رمضان وعمر

رَمَضَانُ وَعُمَرُ
8/9/1433

الحَمْدُ للهِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ، الكَرِيمِ المَنَّانِ؛ خَصَّ أُمَّتَنَا بِشَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، وَشَرَعَ لَنَا فِيهِ البِرَّ وَالإِحْسَانَ، وَفَتَحَ لَنَا أَبْوَابَ الجِنَانِ، وَغَلَّقَ أَبْوَابَ النِّيرَانِ، نَحْمَدُهُ عَلَى وَاسِعِ فَضْلِهِ وَعَطَائِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى عَظِيمِ امْتِنَانِهِ؛ فَهِدَايَتُهُ لَنَا تَنْفَعُنَا، وَمَعْصِيَتُنَا لَهُ تَضُرُّنَا، وَلاَ نَنْفَعُهُ بِطَاعَتِنَا، وَلاَ نَضُرُّهُ بِمَعْصِيَتِنَا، فَهُوَ الغَنِيُّ عَنِ العَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ جَادَ بِفَضْلِهِ عَلَى المُؤْمِنِينَ، وَخَصَّ بِكَامِلِ بِرِّهِ المُحْسِنِينَ، وَأَجْزَلَ المَثُوبَةَ لِلصَّائِمِينَ، وَتَفَضَّلَ عَلَى القَائِمِينَ؛ فَمَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ دَلَّ أُمَّتَهُ عَلَى مَوَاسِمِ الخَيْرَاتِ، وَحَثَّهُمْ عَلَى المُسَابَقَةِ فِي الطَّاعَاتِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَأَنَّ مَنْ قَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَقِيمُوا دِينَهُ، وَعَظِّمُوا حُرُمَاتِهِ، وَاحْفَظُوا صِيَامَكُمْ مِنَ التَّخْرِيقِ، وَاحْذَرُوا آثَامَ اللِّسَانِ وَالسَّمْعِ وَالبَصَرِ؛ فَإِنَّهَا تَخْرِقُ الصِّيَامَ حَتَّى تُنْقِصُ أَجْرَهُ أَوْ تُذْهِبُهُ، وَتُكْسِبُ صَاحِبَهَا أَوْزَارًا لاَ يَظُنُّهَا، «وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ»؛ كَمَا وَصَّانَا بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَيُّهَا النَّاسُ: يُعْرَفُ الرِّجَالُ بِأَفْعَالِهِمْ، وَلَيْسَ بِأَقْوَالِهِمْ، وَيُوزَنُونَ بِعُقُولِهِمْ لاَ بِأَجْسَامِهِمْ وَأَشْكَالِهِمْ، وَيُخَلِّدُونَ ذِكْرَهُمْ بِمَآثِرِهِمْ وَتُرَاثِهِمْ لاَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَحْسَابِهِمْ؛ فَكَمْ مِنْ شَرِيفٍ غَنِيٍّ لاَ مَحَلَّ لَهُ فِي كُتُبِ التَّرَاجمِ وَأَخْبَارِ الرِّجَالِ! وَكَمْ مِنْ مَوْلًى فَقِيرٍ سُوِّدَتْ فِيهِ الصَّفَحَاتُ؛ كَنَافِعٍ وَابْنِ أَبْزَى، وَالحَسَنِ البَصْرِيِّ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ المَوَالِي الفُقَرَاءِ.
وَحِينَ يَتَعَاضَدُ فِي الشَّخْصِ شَرَفُ النَّسَبِ مَعَ كَرَمِ الفِعْلِ وَحُسْنِ السِّيرَةِ يَجْتَمِعُ المَجْدُ كُلُّهُ فِيهِ، فَلاَ مَطْمَعَ فِيهِ لِطَاعِنٍ، وَلاَ مَحَلَّ فِيهِ لِشَامِتٍ؛ «فَخِيَارُكُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الإِسْلاَمِ إِذَا فَقُهُوا».
وَأَمِيرُ المُؤْمِنِينَ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِنَ النَّوْعِ الَّذِي حَازَ الشَّرَفِ بِنَسَبِهِ وَأَرُومَتِهِ، وَأَكْمَلَهُ بِإِيمَانِهِ وَمُرُوءَتِهِ؛ فَكَانَ جَبَّارًا فِي الجَاهِلِيَّةِ، عَظِيمًا فِي الإِسْلاَم،ِ هَابَهُ النَّاسُ فِي جَاهِلِيَّتِهِ وَفِي إِسْلامِهِ، وَأَعَزَّ اللهُ تَعَالَى بِهِ دِينَهُ، وَقَذَفَ بِهِ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِ حَتَّى خَافَهُ الشَّيْطَانُ فَسَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّهِ، وَبِمُطَالَعَةِ سِيرَتِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَتَسَرَّبُ الإِيمَانُ وَالاعْتِزَازُ بِالإِسْلامِ فِي القُلُوبِ، حَتَّى تَتَشَبَّعَ بِهِ، وَتَدُبُّ الشَّجَاعَةُ فِي النُّفُوسِ فَتَرْتَوِي مِنْهَا، فَلاَ يَبْقَى أَثَرٌ لِلنِّفَاقِ وَالجُبْنِ وَالخَوَرِ، وَسِيَرُ الأَبْطَالِ تَبْعَثُ الهِمَمَ فِي الأَجْيَالِ.
وَسِيرَةُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حَافِلَةٌ بِالأَخْبَارِ، مَلِيئَةٌ بِالأَحْدَاثِ؛ حَتَّى لَيَظُنُّ قَارِئُهَا أَنَّ عُمَرَ جَاوَزَ عُمْرُهُ أَلْفَ عَامٍ، وَهُوَ يَوْمَ يُوَسَّدُ فِي قَبْرِهِ لَمْ يُجَاوِزْ ثَلاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً.
وَسِيرَةٌ كَسِيرَةِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَسْتَطِيعُ قَارِئُهَا أَنْ يَنْتَقِيَ مِنْهَا مَا يَشَاءُ، وَيَذَرَ مِنْهَا مَا يَشَاءُ، وَيَسْتَطِيعُ أَنْ يُؤَلِّفَ رِوَايَةً أَوْ قِصَّةً أَوْ مُسَلْسَلاً مِنْ بَعْضِ سِيرَتِهِ العَطِرَةِ، فَيُصَوِّرُ لِلْقَارِئِ وَالمُشَاهَدِ أَنَّ هَذَا هُوَ عُمَرُ، وَهُوَ مَا عَرَضَ إِلاَّ بَعْضَ عُمَرَ، وَتَرَكَ أَكْثَرَهُ.
وَلِلنَّاسِ فِي تَدْوِينِ السِّيَرِ وَعَرْضِهَا أَهْدَافٌ يُرِيدُونَ تَحْقِيقَهَا، وَغَايَاتٌ يَرُومُونَ الوُصُولَ إِلَيْهَا، وَسِيرَةُ عُمَرَ الحَافِلَةُ بِالأَحْدَاثِ تَصْلُحُ لِلانْتِقَاءِ وَالاخْتِزَالِ.
اشْتُهِرَ عُمَرُ بِالعَدْلِ وَالإِنْصَافِ حَتَّى مِنْ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَنَفْسِهِ، وَإِقَامَةِ العَدْلِ حَتَّى مَعَ أَعْدَائِهِ وَمَنْ لَيْسُوا عَلَى دِينِهِ، فَيَسْتَطِيعُ المُنْتَقِي مِنْ سِيرَتِهِ أَنْ يُرَكِّبَ مِنْ ذَلِكَ مَفْهُومَ الاعْتِرَافِ بِالآخَرِ أَيِ الكَافِرِ، وَمُسَاوَاتِهِ بِالمُسْلِمِ، وَقَبُولِ التَّعَدُّدِيَّةِ وَلَوْ كَانَتْ كُفْرًا، وَيُسْتَشْهَدُ لَهَا بِمَوَاقِفَ مِنْ سِيرَةِ عُمَرَ بَعْد أَنْ يُبْتِرَهَا عَنْ سِيَاقِهَا، وَيُخْفِي مَا يُعَارِضُهَا مِنْ بَقِيَّةِ سِيرَتِهِ، وَقَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ بِالقُرْآنِ وَهُوَ مُنْزَلٌ مُحْكَمٌ، فَانْتَقَوْا مِنْ آيَاتِهِ مَا يَدْعُو إِلَى السِّلْمِ وَعَدَمِ الاعْتِدَاءِ، وَأَخْفَوُا الآيَاتِ الَّتِي تَدْعُو لِلْجِهَادِ وَالإِغْلاَظِ عَلَى الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ، وَانْتِقَاؤُهُمْ مِنْ سِيرَةِ عُمَرَ أَهْوَنُ مِنَ انْتِقَائِهِمْ مِنَ القُرْآنِ، وَقَدْ فَعَلُوهُ!
إِنَّ أَعْدَاءَ الإِسْلامِ مِنَ المُسْتَشْرِقِينَ كَانُوا يَنْتَقُونَ مِنَ النُّصُوصِ، وَمِنْ سِيَرِ العُظَمَاءِ فِي الإِسْلامِ مَا يَبُثُّونَ بِهِ الشُّبُهَاتِ، وَيُشَوِّشُونَ بِهِ عَلَى العَامَّةِ وَأَنْصَافِ المُتَعَلِّمِينَ؛ لِإِبْطَالِ الإِسْلامِ مِنْ دَاخِلِهِ؛ وَذَلِكَ بِإِدْخَالِ مَا لَيْسَ مِنْهُ فِيهِ مِنْ مُصْطَلَحَاتٍ حَادِثَةٍ، وَأَحْكَامٍ بَاطِلَةٍ، وَفَتَاوَى شَاذَّةٍ، وَإِخْرَاجِ مَا هُوَ مِنْهُ مِنْ أَحْكَامٍ مُحْكَمَةٍ ثَابِتَةٍ، ثُمَّ حَمَلَ هَذَا المَنْهَجَ عَنْهُمُ المُسْتَغْرِبُونَ العَرَبُ، وَأَظُنُّ أَنَّ تَصْوِيرَ سِيرَةِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَعَرْضَهَا فِي قَنَواتٍ دَأَبَتْ عَلَى الانْتِقَائِيَّةِ وَتَجْزِئَةِ الإِسْلامِ لَنْ يَخْرُجَ عَنِ الإِطَارِ الَّذِي رَسَمَهُ المُسْتَشْرِقُونَ، وَسَوَّقَهُ اللِّيبْرَالِيُّونَ وَالتَّنْوِيرِيُّونَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الزَّمَنِ المُعَظَّمِ عِنْدَ المُسْلِمِينَ، وَيَتَناوَلُ سِيرَةَ رَمْزٍ مِنْ رُمُوزِ الإِسْلامِ، وَعَظِيمٍ مِنْ عُظَمَائِهِ؛ لِيَحْظَى بِالشَّرْعِيَّةِ المَطْلُوبَةِ، وَيُحَقِّقَ الأَهْدَافَ المَرْجُوَّةَ، وَأَنَّى لَهُمْ ذَلِكَ؟!
عُمَرُ.. وَمَا عُمَرُ؟! عُمَرُ رَمْزُ الاحْتِسَابِ، وَرَمْزُ الجِهَادِ، وَرَمْزُ الإِغْلاظِ عَلَى الأَعْدَاءِ، وَهُوَ الَّذِي يَفْرِضُ الحَقَّ بِلاَ هَوَادَةَ، وَيَنْطِقُ بِهِ بِلاَ مُصَانَعَةَ، وَلاَ تَأْخُذُهُ فِي الحَقِّ لَوْمَةُ لاَئِمٍ.
لَنْ يَعْرِضُوا أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَرْفُضُ الآخَرَ بِالمُصْطَلَحِ المُعَاصِرِ، وَكَانَ شَدِيدًا عَلَيْهِ، وَهُوَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ نُطْقًا بِقَوْلِ: دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ! وَهَذَا يَهْدِمُ أَسَاسَ الوُدِّ مَعَ الآخَرِ كَافِرًا كَانَ أَمْ مُنَافِقًا!
وَلَنْ يَذْكُرُوا أَنَّ عُمَرَ اقْتَرَحَ فِي بَدْرٍ أَنْ تُجَزَّ رُؤُوسَ الأَسْرَى، وَأَنْ يُدْفَعَ كُلُّ قَرِيبٍ إِلَى قَرِيبِهِ لِيُطِيحَ بِعُنُقِهِ حَتَّى يَعْرِفَ الكُفَّارُ أَنَّهُ لاَ هَوَادَةَ فِي الإِسْلامِ، وَاقْتِرَاحُ عُمَرَ هَذَا مُؤَيَّدٌ بِالقُرْآنِ لَكِنَّهُ يُعَدُّ فِي العُرْفِ الدَّوْلِيِّ المُعَاصِرِ مِنْ جَرَائِمِ الحَرْبِ، وَيُخَالِفُ الاتِّفَاقِيَّاتِ الغَرْبِيَّةِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الأَسْرَى، فَهَلْ يَعْرِضُونَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ؟!
وَعُمَرُ كَانَ يَرْفُضُ التَّعَدُّدِيَّةَ وَالانْفِتَاحَ عَلَى الثَّقَافَاتِ الدِّينِيَّةِ الأُخْرَى، وَيَعْلُو بِدِرَّتِهِ مَنْ يُخَالِفُ ذَلِكَ؛ كَمَا عَلاَ بِهَا مَنْ كَانَ يَطْلُبُ كُتُبَ دَانْيَالَ -عَلَيْهِ السَّلامُ-، وَأَمَرَهُ بِإِحْرَاقِهَا، وَفِي العُرْفِ الدَّوْلِيِّ اللِّيبْرَالِيِّ المُعَاصِرِ يُعَدُّ هَذَا الفِعْلُ مِنْ عُمَرَ اعْتِدَاءً عَلَى التُّرَاثِ!
وَكَانَ عُمَرُ يُصَادِرُ حُرِّيَّةَ الرَّأْيِ لِصَالِحِ الشَّرِيعَةِ وَصِيَانَتِهَا، وَيُعَاقِبُ مَنْ يُخَالِفُ، وَقَدْ ضَرَبَ رَأْسَ صَبِيغٍ بِعَرَاجِينِ النَّخْلِ حَتَّى أَدْمَاهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَتَتَبَّعُ مُتَشَابِهَ القُرْآنِ، فَيَسْأَلُ عَنْهُ، حَتَّى قَالَ:«يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، حَسْبُكَ، قَدْ ذَهَبَ الَّذِي كُنْتُ أَجِدُ فِي رَأْسِي»، فَهَلْ سَيُوَافَقُ عَلَى عَرْضِ هَذَا فِي سِيرَةِ عُمَرَ مَنْ يَضْرِبُونَ المُحْكَمَاتِ بِالمُتَشَابِهَاتِ؛ لِيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ تَعَالَى؟!
وَكَانَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَدُوًّا لِلْحُرِّيَّاتِ الشَّخْصِيَّةِ إِذَا أَدَّتْ إِلَى انْتِهَاكِ شَيْءٍ مِنَ الشَّرْعِ؛ وَلِذَا كَانَ شَدِيدًا عَلَى اخْتِلاَطِ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَكَانَ يَضْرِبُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَنْهَى الرِّجَالَ عَنِ الدُّخُولِ مَعَ أَبْوَابِ النِّسَاءِ فِي المَسْجِدِ، وَيَمْنَعُ النِّسَاءَ مِنَ المَشْيِ فِي طُرُقِ الرِّجَالِ، وَرَأَى حَوْضًا يَتَوَضَّأُ مِنْهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فَضَرَبَهُمْ جَمِيعًا وَقَالَ لِصَاحِبِ الحَوْضِ:«اجْعَلْ حَوْضًا لِلرِّجَالِ وَحَوْضًا لِلنِّسَاءِ».
وَكَانَ يَرَى قَرَارَ النِّسَاءِ فِي البُيُوتِ، وَعَدَمَ خُرُوجِهِنَّ إِلاَّ لِحَاجَةٍ، وَكَانَ يُرْشِدُ الرِّجَالَ إِلَى أَلاَّ يُكْثِرُوا مِنْ شِرَاءِ الأَلْبِسَةِ لِلنِّسَاءِ وَيَقُولُ: «إِنَّ إِحْدَاهُنَّ إِذَا كَثُرَتْ ثِيَابُهَا وَحَسُنَتْ زِينَتُهَا أَعْجَبَهَا الخُرُوجُ».
وَرَأَى امْرَأَةً خَرَجَتْ مُتَطَيِّبَةً حَتَّى وَجَدَ رِيحَهَا فَعَلاَهَا بِالدِّرَّةِ وَقَالَ: «تَخْرُجْنَ مُتَطَيِّبَاتٍ فَيَجِدُ الرِّجَالُ رِيحَكُنَّ، وَإِنَّما قُلُوبُ الرِّجَالِ عِنْدَ أُنُوفِهِمْ، اخْرُجْنَ تَفِلاَتٍ».
وَكَانَ عُمَرُ رَمْزًا لِلاحْتِسَابِ حَتَّى فِي سِيَاقِ المَمَاتِ، فَإِنَّهُ لَمَا طُعِنَ زَارَهُ شَابٌّ مُسْبِلٌ ثِيَابَهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ:«يَا ابْنَ أَخِي، ارْفَعْ ثَوْبَكَ؛ فَإِنَّهُ أَبْقَى لِثَوْبِكَ، وَأَتْقَى لِرَبِّكَ»، عَلَّقَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ:«يَرْحَمُ اللهُ عُمَرُ لَمْ يَمْنَعْهُ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ قَوْلِ الحَقِّ».
وَكَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَدُورُ بَعْدَ العِشَاءِ فَإِذَا وَجَدَ قَوْمًا يَسْمُرُونَ فَرَّقَهُمْ بِدِرَّتِهِ، كَمَا رَوَىَ خَرَشَةُ بْنُ الْحُرِّ قَالَ:«رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَضْرِبُ النَّاسَ عَلَى الحَدِيثِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَيَقُولُ: أَسَمَرٌ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَنَوْمٌ آخِرَهُ». وَهَذَا يُعَدُّ فِي عُرْفِنَا المُعَاصِرِ تَدَخُّلاً فِي الخُصُوصِيَّاتِ، وَمُصَادَرَةً لِلْحُرِّيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ!
فَهَلْ يَعْرِضُونَ ذَلِكَ فِي سِيرَةِ عُمَرَ وَهُمْ يُحْيُونَ اللَّيْلَ كُلَّهُ فِي فَضَائِيَّاتِهِمْ بِالأَفْلامِ وَالمُسَلْسَلاتِ وَالبَرَامِجِ المُحَرَّمَةِ لِيُسْمِرَ عَلَيْهَا المُشَاهِدُونَ؟!
بَلْ كَانَ عُمَرُ يَضْرِبُ النَّاسَ عَلَى المُرُوءَةِ وَكَرِيمِ الأَخْلاقِ؛ فَقَدْ مَرَّ بِرَجُلٍ يُكَلِّمُ امْرَأَةً عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ، فَعَلَاهُ بِالدِّرَّةِ، فَقَالَ الرَّجُلُ:«يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهَا امْرَأَتِي، قَالَ: فَهَلَّا حَيْثُ لَا يَرَاكَ النَّاسُ»!
كُلُّ هَذِهِ المَوَاقِفِ لِلْفَارُوقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَأَمْثَالُهَا فِي سِيرَتِهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، لاَ أَظُنُّ أَنَّ شَيْئًا مِنْهَا سَيُعْرَضُ فِي قَنَوَاتٍ هَدَفُهَا إِذَابَةُ الإِسْلامِ وَتَمْيِيُعُهُ، وَإِخْضَاعُهُ لِلْفِكْرِ الغَرْبِيِّ المُتَسَلِّطِ المُسْتَبِدِّ؛ لِأَنَّ شِدَّةَ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي هَذِهِ المَوَاطِنِ سَتُظْهِرُ شِدَّةَ الإِسْلامِ وَحَزْمَهُ فِي مَوَاطِنِ الشِّدَّةِ وَالحَزْمِ، وَأَنَّهُ يَتَأَبَّى عَلَى الخُضُوعِ وَالإِذَابَةِ وَالاحْتِوَاءِ.
وَبِهَذَا نَعْلَمُ أَنَّ الإِنْفَاقَ عَلَى سِيرَةِ عُمَرَ وَعَرْضَهَا لَيْسَ احْتِفَاءً بِعُمَرَ، وَلاَ بِكَوْنِهِ رَمْزًا عَظِيمًا مِنْ رُمُوزِ الإِسْلامِ وَعُظَمَائِهِ، وَإِنَّما غَايَتُهَا اسْتِغْلالُ سِيرَتِهِ فِي تَمْرِيرِ أَفْكَارٍ تَغْرِيبِيَّةٍ لِإِقْنَاعِ المُشَاهِدِ المِسْكِينِ أَنَّ عُمَرَ يَقْبَلُ الآخَرَ وَالتَّعَدُّدِيَّةَ، وَأَنَّ مُجْتَمَعَهُ كَانَ مُجْتَمَعًا تَسُودُ فِيهِ مَظَاهِرُ اللِّيبْرَالِيَّةِ مِنْ تَبَرُّجِ النِّسَاءِ وَسُفُورِهِنَّ وَاخْتِلاطِهِنَّ بِالرِّجَالِ، وَمُزَاحَمَتَهِنَّ لَهُمْ فِي شَتَّى المَيَادِينِ.
خَابَ سَعْيُهُمْ، وَبَطُلَ كَيْدُهُمْ، وَكَرَّمَ اللهُ تَعَالَى الفَارُوقَ وَمُجْتَمَعَ الصَّحَابَةِ عَنْ زَيْفِهِمْ، وَحَمَى عُقُولَ المُسْلِمِينَ مِنْ إِفْكِهِمْ.
[وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ الله مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ] {إبراهيم:46}.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ..
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] {البقرة:183}.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هُوَ الَّذِي أَحْيَا سُنَّةَ الاجْتِمَاعِ عَلَى التَّرَاوِيحِ فِي المَسَاجِدِ بَعْدَمَا تَرَكَ الاجْتِمَاعَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَشْيَةَ أَنْ تُفْرَضَ عَلَى النَّاسِ؛ كَمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدٍ القَارِيُّ، أَنَّهُ قَالَ:«خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إِلَى المَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ، يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلاَتِهِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاَءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ، ثُمَّ عَزَمَ، فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ»؛ رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَمَضَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ العَظِيمَةُ فِي الأُمَّةِ تُمَيِّزُ لَيَالِي رَمَضَانَ عَنْ غَيْرِهَا مِنَ اللَّيَالِي فِي مَسَاجِدِ المُسْلِمِينَ فِي مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا مُنْذُ أَنْ أَحْيَاهَا عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِلَى يَوْمِنَا هَذَا؛ فَلَهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَجْرُ هَذِهِ الجُمُوعِ الَّتِي تُصَلِّي التَّرَاوِيحَ فِي كُلِّ عَامٍ مُنْذُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَرْنًا فِي شَتَّى الأَقْطَارِ؛ وَذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ.
وَكَانَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْه- يَمُرُّ عَلَى المَسَاجِدِ وَفِيهَا القَنَادِيلُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَيقُولُ:«نَوَّرَ اللهُ عَلَى عُمَرَ فِي قَبْرهِ كَمَا نَوَّرَ عَلَيْنَا مَسَاجِدَنَا»؛ يَعْنِي: بِصَلاةِ التَّراويِحِ.
فَلْنُحَافِظْ -عِبَادَ اللهِ- عَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ العَظِيمَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَحْيَاهَا الفَارُوقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا المُسْلِمُونَ، وَلْنَتَعَلَّمْ مِنْ سِيرَةِ الفَارُوقِ القُوَّةَ فِي الحَقِّ، وَصَلابَةَ الدِّينِ، وَعَدَمَ المُدَاهَنَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى، وَلْنَحْذَرْ تَزْيِيفَ المُزَيِّفِينَ، وَانْتِقَاءَ المُنْحَرِفِينَ مِنْ سِيَرِ الأَعْلاَمِ الرَّبَّانِيِّينَ؛ لِتَبْقَى سِيَرُهُمْ فِي القُلُوبِ عَلَى مَا عَهِدَ النَّاسُ وَعَرَفُوا عَنِ الصَّحَابَةِ الكِرَامِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ، وَمِمَّنْ تَتَلَقَّوْنَ سِيَرَ عُظَمَائِكُمْ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات

رمضان وعمر.doc

رمضان وعمر.doc

رَمَضَانُ وَعُمَرُ.doc

رَمَضَانُ وَعُمَرُ.doc

المشاهدات 6159 | التعليقات 12

بارك الله فيك وفي علمك
موضوع موفق , وطرح مميز
لا حرمك الله أجر كل من قرأه وسمعه.


بارك الله في الشيخ إبراهيم


جزاك الله خيرا
وأثابك على ذبك ودفاعك عن الخلفاء الراشدين والصحابة عموما


رفع الله قدرك يا شيخ إبراهيم وبارك في علمك وعملك .. موضوع مميز جزاك الله خيرا ..


بارك الله فيك شيخنا ونفع بك..


لماذا...؟؟لايكون هناك برامج للمشائخ على هذه القنوات للتعريف بسير الصحابة رضي الله عنهم...إذا كان الهدف التعريف بهم،وإلا الوضع كما قال الشيخ إبراهيم عرض مايوافق أهوائهم وترك

مايتعارض من رغباتهم وشهواتهم،أبطل الله كيدهم ودحر شرهم وخاب وخسر وظل سعيهم ومكرهم،جزاك الله خيراً ياشيخنا ،ونفع الله بك الإسلام والمسلمين.


اسال الله العظيم رب العرش الكريم ان يجزل لك الاجر والمثوبة على الخطبة الرائعة والا يحرمك اجر دفاعك عن فاروق الامة


موضوع ممتاز جزاك الله خيرا


شكر الله تعالى لكم إخواني الكرام أجمعين مروركم وتعليقكم على الخطبة ورفع قدركم وأجزل مثوبتكم ونفع بكم..


أنا مقتنع قناعة كاملة ويقين راسخ أن ليس لدى (mbc) ومثيلاتها هدف خدمة الدين أو نصرة الشريعة والملة ..
وما لديهم من برامج مما يظن أنه كذلك فلغرض المادة فقط ( ما يطلبه المشاهدون) سواء كان برنامجا دينياً أو برنامج إفتاء ، وينتقى فيمن يقدم ذلك أن يكون قريباً من التوجه من التنويريين والمميعن ، أو غير مصادم لهم محاد على أقل الأحوال ..
كفانا الله شرهم بما شاء ، و الله ناصر دينه ولو كره الكافرون ولو كره المشركون .

شكر الله لشيخنا إبراهيم وجعل كل حرف في ميزان حسناته فقد أجاد وأفاد وأبدع كعادته ما شاء الله ..