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ [الأعراف: 65]، وذكرهم نعم الله المتتالية عليهم ﴿ فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 69]، وحثهم على الاستغفار والتوبة وأن الرجوع إلى الله يزيدهم خيراً ﴿ وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ﴾ [هود: 52]،وبين لهم إنه لا يريد من هذه الدعوة مصلحةً أو مالاً ﴿ يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [هود: 51]،آمن مع هود من آمن من قومه، والغالب اختاروا طريق الهوى والعناد والإعراض فقابلوا هذه الدعوة الصادقة بمواقف عدة حكاها القران في مواضع متفرقة، فاحتقروا نبيهم ورموه بالسفاهة والكذب من ذلك قولهم ﴿ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [الأعراف: 66]، واتهموه في عقله ﴿ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ﴾ [هود: 54]، وادعوا انه لم يأتهم بالأدلة المقنعة على دعوته ﴿ قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ ﴾ [هود: 53]، وصارحوه بالكفر ﴿ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [هود: 53]، بل ادعوا أنهم على الحق وهو على الضلال ﴿ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الأعراف: 60]، مكث هود ما شاء الله له أن يمكث في قومه، ودارت بينه وبين قومه جلسات حوار ومناظرة، واستخدم معهم وسائل الإقناع وطرائق التأثير، ورغب ورهب، ولان وترفق، حتى مل قومه هذا الحوار وتلك النصائح فقالوا ﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ ﴾ [الشعراء: 136]، وأعلنوها صراحة: أن طريق الآباء هو الحق والهدى، وقالوا ﴿ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ﴾ [الأعراف: 70]، بل بلغ بهم الإعراض أنهم سلكوا طريق التحدي فقالوا ﴿ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [الأعراف: 70]،فإذا نبي الله هود الهادئ المشفق يغلظ لهم في القول ﴿ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ﴾ [الأعراف: 71]، ﴿ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [هود: 54 - 56].

إخوة الإيمان: يقول من لا ينطق عن الهوى صلي الله عليه وسلم (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)، أمر الله سماءه فأمسكت وأرضه فأجدبت فعاشت عاد تتشوف غيث السماء وتتحين، فبينما الطغاة والمعاندون وأتباعهم في لهوهم سادرون وفي غيهم لاهون، إذ أذن الله لجند من جنده أن يتحرك، أذن للهواء الساكن أن يضطرب ويهيج ويثور، فإذا هو يسوق السحاب سوقاً، فلما رأوها مقبلة اوديتهم استبشروا وقالوا هذا عارض ممطرنا، قال الله ﴿ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [الأحقاف: 24]، ريح باردة عاتية ﴿ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ﴾ [الذاريات: 42] ريح عقيم ﴿ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [الأحقاف: 25]، سخرها عليهم الجبار سبع ليال وثمانية أيام، من قوتها أنها كانت تحملهم إلى أعلى، فتتصاعد أجسادهم إلى السماء ثم تنكسهم على رؤوسهم، فتندق أعناقهم، وهذا جزاء المستكبرين في الدنيا تراهم صرعي ﴿ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ﴾ [الحاقة: 7، 8].

فيا لقوة  الله!  كيف هذا الإنسان على هذه الهيئة المنكسة قد كان بالأمس ينادي: من أشد منا قوة.

فأفٍّ لهذا الإنسان حين يظن أنه خلق ليتعالى على خلق الله.

وأفٍّ لهذا الإنسان حين يضل سعيه في الحياة الدنيا من أجل أمجاد زائفة زائلة.

أفٍّ لحضارات ودول تسترخص الدماء، وتتسلط على الضعفة والأبرياء، ولسان حالهم من أشد منا قوة.

فيا ويل ثم يا ويل من نزعت من قلوبهم الرحمة، ففجعوا الأم بوليدها، وجرعوا مرارات من الأسى على بيوت بريئة، رملت نساؤها ويتمت أطفالها، وبكت رجالها ودامت أحزانها.

نعم هذه نهاية الطغيان، وهذه خاتمة الكفر والتعالي والنكران وهذا حكم الله فيهم: اتبعهم الله في هذه الدنيا لعنةً ويوم القيامة لعنة، أذاقهم الله ﴿ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ ﴾ [فصلت: 16].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..

المشاهدات 1982 | التعليقات 2

أين الخطبة الثانية ..... بوركت


بعض الخطب لاأكتب لها كون الأولى فيها طول فقد تكون الثانية تحدث عن موضوع أخر قصير واقع في المجتمع لا يحتمل التاخير  أو تذكير بشيء أو تلخيص للخطبة الأولى