أيها الخطيب: إليك نصائح في كيفيّة كتابة الخطبة بسهولةٍ وجَوْدةٍ, وبلا همٍّ وقلق.

أحمد بن ناصر الطيار
1436/10/08 - 2015/07/24 22:29PM
الكثير من الخطباء والمؤلفين – إما تأليف رسالة ماجستير أو دكتوراة أو غيرها - في بداية أمرهم, وأوائل شأنهم, يجد الواحد منهم صعوبة بالغة في الإعداد, فيُصيبه الإعياء والإجهاد, وذلك لأنه اعتقد أن الأسلوب الناجع في البداية, أنْ يبدأ بالتسلسل من المقدمة والعناصر, فلا يتعدى عنصرا حتى يتقن الذي قبله, فيمكث في المقدمة مدَّةً طويلة, ثم تأتيه الحيرة في الترتيب والتنسيق, وبأيِّ شيء يبدأ... وهكذا فهو في حَيص بيص , ويعيش في حيرةٍ وتذبذب, ويستولي عليه الخوف والقلق.
وإذا أردتّ الطريق الأمثل, والأسلوب الأسهل في الكتابة والتأليف فعليك بالخطوات التالية:
1- أن تُفكر فيما تُريد طرحه أو كتابته, فتكتب ما يُمليه عليك خاطرك, دون العناية بالألفاظ والبلاغة والمقدمة, ودوِّن ما عَلِقَ بمُخيلتك مباشرةً دون تأجيل؛ لأنك لو أجلّت لضاعت الأفكار والخواطر.
2- لا تُحاول جلب الأفكار والمواضيع, بل اكتب ما يخطر في بالك.
3- اكتب ما يجول في البال مباشرة, دون حرصٍ على تدقيق ما تكتبه أو تُمْليه, ودون الرجوع إلى المصادر, بل إذا تذكرت أثناء كتابتك كلامًا لأحد العلماء فأشِر إليه في الحاشية, وإذا انتهيت بعد ذلك فارجع إلى المصدر وانْقله.
4- ثم ابدأ بجمع المادة العلمية والكتب التي تتحدث عن موضوعه, وانْظر في الفهرس باحثًا عن الموضوع الذي تُريده, فاقرأ فيه, ثم ابحث في المكتبة الشاملة, وفي الشبكة العنكبوتية كذلك.
فما وجدته متعلقًا ببحثك فخذه وضعه في ملف الوورد, وهكذا تجمع بدون ترتيب وتحقيق, ودون تعليق وتدقيق.
مع الرجوع إلى ما أشرت إليه أثناء الكتابة ممّا خطر لك من أقوال العلماء ونحوهم.
5- ثم إذا انتهيت من كتابة ما في الخاطر, وانتهيت من جمع المادة العلمية من الكتب ونحوها, فارجعْ إلى ما كتبته، ثم ابدأ بترتيب العبارات، وانتقاء الألفاظ، وصحح اللغة والإملاء.
فإذا بك قد جمعتَ مادةً علميةً كبيرةً وواسعةً, فحينها قم بطباعةِ بحثك, ثم ابدأ بقراءته بتمعُّنٍ وتأنٍّ.
فاحذف ما لا يُناسب, وعَلِّق على بعض الكلام, ورتِّب بين عناصره.
وهكذا مع مرور الأيام تَجِد أنك أنجزت شيئًا عظيمًا, وكتبتَ ما لا يخطر على بالك, ولن تشعر بالملل والسآمة, بل ستشعر بثقة في نفسك, وسهولةٍ في بحثك.
6- حدِّد الوقت والساعة منذ البداية وحتى النهاية, كي ترى الفارق بين أوائل كتاباتك وأواخرها, فتشعر بأنك كلما مرت عليك الأيام يكون زمن التحضير أقلّ, فتزاد نشاطًا وحماسًا وثقةً.
7- الكتابة الأولى تكون عاطفيةً وبإسهاب, والمراجعةُ تكون بالعاطفة مع العقل والنظر والتدقيق.
8- لا تَحمل همًّا للمُؤَلَّف والمقال والخطبة، بل اكتب كتابةً بدون تكلّف واهتمام كبير.
9- ينبغي أنْ تُدوّن ما يخطر في بالك في أيّ وقت, ولا تقل: إذا ذهبتُ إلى البيت سأدّونها, فسرعان ما تذهب عنك الخواطر المهمة, والقريحة الجيّدة.
وكتابةُ ما في الخاطر مُباشرةً من أهم الأمور, فكثيرًا ما تلوح في الخاطر عبارات جميلة, وخواطر مُهمّة, فإن لم تدوّنْ ذهبت, ولو بقيت صعب تدوين الصيغة المناسبة لها, فمن حين ما تأتي الخاطرة تأتي الصيغة المناسبة والأسلوب الجميل معها, ولذلك فمن أشد ما يخسره من يُفرط في تدوين الخواطر ضياعُ الصيغة المناسبة والأسلوب الرائع لها.
يقول العلامةُ محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى عند تفسيره لإحدى الآيات:
وَقَدْ كُنْتُ كَتَبْتُ فِي مُذَكِّرَاتِي عَنِ الدَّرْسِ عِنْدَمَا تَقَدَّمَ "أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نُكْتَةٍ لِهَذَا التَّعْبِيرِ وَهِيَ".. وَتَرَكْتُ بَيَاضًا لِأَكْتُبَ فِيهِ مَا ظَهَرَ لِي مِنَ النُّكْتَةِ ثُمَّ نَسِيتُهُ إِلَى الْآنَ!.
وقد كان الأئمةُ والعلماء والْمُفكرون, يُدوّنون أفكارهم, ويُؤلّفون كتبهم, في أيّ مكانٍ كانوا فيه, فابن تيميّة رحمه الله ألّف كتابه الصارم المسلول على شاتم الرسول في سجنه.
والشنقيطي رحمه الله ألّف في سفر الحج.
ومحمد رشيد رضا رحمه الله يُؤلّف أجزاءً كثيرةً في سفره, حيث يقول في أحد المواضع: "وَلَوْلَا أَنَّنِي الْآنَ حِلْفُ أَسْفَارٍ ، لَا يَقِرُّ لِي فِي بَلَدٍ قَرَارٌ ، لَأَطَلْتُ بَعْضَ الْإِطَالَةِ".
بل إنّه يُؤلّف ويكتب حتى وهو في الباخرة! يقول رحمه الله مُعتذرًا عن رجوعه لمصادر التفسير: عَلَى أَنَّنِي كُنْتُ أَوَدُّ لَوْ كَانَ بَيْنَ يَدَيَّ جَمِيعُ كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمُعْتَبَرَةِ لِأُرَاجِعَ تَفْسِيرَ الْآيَةِ فِيهَا.
وذكر في الحاشية أنه يكتب وهو في الباخرة.
وابن القيم رحمه الله ألف كتابه " روضة المحبين ونزهة المشتاقين " في السفر وفي حال بعده عن كتبه.
وألف رسالته ( التبوكية ) وهو على الراحلة من حفظة، كما في مقدمتها.
وألف روضـةَ الـمـحـبـيـن ونـزهـةَ الـمـشـتـاقـيـن كذلك.
قال في مقدمة الكتاب ( ص 12 ) : والمرغوب إلى من يقف على هذا الكتاب أن يعذر صاحبه فإنه علقه في حال بعده عن وطنه وغيبته عن كتبه .ا.هـ.
وكذلك زاد الـمـعـادِ فـي هـدي خـيـرِ الـعِـبـاد.
قال الشيخ بكر في كتاب " ابن قيم الجوزية " ( ص 261 ) : ومن المدهش أن هذا الكتاب أملاه مؤلفه رحمه الله تعالى وهو في حال سفره وغيبة عن داره ومكتبته, وقد تحدث عن ذلك في فاتحة الكتاب فقال : وهذه كلمات يسيرة لا يستغني عن معرفتها من له أدنى نعمة إلى معرفة نبيه صلى الله عليه وسلم وسيرته وهديه اقتضاها الخاطر المكدود على عُجرهِ وبُجرهِ مع البضاعة المزجاة ... مع تعليقها في حال السفر لا الإقامة والقلب بكل وادٍ منه شعبة والهمة قد تفرقت شذر مذر ... .ا.هـ.
وكذلك بـدائـعُ الـفـوائـد .
حيث يقول في أحد المواضع: فليسامح الناظر فيها فإنها علقت عليَّ حين بعدي عن كتبي وعدم تمكني من مراجعتها . وهكذا غالب هذا التعليق إنما هو صيد خاطر . والله المستعان.

والإمام الكبير السرخسي رحمه الله أملى جزءًا من كتابه القيّم المبسوط وهو مسجون في الجب!

وهذا الإمام ابن الجزري رحمه الله يُؤلّف أجزاءً من منظومته: "الدرة المضية في القرآت الثلاث المرضية"
وقد صرح بأنّ الأعراب اعترضوا طريقه, ولم يتركوا له شيئًا, وقد قال في آخرها يصف محنته عند ما أسره الأعراب في بلاد نجد:
غَرِيْبَةُ أَوْطَانٍ بِنَجْدٍ نَظَمْتُهَا ... وَعُظْمُ اشْتِغَالِ الْبَالِ وَافٍ وَكَيْفَ لاَ
وَطَوَّقَنِي الأَعْرَابُ بِاللَّيْلِ غَفْلَةُ ... فَمَا تَرَكُوا شَيْئًا وَكِدْتُ لأُقْتَلَا
فَأَدْرَكَنِيْ اللُّطْفُ الْخَفِيُّ وَرَدَّنِيْ ... عُنَيْزَةَ حَتَّى جَاءَنِي مَنْ تَكَفَّلَا

وهذا العلاّمة الألباني رحمه الله ألّف " مختصر صحيح مسلم " وهو في سجن الحسكة.
وهذا العلاّمةُ ابنُ الوزير رحمه الله يذكرُ أنّ الحافظ ابنَ حجر رحمه الله ألَّف أثناء سفره إلى مكّة مختصرًا بديعًا في علوم الحديث (يقصد: نخبة الفكر.).
وإلى هذا أشار الأمير الصنعاني رحمه الله في قصب السُّكَّر بقوله:
ألَّفَها الحافظُ في حال السَّفَرْ ... وهْو الشِّهابُ بنُ عليِّ بنِ حَجَرْ
فهؤلاء العلماء ألّفوا وكتبوا في السجون والأسفار, وفي البوادي والقفار, وعلى متون البواخر وسْط البحار! فما عذرنا ونحن على الكراسي مُتّكئون, وبين أهلنا مُتنعمون, وفي بلداننا آمنون؟
فمن الذي يَمْنعنا من الجدّ والمثابرة, وثني الركب على القراءة والمدارسة؟
10- أغلق الجوال أثناء التأليف, فإذا قُطعتْ حبال الأفكار فمن الصعب إرجاعها.

نصيحةٌ للخطيب والواعظ خاصّة:
اجعل نُصب عَيْنَيْك عامةَ الناس, فهم الأحق والأولى بخطبك ومواعظك, ومتى راعيت نُخَبَهُم وخوَّاصهم, ومُحبيك وطلابك: أدّى بك ذلك إلى عدة محاذير:
الأول: التكلف في اختيار الألفاظ, وتصنع السجع والمواضيع التي تُناسب مستواهم هم دون الأعمّ الأغلب من العامة ونحوهم.
الثاني: حرمان العامة مِمَّا ينفعهم؛ لأنك انشغلت بما يهم خواصهم, فهم يرغبون الحديث عن الجديد والغريب, كالسياسة والإغراق في الواقع.
الثالث: فساد النيّة, فبدلاً من أن تكون خالصةً لوجه الله, أصبحتْ مشوبةً بمراءة الخاصة ومُحبيك, والنظر إلى ما يُعجبهم ويُرضيهم.
فيحنما ترى إعجابَ الناس بخطبك, وتسابُقَهم إلى حضورِها والاستماعِ إليها, لا شكّ أنّ ستراعيهم, وتخطب بما يُرضيهم.
وحينها ينزع الله تعالى منك البركة والقبول, والنفع والفائدة.

والواجبُ عليك أنْ تَخْطُب والعامةُ المساكين أهم أهدافك, فهم لن يسمعوا -غالبًا- إلا منك, أمَّا طلابُ العلمِ فإنْ لم يستمعوا إليك استمعوا من غيرك.
بل إنّ بعضهم يستمع استماع ناقد ومدّقّق, بخلاف العامة, فهم يستمعون استماع متلهف مُنقاد, فأيّ الفريقين أحقّ بالاهتمام والعناية؟

وأخيرًا, اسْأَلْ نفسك أثناء الكتابة: ماذا سيستفيد الناس في دينهم وأخلاقهم إذا خرجوا من المسجد, أو قرؤوا المقال الذي كتبته؟

أسأل الله تعالى أنْ ينفع بك الإسلام والمسلمين, وصلى الله على نبيِّنَا محمد وآله وصحبه.
المشاهدات 6833 | التعليقات 5

نفع الله بك شيخ أحمد وكتب أجرك ونفع الله بهذه الخلاصة الماتعة أعضاء هذا الملتقى خاصة وكل العاملين في حقل الدعوة وصروحها عامة.


جزاك الله خير الجزاء ورحم الله والدينا ووالديك والمسلمين اجمعين


جزاك الله خيراً


جزاك الله خيرا
ونفعنا الله جميعا بما نقرأ ونكتب.
ولعلك تكبّر الخط قليلا مستقبلا, وفقك الله.


الله يجزاكم خير ويجعل ذلك في موازين حسناتكم