رسائل الزلازل

طلال شنيف الصبحي
1439/02/27 - 2017/11/16 23:24PM

رسائل الزلازل 27 / 2 / 1439 ه

الحمد لله الذي خلق السموات والأرض، وجعل الأرض قرارا ومهادا, وفراشا وبساطا, ألقى فيها رواسي أن تميد بكم, وجعل السماء سقفًا محفوظًا.أحمده على نعمه الظاهرة والباطنة, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الخلق والأمر وهو على كل شيء قدير.وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, أعرف الخلق بربه, وأتقاهم له, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليما كثيرا. أمَّا بعد: فاتقوا لله عباد الله حقَّ التقوى.(يا أيها الذين ءامنوا

عباد الله: تموج الأرض بالكوارث والمتغيرات، ويَتفاجأ البشر بالغِيَرِ والمَثُلَاتِ، يُقَلِّبُ الله عبادَه ويريهم من الآيات والكروب، ما يوجل القلوب، ويعلقها بعلام الغيوب، آيات كونية تضرب البشر هنا وهناك؛ لعلهم يرجعون ويدَّكِرون ويتضرَّعون، (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا) ومن الظواهر الكونية التي تستحق أن نقف معها وقفة تأمل وادِّكار، والتي تهزُّ الأرض حيناً بعد حين: ظاهرة الزلازل.فهي آية من آيات الله في أرضه، وقدر من أقدار الله في ملكه، يصيب بها من يشاء لحكمة، ويصرفها عن من يشاء: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) الزلازل والهزات الأرضية رسائل إنذار من الملك الجبار، (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) إنَّ ظاهرة الزلازل لهي أعظم آية كونية ترتج لها النفوس، وتنخلع لها القلوب؛ إنه منظر الأرض وهي تتصدع، وتنشق، وتتغير؛ فما هي بالأرض التي عهدها الناس وقرُّوا فيها، واستأنسوها، (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا) (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ) (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا) هذه الأرض التي جعلها الله قراراً، في مثل طرفة العين وانتباهتها، يُغيِّر الله حالها من حال إلى حال، فبينما الناس في دنياهم غافلون، أو في لهوهم سادرون، إذ أذن الله لجند من جنده أن يتحرك، أذن للأرض الصلبة الساكنة أن تضطرب، فإذا السقوف تجثو، والبنايات تتمايل، والحيطان تتناثر.

 ذهلت العقول، زاغت الأبصار، بلغت القلوب الحناجر؛ يخرج الناس مع رجفة الزلزلة مكلومين، مشدوهين، نازحين، يسيرون ولكن إلى غير اتجاه، يقصدون لكن إلى غير وجهة، لا بيوتَ تنجيهم، ولا أبراجَ تؤويهم: (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ) كم في ظاهرة الزلازل من رسائل لبني البشر تخاطبهم بأنه ما أعظم قدرة الخالق -سبحانه-! وما أشد بطشه! تعالت عظمته، وجلَّت قدرته، إذا أراد بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دون الله من ولي ولا وال، لا راد لقضائه وقدره، ولا محيد عن أمره وبطشه، إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون. خرَّتْ لعظمة الله الجبالُ الراسيات، وتشققتْ من خشيتِه الصخورُ القاسياتْ.

ومن رسائل الزلازل أنها يوم ترجف رجفتها كأنما تخاطب أهل الأرض بعجز المخلوق، وضعفه، وفقره، وقلَّة حيلته، وأن المخلوق مهما طغى وبغى، ومهما تجبر وتكبر، ومهما أوتي من قوة وتقدم فليس بمعجز في الأرض، يبقى هذا الإنسان مهما بلغ وكان، فقيراً ذليلاً ما له من دون الله من ولي ولا نصير. وإن رصد أماكن الزلازل ودرجاتها يبقى ضعيفاً حائراً أمام هذا الجندي الإلهي، فلا قوة عسكرية، ولا ترسانة حربية، ولا أجهزة تقدمية تقلل من حجم هذه الخسائر المادية، فضلاً أن تدفعها أو تؤخِّرها.

 ورسالة أخرى تعظنا بها هذه الزلازل: فما نراه اليوم من دمار مهول، ومشاهد مفجعة، ما هو إلا جزء يسير، ومشهد قصير، من زلزال يوم عظيم.إذا كان أهل الأرض فُجِعوا بحركةٌ قليلة، وهزَّاتٌ يسيرة، في ثوانٍ معدودة، وفي بقعة محدودة؛ فكيف بنا -يا عباد الله- إذا رُجَّت الأرض رجَّاً، وبُسَّت الجبال بسَّاً؟ كيف حالنا إذا حملت الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً واحدةً؟.إنه زلزال لا موت فيه، ولكن فيه الخوف المتناهي، (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا) إنه زلزالٌ وصفه الله العظيم بأنه عظيم! تذهل من هوله وشدَّته المراضع، وتشيب الولدان، وتضع الحوامل حملها، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...

 الخطبة الثانية:

 عباد الله: عن أَبي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ r: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ، وَهُوَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ، حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمْ الْمَالُ فَيَفِيضَ" رواه البخاري في صحيحه. وروى أحمد في مسنده بسند صحيح أن النبي r قال: "بين يدي الساعة سنوات الزلازل". ولقد كان من هدي نبيكم -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام أنهم إذا رأوا مثل هذه الآيات ارتفع صوت الوعظ فيهم بالبعد عن الذنوب والخطيئات وكثرة التوبة والاستغفار وفعل الحسنات. انكسفت الشمس ضحى على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ورآها الناس فخرج -عليه الصلاة والسلام- إلى الصلاة فزعاً، يجرُّ إزاره مسرعاً. فحذر أمته من عصيان الله، وانتهاك محارمه؛ فقال: "يا أمَّة مُحمد، والله ما من أحد أغيرُ من الله أن يزني عبده، أو أن تزني أَمَته". واهتزت الأرض في عهد عمر -رضي الله عنه- حتى شعر بها الناس، فقال عمر: "يا أهلَ المدينة، ما أسرع ما أحدثتم! والله! لئن عادت لأخرجنَّ من بين أظهركم".

عباد الله: إنَّه مما يؤسف له أنَّ مع كل كارثة نراها اليوم ونتابع أحداثها نجد أنَّ الصوت الأعلى هو التحليل المادي، فالأعاصير هي بسبب تيار هوائي، والغبار بسبب منخفض جوي، والطوفان سببه زيادة منسوب الماء، والزلازل بسبب تشقق وتكسر في قشرة الأرض، وهكذا؛ كل ظاهرةٍ تفسَّر تفسيرًا ماديًّا صرْفًا. فأين مدبِّرها؟! أين مصرِّفها؟! أين خالقها؟! أين موجدها؟! أين قول العظيم الجبَّار: (وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا)؟. هذه التفسيرات المادية الحسية القاصرة لا تُحرِّك القلوبَ إلى ربِّها، وإنَّما هي سبب من أسباب الغفلة، وقسوة القلب، وقلة الاتعاظ.

 فيا عباد الله: استدفعوا البلاءَ بكثرة الاستغفار؛ (وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) واتقوا كوارث الدَّهر بالصلاح والإصلاح؛ (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)  نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يتعظ بالْمَثُلات، وأنْ يهديَنا سواء السبيل، وأن يحفظنا من طوارق الدهر وفواجع الزمان، إنَّه سميع قريب مجيب.

 هذا وصلوا وسلموا بعد ذلك على خير البرية، وأزكى البشرية...

المشاهدات 1204 | التعليقات 1

المرفق هنا 

المرفقات

https://khutabaa.com/forums/رد/288340/attachment/%d8%a7%d9%84%d8%b2%d9%84%d8%a7%d8%b2%d9%84-1

https://khutabaa.com/forums/رد/288340/attachment/%d8%a7%d9%84%d8%b2%d9%84%d8%a7%d8%b2%d9%84-1