صرخت . . فهل من معتصم ؟!

رشيد بن ابراهيم بوعافية
1434/06/28 - 2013/05/08 07:04AM
خطبة الجمعة : صرخت . . فهل من معتصم ؟!
الاستفتاح [ بما تيسّر وناسب ] ، ثم أما بعد :
أيها الإخوةُ في الله : سمِعنا وقرأنا عن غزو التتار للأمَّةِ المُسلمة، كيف كان التتارُ يلتهمون أراضيَ الدَّولة الإسلاميَّة و يبيدون شعبها ،كيف كانوا - وهم أكثرُ من مائتي ألف - يحصُدُونَ الأخضر واليابس ، لا يقفُ في طريقهم شيءٌ ولا يصدُّهُم صاد ،قرأنا عن الأمَّةِ حين ماتَت فيها المقاوَمةُ أو كادت بعد أن ماتَ منها الضَّميرُ كيف كانت تحفُرُ الخنادق حين تسمعُ بزحوفِ التتار قادمةً ، لا تحفُرُ الخنادقَ للقتال وإنَّما للهروب والتَّخَفِّي من ذلكَ الجَحيم ، قرأنا عن الأعداد الهائلة من الناس في بغداد كيف كانت تتخفَّى في المقابر و المطامير و المساجدِ و فوقَ أسطُح المنازل ترجُفُ من الخوف ، بل كيفَ كانت تتخفَّى – أكرمكم اللهُ – في أماكن الحُشُوش وقنوات الوَسَخ حتَّى تُرفسَ فيها ، وحتَّى يجيءَ الرَّجُلُ التَّتَري فيخلعُ الباب، يتخيَّرُ ما يشاءُ من البناتِ والنِّساء ثمَّ يذبحُ الباقي ويلقيهم من على أسطُح المنازل . . !
كنَّا نقرأُ ذلك . . ونتعجَّبُ . . من أحفاد عُمَرَ وخالد وعبيدة ما الذي أصابَهم . .!؟
قرأنا عن الرَّجُل التَّتَري كيفَ كان يُمسكُ بيده أربعينَ من المسلمين ثمَّ يأمُرُهم بالانتظار في مكانهم كالخِرَاف ليجيئَهم بالسّكّين للذبح ، فيذبَحُهُم جميعًا واحدًا تلوَ الآخَر وهم ينتظرون الدَّور ..!!
قرأنا للأسف . . عن الخليفة العباسي المستعصم كيفَ خرجَ إلى التتار- لا لقتالهم والدّفاع عن الأرض والعِرض- ؛ إنَّما خرجَ يحملُ شيئًا كثيرًا من الذَّهب والحُلي والمَصاغ والجواهر النفيسة ، قدَّمَها بين يدي هولاكُو ، خرجَ مع أهله وخَدمه وحشمه والقضاة و الفقهاء والصوفية . . ، فماذا كانت النتيجة ؟! ؛ فرَّقَ هولاكو الجواهر على أمرائه الأشاوس ، وقَتَلوا الحاضرينَ عن بَكرَة أبيهم ، ثمَّ وضعُوا الخليفةَ في كيس وقتلوهُ رفسًا بالأقدام ثم ألقَوهُ في النَّهر . . ! ، أسرُوا أخواتِهِ خديجة وفاطمة ومريم واقتسموا من جَوَاري قصر الخلافة ما يقاربُ ألفَ جارية .. !
كُنَّا نتعجَّبُ من ذلك ، و نتعجّبُ من ألفِ جاريةٍ ماذا تفعلُ في القصر . .؟!
كنَّا أحبّتي نتعجَّبُ من تلك النهايةِ متسائلين : هل كانَ يحدُثُ ذلك لو كان الخليفةُ أبا بَكر أو عمر ، أو علي أو عُبيدة أو المقداد .. ؟! هيهات . . هيهات . . !
كنَّا نقرأُ كيفَ كان يُستدعى الأميرُ من بني العباسِ فيخرُجُ صاغرًا ذليلاً مع أولاده وبناته ونسائِهِ وجواريه إلى هولاكُو فتُقسمُ بين يديهِ بناتُهُ ونساؤُه وجواريه ،ثمَّ يُذبحُ أمامهم كما تُذبحُ الشاة..!
قرأنا أحبّتي في الله كيفَ أبادَ التتارُ ثمانمائَةَ ألف بين رجُل وامرأة وطفل وشيخ . .! ، وكيفَ فسدَ الهواءُ وتعفَّنَ من أثر رائحة القتلى ، حتَّى أصابَ النَّاسَ الوباءُ ووصلَ إلى الشَّام . . !
كُنَّا نقفُ ذاهلين من هول ما وقعَ متسائلين : لماذا لم يُدافعوا بهذا العدد عن أرضهم وعرضهم فيموتوا حين يموتوا موتَ الشُّرَفاء ، إمَّا النصرُ المؤزَّر وإمَّا الموتُ بالشَّرَف قبل رؤيةِ النِّساءِ في أيدي التتار الهَمَج . . ، أليسَ طعمُ الموتِ في أمرٍ حقيرٍ كطعمِ الموتِ في أمرٍ عظيم ..؟! أين كان يكمنُ الخلل ؟!
بحثنا عن الأسبابِ الرئيسيةِ فإذا بنا نجدها في حديث صحيح (صحيح الجامع:423) للنبي صلى الله عليه وسلم أخبر به المسلمين وأنذرَهم ، حتى يُعِدُّوا للأمر عُدَّتَهُ وللخطب أهُبته :
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله [FONT="]r :"إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم". [/FONT]

عرفنا حينئذٍ الأسبابَ الحقيقيَّةَ الرئيسيَّةَ لتنزُّلِ الذُّل ، إنَّها ثلاثةُ أسباب إذا حصلت في العامة والعلماء والأمراء حصلَ الذُّلُّ ولو كان عددُ المسلمين مليارًا أو أكثَر ، وإذا اختفت حصلَ النَّصرُ ولو كانُوا أقلَّ من عدُوِّهم :
السببُ الأوَّلُ: الانغماسُ في معصية الله وترك الطاعة ، وأشار إليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله:" إذا تبايعتم بالعينة" والعينة نوعٌ من أنواع الرِّبا – نسألُ الله العافية- .
والسببُ الثاني : الانغماسُ في الترف و الشهوات والملذَّات : وأشار إليها النبيُّ صلى الله عليه و سلم بقوله:"وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع " وهو تصويرٌ واضحٌ للاشتغال بالدنيا عن الدِّين، فرحٌ بالزرع والحَبْ ، وجريٌ خلفَ البقرة التي تجُرُّ المحراث وتدُرُّ الحليب . . . !
والسببُ الثالثُ : تركُ الجهادِ في سبيل الله دفاعًا عن الدِّين والأرض والعِرض ، تركٌ يحملُ عليه حبُّ الدُّنيا وكراهيةُ الموت . . هذه ثلاثةُ أسبابٍ مترابطة لتنزُّلِ الذُّل على المسلمين ، وعكسُها يوجبُ تنزُّلَ النَّصر ولو كان المسلمون أقلَّ عددًا وعُدَّة . .!
معشر المؤمنين : لله تعالى سنَنٌ لا تُحابي أحدًا ، قال سبحانه: [FONT="])فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم[FONT="]([/FONT](النور:63).. حين نرجِعُ إلى الخلافةِ العباسية في نهايتها نجدِ الأسبابَ نفسَها وراءَ سقوطها على يد التَّتار ، والمقامُ لا يحتملُ البسط وإلاَّ بسطنا . .![/FONT]
في بداية الدولة العباسية أخذت فعلاً بأسباب النجاح المادية والمعنوية ، من قيادة حكيمة ووضوح في المنهج وإعداد للأفراد ومحاربة أسباب الفرقة والأخذ بأصول الاجتماع والتوحُّد ، والتفرُّغ للمشروع العباسي ، وتقسيم الأدوار والتخطيط السليم والإدارة الناجحة والدعاية الإعلامية والحيطة والحذر من الأعداء مع تقوى الله تعالى وصلاح واضحٍ في جمهورِ النَّاس والأُمراءِ والعُلماء . .
ثم حصلَ في نهايتها تصدُّعٌ واضح : بعدٌ واضحٌ عن شرع الله في الأمور الدينية والاجتماعية و السياسية والمالية ، ظُلمٌ للأفراد وسفكٌ للدِّماء بغير حق وتفرُّقٌ وتقاتُل ، عدمُ التزامٍ بالعُهود ، فسادُ العُلماء الذين كانوا يمالئُون السلاطينَ إلاَّ من رحمَ اللهُ من العلماء الربَّانيّين . . ، اشتغالُ الأُمَراءِ بفنُونِ اللَّذَّةِ عن التفرُّغِ لفنون القوَّةِ والمُهمَّات ، وتورُّطُ الخُلفاء والأمَراء في التَّرَف والفساد والتنَعُّم والاهتمام بالجواري والغَوَاني والغناء ، ويكفي أنَّهُ كانَ في قصر الخليفة ألفُ جاريةٍ بكر صغيرة ، فما تفعله تلك الجواري بالله عليكم .. ؟! .
فإذا أضفت إلى ذلك ترك الجهاد في سبيل الله و الخوفَ والفزع من الأعداء ، وفقد روح التضحية التي سادت بها الأمم - وهذه قاصمةُ الظَّهر- ، فبالجهادِ انتصرَت الأمَّةُ على فارسَ والرُّوم ، وبالجهادِ والروح المعنوية حفظَت أكبادَها وصنَعت أمجادَها ، وحينَ تركت الجهادَ في سبيل الله - محبَّةً في الحياة وخوفًا من الموت- قلَّت على كثرة عددها ، وذلَّت على عزَّتِها وسؤدُدِها . .!
نسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضى،أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
أيها الإخوةُ في الله: إنَّ من سنن الله تعالى المستخرجة من حقائق الدين والتاريخ أنَّهُ إذا عُصيَ اللهُ تعالى ممن يعرفونه سلَّطَ عليهم من لا يعرفُونَه ، وإنَّ الذنوبَ التي يُهلكَ اللهُ بها المسلمين بيَّنها الحديثُ الماضي وهي ترجعُ إلى أمرين : تركُ ما جاءت به الرُّسُل ومجانبةُ ما دَعوا إليه ورغَّبُوا فيه – والثاني : هو تركُ الجهاد في سبيله انغماسًا في الشهوات وحبًّا للحياة وخوفًا من الوفاة . .
ابحث في أي نصر كتبه اللهُ تعالى للمؤمنين رغم قلَّتهم ضدَّ أعدائهم رغم كثرتهم وقوَّتهم تجد العواملَ التي ترسُمُ النَّصرَ واضحةً وُضُوحَ الشمس في رائعة النَّهار :
وجودُ القيادة الربانية الصالحة في المجال الجهادي والسياسي ، ونلاحظُ الصفات المشتركة بينهم في كل جيل : من سلامة المعتقَد وكثرة العبادة والعلم الشرعي والثقة بالله والقدوة والصدق والكفاءة والشجاعة والمروءة والزهد وحب التضحية والفداء وحسن الاختيار للمعاونين وعلو الهمة والحزم والإرادة القوية والروح المعنوية العالية والقدرة على إعداد القَادَة والتربية . .
لقد قادَ محمد الفاتح الأمَّةَ في زمنه قيادةً ربَّانية ، وقد جرى الإيمانُ في قلبه و عروقه ، وانعكست ثمارُهُ على جوارحه ، وتفجَّرت صفاتُ التقوى في أعماله وسكناته وأحواله ، وانتقل بدولته وشعبه نحو الأهداف المرسومة بخطوات ثابتة ، وكان العلماءُ الربانيُّون هم قلبَ القيادَة في الدولة وعقلَها المُفكّر . .
الملكُ نور الدّين محمود بن زنكي : الذي خطط لفتح بيت المقدس وتمَّ ذلك على يدي صلاح الدّين الأيوبي : قال الإمام ابن الأثير :" لم يكن بعد عمرَ بنَ عبد العزيز مثلَ الملكِ نور الدين،ولا أكثر تحرّيًّا للعدل والإنصاف منه ، وكانت له دكاكين بحمص يقتاتُ منها ، واستفتى العلماءَ في مقدار ما يحل له من بيت المال فكان يتناولُهُ لا يزيدُ عليه ولو مات جوعًا ، وكان يُكثرُ اللَّعبَ بالكُرة فعاتبه رجلٌ من كبار الصالحين في ذلك فقال: "إنما الأعمال بالنيَّات ، وإنما أريدُ بذلك تمرينَ الخيل على الكرّ والفَر ، ونحن لا نتركُ الجهاد " ! ، وكان لا يلبسُ الحرير ، وكان فقيهًا على مذهب أبي حنيفة ، سمعَ الحديثَ وأسمعه، وكان كثيرَ الصلاة بالليل من وقت السَّحَر إلى أن يركَب ، وكذلك كانت زوجته "عصمت الدّين خاتُون " تُكثرُ القيامَ في الليل . . !
كان يصلُ إليه القوي والضعيف ، فكان يُكَلّمُ الناس ويستفهُمُهم ويخاطبهم بنفسه ، فيكشفُ المَظَالم ويُنصفُ المظلومَ من الظالم .. !
وأما شجاعتهُ فيقال :إنَّهُ لم يُرَ على ظهر فرس قطُّ أشجعَ ولا أثبتَ منه ، وكان حَسَنَ اللَّعب بالكُرة، وكان رُبَّما ضربها ثم يسوقُ وراءَها ويأخُذُها من الهواء بيده ، ثم يرميها إلى آخر الميدان ، كان يقول: قد تعرَّضتُ للشهادة غير مرَّة فلم يتَّفق لي ذلك ، ولو كان فيَّ خيرٌ ولي عند الله قيمَة لرزقنيها والأعمال بالنيَّة..!
كان إذا دخلَ إليه أحدُ الفقهاء أو الفقراء قامَ إليه ومشى معه خطوات وأجلسه معه على سجَّادَته في وقار وسكون .. ومناقبهُ ومآثرهُ كثيرةٌ جدًّا،ذكرنا نبذةً يستدلُّ بها على ما وراءَها ..! هذا الأسدُ الهصُور كان يقول: " لو كان معي ألفُ فارس لا أبالي بأعدائي قلُّوا أم كثُرُوا ، والله لا أستظلُّ بجدار حتَّى آخُذَ بثأر الإسلام وثأري "[1]. كان على ثقة تامة بفتح القُدس وصنع منبرًا لمسجد القُدس فعاجلته المنيَّة قبل رؤية المنبر والفَتح ، وبعد عشرين سنة فتحها صلاحُ الدين الأيوبي ووضعَ المنبر في المسجد. . !
أيها الإخوةُ في الله : هذا غيضٌ من فيض ، ولولا استحبابُ قِصَرِ الخطبةِ لبسطنا الأمثلةَ والكلامَ . .
تذكَّرُوا النّقاطَ الثلاث التي تستجلبُ الذُّلَّ والفَشل : معصيةُ الله تعالى والانغماسُ في الترف والشهوات وتركُ سبيل الجهاد في سبيل الله بما تحمله الكلمة من شمولية بالمال والنفس والكلمة والنيَّة و القُوَّة والإعداد والتربية . .
واستنبطُوا النّقاطَ الثلاث التي تستجلبُ النصرَ والتمكين : طاعةُ الله تعالى وتقواهُ في السرّ والعلانية ،والإقبالُ على الآخرة بالقلب والعمل،والجهادُ في سبيل الله بما تحمله الكلمة من شمولية بالمال والنفس والكلمة والنيَّة و القُوَّة والإعداد والتربية . .
اجعلوها في نفوسكم وابعثوها في أولادكم وأحفادكم . .تنبعث فيكم نسماتُ العزّ والتمكين وتتحدَّدُ فيكم أخبارُ الصالحين الفاتحين . . .
نسأل الله التوفيقَ إلى ما يحب ويرضى . . اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان،واجعلنا من الراشدين . .


[FONT="][FONT="][1][/FONT][/FONT][FONT="] - التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية لابن الأثير (ص 117 -118) . [/FONT]
المشاهدات 5040 | التعليقات 4

بارك الله فيك .


جزاك الله خيرا


جزاك الله خيرا وسلمت أناملك


الأساتذة الأفاضل : خالد أبو عمار ، شبيب القحطاني ، منديل الفقيه :
جزاكم الله كلّ خير على مروركم و كلماتكم الطيّبة ، نفع الله بي وبكم الأمّة .