السَّبْعِينَ أَلْفاً 7 صَفَر 1439هـ

محمد بن مبارك الشرافي
1439/02/05 - 2017/10/25 17:57PM

السَّبْعِينَ أَلْفاً 7 صَفَر 1439هـ

الْحَمْدُ للهِ الذِي أَرَادَ فَقَدَّر، وَمَلَكَ فَقَهَر، وَعُبِدَ فَأَثَابَ وَشَكَر، وَعُصِيَ فَعَذَّبَ وَغَفَر، وَجَعَلَ مَصِيرَ الذِينَ كَفَرُوا إِلَى سَقَر، والذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَر, نَحْمَدُهُ تَعَالَى وَحَمْدُهُ فَرْضٌ لازِم، وَنَشْكُرُهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى فَضْلِهِ الْمُسْتَمِرِّ وَإِحْسَانِهِ الدَّائِم. وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَه إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ, الْحَيُّ الْقَيُّومُ خَالِقُ الْعَوَالِم، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَّمَدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الْمَبْعُوثُ بِالتَّوْحِيدِ وَالْمَكَارِم, صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الْأَكَارِم، وَالْمَوْصُوفِينَ بِصِدْقِ الْعَزَائِم، وَعَلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ مِنَ العَرْبِ وَالْأَعَاجِم .

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ وَأَخْلِصُوا لَهُ الْعَمَلَ, وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ فَقَدْ تَعَهَّدَ بِالْحِفْظِ وَالرِّعَايَةِ لِمَنْ صَدَقَ فِي التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ, قَالَ اللهُ تَعَالَى (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : مَعَنَا فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ حَدِيثٌ عَظِيمٌ فِيهِ قِصَّةٌ سَلَفِيَّةٌ وَأَخْبَارٌ نَبَوِيَّةٌ وَفَوَائِدُ دِينِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّة.

فَعَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ رَأَى الْكَوْكَبَ الَّذِي انْقَضَّ الْبَارِحَةَ؟ قُلْتُ: أَنَا، ثُمَّ قُلْتُ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلَاةٍ، وَلَكِنِّي لُدِغْتُ، قَالَ: فَمَاذَا صَنَعْتَ؟ قُلْتُ: اسْتَرْقَيْتُ، قَالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قُلْتُ: حَدِيثٌ حَدَّثَنَاهُ الشَّعْبِيُّ فَقَالَ: وَمَا حَدَّثَكُمُ الشَّعْبِيُّ؟ قُلْتُ: حَدَّثَنَا عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ حُصَيْبٍ الْأَسْلَمِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ، أَوْ حُمَةٍ، فَقَالَ: قَدْ أَحْسَنَ مَنِ انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ، وَلَكِنْ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي، فَقِيلَ لِي: هَذَا مُوسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْمُهُ، وَلَكِنْ انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ الْآخَرِ، فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: هَذِهِ أُمَّتُكَ وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ)، ثُمَّ نَهَضَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ فَخَاضَ النَّاسُ فِي أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمُ الَّذِينَ صَحِبُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمُ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُشْرِكُوا بِاللهِ، وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ (مَا الَّذِي تَخُوضُونَ فِيهِ؟) فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ (هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)، فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، فَقَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ (أَنْتَ مِنْهُمْ؟) ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ (سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ) رَوَاهُ مُسْلِم.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : انْتَهَى الْحَدِيثُ, وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ أَسْمَاءٌ لِلرُّوَاةِ رَحِمَهُمُ اللهُ وَرَضِيَ عَنْهُمْ, فَأَمَّا حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَهُوَ مِنْ تَابِعِ التَّابِعِينَ وَهُوَ تِلْمِيذُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ وَكَانَ يُجَالِسُهُ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ, وَأَمَّا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَهُوَ الْإِمَامُ الْفَقِيهُ الْعَابِدُ, أَحَدُ أَجَلَّاءِ تَلَامِيذِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا, قَتَلَهُ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ سَنَة 95 وَلَمْ يُكْمِلِ الْخَمْسِينَ مِنْ عُمْرِهِ, بِسَبَبِ خُرُوجِهِ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ, الذِي خَرَجَ عَلَى يَزِيدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا سَنَةَ 82 هِجِرِيَّة وَبَائَتْ بِالْفَشَلِ, وُهُزِمَ الْخَارِجُونَ عَلَى السُّلْطَانِ, ثُمَّ طَارَدَهُمُ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسِفَ الثَّقَفِيُّ الْأَمِيرُ الظَّالِمُ وَقَتَلَهُمْ وَاحِدَاً وَاحِدَاً, فَاخْتَفَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ثِنْتَيْ عَشْرَة سَنَةً, ثُمَّ فِي النِّهَايَةِ ظَفِرَ بِهِ الْحَجَّاجُ فَقَتَلَهُ فِي قِصَّةٍ مَعْرُوفَةٍ فِي التَّارِيخِ, وَهَذَا مِنْ مَفَاسِدِ الْخُرُوجِ عَلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ, وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ, فَحَصَلَتْ مَفْسَدَةٌ كَبِيرَةٌ وَلَمْ تَتَحَقَّقِ مَصْلَحَةٌ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَأَمَّا الشَّعْبِيُّ فَهُوَ عَامِرُ بْنُ شَرَاحِيلَ عَالِمٌ الْيَمَنِ, وَقَدْ كَانَ مِنَ أْحَفَظِ النَّاسِ لِلْعِلْمِ, وَأُثِرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : مَا كَتَبْتُ سَوْدَاءَ فِي بَيْضَاءَ, وَلا حَدَّثَنِي رَجُلٌ بِحَدِيثٍ فَاسْتَعَدَّتُهُ حَدِيثَهُ, وَلَقَدْ نَسِيتُ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَوْ حَفِظَهُ رَجَلٌ لَكَانَ بِهِ عَالِمَاً, وَأَقَلُّ مَا أَحْفَظُ الشِّعْرَ, وَلَوْ شِئْتُ لَأَنْشَدْتُكُمْ شَهْرَاً لا أُعِيدُ, أَيْ : لا أُكَرِّرُ الْأَبْيَاتَ وَالْقَصَائِدَ, بَلْ كُلُّهَا جَدِيدَةٌ, لِكَثْرَةِ مَا يَحْفَظُ.

وَأَمَّا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فَهُوَ حَبْرُ الْأُمَّةِ وَتُرْجُمَانِ الْقُرْآنِ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, دَعَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ (اللهُمَّ فَقِّهُّ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ. وَأَمَّا بُرَيْدَةُ بْنُ الْحُصَيْبِ وَعُكَّاشَةٌ بْنُ مِحْصَنٍ فَهُمَا صَحَابِيَّانِ جَلِيلَانِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : وَيُؤْخَذُ مِنْ الْحَدِيثِ كَثِيرٌ مِنَ الْفَوَائِدِ  الْعَقَدِيَّةِ وَالْمَسْلَكِيَّةِ لا تَتَّسِعُ لَهَا الْخُطْبَةُ, لَكِنَّنَا نَخْتَصِرُ مِنْهَا مَا لَعَلَّهُ يَنْفَعُ.

فَمِنْهَا : حِرْصُ السَّلَفِ عَلَى الْعِلْمِ وَالْجُلُوسِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ, وَهَكَذَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُجَالِسَ الْعُلَمَاءَ مَا اسْتَطَعْنَا, فَإِنْ لَمْ نَسْتَطِعْ فَنُجَالِسَ كُتُبَهُمْ وَمُحَاضَرَاتِهِمْ وَدُرُوسَهِمْ, بِالْأَشْرَطَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا يَنْقُلُ عِلْمَهُمْ.

وَمِنَ الْفَوَائِدِ : الْحِرْصُ عَلَى الْإِخْلَاصِ, فَإِنَّ حُصْيَنَاً رَحِمَهُ اللهُ كَانَ مُسْتَيْقِظَاً فِي سَاعَةٍ مُتَأَخِّرَةٍ مِنَ اللَّيْلِ, اعْتَادَ الصَّالِحُونَ أَنْ يُصَلُّوا فِيهَا صَلَاةَ التَّهَجُّدِ, لَكَنَّهُ قَالَ : أَمَا إِنِّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلَاةٍ، وَلَكِنِّي لُدِغْتُ, فَلَمْ يَتْرُكِ النَّاسَ يَظَنُّونَ أَنَّهُ يُصَلِّي فَيَمْدَحُونَهُ وُيُثْنَونَ عَلَيْهِ بِصِفَةِ قِيَام ِاللَّيْلِ, وَإِنَّمَا تَبَرَّأَ مِنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يُمْدَحَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ, فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَحْرِصَ عَلَى إِخْفَاءِ أَعْمَالِنَا الصَّالِحَةِ, وَلا نَتَصَنَّعُ لِلنَّاسِ بِإِظْهَارِ شَيْءٍ مِنْهَا لِكَيْ يَمْدَحُونَا, إِنَّ هَذَا خَطَرٌ عَظِيمٌ, فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : وَمِنَ فَوَائِدِ هَذِهِ الْقِصَّةِ : أَنَّ الاسْتِجَابَةَ لِلرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُتَفَاوِتَةٌ, فِمْنُهْم مَنِ اسْتَجَابَ لَهُ عَدَدٌ كَبِيرٌ, وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَجَابَ لَهُ عَدَدٌ قَلِيلٌ, وَمِنهْمُ مَنْ لَمْ يَسْتَجِبُ لَهُ أَحَدٌ بِالْمَرَّةِ, مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ بَلَّغُوا رِسَالاتِهِمْ أَتَّمَّ الْبَلَاغِ وَلَمْ يُقَصِّرُوا فِي دَعْوَتِهِمْ لِلنَّاسِ.

فَنَسْتَفِيدُ أَنَّنَا إِذَا دَعَوْنَا إِلَى اللهِ وَلَمْ يَسْتَجِبِ النَّاسُ لَنَا أَوْ قَلَّ عَدَدُ الْمُسْتَجِيبِينَ فَلا نَغْضَبُ عَلَيْهِمْ, أَوْ نَيْأَسُ وَنَتَوَقَّفُ مِنَ الْخَيْرِ, بَلْ نَدْعُوا النَّاسَ لِلتَّوْحِيدِ وَالسُّنَّةِ وَنُرْشِدُهُمْ لِلْخَيْرِ وَنُحَذِّرُهُمْ مِنَ الشَّرِّ, وَأَمَّا النَّتِيجَةُ فَإِلَى اللهِ, وَالْهِدَايَةُ مِنْ عِنْدِ اللهِ, قَالَ اللهُ تَعَالَى (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَمِنْ فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ, أَنَّ مِنْ أُمَّةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعِينَ أَلْفَاً يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلا عَذَابٍ, وَهُمْ مَنِ اتَّصَفَ بِصِفَاتٍ ثَلاثٍ ذَكَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ (هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) , فَأَسْأَلُ اللهَ أَنْ أَكُونَ وَإِيَّاكُمْ مِنْهُمْ, وَبِإِذْنِ اللهِ نُوَضِّحُ هَذِهِ الصِّفَاتِ بِاخْتِصَارٍ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ, أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كِلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم .

 

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ إِلَهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّداً رَسُولُهُ الأَمِينُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ وَسَلِّمْ تَسْلِيمَاً كَثِيراً.

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ الاسْتِرْقَاءَ : أَنْ تَطْلُبَ مِنْ شَخْصٍ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْكَ بِسَبَبِ مَرَضٍ فِيكَ, وَهُوَ جَائِزٌ لَكِنّ تَرْكَهُ أَفْضَلُ تَوَكُّلَاً عَلَى اللهِ وَاعْتِمَادَاً عَلَيْهِ, وَلِئَلَّا يَمِيلَ قَلْبُكَ إِلَى الرَّاقِي وَتَنْسَى الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى, كَمَا هُوَ حَالُ بَعْضُ النَّاسِ الْيَوْمَ, فَيَذْهَبُ لِلرُّقَاةِ لِيَرْقُوهُ أَوْ يَرْقُوا زَوْجَتَهُ أَوْ أَحَداً مِنْ أَقَارِبِهِ, ثُمَّ يَتَعَلَّقُ بِهِمْ وَيَرْكَنُ إِلَيْهِمْ, وَهَذَا فِيهِ نَقْصٌ فِي التَّوْحِيدِ.

وَالسُّنَّةُ أَنْ الْإِنْسَانَ يَرْقِي نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ, بِالْفَاتِحَةِ وَبِآيَةِ الْكُرْسِيِّ وَالصَّمَدِ وَالْمُعَوِّذَاتِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ أَوْ يَرْقِيَ أَهْلَهُ, وَيَتْرُكَ مِنْهُ الذِّهَابَ إِلَى الرُّقَاةِ, لَكِنْ لَوْ أَنَّ أَحَدَاً رَقَاهُ وَقَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْلُبُ مِنْهُ فَلا بَأْسَ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَأَمَّا التَّطَيُّرُ فَهُوَ: التَّشَاؤُمُ بِمَرْئِيٍّ أَوْ مَسْمُوعٍ أَوْ مَعْلُومٍ, وَهَذَا مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ, فَإِذَا رَأَوُا الْبُومَةَ مَثَلَاً أَوِ الْغُرَابَ خَافُوا وُقُوعَ الشَّرِّ لَهُمْ, وَرُبَّمَا تَرَكُوا السَّفَرَ أَوْ نَحْوَهُ مِمَّا عَزَمُوا عَلَيْهِ, بِسَبَبِ هَذَا الطَّيْرِ. وَبَعْضُهُمْ يَتَشَاءَمُ مِنْ شَهْرِ صَفَرٍ, فَيَخَافُ أَنْ يُسَافِرَ فِيهِ أَوْ يَتَزَوَّجَ, أَوْ يَعْقِدَ صَفْقَةً تِجَارِيَّةً أَوْ يَبْدَأَ فِيهِ بِنَاءَ بَيْتِهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَمِثْلُهُ عِنْدَ بَعْضِ الْغَرْبِ الْيَوْمَ يَتَشاءَمُونَ مِنَ الرَّقَمِ 13 فَيَكْرَهُونَ هَذَا الرَّقَمَ فِي مَنَازِلِهِمْ أَوْ فِي غُرَفِ الْفُنْدُقِ أَوِ الْجُلُوسِ فِي مَكَانِ فِيهِ 13 شَخْصَاً وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ, وَكُلُّ هَذَا مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالْخُزَعْبَلَاتِ التِي جَاءَ دِينُنَا الْعِظِيمُ بِنَفْيِهَا وَعَدِمِ الالْتِفَاتِ إِلَيْهَا, بَلْ جَعَلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ الْعَظِيمَةِ, فَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ، أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ، وَمَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَحَسَّنَ إِسْنَادُهُ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَمِنْ فَوَائِدِ الْحَدِيث: وُجُوبُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ, وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ صِفَاتِ الذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلا عَذَابٍ, وَالتَّوَكُّلُ مَعْنَاهُ: اعْتِمَادُ الْقَلْبُ عَلَى اللهِ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ مَعَ الثِّقَةِ بِهِ سُبْحَانَهُ, وَكَيْفَ لا نَتَوَكُّلُ عَلَى اللهِ وَتَصْرِيفُ الْأُمُورِ كُلِّهَا بِيَدِهِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ, فَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَرَادَ شَيْئَاً قَالَ لَهُ (كُنْ) فَيَكُونُ, وَهُوَ الذيِ لا رَادَّ لِحُكْمِهِ وَلا مُعَقِّبَ لِقَضَائِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

فَأَسْأَلُ اللهَ لِي وَلَكُمُ التَّوْفِيقَ وَالسَّدَادَ وَالْهِدَايَةَ وَالرَّشَادَ وَأَنْ يَهِيِّئَ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدَاً, كَمَا نَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَنْ يُدْخِلَنَا الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلا عَذَابٍ, وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ, اللهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ, سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

المرفقات

أَلْفاً-7-صَفَر-1439هـ

أَلْفاً-7-صَفَر-1439هـ

المشاهدات 2916 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا