الحيدة (المناظرة الكبرى) - سلسلة خطب ..
عبدالله محمد الطوالة
الحمدُ للهِ خالقُ كلِّ شيء وهاديهِ ، ورازقُ كلِّ حيٍ وكافيهِ ، وجامعِ الناسِ ليومٍ لا ريبَ فيهِ ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريك لهُ ، كلُّ فوزٍ فلديه ، كلُّ خيرٍ بيديه ، نشكُرُ اللهَ عليه ، فهو منهُ وإليه .. وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله ، حامِلُ لواءِ الحقِّ ومُعلِيه ، ومُعلِّمِ الهُدى وداعِيه ، ومؤسسِ مجدِ الأُمَّةِ وبانيه ، صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وأصحابه وتابعيه .. وسلم تسليمًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه ..
أما بعد : فإن كتاب الحيدة والاعتذار .. لمؤلفة الشيخ عبدالعزيز بن يحيى الكناني .. رحمه الله كتابٌ قيمٌ ورائع جداً في بابه ، وهو حكايةٌ وسردٌ لمناظرة كبرى وقعت بين الشيخ عبدالعزيز الكناني رحمه الله وبين زعيم القول بخلق القرآن بشر المريسي .. بين يدي الخليفة العباسي المأمون في قصر خلافته ، وبحضور خلق كثير جداً .. والتي انتهت بانتصار الحق انتصاراً عجيباً مدوياً .. وإن كان هناك من يشكك في صحة الكتاب ، فإن جمهوراً من العلماء الكبار ذكروا المؤلف وأثنوا عليه خيراً ، وأثبتوا إليه المناظرة والكتاب ، ومن ذلك ما ذكره ابن النديم في الفهرست قال: عبد العزيز الكناني من طبقة الحارث ، كان متكلماً مقدماً وزاهداً عابداً وله في الكلام والزهد كتب ، وتوفي وله من الكتب كتاب "الحيدة" فيما جرى بينه وبين بشر المريسي .. وقال مثل ذلك الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ، و الذهبي في العبر وابن كثير في طبقات الشافعية ، وأبو إسحاق الشيرازي .. وقال عنه ابن حجر في تهذيب التهذيب : قدم بغداد في أيام المأمون وجرت بينه وبين بشر المريسي مناظرة في القرآن ، وهو صاحب كتاب "الحيدة" ، وكان من أهل العلم والفضل وله مصنفات عدة ، وكان ممن تفقه للشافعي واشتهر بصحبته ..
ولقوَّةِ هذه المناظرة وروعتها ، ولقوة ذكاء الشيخ الكناني وحسن استنباطه للأدلة القرآنية وتوظيفها بشكل عجيب ومتقن .. ولغيرها من الفوائد الكثيرة .. فسأستعين بالله عزّ وجل في نقل تفاصيل هذه المناظرة الكبرى إلى سلسلة خطب ( في كل أسبوعٍ خطبة ، فربما تصل إلى ست أو سبع خطب ) .. علماً بأني سأختصر بالقدر الذي لا يخل بأصل المناظرة .. وأتصرف تصرفاً يسيراً في بعض عبارات الكتاب لتوافق الأسلوب الخطابي ، وليسهل فهمها على السامع .. فأسأل الله بمنه وكرمه أن يجعل في هذا الجهد المتواضع ، علماً نافعاً مباركاً ، وعملاً صالحاً متقبلاً ، وأن يجعله لوجهه تبارك وتعالى خالصاً .. إنه أكرم مسئول وخير مأمول ..
كانت هذه هي المقدمة .. وفيما يلي الحلقة الأولى بإذن الله ..
المرفقات
1273.doc
المشاهدات 2529 | التعليقات 9
الحلقة الأولى ..
الخطبة الأولى :
أما بعد : فقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يتباين الناس في مستويات إدراكهـم وتفكيرهم , ولعل هذا هو ما أفـضى إلى الخـلاف والتنازع بينهم ، وظهور الآراء والمذاهب المختلفة .. قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} .. ولعل هذا هو السبب في ظهور مجموعة متنوعة من وسائل تبيين الحق والدعوة إليه .. ولعل من أشهر وأقوى تلك الأساليب والوسائل ، أسلوب الحوار والمناظرات .. والمناظرة هي نقاش وجدال يعقد بين متحدثين أو أكثر ، حول قضية خلافية معينة ، في جلسة عامة يديرها حكم أو لجنةٌ خاصة ، تُقدَّم فيها حجج مُتَعارضة لينصر كل طرف رأيه وما يذهب إليه ، وتنتهي غالباً بترجيح كفَّة أحد الأطراف ... والمناظرة وسيلة فعالة للتعلم والفهم وتبادل المعارف والمعلومات بأسلوب مقنع وجذاب ... وومن أروع فوائدها إظهار الحق بدليه ، وكشف الباطل وفضح عواره ، وتبيين زيفه وفساده وتناقضه ... ومن فوائدها أيضا أنها تكشف مدعي العلم على حقيقتهم ، وتجليهم للجميع خصوصاً لمن أغتر بهم ، وخُدع بزخرف كلامهم ، وبهرج قولهم ... ومن فوائدها أيضا أنها تبين قوة هذا الدين ومتانته ، وأنه ما شادَّ الدين أحدٌ إلا غلبه .. وتبين كذلك مدى قوةِ وروعةِ ما في القرآن والسنة من أدلةٍ دامغةٍ ، وحججٍ قاطعةٍ ، وبراهين حاسمةٍ ، تجعلُ الحقَ يعلو ولا يعلى عليه ... كما أن من فوائد المناظرة توضيحُ أن الحق بحاجةٍ ماسةٍ إلى القوي الأمين ، والذكيُ الفطين .. الذي يعرف كيف يُجلِّي الحق ويظهره حتى يرجِعَ إليه من يطلبهُ بصدق .. ويعرفُ من أين تؤتي كتفُ الباطلِ فيحمِلَ عليه حتى يُزهِقهُ ويبينَ بطلانهُ .. ليهلك من هلك عن بينه ، ويحيى من حيي عن بينه ... وقد أشاد القرآن بهذا الأسلوب في كثير من الآيات والمواطن .. ومن ذلك قوله تعالى : {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} .. وقوله تعالى : {وجادلهم بالتي هي أحسن} .. وكذلك كل ما ذكره الله تبارك وتعالى عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من حوارات ومناظرات مع أقوامهم .. وما ذكره الله تبارك من حجج وبراهين في الرد على المشركين واليهود والنصارى ، وكذا ما حصل مع إبليس اللعين .. ومن أدلة السنة : ما حدث من مناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم ونصارى نجران كما في سورة آل عمران .. وقد وقعت للصحابة وغيرهم من السلف مناظرات كثيرة على مر العصور ، أشتهر منها مناظرة ابن عباس رضي الله عنهما للخوارج ، والتي رجع بسببها أكثر من ثلثهم للحق .. ومن أشهر المناظرات وأكبرها وأعظمها .. مناظرة العلامة الشيخ عبد العزيز بن يحيى بن مسلم الكناني ، وهو من تلاميذ الإمام الشافعي رحمه الله .. وتوفي سنة 240 للهجرة ، والملقب بالغول لدمامته وقبحه .. فقد جرت هذه المناظرة القوية بينه وبين زعيم القول بخلق القرآن .. بشر المريسي .. وذلك في دار الخلافة .. بين يدي الخليفة العباسي المأمون وبحضور خلق كثير جداً .. واستمرت من صلاة الفجر إلى قرابة العصر .. وكانت في إبطال القول بخلق القرآن .. وقد أنتصر فيها الحق انتصاراً عجيباً مدوياً .. وقد ألف الشيخ عبدالعزيز الكناني بعدها .. كتاباً قيماً سرد فيه معظم ما جرى في هذه المناظرة الكبرى من حوارات ونقاشات ، أسماه كتاب "الحيدة والاعتذار" .. ولقوَّةِ هذا المناظرة وروعتها ، ولقوة ذكاء الشيخ عبدالعزيز ، وحسن استنباطه للأدلة القرآنية وتوظيفها بشكل رائع ومتقن .. مما جعل الباطل المنتفش يزهق ويتهاوى أمامه بشكل نهائي .. لهذا فسأستعين بالله وأنقل لكم تفاصيل هذه المناظرة الكبرى .. ومع أنني سأختصر بما لا يخل بأصل المناظرة .. فإن الأمر سيستغرق عدة خطب بإذن الله .. فأسأل الله بمنه وكرمه أن يجعل في هذا الجهد المتواضع ، من العلم النافع والعمل الصالح ، وأن يجعله خالصاً لوجهه تبارك وتعالى .. إنه أكرم مسئول وخير مأمول ..
قال الإمام عبدالعزيز بن يحيى الكناني : بلغني وأنا بمكة ما قد أظهره بشرٌ بن غياث المريسي ببغداد من القول بخلق القرآن ، ودعوته الناس إلى هذا المذهب الباطل ، وخوف الناس وفزعهم من مناظرته ، وإحجامهم عن الرد عليه بما يكسر قوله ، ويدحض حجته ... فأزعجني ذلك وأقلقني ، وأطال همي وغمي ، فخرجت من مكة حتى قدمت بغداد ، فشاهدت من شناعة الأمر وفظاعته أضعاف ما كان يصل إلي وأنا بمكة ، ففزعت إلى ربي أدعوه وأسأله إرشادي وتسديدي ، وتوفيقي وإعانتي ، والأخذ بيدي ، وأن يفتح لفهم كتابه قلبي ، وأن يُطلق لشرح بيانه لساني .. واستقر رأي على أن أُظهر نفسي وأصدع بقولي على رؤوس الخلائق ، وأن يكون ذلك في المسجد الجامع الكبير بالرصافة ، وفي يوم الجمعة ، وأيقنت أنهم لن يقدموا على قتلي أو عقوبتي إلا بعد مناظرتي والسماع مني .. ولم ألجأ لمشاورة أحد ، بل جعلت أستر أمري ، وأخفي خبري عن الناس جمعياً .. خوفاً من أن يشيع خبري ، فاُقتل قبل أن يُسمع كلامي ... وكان الناس قد مُنعوا من الحديث والفتوى والتدريس في المساجد وسائر الأماكن ، إلا جماعة بشر المريسي ، ومن كان موافقاً لهم على مذهبهم الباطل بالقول بخلق القرآن ، فقد كانوا يقعدون للناس ويجتمعون إليهم فيعلمونهم الكفر والضلال .. وكان كل من أظهر مخالفتهم وذم مذهبهم ، جاءوا به بقوة السلطان ، فإن وافقهم ودخل في كفرهم وأجابهم إلى ما يدعونه إليه ، وإلا سجنوه وعذبوه ، ونكلوا به وعرضوه على السيف ، وكم من قتيل لهم لم يُعلم به ، وكم ممن خاف فأجابهم واتبعهم على قولهم الباطل ، إيثاراً للسلامة ..
قال عبد العزيز: فلما كانت الجمعة التي اعتزمت فيها إظهار نفسي ، دخلت مسجد الرصافة ، وصليت بأول صفٍ من صفوف العامة ، فلما سلم الإمام من صلاة الجمعة ، وثبت واقفاً وناديت بأعلى صوتي يا بني ، وكنت قد أوقفته عند الأسطوانة الأخرى ، فقلت له: يا بني ما تقول في القرآن؟ فقال: كلام الله غيرُ مخلوق ... قال عبد العزيز: فلما سمع الناس كلامنا ، هربوا على وجوههم يستبقون الأبواب ، وأتي أصحاب السلطان والشرط ، فاحتملوني وأبني حتى أوقفوني بين يدي وزير المأمون : عمرو بن مسعدة ، وكان قد حضر الجمعة ، فلما نظر إلى وجهي ، قال : أمجنون أنت؟ .. قلت: لا. قال: أفمظلوم أنت؟ ، قلت: لا ، فقال لرجاله: مروا بهما إلى منزلي . قال عبد العزيز: فحُملنا على أيد الرجال يتعادون بنا سحباً شديداً ، يمنه ويسره ، حتى وصلنا إلى دار الوزير .. فلما صرنا بين يديه ، أقبل علي فقال: من أين أنت؟ .. قلت: من أهل مكة ، فقال: ما حملك على ما فعلت بنفسك؟ .. قلت: طلب القربة إلى الله عز وجل ، والمناظرة لأجله .. قال: فهلا فعلت ذلك سراً ، ومن غير إظهار مخالفة أمير المؤمنين .. فما أظنك إلا طالباً للشهرة أو متكسباً للمال .. قلت: إنما أردت الوصول لأمير المؤمنين والمناظرة بين يديه ليس إلا .. فقال: أو تفعل ذلك؟ قلت: نعم ، ولذلك غامرت بنفسي .. فقال الوزير: وإن كان غير ذلك .. فقلت له: إن تكلمت في شيء غير هذا ، فدمي حلال لأمير المؤمنين ... قال عبد العزيز: فوثب الوزير حتى دخل على أمير المؤمنين ، ثم رجع بعد ساعة ، فلما أدخلت عليه ، قال لي: قد أخبرت أمير المؤمنين بخبرك وما تريد .. وقد أمر أطال الله بقاءه ، بإجابتك إلى ما سألت في يوم الاثنين الآتي ، وستكون المناظرة في مجلسه بدار الخلافة ... فأكثرت حمد الله على ذلك وشكرته ودعوت لأمير المؤمنين وللوزير ..
قال عبد العزيز: فلما كان يوم الاثنين ، وحين فرغت من صلاة الفجر .. إذ برسول الوزير قد جاء .. ومعه خلق كثير من الفرسان والرجال .. فحملوني مكرماً على دابة .. حتى صاروا بي على باب قصر أمير المؤمنين .. فأوقفوني حتى جاء الوزير .. فلما أُدخلت عليه أجلسني ثم قال لي: أما زلت مقيماً على رأيك أم أنك قد رجعت عنه ، فقلت: بل والله لقد ازددت بتوفيق الله بصيرة في أمري ، فقال لي: أيها الرجل: لقد حملت نفسك على أمرٍ عظيم ، ولئن قامت عليك الحجة فما جزاءك إلا السيف ، فبادر أمرك قبل أن لا تنفعك الندامة ، ولا يُقبل منك عذرٌ ، وسأشفع لك عند أمير المؤمنين ليصفح عن جرمك .. إن أظهرت الرجوع والندم على ما كان منك ، فقلت له: أعزك الله .. ما ندمت ولا تراجعت ، وإني لأرجوا الله أن يوفقني ويعينني على إظهار الحق ونصره، وما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت وهو حسبي ونعم الوكيل. فقام الوزير وقال: قد حرصت على إنقاذك جهدي ، ولكنك تأبي إلا سفك دمك ، قوموا فأدخلوه .. بارك الله ..
الخطبة الثانية :
الحمد لله وكفى وصلاة وسلاماً على عباده اللذين اصطفى ..
أما بعد فاتقوا الله عباد الله ، وكونوا من أهل الحق وأنصاره ..
يقول الشيخ : عبدالعزيز بن يحي الكناني رحمه الله : ثم أُمر بي فأخرجت إلى الدهليز الأول ، ومعي جماعة موكلون بي ، وكان قد دُعي للحضور جموع الفقهاء والقضاة والعلماء وسائر المتكلمين والمناظرين ، كما أُمر كبار القادة والأمراء والأعيان أن يحضروا في السلاح .. كل ذلك ليرهبوني بهم .. فلما اجتمع الناس وملئوا المكان عن آخرة .. أُذن لي بالدخول ، فلم أزل أُنقل من دهليز إلى دهليز ، ومن ديوان إلى ديوان .. حتى صرت إلى حاجب الستر الذي على باب صحن الإيوان ، إيوان الخليفة ، فلما رآني الحاجب أمر بي فأدخلت إلى حجرته ، ودخل معي فقال لي: إن احتجت لأن تجدد طهورك ، فقلت: لا حاجة لي بذلك ، فقال: إذن فصل ركعتين قبل أن تدخل ، فصليت أربع ركعات .. ودعوت الله وتضرعت إليه ، فلما فرغت ، أمر الحاجب من كان عنده فخرج ، ثم دنا مني فهامسني قائلاً : يا هذا إن أمير المؤمنين بشر مثلك ، وكذلك كل من يناظرك إنما هم بشر مثلك ، فلا تتهيبهم ، واجمع فهمك وعقلك لمناظرتهم ، ولا تدعن شيئاً مما تحسنه أو تحتاج أن تتكلم به خوفاً من أحد .. وتوكل على الله واستعن به ، وقم فادخل على بركة الله ... فقلت له: جزاك الله خيرا .. فقد أديت النصيحة وسكنت الروعة .. . فلما فُتح الستر ، أخذ الرجال بيدي وعضدي وجعلوا يتعادون بي عدواً عنيفاً ، وأيديهم في ظهري وعنقي ، فجعلت أسمع أمير المؤمنين وهو يصيح فيهم خلو عنه ، خلو عنه ، وكثر الضجيج من الحجاب والقادة بمثل ذلك ، فخُلي عني .. وقد كاد عقلي أن يتغير من شدة الجزع .. وعظيم ما رأيت من كثرة السلاح والرجال ، فقد رأيت شيئاً ما رأيت مثله في حياتي ، أممٌ كثيرة قد انبسطت الشمس عليهم ، وملئوا الصحن صفوفا ، وما زال الحاجب يقربني من لجهة الخليفة حتى انتهى بي إلى الموضع المعدُ لي .. فسلمت على أمير المؤمنين .. فرد علي السلام وقال : أجلس فجلست .. .
هذا ما تيسر ذكره اليوم .. وسنكمل بإذن الله في خطبة قادمة ..
الحلقة الثانية :
الحمد لله ، الحكيم العلَّام ، الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ ، الحي القيوم ، الباقي سرمداً على الدوام .. لا تأخذه سِنةٌ ولا يموت ولا ينام ، سبحانه وبحمده .. عزّ جلاله فلا تدركه الأفهام ، وتعالى كماله فلا تحيط به الأوهام ، {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} ... وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الآيات المبهرة {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} .. {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ} ... وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله ، ومصطفاه وخليله .. النبي الأمَّي الإمام .. أزكى الأنام ، وبدرُ التمام ، ومسكُ الختام ، وخير من صلى وصام ، وتعبد لربه وقام ، وطاف بالبيت الحرام .. صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وأهل بيته الكرام ، وصحابته الأعلام ، والتابعين وتابعيهم بإحسان ، وكل من قال: ربى الله ثم استقام .. وسلم تسليماً كثيراً ..
أما بعد: فأُوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله ، فاتقوا الله رحمكم الله ؛ فتقوى الله عزٌّ بلا عشيرة ، وعلمٌ بلا مدارسة ، وغِنًى بلا تجارة ، وأُنسٌ بلا خِلان .. ألا وإن بركةُ العمر في حُسن العمل ، والندمُ طريقُ التوبة ، وآفةُ الرأي الهوى ، وأشدُّ البلاء شماتةُ الأعداء ، وكثرةُ العِتاب تُورِثُ الضَّغينة ، والتودُّد نصفُ العقل ، وكسب القلوب مقدم على كسب المواقف ، ومن طلب صديقاً بلا عيب ، بقي بلا صديق ، وفي طول اللسان هلاك الإنسان ، وإحسان الظن بالآخرين يجنب الكثير من المتاعب ، ومن أراد إصلاحَ غيره فليُصلِح نفسَه: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} ..
وبعد : فهذه أحبتي في الله هي الحلقة الثانية من سلسلة حلقات الحيدة .. المناظرة الكبرى بين الشيخ عبدالعزيز بن يحيى الكناني من أهل السنة والجماعة وبين بشر بن غياث المريسي زعيم القائلين بخلق القرآن ، تعالى الله وكلامه عما يقول الظالمون علواً كبيراً .. وكنا قد ذكرنا في الحلقة السابقة خروج الشيخ عبدالعزيز الكناني من مكة إلى بغداد ، وقيامه في مسجد الرصافة بعد صلاة الجمعة وصدحة بأن القرآن كلام الله غير مخلوق ، وما جرى له مع وزير المأمون من حوار انتهى بتحديد موعد للمناظرة في يوم الاثنين التالي ، وذلك في دار الخلافة وبين يدي الخليفة وبحضور جمع كبير جداً من العلماء والقادة والأعيان .. ووصلنا حين أدخل الشيخ عبدالعزيز إلى إيوان الخليفة يتعادى به الرجال ، وما أصابه من روعة وخوف شديد ، وتوقفنا في حديثنا حين سلم الشيخ عبدالعزيز على الخليفة وجلس في المكان المعد له ..
قال عبد العزيز: فسمعت رجلاً من جلسائه يقول: يا أمير المؤمنين .. يكفيك من كلام هذا قبح وجهه ، لا والله ما رأيت من خلق الله قط من هو أقبحُ منه وجهاً ، فحفظت كلامه وميزت شخصه على ما بي من الروعة والجزع الشديد ، وجعل أمير المؤمنين ينظر إلي وأنا ارتعدُ وانتفض ، فأحبَّ أن يؤنسني وأن يسكن روعتي .. فجعل يكلم جلسائه ، ويتكلم بأشياء لا يحتاجُ إليها .. يريد بذلك إيناسي ، ثم جعل يُطيل النظر إلى سقف الإيوان ، فوقعت عينه على موضع من النقش قد انتفخ ، فقال: يا عمرو أما ترى إلى هذا الذي قد انتفخ من هذا النقش ، بادر بإصلاحه .. فقال الوزير : قطع الله يد صانعه ، فإنه قد استحق العقوبة على عمله الرديء ... قال عبد العزيز: ثم أقبل علي المأمون فقال لي: من الرجل ، فقلت: عبد العزيز .. فقال : ابن من؟ فقلت: ابن يحيى قال: ابن من؟ قلت : ابن مسلم ، قال ابن من ؟ قلت: ابن ميمون الكناني .. قال: وأنت من كنانة .. قلت: نعم ، يا أمير المؤمنين ، ثم تركني لبعض الوقت ، ثم أقبل علي مرة أخرى فقال: من أين يا عبد العزيز ، فقلت: من الحجاز ، قال: من أي الحجاز ، قلت: من مكة ، فأخذ يسألني عن أهل مكة .. أتعرف فلاناً .. أتعرف فلاناً .. حتى عدَّ جماعة من بني هاشم كلهم أعرفهم حق المعرفة ، فجعلت أقول: نعم أعرفه ، ويسألني عن أولادهم وأنسابهم فأخبره .. من غير حاجة إلى شيْ من ذلك ، إنما يريد إيناسي وتسكين روعتي جزاه الله عني خيراً .. فقد قوىّ قلبي ، واجتمع فهمي، وانشرح بذلك صدري ، وانطلق لساني ، وارتفعت آمالي .. حتى رجوت النصر على أعدائي ...
قال الشيخ عبدالعزيز الكناني : ثم أقبل علي المأمون فقال: يا عبد العزيز .. قد علمتُ بخبرك وما تريد، وقيامك في المسجد الجامع ، وقولك إن القرآن كلام الله وأنه غير مخلوق ، وطلبك لمناظرة من خالفوك بين يدي .. وها قد جمعتك بالمخالفين لك .. لتتناظروا بين يدي .. وأكون أنا الحكم فيما بينكم .. فإن تكن الحجة لك والحق معك تبعناك ، وإن تكن لهم الحجة عليك والحق معهم عاقبناك .. فقلت : نعم يا أمير المؤمنين ، أطال الله بقاءك .. ثم أقبل المأمون على بشر المريسي فقال: يا بشر قم إلى عبد العزيز فناظره وأنصفه ..
فوثب إليَّ بشرٌ من موضعه كالأسدِ يثبُ إلى فريسته ، فجاء فانحط عليَّ ، فوضع فخذهُ الأيسر على فخذي الأيمن ، حتى كاد أن يحطِّمها ، واعتمد علي بقوته كلِّها .. فقلت له: مهلاً فإن أمير المؤمنين لم يأمرك بقتلي .. وإنما أمرك بمناظرتي وإنصافي ، فصاح به المأمون تنحَ عنه .. وكرر ذلك حتى أبتعد عني ..
ثم أقبل علي المأمون فقال: يا عبد العزيز ناظره على ما تريد واحتج عليه ، ويحتجُ عليك ، وسلهُ ويسألُك ، وتناصفا في كلامكما ، فإني مستمعٌ إليكما .. ومتحفظٌ ألفاظكما ..
قال عبد العزيز: فقلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاك إن رأيت أن تأذن لي أن أتكلم قبل هذا بشيْ قد شغل قلبي وعقلي .. فقال لي: تكلم بما شئت فقد أذنت لك ..
فقلت: أسألك بالله يا أمير المؤمنين من هو أجملُ ولدِ آدم جمالاً في الوجه فيما تعلم .. فقال بعد تروي: أليس يوسفُ عليه السلام .. فقلت: صدقت يا أمير المؤمنين .. فوالله ما سجن يوسف وما ضُيق عليه إلا بسبب حسن وجهه ، ولقد ثبتت براءته عندهم قبل أن يسجنوه .. قال تعالى : {ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} ، وإنما سجنوه لحسن وجهه وليغيبوه عن المرأة التي فتنت به وعن غيرها ، ثم طال حبسه في السجن حتى إذا عبَّر الرؤيا ، عرف الملك قدره وعلمه فرغب في صحبته: { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} .. وكان هذا قبل أن يسمع كلامه ، فلما سمع كلامه وحُسن عبارته .. صيره أميناً على خزائن الأرض ، وفوض إليه الأمور كلها .. فكان هذا الذي وصل إليه يوسفُ عليه السلام بكلامه وعلمهِ ، لا بجمالهِ وحسن وجههِ ، قال تعالى: {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} .. ولم يقل أني حسنٌ الوجه جميل المنظر ، قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} .. فوالله يا أمير المؤمنين ما أُبالي إن وجهي أقبحَ مما هو عليه الآن ، وإني أُحسن من الفهم والعلم في كتاب الله أكثر مما أحسن ..
فقال لي المأمون وأيُّ شيءٍ أردت من هذا القول يا عبدالعزيز ، وما الذي دعاك إليه ؟ فقلت يا أمير المؤمنين سمعت هذا الشخص الجالس بجوارك يعيب شكلي ويقول لك: يكفيك يا أمير المؤمنين من كلام هذا قبح وجهه ، فما يضرني يا أمير المؤمنين قبح وجهي مع ما رزقني الله عز وجل من فهم كتابه ، والعلم بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .. فتبسم المأمون حتى وضع يده على فيه ، ثم قال عبدالعزيز: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك لقد رأيتك تنظر إلى هذا النقش المنتفخ وتأمر وزيرك أن يصلحه .. وسمعت الوزير يدعو على الصانع ولا يدعو على الجص المصنوع ، فقال المأمون: نعم فالعيبُ لا يقعُ على من لا إرادة له .. فلا عيبَ على الشيء المصنوع ، وإنما يقعُ العيبُ على الصانع ، قلت: صدقت يا أمير المؤمنين ، فهذا العائب لشكلي ووجهي .. إنما يعيبُ ربي الذي خلقني وصورني بهذه الصورة .. فازداد المأمون تبسماً حتى ظهرت (ثناياه) ...
قال عبد العزيز: فأقبل علي المأمون وقال: يا عبد العزيز: ناظر صاحبك فقد مضى الوقت بدون مناظرة ، فقلت: يا أمير المؤمنين لا بد لكل متناظرين من أصل يرجعان إليه إذا اختلفا .. وإلا كانا كالسائر على غير طريق ، لا يعرف وجهة فيتبعها ، ولا الموضع الذي يريد فيقصده ، ولا من أين جاء فيرجع .. فهو على ضلال أبدا .. فلنؤصل بيننا أصلا ، حتى إذا اختلفنا في شيء من الفروع رددناه إلى الأصل ، فإن وجدناه في هذا الأصل وإلا لم نعتد به ..
فقال المأمون: نِعمَ ما قلت يا عبدالعزيز ، فما هو هذا الأصل الذي تريد أن يكون بينكما ..
فقلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاك ، أُأصل بيني وبينه ما أمرنا الله أن نرجع إليه عند التنازع والاختلاف .. قال الله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} ..
وقد تنازعت أنا وبشرٌ .. فلنؤصل بيننا كتاب الله عز وجل وسنه نبيه كما أُمرنا .. فإن اختلفنا في شيء من الفروع رددناه إلى كتاب الله عز وجل ، فإن وجدناه فيه وإلا رددناه إلى سنة نبيه فإن وجدناه فيها وإلا ضربنا به عرض الحائط ولم نلتفت إليه ..
قال بشر: إنما أمر الله في هذه الآية أن يُرد إليه وإلى الرسول ، ولم يأمرنا أن نرده إلى كتابه العزيز أو إلى سنة نبيه عليه السلام ..
فقلت: هذا مالا خلاف فيه بين المؤمنين وأهل العلم .. أن رددناه إلى الله أي إلى كتاب الله ، وأن رددناه إلى رسوله بعد وفاته .. أي رددناه إلى سنته صلى الله عليه وسلم ، وقد رُوي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما ..
فقال المأمون: فأصلا بينكما كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .. وأنا الشاهد بينكما إن شاء الله تعالى ..
فقلت يا أمير المؤمنين: إنه من ألحد وغيَّر في كتاب الله عز وجل بزيادة أو نقصان لم يناظر بالتأويل ، ولا بالتفسير، ولا بالحديث ..
فقال المأمون: فبأي شي تناظره إذن ، قال عبدالعزيز: بنص التنزيل .. كما قال الله عزَّ وجلَّ لنبيه : {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} فأمره بالتلاوة .. وكما قال حين أدعت اليهود تحريم أشياء لم تحرم عليهم: {قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ..
فإنما أمر الله نبيه بالتلاوة ، ولم يأمره بالتأويل ، وإنما يكون التأويل لمن أقر بالتنزيل ، وإما من الحد وغيَّر في التنزيل فكيف يناظر بالتأويل .. فقال لي المأمون: ويخالفك في التنزيل ، قلت: نعم ليخالفني بالتنزيل .. فإما أن يكون الحق معي فيتبعني .. أو يكون الحق معه فأتبعه ..
بارك الله ..
الخطبة الثانية :
الحمد لله وكفى ....
أما بعد : فاتقوا الله عباد الله ، وكونوا من أهل الحق وأنصاره .. فلئن جاز أن أطلق على هذه المناظرة الكبرى ، أسماً مناسباً ، فسأسميها : {وقل جاء الحق وزهق الباطل ، إن الباطل كان زهوقاً} .. حقاً يا عباد الله ، فالباطل بنص القرآن ، كان ولا يزال وسيظل زهوقاً .. لا يقوى على الوقوف في وجه الحق إذا جاءه .. فلنتابع المناظرة لنرى مصداق ذلك ..
قال الشيخ عبدالعزيز : ثم أقبلت على بشر فقلت له: يا بشر ما حجتك بنص التنزيل أن القرآن مخلوق ، وانظر إلى أحدِّ سهم في كنانتك فارمني به ، حتى لا تحتاج معه إلى معاودتي بغيره .. فقال بشر : أتقول أن القرآن شيءٌ أم غيرُ شيء ، فإن قلت إنهُ شيءٌ أقررت إنه مخلوق .. إذ كانت الأشياء كلُّها مخلوقة بنص التنزيل قال تعالى {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ، وإن قلت إنه ليس بشيء .. فقد كفرت لأنك تزعم أن القرآن ليس بشيء ..
قال الشيخ عبد العزيز: فقلت ما رأيت أعجب منك يا بشر.. تسألني وتجيب عني .. وتكفرني ولم تسمع إجابتي .. فإن كنت سألتني لأجيبك ، فاسمع مني فأني أُحسن أن أجيب .. وأن كنت تريد أن تدهشني وتنسيني حُجتي .. فلن أزداد بتوفيق الله إلا بصيرةً وفهماً ، وما أظنك يا بشر إلا معجباً بهذه المقالة التي قلتها .. فأنت تكره أن تقطعها حتى تأتي بها عن آخرها ..
قال الخليفة المأمون: صدق عبد العزيز ، فاسمع منه جوابه ورد عليه بعد ذلك بما شئت ..
قال عبدالعزيز : سألتني يا بشر عن القرآن أهو شيءٌ أم غيرُ شيء ، فإن كنت تقصد أنه شيء موجود كبقية الأشياء فنعم هو شيءٌ من هذا الوجه .. وأمَّا إن كنت تقصد أنه مثل بقية الأشياءِ المخلوقة فلا ..
فقال بشر: ما أدري ما تقول ولا أفهمه ولا أعقله .. ولا بد من جواب يُفهم ويعقل .. أهو شيءٌ أو غيرُ شيء ..
فقلت: إن الله عز وجل أجرى كلامه على ما أجراه على نفسه العلية .. إذ أن كلامه من صفاته جلَّ وعلا .. فلم يتسمَ هو سبحانه بالشيء .. ولم يجعل الشيءَ اسماً من أسمائه .. ولكنه دلَّ على نفسه أنهُ شيء .. وأنه أكبرُ الأشياء .. إثباتا لوجوده تعالى ، ورداً على من أنكر ذلك من الملحدين .. فقال عز وجل لنبيه : {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ} ، فدل على نفسه أنه أكبرُ شيءٍ موجود .. لكن وحتى لا يتوهم متوهم أنه كبقية الأشياء المخلوقة ، أنزل سبحانه آية خاصة في ذلك فقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} ، فأخرج نفسه وكلامه وصفاته من الأشياء المخلوقة ..
قال بشر: يا أمير المؤمنين قد اقرَّ عبد العزيز أن كلام الله شيء ، وزعم أنه ليس كالأشياء المخلوقة .. فليأت بنص التنزيل كما أخذ علي وعلى نفسه ، أنه ليس كالأشياء ، وإلا فقد بطل ما ادعاه وصح قولي إنه مخلوق ، إذ كنا قد اتفقنا إنه شيء ، فقلت أنا هو كالأشياء المخلوقة ، وقال عبدالعزيز: هو شيءٌ لكنه ليس كالأشياء المخلوقة .. فليأت بنص التنزيل على ما ادعاه ، وإلا فقد ثبتت عليه الحجة ، إذ أن الله عز وجل قد أخبرنا تعالى بنص التنزيل أنه خالق كل شيء .. فقال تعالى : {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} ..
قال عبد العزيز: فقال لي المأمون هذا يلزمك يا عبد العزيز ، فجعلوا يصيحون ويرفعون أصواتهم .. ظهر أمر الله وهم كارهون ، جاء الحق وزهق الباطل .. فسكت حتى أمسكوا ..
هذا ما تيسر ذكره اليوم .. وسنكمل بإذن الله في خطبة قادمة ..
جزيت خيرا ونفع الله بك وشكر الله لك شيخ عبدالله
جزيتم خيراً شيخنا الكريم زياد على دعمكم وتشجيعكم الإيجابي الرائع ،
وبورك فيكم وفي منتداكم العامر ..
أدامه الله منارة شامخة لكل خير ..
الحلقة الثالثة :
الحمد لله ، {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} .. القائمِ بأرزاق خلقهِ ، فما لأحدٍ منهم عنه غِنًى ، الخلائقُ كلُّهم إليه فُقراء، وله سبحانه وحده مطلقُ الغنى ، أحمده سبحانه وأشْكُره على جزيلِ نعمائه وعظيم إفضالهِ سِرًّا وعلَنًا .. بَشَّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ..
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، بنى السبع الشداد فأحكم ما بنى ، وأجزل العطاء لمن كان محسِناً ، وغفر الذنب لمن أساء وجنى ، {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} ..
وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله ، ومصطفاه وخليله ، دعا إلى الله وجاهدَ في سبيله ، فما ضعُفَ وما استكان وما وَنَى ، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه الأخيار الأطهار الأمناء ، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا .. ما سجَى ليلٌ ، وما أضاءَ سَناء ..
أمّا بعد: فأوصيكم أيّها الناس ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ ، فاتَّقوا الله رحمكم الله .. ومن أرادَ محبة الله ، فالله يحب المتقين ، ومن أحبَّ أن يكونَ الله وليَّه فالله وليّ المتقين، ومن أراد معية الله فالله مع المتقين، ومن أراد كرامة الله ، فأكرم الناس عند الله أتقاهم ، ومن أراد فوز الآخرة، فالآخرة عند ربِّك للمتقين .. والعاقبةُ للتقوى، ومن أراد قبول أعماله ، فإنما يتقبل الله من المتقين ، فاتَّقوا الله رحمكم الله ، فهي أكثر خصال المدح ذكراً في كتاب الله .. {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} .. فـ{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ..
وبعد أحبتي في الله: فهذه هي الحلقة الثالثة من سلسلة حلقات الحيدة، المناظرة الكبرى بين الشيخ عبدالعزيز الكناني من أهل السنة والجماعة ، وبين بشر المريسي زعيم القائلين بخلق القرآن ، تعالى الله وكلامه عما يقول الظالمون علواً كبيراً ..
وكنا قد ذكرنا في الحلقة السابقة رد الشيخ عبدالعزيز المفحم على أحد زملاء بِشرٍ ، والذي عاب شكل الشيخ ، بأنه إنما يعيب الخالق جل وعلا فهو الذي خلقه بهذه الصورة .. ثم ذكرنا كيف تمكن الشيخ من وضع منهج مقنن للمناظرة ، حيث أصل القرآن والسنة مرجعاً عند الاختلاف ، واشترط التزام نص التنزيل ، بلا تأويل ولا تفسير ... وبدأت المناظرة بقول بشرٍ : بما أن الله خالق كلُّ شيء بنص التنزيل ، وبما أن القرآن شيءٌ ، فالقرآن إذن مخلوقٌ بنص القرآن .. فرد عليه الشيخ عبدالعزيز بأن وصف "الشيء" يمكن أن يطلق على الخالق والمخلوق .. فالله بنص التنزيل هو أكبرُ الأشياء، قال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ } .. وكلام الله وصفاته مثل ذاته في هذا ، فهي أشياء من حيث الوجود لكنها غير مخلوقه ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .. وتوقفنا حين قال بشرٌ: قد أقررت يا عبدالعزيز أن القرآن شيء ، فأتِ بدليل من نص التنزيل إنه ليس كالأشياء المخلوقة .. وإلا بطل كلامك وصح كلامي ..
فصاح أصحاب بشر .. جاء الحق وزهق الباطل .. ظهرَ أمرُ اللهِ وهم كارهون .. فسكت الشيخ عبدالعزيز حتى سكتوا ..
ثم قال : قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} .. وقال عزَّ وجلَّ {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .. فدل عزَّ وجلَّ بهذه الأخبار وأمثالها في القرآن كثير .. على أن أمره وكلامه ليس من ضمن الأشياء المخلوقة ، وأنه خارج عنها ، وأن الأشياء المخلوقة إنما تكون وتخلق بقوله وأمره ، فقوله وأمره ليس من تلك الأشياء المخلوقة ..
وإذا نظرنا في آية أخرى سنلاحظ أن الله تعالى، قد ذكر خلق الأشياء كلها فلم يدع منها شيئا إلا ذكره ، إلا كلامه وأمره فقد أخرجه من ذلك ، ليدل على أن كلامهُ وأمرهُ مغايرٌ للأشياء المخلوقة ، فقال عزَّ وجلَّ: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} .. فبين الله تعالى في مطلعِ هذه الآية أنه هو الذي خلق الخلق كله ، ثم قال في آخر الآية: ألا له الخلقُ والأمر ، يعني الأمرُ الذي تمَّ به هذا الخلق ، ففرَّق الله عز وجل بين خلقه كله ، وبين الأمر الذي تمَّ به الخلق ، فجعل الخلق خلقاً ، والأمر أمراً ، وجعل هذا غير هذا .. وكذلك قول الله تعالى في موضع آخر: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} يعني لله الأمرُ والقولُ من قبل الخلق ومن بعد الخلق ، ثم جمع عز وجل بين الأشياء المخلوقة في آيات كثيرة من كتابه ، وأخبر أنه خلقها بقوله وكلامه ، وأن كلامه وقوله ليس منها ولا مثلها .. فقال عز وجل: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} .. فقد أخبرنا الله عز وجل عن خلق السموات والأرض وما بينهما ، وهذا يشمل بقية المخلوقات كلها ، وأخبر تعالى أنه إنما خلقها بالحق ، والحق هو قوله وكلامه الذي خلق به الخلق كله ، إذن فكلامه شيء غيرُ الخلق ، وخارجٌ عن الخلق .. وهذا نص التنزيل على أن كلام اللهِ شيءٌ غيرُ الأشياء المخلوقة ، وأنه ليس كالأشياء المخلوقة .. وإنما به يكون خلق الأشياء ..
فقال بشر: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك : أدعى عبدالعزيز أولاً أن الأشياء إنما تكون بقوله ، ثم جاء بأشياء متباينات متفرقات فزعم أن الله عز وجل يخلق بها الأشياء .. فأكذب نفسه ، ونقض قوله ، ورجع عما ادعاه من حيث لا يدري ، وأمير المؤمنين أطال الله بقاءه الشاهد عليه والحاكم بيننا ..
فقال المأمون: أوضح قولك يا عبد العزيز حتى لا ينقض بعضه بعضا ..
فقال عبدالعزيز: أتزعم يا بشر أني قد أتيت بأشياء متباينات متفرقات خلق الله بها الأشياء ، وما قلتُ إلا ما قال الله عزَّ وجلَّ في كتابه ، وما جئتُ بشيءٍ إلا من كلام الله وفي كتابه الكريم .. وكلها تدل على أن الله خلقَ الأشياء بكلامه ..
قال بشر: يا أمير المؤمنين ، ألم يقل إن الله خلق الأشياء بقوله ومرة قلت بأمره ، ومرة بكلامه ، ومرة بالحق .. فقال المأمون: بلى قد قلت هذا يا عبد العزيز ..
فقال عبدالعزيز: نعم يا أمير المؤمنين قد قلته ، وما قلته إلا على صحته ، ولا خرجت عن كتاب الله عز وجل ، ولا قلت إلا ما قال الله عز وجل ، ولا أخبرت إلا بما أخبر الله عز وجل به أنه خلق به .. (مما) يوافق بعضه بعضاً ، ويصدِّق بعضه بعضاً ، وأنها كلها شيءٌ واحدٌ ، له أسماءٌ متعددةٌ ، فهو كلام الله ، وهو قولُ الله ، وهو أمرُ الله ، وهو الحقُ ، فقول الله هو كلامه ، وكلامه هو الحق ، والحق هو أمره، وأمره هو قوله ، وقوله هو الحق ، فهي أسماءُ متعددة لشيء واحد ، ألم يسمي الله كلامه نوراً وهدى وشفاء ورحمة وقرآناً وفرقاناً ، فهذه مثل تلك ، وإنما أجرى الله عز وجل مثل هذا على كلامه ، كما أجراه على نفسه لأنه من ذاته ، فسمى كلامه بأسماء كثيرة ، وهو شيءٌ واحد ، كما سمى نفسه بأسماء كثيرة ، وهو ذاتٌ واحدٌ ، أحدٌ فردٌ صمدٌ ، وإنما ينكر بشرٌ هذا ويستعظمه لجهله وقلة فهمه ..
قال بشرٌ: يا أمير المؤمنين قد أصَّل بيني وبينه كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وزعم أنه لا يقبل إلا نص التنزيل .. فلست أقبل منه إلا بنص التنزيل .. أن قول الله هو كلام الله ، وهو أمره ، وهو الحق ..
فقال المأمون: ذلك يلزمك يا عبد العزيز لما شرطت على نفسك ..
فقال الشيخ عبدالعزيز: صدقت يا أمير المؤمنين ، يلزمني ذلك ، وعلي أن آتي به من نص التنزيل ، قال المأمون: فهاته ..
قال عبدالعزيز: قال الله عزَّ وجلَّ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ} .. يعني حتى يسمع القرآن ، لأنه لا يقدر أن يسمع كلام الله من الله مباشرة ، لا خلاف بين أهل العلم واللغة في ذلك ، هذه واحدة .. وقال الله عزَّ وجلَّ {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ} .. فسمى الله القرآن كلامه ، وسماه قوله ، وهذه الثانية ، وقال الله عزَّ وجلَّ: {المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ} .. وهذه الثالثة ، فقد أخبر الله عن القرآن أنه الحق ، وقال الله تعالى: {ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} .. وهذه الرابعة، فقد ذكر الله عز وجل أن القرآن قوله وأن قوله هو الحق. وقال سبحانه وتعالى: {وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} .. وهذه الخامسة ، فقد ذكر الله أن الحق كلامه وأن كلامه الحق ، وقال جلَّ وعلا: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} .. وهذه السادسة ، فقد ذكر الله عز وجل أن القرآن أمره ، وأن أمره القرآن ، وكل هذه أسماء متعددة لشيء واحد ، وهو الشيء الذي خلق الله به الأشياء الأخرى ، وهو خارج عن تلك الأشياء المخلوقة ، وهو ليس كالأشياء المخلوفة .. وإنما تكون به الأشياء المخلوقة ، وهو كلامه ، وهو قوله ، وهو أمره ، وهو الحق .. وهذا نص التنزيل بلا تأويل ولا تفسير ..
فقال المأمون: أحسنت ، أحسنت يا عبد العزيز ..
قال بشر: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك ، إنه يحب أن يخطب ويهذي بما لا أعقله ، ولا التفت إليه ، ولا أقبل من هذا شيئاً ..
قال عبد العزيز: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك ، إذا كان لا يعقل عن الله ما خاطب الله به نبيه صلى الله عليه وسلم ، وما علَّمه الله لعباده المؤمنين في كتابه المبين ، وإذا كان لا يعلم مراد الله من كلامه ، وهو واضح لكل من له أدنى بصيرة ، فكيف ينصِبُ نفسهُ داعيةً ، وكيف يدعو الناس بلا علم وبلا بصيرة ، والله تعالى يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ..
فقال بشر: يا أمير المؤمنين قد اقرَّ عبدالعزيز بين يديك أن القرآن شيء ، فليكن عنده كيف (شاء) فقد اتفقنا على أنه شيء ، والله عز وجل يقول: {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} .. وهذه لفظةٌ عامة تشمل كلَّ شيء ، فلم تدع شيئاً إلا أدخلته في الخلق .. ولا يخرج عنها شيءٌ البتة .. فصار القرآن مخلوقاً بنصِ التنزيل بلا تأويل ولا تفسير ..
قال الشيخ عبد العزيز: فعليَّ يا أمير المؤمنين أن أكسِرَ قولهُ وأُكذِّبهُ فيما قال بنص التنزيل ..
وهذا ما سنعرفه في الخطبة الثانية بإذن الله ..
أقول ما تسمعون واستغفر الله ...
الحمد لله كما ينبغي لجلاله وكماله وعظيم سلطانه ...
أما بعد : فاتقوا الله عباد الله وكونوا من أهل الحق وأنصاره ..
قال الشيخ عبد العزيز: قال الله عز وجل عن الريح التي أُرسلت على قوم عاد: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} .. فهل أبقت الريحُ يا بشر شيئاً لم تدمرهُ ، قال بشرٌ : لا لم يبق شيءٌ إلا دمرته ، لأنها دمرت كل شيء .. قال الشيخ : فقد أكذب الله من قال هذا بقوله تعالى: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} .. فقد بقيت مساكنهم بعد تدميرهم ، ومساكنهم أشياءُ كثيرة .. هذه واحدة يا أمير المؤمنين .. ومثلُها قول الله عز وجل: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} .. ومع ذلك فقد أتت الريح على الجبال والمساكن والشجر فلم تجعلها كالرميم .. والثالثة قال عز وجل عن مُلك بلقيس: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} .. فكأنك بقولك يا بشر يجب أن لا يبقى شيءٌ يقع عليه اسمُ الشيءِ إلا دخلَ في هذه اللفظةِ وأوتيتهُ بلقيس ، وقد بقي مُلكُ سليمانَ الذي لا ينبغي لأحدٍ من بعده ، فلم يدخل في هذه اللفظة ، فهذا كله مما يكسرُ قولك ، ويدحضُ حجتك ..
بل إن هناك ما هو أشنعُ وأظهرُ في فضحِ مذهبك، وأبطال بدعتك، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} .. وقال تبارك وتعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ} .. وقال عزَّ وجلَّ: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} .. أفتقرُّ يا بشرٌ أن لله علماً كما أخبرنا عن نفسه في كتابه أو تخالف نص التنزيل ؟
فقال بشرٌ : إن الله لا يجهل ، وحاد عن الجواب ، وأبى أن يقول: إن لله علماً ، فيسأله الشيخ عن علم الله هل هو داخل في الأشياء المخلوقة أم لا ، وفهم ما يرمي إليه الشيخ ، وما يلزمه في ذلك من كسر قوله ، فجاء بجوابِ ما لم يُسأل عنه ، فقال: إن الله لا يجهل ..
قال الشيخ عبدالعزيز : يا أمير المؤمنين فليقرَّ بشرٌ أن للهِ علماً كما أخبرنا الله في كتابه ، فإني سألته عن علم الله ، ولم أسأله عن الجهل ، حتى يجيب بما قال، فقد حادَ بشرٌ يا أمير المؤمنين، وراغ عن جوابي .. (ومن هنا سمى الشيخ عبدالعزيز كتابه الذي ألفه عن هذه المناظرة بالحيدة والاعتذار) ..
قال المأمون: وهل تُعرفُ الحيدةُ في كتاب الله عزَّ وجلَّ؟ .. قال الشيخ : نعم يا أمير المؤمنين .. فقال الخليفة: وأين هيَ من كتاب الله عزَّ وجلَّ ..
قال الشيخ: قال الله عزَّ وجلَّ في قصة إبراهيم عليه السلام حين قال لقومه: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} .. وإنما قال لهم إبراهيم هذا ليكذبهم وليعِيبَ آلهتهم ويسفه أحلامهم ، فعرفوا ما أراد بهم، وإنهم بين أمرين: فإما أن يقولوا نعم يسمعوننا وينفعوننا ويضروننا ، فيشهدوا على أنفسهم بالكذب .. أو يقولوا: لا يسمعوننا ولا ينفعوننا ولا يضروننا فينفوا عن آلهتهم النفع والضر .. وعلموا أن الحُجةَ قائمةٌ عليهم في أيِّ القولين أجابوه .. فحادوا عن الجواب، وجاءوا بجوابٍ لم يسألوا عنه، فقالوا: {بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} .. وهذا ليس جواباً لمسألة إبراهيم عليه السلام ..
فأقبل المأمون على بشر فقال: يأبي عليك عبد العزيز إلا أن تقرَّ أن للهِ علماً .. فأجبهُ ولا تحِد عن جوابهِ ..
وهذا ما تيسر ذكره اليوم .. فنتوقف هنا .. ونكمل بإذن الله في خطبة قادمة ..
الحلقة الرابعة :
الحمدُ للهِ ، الحمدُ للهِ الواقِي من اتَّقاه ، والهادي لمن استَهداه ، المستجيب لمن دعاه ، لا ناقضَ لما بناه ، ولا باني لما أنهاه ، ولا مانعَ لما أعطاه ، ولا رادَّ لما قضاه ، ولا مُضِلَّ لمنْ هَداه ، ولا هاديَ لمن أغواه ، بقدرته أنشأَ الكون وسواه ، وبحكمته دبَّر الأمر وأجراه ، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوْا إِلَّا إِيَّاهُ} .. أحمده سبحانه وأشكرُه على جزيلِ ما أولاه ، وعظيم ما أسداه ، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} ..
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ولا معبودَ بحقٍّ سِواه ، الله ربـــي لا إله ســـواهُ ، هــل فــــي الــوجــود حـقـيـقـةً إلا هُو .. الشمـس والقمـر مـن أنـوار حكمتـه ، والبـر والبحـر فـيـضٌ مــن عطـايـاهُ .. الطـيـرُ سبـحـهُ ، والـوحــشُ مـجــدهُ ، والـمــوجُ كـبَّــرهُ ، والـحــوتُ نـاجــاهُ .. والنمـلُ تحـت الصخـور الصُّـم قدَّسـهُ ، والنحـلُ يهتـفُ حمـداً فــي خـلايـاهُ .. والنـاسُ يعصونـهُ جهـراً فيسترهـم ، والعـبـدُ ينـسـى وربــي لـيـس ينـسـاهُ ..
وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه ومصطفاه ، وخليلهُ وخيرتهُ ومجتباه ، من قرَّبَه ربه وأدناه ، وآواه وأعطاه ، وأرضاه وزكاه ، وأراه من عظيمِ ملكُوته ما أراه .. صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا لا حدَّ لمُنتهاه .
أما بعد: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل ، فاتقوا الله رحمكم الله ما استطعتم ، واستدركوا بالتوبة ما أضعتم ، وبادروا بالأعمال الصالحة ما فرطتم ، من أصلح سريرته أصلح الله علانيته ، ومن عمل لدينه يسَّر الله له أمر دنياه ، ومن أحسن فيما بينه وبين الله ، أحسن الله فيما بينه وبين الناس ، فاتقِ الله يا عبد الله حيثما كنت ، وأحفظ الله يحفظك ، وأتبِع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} ..
وبعد أحبتي في الله: فهذه هي الحلقة الرابعة من سلسلة حلقات الحيدة ، المناظرة الكبرى بين الشيخ عبدالعزيز الكناني من أهل السنة والجماعة ، وبين بشر المريسي زعيم القائلين بخلق القرآن ، تعالى الله وكلامه عما يقول الظالمون علواً كبيراً ..
وكنا قد ذكرنا في الحلقة السابقة كيف رد الشيخ على الفهم الخاطئ في تعميم قوله تعالى: {كُلّ شيء} ، وأنها ليست دائماً على إطلاقها ، فالريح التي قال الله عنها {تدمر كُلَّ شيء} ، لم تدمر الجبال والمساكن ..
ثم ذكرنا كيف حاد بشرٌ وراغ عن الجواب حين سأله الشيخ عبدالعزيز أتقرُّ أن لله علماً ، كما أخبر سبحانه عن نفسه بقوله: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ} ، فأجاب بشرٌ بأن الله لا يجهل ...
وتوقفنا حين قال الخليفة المأمون لبشر : يأبي عليك عبد العزيز إلا أن تقرَّ أن للهِ علماً .. فأجبهُ ولا تَحِد عن جوابهِ ..
فقال بشر: قد أجبته أن معنى العلم أن الله لا يجهل، ولكنه يتعنت ..
قال الشيخ: صحيحٌ أن الله لا يجهل ، ولكني يا أمير المؤمنين لم أسأله عن هذا ، وإنما سألته عن الإقرار بعلم الله .. فإما أن يثبت ويقرَّ أن لله علماً كما أخبر سبحانه عن نفسه ، أو أن يردَّ نص التنزيل ، أو أن يحيد عن الجواب ويراوغ كما فعل بقوله إن الله لا يجهل ...
فقال بشرٌ: هذا هو الجواب ، وليس عندي غيره ..
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين إن من الواجب على الخلق جميعاً أن يثبتوا ما أثبت الله لنفسه ، وأن يقرُّوا له بذلك ، وأن ينفوا ما نفى الله عن نفسه ، وأن يسكتوا عما سكت الله عنه ... قال الخليفة : فلو أقرَّ بشرٌ إن لله علماً ، فماذا سيكون عليه في ذلك يا عبدالعزيز ..
قال الشيخ : فإني سأسأله يا أمير المؤمنين عن علم الله .. هل هو داخل في الأشياء المخلوقة ، حين احتج بقوله تعالى: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} .. وزعم إنه لم يبق شيءٌ إلا وقد شمله هذا الخبر العام .. فإن قال: نعم ، علمُ الله مخلوق ، فقد نسب الجهل والنقص لله قبل (أن يخلق علمه) ، وشبه اللهَ بخلقه ، الذين أخرجهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً ، والله أعظم وأجلَّ من أن ينسب إليه شيءٌ من النقص أو الجهل ، ومن قال ذلك فقد كفر وحلَّ دمه .. وإن قال لا ، وأقرَّ أن علم الله ليس من الأشياء المخلوقة ، فمثله كذلك كلام الله ، فهو أيضاً ليس من الأشياء المخلوقة ، وبذلك يكون قد ترك قوله وأبطل مذهبه ، وثبتت عليه الحجة يا أمير المؤمنين .. فقال المأمون: أحسنت ، أحسنت يا عبد العزيز ، وإنما فرَّ بشرٌ من أن يجيبك لهذا ...
فقال بشرٌ: قد زعمت أن لله علماً ، فأيُّ شيءٍ هو علمُ الله ..
فقال الشيخ: هذا مما تفرد الله بعلمه ، ألم تسمع إلى قوله عز وجل: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء} ..
فقال بشر: لا بد أن تقول أيُ شيءٍ هو عِلمُ اللهِ ، أو يقفُ أمير المؤمنين أطال الله بقاءه على حيدتك عن الجواب ، فأكون أنا وأنت في الحيدة سواء ..
فقال الشيخ: إنما تأمرني بما نهاني الله عنه وحرَّم علي القول به ، وتأمرني بما أمرني به الشيطان ..
فتبسم الخليفة وقال: يا عبد العزيز أأمرك بشرٌ بما نهاك الله عنه وأمرك به الشيطان؟ .. قال الشيخ: نعم يا أمير المؤمنين ..
قال الخليفة: وكيف ذلك؟ .. قال الشيخ: من كتاب الله وكلامه بنص التنزيل .. قال الخليفة: فهاته ..
قال الشيخ : قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} .. فحرم الله على الخلق أن يقولوا على الله مالا يعلمون ..
وقال عزَّ وجل عن الشيطان : {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} ..
فكثر تبسم المأمون حتى غطى فمه بيده ..
فقال بشرٌ: فلو جاءك يا عبدالعزيز شخصان قد تنازعا في علم الله عز وجل ، فحلف أحدهما بالطلاق: أن علم الله هو الله .. وحلف الآخر بالطلاق: أن علم الله غيرَ الله ، فماذا سيكون جوابك لهما ...
قال الشيخ: الجواب تركهما بغير جواب ... قال بشرٌ يلزمك إن كنت تدعي العلم أن تجيبهما ، وإلا فأنت وهما في الجهل سواء ...
فقال الشيخ: هل يجب عليَّ يا بشر أن أجيب كل من سألني عن مسألة ، ولو لم أجد لها جواباً في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
قال بشرٌ: نعم، يجبُ عليك أن تجيبهُ، فإنه لابدَّ لكلِّ مسألة من جواب ..
قال الشيخ: بل هذا من أجهل الجهل .. فلو جاءك يا أمير المؤمنين ثلاثة نفرٍ يتنازعون في الكوكب الذي أخبر الله عز وجل أن إبراهيم عليه السلام قد رآه بقوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} فقال أحدهم: حلفت بالطلاق إنه كوكب المشتري ، وقال الآخر حلفت بالطلاق إنه كوكب الزهرة ، وقال الثالث حلفت بالطلاق إنه كوكب المريخ .. فأفتنا في أيماننا وأجبنا في مسألتنا .. أكان علي أن أُجيبهم في مسألتهم ، وأُفتِيهم في أيمانهم ، وذلك مما لم يخبرنا الله عز وجل به ولا رسوله .. ولا أجد لجوابه سبيلاً صحيحاً .. هذه واحدة ...
ولو جاءك ثلاثةُ نفرٍ قد تنازعوا في المؤذن الذي يؤذن بين أهل الجنة والنار كما أخبر الله عز وجل في سورة الأعرف بقوله: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} فقال أحدهم: حلفت بالطلاق أن المؤذن من الملائكة ، وقال الآخر: حلفت بالطلاق أن المؤذن من الإنس ، وقال الثالث: حلفت بالطلاق أن المؤذن من الجن .. فأجبنا عن مسألتنا ، وأفتنا في أيماننا ، وذلك مما لا أجده في كتاب الله عز وجل ولا في سنه نبيه صلى الله عليه وسلم ، أكان علي يا أمير المؤمنين أن أجيبهم في مسألتهم وأفتيهم في أيمانهم ..
فقال المأمون لا ، ليس عليك إجابتهم ولا يلزمك إفتائهم ...
فقال بشرٌ: واحدة بواحدة يا أمير المؤمنين ، سألني عبد العزيز أن أقول أن لله علمًا فلم أجبه ، وسألته ما هو عِلمُ الله فلم يجبني .. فقد استوينا في الحيدة عن الجواب ، ونخرج من هذه المسألة متساويين ، سواء بسواء ، من غير حُجة تثبت لأحدنا على صاحبه ..
قال عبد العزيز: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك .. إن بشرا حين أُفحم وانقطع عن الجواب ، لجأ إلى مسألةِ مُحال ، لا جواب لها .. لكي يقول: سألني عبد العزيز عن مسألة فلم أجبه ، وسألته عن مسألةٍ فلم يجبني عنها فقد تعادلنا ، ونحن لسنا كذلك .. لأنني سألته عن مسألةٍ جوابها في كتاب الله ، شهد الله بها لنفسه وشهدت له بها الملائكة ، وأمر الله الناس أن يؤمنوا بها .. وآمن النبي صلى الله عليه وسلم وأقرَّ بها .. وبشرٌ يا أمير المؤمنين يأبى أن يؤمن ويقرَّ بها .. وسألني بشرٌ عن مسألةٍ أخفى الله علمها عن الخلق جميعاً .. فلم يكن لي أن أجيبه عن مسألته ، وإنما يدخلُ النقص عليَّ يا أمير المؤمنين لو كان بشرٌ يعلم جواب ما سألني عنه ، فأما إن كنت أنا وهو وسائر الخلق ، سواءٌ في الجهل بهذه المسألة ، فمسألتينا ليستا بسواء ..
فقال الخليفة: أنتما في مسألتيكما على غير السواء ، وقد صح قولك في هذه المسألة يا عبد العزيز وظهرت حُجتك على بشرٍ فيها ..
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك ، قد انقطع بشرٌ وظهرت الحجةُ لي عليه ، ومع ذلك فسأدع مسألةَ علم اللهِ ، لأُبطلَ مذهبه بشيء آخر .. فقال المأمون : هات ما عندك يا عبد العزيز .. قال الشيخ: أطال الله بقاءك .. من اكتال بمكيالٍ وُفّي به ، ألست يا بشرُ تزعمُ أن قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} لفظهٌ عامة شاملة ، لا يخرج عنها شيءٌ البتة ..
قال بشر: نعم ، هكذا قلت وهكذا أقول ، ولستُ أرجعُ عنه أبداً ...
فقال الشيخ: فقد قال الله يا بشر : {وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ} وقال أيضاً: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} ..
أفتُقر يا بشر أنّ لله نفساً كما أخبرنا الله عزَّ وجلَّ بهذه الأخبار .. قال بشرٌ : نعم ، أقرُّ أن لله نفساً ..
قال الشيخ عبد العزيز: فقد قال الله عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ} .. أفتقول يا بشر أنّ نفسَ ربِّ العالمين داخلة في هذا .. فصاح المأمون بأعلى صوته وكان جهير الصوت، معاذ الله، معاذ الله ..
قال الشيخ : فرفعت صوتي وقلت: ومعاذ الله ، معاذ الله ، أن يكون كلامُ الله داخلاً في الأشياء المخلوقة ، كما إن نفسهُ العلية ليست بداخلهٍ في الأنفسِ الميتة ، وأن كلامُه ليس من الأشياءِ المخلوقةِ ..كما أنّ نفسهُ العلية ليست من الأنفس الميتة ...
ثم قلت: يا أمير المؤمنين ، قد كسرتُ قولهُ بقوله ، ودحضتُ حُجتهُ بحجته .. وبطلَ ما كان يدعو إليه من بدعته ..
فقال المأمون: نعم يا عبد العزيز قد وضحت حُجتك ، وبان قولك ، وانكسرَ قولُ بشرٍ ، لكن نحتاج أن تشرح ذلك بشكل أوسع .. وتفصل هذه الأخبار التي في القرآن ومعانيها ، وما أراد الله عز وجل بها ليسمع من بحضرتنا ، فقد أتيت اليوم بأشياء كثيرة يحتاج من سمعها إلى معرفتها وفهمها ..
وهذا ما سنعرفه بإذن الله في الخطبة الثانية .. فبارك الله ..
الحمد لله كما ينبغي لجلاله وكماله وعظيم سلطانه ....
أما بعد : فاتقوا الله عباد الله وكونوا من أهل الحق وأنصاره ..
قال الشيخ عبد العزيز: أجل يا أمير المؤمنين .. أن الله عز وجل قد أنزل أخبار القرآن العظيم من حيث العموم والخصوص على أربعة أقسام ..
فالأول: خبرٌ لفظه عام ومعناه عامٌ ، كقوله عز وجل: {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} فيشمل هذا الخبر كلَّ الخلقِ والأمرِ ، لا يُستثنى من ذلك شيءٌ ، مما هو مخلوق وغير مخلوق .. فهذا خبرُ لفظه عامٌ .. ومعناه عام ...
والثاني : خبرٌ لفظه خاصٌ ومعناهُ عامٌ .. كقوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} فكان لفظُ الخبر خاصٌ ولكن معناه عامٌ .. إذ أن الجميع يعقلُ أن الله عز وجل كما أنه هو ربُّ الشعرى فهو أيضاً ربُّ غيرها من النجوم وجميع المخلوقات ..
والثالث: خبرٌ لفظه خاص ومعناه خاص ، كقوله عز وجل: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} فكان لفظُ الخبر خاصُ بآدم وعيسى عليهما السلام ، وكذلك معناه فهو خاصٌ بهما فقط ..
والرابع : خبرٌ لفظه عامٌ ومعناهُ خاصٌ .. كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى} فهذا خبرٌ لفظه عام ومعناه خاص ، فالناسُ لفظٌ عام ، ولكن المؤمنين عقلوا عن الله عز وجل أن هذا اللفظ العام لا يشملُ آدم وعيسى عليهما السلام ، لأنه قد قدم في حقهما خبرُ خاص ، فكان الخبر لفظه عام لهما ولغيرهما ، ومعناه خاصٌ بالناس دونهما ..
ومثله قوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} فالمؤمنون قد عقلوا عن الله عز وجل عند نزول هذا الخبر العام أنه لم يشمل إبليس وأتباعه ، فلا تشملهم رحمة الله ، لأن الله قد قدّم فيهم خبرا خاصا قبل ذلك .. قال تعالى: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} .. فإبليس وأتباعه قد خرجوا بهذا الخبر الخاص من رحمة الله التي وسعت كل شيء ، فهذا خبرٌ لفظه عام ومعناه خاص ..
ومثله كذلك ، حين أخبرنا الله عز وجل عن نفسه العلية خبراً خاصاً إنه حيٌ لا يموت بقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} ثم أنزل خبراً لفظه عامٌ ومعناه خاصٌ فقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ} فعقل المؤمنون أن الله عز وجل لم يشمل نفسه مع هذه النفوس الميتة ، لأنه قد قدم إليهم في الخبر الخاص أنه حيٌ لا يموت ..
ومثله كذلك حين قدم الله إلينا في كتابه خبراً خاصاً عن كلامه فقال عز وجل: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} فدل على أن قوله ليس من الأشياء المخلوق .. بل إنه تعالى إنما يخلق الأشياء بقوله للشيء المخلوق كن فيكون .. ثم قال الله عز وجل: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} فعقل المؤمنون عن الله عز وجل عند نزول هذا الخبر العام ، إنه لم يشمل كلامه وقوله في الأشياء المخلوقة ، لأنه قد قدم في ذلك خبراً خاصاً ، وأن الأشياء المخلوقة إنما تخلق بقوله ، فقوله إذن ليس من الأشياء المخلوقة ...
فقال المأمون: أحسنت، أحسنت يا عبد العزيز .
قال بشر: قد تركتك تخطب وتهذي كما تشاء ، ومعي الآن آية من كتاب الله لا يتهيأ لك معارضتها ولا دفعها ، كما فعلت في غيرها ، وإنما أخرتها لتكون قاطعة لحجتك ، ويكون بها سفك دمك ...
هذا ما تيسر ذكره اليوم ، نتوقف هنا ، ونكمل بإذن الله في الخطبة القادمة ..
نزولاً عند رغبة شيخنا الشيخ زياد وفقه الله ، ولأنه الأرفق بالمتصفحين ..
فسأجعل كل حلقة من الحلقات القادمة في رابط وموضوع مستقل ،
كما أنني سارفق بإذن الله روابط الحلقات التالية والسابقة في كل منهما .. ليسهل الوصول لكل الحلقات ..
والله أسأل أن ينفع بهذا الجهد ويتقبله .. ويجزي القائمين على هذا الصرح المبارك كل خير ..
وهذا رابط الحلقة الخامسة ..
https://khutabaa.com/forums/موضوع/151631
زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية
جيزت خيرا كثيرا وبارك في جهودك
ونشكر شيخنا عبدالله على هذه الفكرة الرائعة والعودة الجميلة بنا إلى المنهج القرآني والهدي النبوي؛ وهو استخدام أسلوب المحاورة والمناظرة في الأقناع والتأثير الخطابي، ولعمر الله أن ذلك من أجل الأساليب وأقواها، وكم هو كثير ذلك في القرآن والسنة، وكم استعمل ذلك أنبياء الله تعالى ورسله .
وإن شاء الله نكون أعينا مطلعة ومتمعنة ونعطي الأسلوب الجديد حقه من التفاعل والمشاركة، وهكذا ظننا في كل المشايخ والأعضاء .
تعديل التعليق