خطبة في شأن اختطاف القنصل السعودي والتحذير من أعمال الفئة الضالة
ابراهيم الهلالي
1433/05/27 - 2012/04/19 14:40PM
خطبة في اختطاف القنصل السعودي وتحذر الأمة من منهج الفئة الضالة
1433/5/28
الحمدُ لله الذِي بصَّر من شاء مِن عبادِه للُزوم الطريقِ المستقيم، أحمدُه سبحانه وأشكرُه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له العزيز الحكيم، وأشهد أنَّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله المبعوث رحمةً للعالمين، اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنَّ التقوى خير لباس وأزكى ذُخر عند الشدائد والباس، وأفضل عُدّة وزاد يبلّغ إلى جنان ورضوان ربّ العِباد، تِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلتي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا [مريم: 63].
أيها المسلمون، عند حلول حدثٍ أيَّ حدثٍ يتساءل الناس بعامتهم في سكرة: ماذا حدث؟! ولماذا حدث؟! وكيف حدث؟! وبعد مضي الحدث يتساءل العقلاء والحكماء ويتنادى الغيورون والنبلاء: وماذا بعد الحدث؟ في تفكر ومحاسبات ومعالجة ومراجعات وتحليل ومتابعات وأبحاث ودراسات، تربط النتائج بالمقدمات، وتصل الأسباب بالمسببات، لا سيما فيما يمس دين الأمة وأمن المجتمعات، وما يعكر استقرار الشعوب والبيئات، وما يعوق بناء الأمجاد وإشادة الحضارات، ويعبث بالمكتسبات والمقدرات، تشخيصا محكما للداء، ووصفا ناجعا للدواء.وقد سمعتم وسمعنا ما تناقلته وسائل الإعلام من خبر احتجاز الفئة الضالة لنائب قنصل المملكة باليمن ومساوماتهم على ذلك بما ينم عن جهل وحقد وعدم إدراك للعواقب وما هي حدود الله وحرماته ولنا مع هذا الحدث وقفات :
إن المتتبع لأعمال الفئة الضالة منذ سنوات يعلم مدى ما هم فيه من الضلال والإضلال، ومع ذلك كله فقد ناداهم ولاة أمرنا ـ أيدهم الله بالحق ـ نادوهم نداء الشفقة الرحمة، نادوهم نداء الحسم والحزم، ناداهم علماؤنا وبيّنوا لهم الحقَّ بالدليل من الكتاب والسنة، ناداهم دعاتنا وخطباؤنا وحذّروهم مما هم فيه من الضلال والغواية، ناداهم كلّ غيور على دينه ووطنه، بل ناداهم آباؤهم وأمهاتهم وزوجاتهم، ولكن قلوبهم المريضة وعقولهم القاصِرة حالت دون عودَتهم وأوبتهم ورجوعهم إلى الطريق المستقيم، وتعجب ماذا يريد هؤلاء المفسدون في الأرض بهذا الإرهاب؟! أيريدون الدنيا؟! فالتدمير والتخريب والغدْر والخيانة والخوف يفسد الحياة ولا يُبقي منها على شيء، أم يريدون الآخرة كما يزعمون؟! فالجنةُ لا تُنال بقتلِ النفس أو بقتل المسلمين أو غير المسلمين المستأمَنين أو بعصيان الله ورسوله أو عصيان وليّ الأمر، وهذه أعمالٌ من أعمال أهلِ النار.
أيها المسلمون، صور الضلال والإضلال لهذه الفئة الباغية صور كثيرة متنوعة، فكم من أنفسٍ مسلمة بريئة أُزهقت بأيديهم، وكم مِن نفوس مؤمنة رُوِّعت وخوّفت، وكم من أموال وممتلكاتٍ أُتلِفت، لم يرحَم هؤلاء المجرِمون المخرِّبون طفلاً ولا شيخًا ولا امرأة، لم يراعوا أيَّ قِيَم دينيّة وأخلاقية، ولم يبالوا بشرعٍ ولا عقلٍ ولا إنسانية.
أتذكرون حينما جمعوا أسلحتهم وخبؤوها قريبًا من مكة قريبًا من بيت الله الحرام؟! ومثل ما قيل في مكة قل في المدينة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم. هذه الفئة أسقطت مِن قاموسها تعظيمَ شعائر الله وعظمةَ بيته الحرام وسكّانه الكِرام التي حفِظها الله منذ خلقَ السمواتِ والأرض المهم عندهم تنفيذ مخططات تملى عليهم من جهات غير معلومة عند أكثرهم تحرص على فرقة المسلمين وزعزعة هذا البلد الأمين.
الخروج على ولي الأمر وتكفير المجتمع والغلو في الدين صوَر من مظاهر هذه الفئة، هم على أثر الخوارج، لقد كان الخوارج أهلَ عبادةٍ، وفيهم مظاهرُ الصّلاحِ وإظهارٌ لبعض الشّعائِر كما في الحديث: ((تحقِرون صلاتكم عند صلاتهم، يقرؤون القرآنَ لا يجاوِز حناجرَهم)) رواه البخاري ومسلم.
هؤلاء الخوارجُ الشاذّون ظهَروا في خير القرونِ وأفضلها، في عهدِ صحابة نبيّنا محمّد ، فوصَل بهم الحال إلى أن حاربوا الصّحابةَ والمسلمين، بل قتلوا الخليفتَين الرّاشدَين عثمانَ عليًّا رضي الله عنهما. ألا يكفي زَيفًا وضلالاً أن يُجهِّل الخوارج صحابةَ رسول الله ويكفِّروهم ويحاربوهم؟!
لقد كان عند الخوارجِ شيءٌ مِن حماسٍ و نوع مِن إخلاص، لكن لم يكُن عندَهم عِلمٌ صحيح ولا فِقهٌ سليم، حارَبوا الصحابةَ، وقَتلوا الخلفاءَ، زاعمين أنَّ هذا هو طريقُ الإصلاح.
وروى البخاري عن سويد بن غفلة قال: قال علي رضي الله عنه: إذا حدثتكم عن رسول الله فلأن أخرّ من السماء أحبّ إليّ من أكذب عليه، وإذا حدّثتكم فيما بيني وبينكم فإنّ الحرب خدعة، سمعت رسول الله يقول: ((يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميّة، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة)).
وروى ابن ماجه عن ابن أبي أوفى قال: قال رسول الله : ((الخوارج كلاب النار)) قال الشيخ الألباني: "صحيح". وروى ابن ماجه أيضا عن أبي غالب عن أبي أمامة يقول: ((شرُّ قتلى قتلوا تحت أديم السماء، وخير قتيلٍ مَن قَتلوا؛ كلاب أهل النار، قد كان هؤلاء مسلمين فصاروا كفاراً ))، قلت: يا أبا أمامة، هذا شيء تقوله؟ قال: بل سمعته من رسول الله . قال الشيخ الألباني: "حسن".
أيّها المسلمون، إنّ مِن أعظمِ أسباب انحرافِ هؤلاء الجهلَ والعزلةَ عن المجتمع وعدمَ أخذِ العلم من أهلِه وغفلةَ الأسرة، وإنّ في كثير منهم إعجابًا بالنّفس كبيرًا، وهذه كلُّها من الصوارِف عن الحقّ والفِقهِ وأخذِ العلم من أهله وأبوابه. بل لقد حال بينهم وبين أهل العلم الصادقين أن بدأ قادتهم بتكفير العلماء ووصفهم بكل نقيصة وأنهم علماء سلاطين وأن فتاواهم تملى عليهم وأن خانوا الله ورسوله وعند ذلك وضعوا أكبر الحواجز بينهم وبين من يُبصرونهم بالحق ويقودنهم إليه فلله الأمر من قبل ومن بعد.
معاشرَ المسلمين، وثمّةَ سببٌ في الانحرافِ كبير، ذالكم هو الوقوعُ في دائِرة الغلو. إنّ الغلوّ في دين الله هو ـ والله ـ سببُ الهلاك، فلقد قال عليه الصلاة والسلام: ((إيّاكم والغُلوّ، فإنّما أهلك من كان قبلكم الغلوّ)) رواه أحمد بسند صحيح.
الغلوّ مشاقّةٌ حقيقيّة لهديِ الإسلام وإعراضٌ عن منهجِه في الوسطيّة والاعتدال والرّحمَة واليُسر والرِّفق. الغلوّ ظلمٌ للنّفس وظلمٌ للنّاس، بل هو صدّ عن سبيل الله لِما يورِثه من تشويه وفتنةٍ وتنفير. الغلاةُ يتعَصّبون لجماعتِهم ويجعلونَها مصدرَ الحقّ، ويغلُون في قادتِهم ورؤسائِهم، ويتبرّؤون مِن مجتمعاتِ المسلمين، ويكفّرون بالمعَاصي، ويكفّرون أهلَ الإسلام وحكّامَ المسلمين، ويقولون بالخروج على أئمّة المسلمين، ويعتزلون مجتمعاتِ المسلمين، ويتبرّؤون منهم، لا يصلّون خلفَ أئمّة المسلمين في مساجدِ المسلمين. لقد وصفهم نبيّنا محمّد بوصفَين ظاهرين خطيرَين في قوله عليه الصلاة والسلام: ((يقرؤون القرآنَ لا يجاوِز حناجرَهم، يقتُلون أهلَ الإسلام ويدَعون أهلَ الأوثان)) أخرجه البخاري ومسلم.
الوصفُ الأوّل: يقرؤون القرآن ولا يفقهونَه ولا يدرِكون مقاصدَه، يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (إنّهم انطلَقوا إلى آياتٍ نزلت في الكفّار فجعلوها على المؤمنين) رواه البخاري معلقًا بسند موصول عند الطبري صحيح.
الوصف الثاني: استحلالُ دماءِ المسلمين: ((يقتلون أهلَ الإسلام ويدَعون أهلَ الأوثان)). يقول شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إنّهم يكفِّرون بالذّنب والسيّئات، ويترتّب على تكفيرهم بالذّنوب استحلالُ دماءِ المسلمين وأموالِهم، وأنّ دارَ الإسلامِ دارُ كفر، ودارهم هي دار الإسلام"، ولقد قال أبو قلابة: "ما ابتدَعَ رجلٌ بدعةً إلاَّ استحلَّ السيف"، فلا حول ولا قوّة إلا بالله، يجمعون بين الجهل بدين الله وظلمِ عبادِ الله، وبِئستِ الطّامّتان الدّاهيتان.
إنّ مصيرَ الغلاة هو الهلاك بنصّ حديث رسول الله : ((هلك المتنطِّعون، هلك المتنطِّعون، هلك المتنطِّعون)) أخرجه مسلم.
أيها المؤمنون : من ينظر في التواريخ وما جرى من الفتن والمحن في هذه الأمَّة يجد أنَّه ما من فتنة وقعت إلاَّ كان سببها قتال الأمراء وعدم الصبر عليهم.
قال ابن تيمية: "قلَّ من خرج على إمام ذي سلطان إلاَّ كان ما تولَّد على فعله من الشرِّ أعظم ممَّا تولَّد من الخير، كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة، وكابن الأشعث الذي خرج على عبد الملك بالعراق، وكابن المهلَّب الذي خرج على [أبيه] بخراسان، وكأبي مسلم صاحب الدعوة الذي خرج عليهم بخراسان أيضًا، وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة، وأمثال هؤلاء. وغاية هؤلاء إمَّا أن يُغْلَبوا، وإمَّا أن يَغْلِبوا ثمَّ يزول ملكهم، فلا يكون لهم عاقبة. فإنَّ عبد الله بن علي وأبا مسلم هما اللذان قتلا خلقًا كثيرًا، وكلاهما قتله أبو جعفر المنصور. وأمَّا أهل الحرَّة وابن الأشعث وابن المهلَّب وغيرهم فهزموا، وهزم أصحابهم، فلا أقاموا دينًا، ولا أبقوا دنيا، والله تعالى لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا".
وقال شيخ الإسلام في موضع آخر: "لعلَّه لا يكاد يُعرف طائفةٌ خرجت على ذي سلطان إلاَّ وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته".
وقال ابن القيِّم: "الإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم أساس كلِّ شرّ، وفتنةٌ إلى آخر الدهر... ومن تأمَّل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر، فطُلب إزالته، فتولَّد منه ما هو أكبر منه".
وقد نبَّه على هذا حديث ابن عمر عن النبيِّ قال: ((ينشأ نشء يقرؤون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، كلَّما خرج قرنٌ قطع))، قال ابن عمر: سمعت رسول الله يقول: ((كلَّما خرج قرنٌ قطع ـ أكثر من عشرين مرَّة ـ حتَّى يخرج في عراضهم الدجَّال)) ابن ماجة بسند صحيح.
فهذا خبر الصادق المصدوق بأنَّ هؤلاء الخارجين على الأمراء والولاة لا يكاد يخلو منهم زمان إلى أن يخرج الدجَّال في عراضهم، فيكون منهم في كلِّ زمان جيلٌ أو طائفة إلى آخر الزمان، كلَّما خرجت منهم طائفة قُطعت، سواء تغلَّبت أو انهزمت، وسواء قُطعت من قبل أهل الحقِّ أو من قبل أئمَّة الجور والبغي.
فأخبر الصادق المصدوق أنَّ معاركهم خاسرة فقال: ((كلَّما خرج قرن قطع)). والقرن هو الجيل والطبقة من الناس. فالخارج على السلطان مآله إلى الخسران، ولا بدَّ. فإنَّه إمَّا أن يقطع قبل الظفر، وإمَّا أن يَغلب فلا يلبث أن يخرج عليه من يقطعه. وهذا هو الذي وقع في تاريخ هذه الأمَّة، ومن طالع تواريخ الدول والملوك والأمراء من هذه الأمَّة رأى من ذلك عجائب وأوابد. فهذا يدلُّك على أنَّه لا يجتنى من قتال الأمراء إلاَّ الشرّ، وأنَّ الخروج عليهم طريقٌ مقطوع بنصِّ الحديث، وليس بعد الحقِّ إلاَّ الضلال. ولكن قلَّ من يعتبر، ولهذا قال الحسن البصري: "إنَّ هذه الفتنة إذا أقبلت عرفها كلُّ عالم، وإذا أدبرت عرفها كلُّ جاهل".
لقد قدّم هؤلاء للعالم صورةً قاتمة عن الإسلام وأهله، فهم ـ والله ـ لا للإسلام نصَروا ولا للكفر كسَروا.
اللهم إنا نسألك في الحال والمآل صلاحاً وتقوىً وهدىً ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفةَ عينٍ أو أقَلَّ من ذلك بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...الخ
الخطبة الثانية:
الحمد الله الواحدِ القهّار، وعد المتّقين جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار، وأوعد الزائغين عن شريعته عذابَ السعير وبئس القرار، وشكرًا لك اللهمَّ أن خيّبتَ آمال من أرادوا سوءًا بأهل هذه الديار، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له شهادةً نرجو بها حطّ الخطايا والأوزار، وأشهد أن نبيّنا محمدًا عبد الله ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه المخصوصين بالتوقير والإكبار، ومن تبعهم بإحسان ما تعاقبَ غروبٌ وإسفار.
أما بعد: أيها المسلمون،يقول تبارك وتعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93]. وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا أي: يتعمد قتله من غير مسوّغ شرعي، إنما قتله لحاجه في نفسه، كان قتله له هدفا سواء طعنه أو دهسه، سواء رماه أو فجّره، المهمّ أنه صار سببا في إنهاء حياته، فما هو ـ يا ترى ـ جزاؤه؟! ما هي عقوبته؟! قال تعالى: فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا، جهنم فقط؟ لا، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا.
فقتل المسلم من غير مسوغ شرعي ذنب عظيم وجرم كبير، لا يحل ولا يجوز أبدا، يقول النبي: ((لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصان فإنه يرجم، ورجل خرج محاربا لله ورسوله فإنه يقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض، أو يقتل نفسا فيقتل بها)) رواه أبو داود وصححه الألباني.
أيها الإخوة المؤمنون، لقد توعّد الله عز وجل من قتل نفسا بغير حقّ بالعقاب العظيم في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة، وليس بعد الشرك ذنب أعظم من قتل النفس المعصومة، يقول تبارك وتعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء: 29، 30]. قال الطبري: "يعني بقوله جل ثناؤه: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ولا يقتل بعضكم بعضا وأنتم أهل ملة واحدة ودعوة واحدة ودين واحد".
وقال عز وجل: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة: 32].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي قال: ((أكبر الكبائر الإشراك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وقول الزور)) رواه البخاري، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: ((لن يزال المؤمن في فسحة من دنيه ما لم يصب دما حراما)) قال الألباني حسن لغيره.
وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي قال: ((يخرج عنق من النار يتكلم يقول: وكِّلت اليوم بثلاثة: بكل جبار عنيد، ومن جعل مع الله إلها آخر، ومن قتل نفسا بغير حق، فينطوي عليهم فيقذفهم في حمراء جهنم)) رواه أحمد. ورواه البزار ولفظه: ((تخرج عَنَقٌ من النار تتكلم بلسان طَلْق ذَلْق، لها عينان تبصر بهما، ولها لسان تتكلم به، فتقول: إني أمرت بمن جعل مع الله إلها آخر، وبكل جبار عنيد، وبمن قتل نفسا بغير نفس، فتنطلق بهم قبل سائر الناس بخمسمائة عام)) وفي إسناديهما عطية العوفي. ورواه الطبراني بإسنادين رواة أحدهما رواة الصحيح، وقد روي عن أبي سعيد من قوله موقوفا عليه.
أيها الإخوة المؤمنون، إن قتل الأنفس البريئة وسفك الدماء المعصومة عند الله عز وجل لأمر عظيم، ففي الحديث عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق)) رواه الترمذي وصححه الألباني، وقال في أكبر اجتماع للناس في عصره في يوم عرفة في حجة الوداع العظيمة: ((ألا إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟)) قالوا: نعم، قال: ((اللهم اشهد ـ ثلاثا ـ، ويلكم انظروا، لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)) رواه البخاري ومسلم ، وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن رسول الله قال: ((لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار)) رواه الترمذي (1398)، وعن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يقتل المؤمن متعمداً أو الرجل يموت كافراً)) رواه أبو داود وصححه الألباني.
ألا وصلوا وسلموا على الهادي البشير ...الخ
1433/5/28
الحمدُ لله الذِي بصَّر من شاء مِن عبادِه للُزوم الطريقِ المستقيم، أحمدُه سبحانه وأشكرُه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له العزيز الحكيم، وأشهد أنَّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله المبعوث رحمةً للعالمين، اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنَّ التقوى خير لباس وأزكى ذُخر عند الشدائد والباس، وأفضل عُدّة وزاد يبلّغ إلى جنان ورضوان ربّ العِباد، تِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلتي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا [مريم: 63].
أيها المسلمون، عند حلول حدثٍ أيَّ حدثٍ يتساءل الناس بعامتهم في سكرة: ماذا حدث؟! ولماذا حدث؟! وكيف حدث؟! وبعد مضي الحدث يتساءل العقلاء والحكماء ويتنادى الغيورون والنبلاء: وماذا بعد الحدث؟ في تفكر ومحاسبات ومعالجة ومراجعات وتحليل ومتابعات وأبحاث ودراسات، تربط النتائج بالمقدمات، وتصل الأسباب بالمسببات، لا سيما فيما يمس دين الأمة وأمن المجتمعات، وما يعكر استقرار الشعوب والبيئات، وما يعوق بناء الأمجاد وإشادة الحضارات، ويعبث بالمكتسبات والمقدرات، تشخيصا محكما للداء، ووصفا ناجعا للدواء.وقد سمعتم وسمعنا ما تناقلته وسائل الإعلام من خبر احتجاز الفئة الضالة لنائب قنصل المملكة باليمن ومساوماتهم على ذلك بما ينم عن جهل وحقد وعدم إدراك للعواقب وما هي حدود الله وحرماته ولنا مع هذا الحدث وقفات :
إن المتتبع لأعمال الفئة الضالة منذ سنوات يعلم مدى ما هم فيه من الضلال والإضلال، ومع ذلك كله فقد ناداهم ولاة أمرنا ـ أيدهم الله بالحق ـ نادوهم نداء الشفقة الرحمة، نادوهم نداء الحسم والحزم، ناداهم علماؤنا وبيّنوا لهم الحقَّ بالدليل من الكتاب والسنة، ناداهم دعاتنا وخطباؤنا وحذّروهم مما هم فيه من الضلال والغواية، ناداهم كلّ غيور على دينه ووطنه، بل ناداهم آباؤهم وأمهاتهم وزوجاتهم، ولكن قلوبهم المريضة وعقولهم القاصِرة حالت دون عودَتهم وأوبتهم ورجوعهم إلى الطريق المستقيم، وتعجب ماذا يريد هؤلاء المفسدون في الأرض بهذا الإرهاب؟! أيريدون الدنيا؟! فالتدمير والتخريب والغدْر والخيانة والخوف يفسد الحياة ولا يُبقي منها على شيء، أم يريدون الآخرة كما يزعمون؟! فالجنةُ لا تُنال بقتلِ النفس أو بقتل المسلمين أو غير المسلمين المستأمَنين أو بعصيان الله ورسوله أو عصيان وليّ الأمر، وهذه أعمالٌ من أعمال أهلِ النار.
أيها المسلمون، صور الضلال والإضلال لهذه الفئة الباغية صور كثيرة متنوعة، فكم من أنفسٍ مسلمة بريئة أُزهقت بأيديهم، وكم مِن نفوس مؤمنة رُوِّعت وخوّفت، وكم من أموال وممتلكاتٍ أُتلِفت، لم يرحَم هؤلاء المجرِمون المخرِّبون طفلاً ولا شيخًا ولا امرأة، لم يراعوا أيَّ قِيَم دينيّة وأخلاقية، ولم يبالوا بشرعٍ ولا عقلٍ ولا إنسانية.
أتذكرون حينما جمعوا أسلحتهم وخبؤوها قريبًا من مكة قريبًا من بيت الله الحرام؟! ومثل ما قيل في مكة قل في المدينة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم. هذه الفئة أسقطت مِن قاموسها تعظيمَ شعائر الله وعظمةَ بيته الحرام وسكّانه الكِرام التي حفِظها الله منذ خلقَ السمواتِ والأرض المهم عندهم تنفيذ مخططات تملى عليهم من جهات غير معلومة عند أكثرهم تحرص على فرقة المسلمين وزعزعة هذا البلد الأمين.
الخروج على ولي الأمر وتكفير المجتمع والغلو في الدين صوَر من مظاهر هذه الفئة، هم على أثر الخوارج، لقد كان الخوارج أهلَ عبادةٍ، وفيهم مظاهرُ الصّلاحِ وإظهارٌ لبعض الشّعائِر كما في الحديث: ((تحقِرون صلاتكم عند صلاتهم، يقرؤون القرآنَ لا يجاوِز حناجرَهم)) رواه البخاري ومسلم.
هؤلاء الخوارجُ الشاذّون ظهَروا في خير القرونِ وأفضلها، في عهدِ صحابة نبيّنا محمّد ، فوصَل بهم الحال إلى أن حاربوا الصّحابةَ والمسلمين، بل قتلوا الخليفتَين الرّاشدَين عثمانَ عليًّا رضي الله عنهما. ألا يكفي زَيفًا وضلالاً أن يُجهِّل الخوارج صحابةَ رسول الله ويكفِّروهم ويحاربوهم؟!
لقد كان عند الخوارجِ شيءٌ مِن حماسٍ و نوع مِن إخلاص، لكن لم يكُن عندَهم عِلمٌ صحيح ولا فِقهٌ سليم، حارَبوا الصحابةَ، وقَتلوا الخلفاءَ، زاعمين أنَّ هذا هو طريقُ الإصلاح.
وروى البخاري عن سويد بن غفلة قال: قال علي رضي الله عنه: إذا حدثتكم عن رسول الله فلأن أخرّ من السماء أحبّ إليّ من أكذب عليه، وإذا حدّثتكم فيما بيني وبينكم فإنّ الحرب خدعة، سمعت رسول الله يقول: ((يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميّة، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة)).
وروى ابن ماجه عن ابن أبي أوفى قال: قال رسول الله : ((الخوارج كلاب النار)) قال الشيخ الألباني: "صحيح". وروى ابن ماجه أيضا عن أبي غالب عن أبي أمامة يقول: ((شرُّ قتلى قتلوا تحت أديم السماء، وخير قتيلٍ مَن قَتلوا؛ كلاب أهل النار، قد كان هؤلاء مسلمين فصاروا كفاراً ))، قلت: يا أبا أمامة، هذا شيء تقوله؟ قال: بل سمعته من رسول الله . قال الشيخ الألباني: "حسن".
أيّها المسلمون، إنّ مِن أعظمِ أسباب انحرافِ هؤلاء الجهلَ والعزلةَ عن المجتمع وعدمَ أخذِ العلم من أهلِه وغفلةَ الأسرة، وإنّ في كثير منهم إعجابًا بالنّفس كبيرًا، وهذه كلُّها من الصوارِف عن الحقّ والفِقهِ وأخذِ العلم من أهله وأبوابه. بل لقد حال بينهم وبين أهل العلم الصادقين أن بدأ قادتهم بتكفير العلماء ووصفهم بكل نقيصة وأنهم علماء سلاطين وأن فتاواهم تملى عليهم وأن خانوا الله ورسوله وعند ذلك وضعوا أكبر الحواجز بينهم وبين من يُبصرونهم بالحق ويقودنهم إليه فلله الأمر من قبل ومن بعد.
معاشرَ المسلمين، وثمّةَ سببٌ في الانحرافِ كبير، ذالكم هو الوقوعُ في دائِرة الغلو. إنّ الغلوّ في دين الله هو ـ والله ـ سببُ الهلاك، فلقد قال عليه الصلاة والسلام: ((إيّاكم والغُلوّ، فإنّما أهلك من كان قبلكم الغلوّ)) رواه أحمد بسند صحيح.
الغلوّ مشاقّةٌ حقيقيّة لهديِ الإسلام وإعراضٌ عن منهجِه في الوسطيّة والاعتدال والرّحمَة واليُسر والرِّفق. الغلوّ ظلمٌ للنّفس وظلمٌ للنّاس، بل هو صدّ عن سبيل الله لِما يورِثه من تشويه وفتنةٍ وتنفير. الغلاةُ يتعَصّبون لجماعتِهم ويجعلونَها مصدرَ الحقّ، ويغلُون في قادتِهم ورؤسائِهم، ويتبرّؤون مِن مجتمعاتِ المسلمين، ويكفّرون بالمعَاصي، ويكفّرون أهلَ الإسلام وحكّامَ المسلمين، ويقولون بالخروج على أئمّة المسلمين، ويعتزلون مجتمعاتِ المسلمين، ويتبرّؤون منهم، لا يصلّون خلفَ أئمّة المسلمين في مساجدِ المسلمين. لقد وصفهم نبيّنا محمّد بوصفَين ظاهرين خطيرَين في قوله عليه الصلاة والسلام: ((يقرؤون القرآنَ لا يجاوِز حناجرَهم، يقتُلون أهلَ الإسلام ويدَعون أهلَ الأوثان)) أخرجه البخاري ومسلم.
الوصفُ الأوّل: يقرؤون القرآن ولا يفقهونَه ولا يدرِكون مقاصدَه، يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (إنّهم انطلَقوا إلى آياتٍ نزلت في الكفّار فجعلوها على المؤمنين) رواه البخاري معلقًا بسند موصول عند الطبري صحيح.
الوصف الثاني: استحلالُ دماءِ المسلمين: ((يقتلون أهلَ الإسلام ويدَعون أهلَ الأوثان)). يقول شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إنّهم يكفِّرون بالذّنب والسيّئات، ويترتّب على تكفيرهم بالذّنوب استحلالُ دماءِ المسلمين وأموالِهم، وأنّ دارَ الإسلامِ دارُ كفر، ودارهم هي دار الإسلام"، ولقد قال أبو قلابة: "ما ابتدَعَ رجلٌ بدعةً إلاَّ استحلَّ السيف"، فلا حول ولا قوّة إلا بالله، يجمعون بين الجهل بدين الله وظلمِ عبادِ الله، وبِئستِ الطّامّتان الدّاهيتان.
إنّ مصيرَ الغلاة هو الهلاك بنصّ حديث رسول الله : ((هلك المتنطِّعون، هلك المتنطِّعون، هلك المتنطِّعون)) أخرجه مسلم.
أيها المؤمنون : من ينظر في التواريخ وما جرى من الفتن والمحن في هذه الأمَّة يجد أنَّه ما من فتنة وقعت إلاَّ كان سببها قتال الأمراء وعدم الصبر عليهم.
قال ابن تيمية: "قلَّ من خرج على إمام ذي سلطان إلاَّ كان ما تولَّد على فعله من الشرِّ أعظم ممَّا تولَّد من الخير، كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة، وكابن الأشعث الذي خرج على عبد الملك بالعراق، وكابن المهلَّب الذي خرج على [أبيه] بخراسان، وكأبي مسلم صاحب الدعوة الذي خرج عليهم بخراسان أيضًا، وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة، وأمثال هؤلاء. وغاية هؤلاء إمَّا أن يُغْلَبوا، وإمَّا أن يَغْلِبوا ثمَّ يزول ملكهم، فلا يكون لهم عاقبة. فإنَّ عبد الله بن علي وأبا مسلم هما اللذان قتلا خلقًا كثيرًا، وكلاهما قتله أبو جعفر المنصور. وأمَّا أهل الحرَّة وابن الأشعث وابن المهلَّب وغيرهم فهزموا، وهزم أصحابهم، فلا أقاموا دينًا، ولا أبقوا دنيا، والله تعالى لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا".
وقال شيخ الإسلام في موضع آخر: "لعلَّه لا يكاد يُعرف طائفةٌ خرجت على ذي سلطان إلاَّ وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته".
وقال ابن القيِّم: "الإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم أساس كلِّ شرّ، وفتنةٌ إلى آخر الدهر... ومن تأمَّل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر، فطُلب إزالته، فتولَّد منه ما هو أكبر منه".
وقد نبَّه على هذا حديث ابن عمر عن النبيِّ قال: ((ينشأ نشء يقرؤون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، كلَّما خرج قرنٌ قطع))، قال ابن عمر: سمعت رسول الله يقول: ((كلَّما خرج قرنٌ قطع ـ أكثر من عشرين مرَّة ـ حتَّى يخرج في عراضهم الدجَّال)) ابن ماجة بسند صحيح.
فهذا خبر الصادق المصدوق بأنَّ هؤلاء الخارجين على الأمراء والولاة لا يكاد يخلو منهم زمان إلى أن يخرج الدجَّال في عراضهم، فيكون منهم في كلِّ زمان جيلٌ أو طائفة إلى آخر الزمان، كلَّما خرجت منهم طائفة قُطعت، سواء تغلَّبت أو انهزمت، وسواء قُطعت من قبل أهل الحقِّ أو من قبل أئمَّة الجور والبغي.
فأخبر الصادق المصدوق أنَّ معاركهم خاسرة فقال: ((كلَّما خرج قرن قطع)). والقرن هو الجيل والطبقة من الناس. فالخارج على السلطان مآله إلى الخسران، ولا بدَّ. فإنَّه إمَّا أن يقطع قبل الظفر، وإمَّا أن يَغلب فلا يلبث أن يخرج عليه من يقطعه. وهذا هو الذي وقع في تاريخ هذه الأمَّة، ومن طالع تواريخ الدول والملوك والأمراء من هذه الأمَّة رأى من ذلك عجائب وأوابد. فهذا يدلُّك على أنَّه لا يجتنى من قتال الأمراء إلاَّ الشرّ، وأنَّ الخروج عليهم طريقٌ مقطوع بنصِّ الحديث، وليس بعد الحقِّ إلاَّ الضلال. ولكن قلَّ من يعتبر، ولهذا قال الحسن البصري: "إنَّ هذه الفتنة إذا أقبلت عرفها كلُّ عالم، وإذا أدبرت عرفها كلُّ جاهل".
لقد قدّم هؤلاء للعالم صورةً قاتمة عن الإسلام وأهله، فهم ـ والله ـ لا للإسلام نصَروا ولا للكفر كسَروا.
اللهم إنا نسألك في الحال والمآل صلاحاً وتقوىً وهدىً ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفةَ عينٍ أو أقَلَّ من ذلك بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...الخ
الخطبة الثانية:
الحمد الله الواحدِ القهّار، وعد المتّقين جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار، وأوعد الزائغين عن شريعته عذابَ السعير وبئس القرار، وشكرًا لك اللهمَّ أن خيّبتَ آمال من أرادوا سوءًا بأهل هذه الديار، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له شهادةً نرجو بها حطّ الخطايا والأوزار، وأشهد أن نبيّنا محمدًا عبد الله ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه المخصوصين بالتوقير والإكبار، ومن تبعهم بإحسان ما تعاقبَ غروبٌ وإسفار.
أما بعد: أيها المسلمون،يقول تبارك وتعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93]. وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا أي: يتعمد قتله من غير مسوّغ شرعي، إنما قتله لحاجه في نفسه، كان قتله له هدفا سواء طعنه أو دهسه، سواء رماه أو فجّره، المهمّ أنه صار سببا في إنهاء حياته، فما هو ـ يا ترى ـ جزاؤه؟! ما هي عقوبته؟! قال تعالى: فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا، جهنم فقط؟ لا، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا.
فقتل المسلم من غير مسوغ شرعي ذنب عظيم وجرم كبير، لا يحل ولا يجوز أبدا، يقول النبي: ((لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصان فإنه يرجم، ورجل خرج محاربا لله ورسوله فإنه يقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض، أو يقتل نفسا فيقتل بها)) رواه أبو داود وصححه الألباني.
أيها الإخوة المؤمنون، لقد توعّد الله عز وجل من قتل نفسا بغير حقّ بالعقاب العظيم في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة، وليس بعد الشرك ذنب أعظم من قتل النفس المعصومة، يقول تبارك وتعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء: 29، 30]. قال الطبري: "يعني بقوله جل ثناؤه: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ولا يقتل بعضكم بعضا وأنتم أهل ملة واحدة ودعوة واحدة ودين واحد".
وقال عز وجل: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة: 32].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي قال: ((أكبر الكبائر الإشراك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وقول الزور)) رواه البخاري، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: ((لن يزال المؤمن في فسحة من دنيه ما لم يصب دما حراما)) قال الألباني حسن لغيره.
وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي قال: ((يخرج عنق من النار يتكلم يقول: وكِّلت اليوم بثلاثة: بكل جبار عنيد، ومن جعل مع الله إلها آخر، ومن قتل نفسا بغير حق، فينطوي عليهم فيقذفهم في حمراء جهنم)) رواه أحمد. ورواه البزار ولفظه: ((تخرج عَنَقٌ من النار تتكلم بلسان طَلْق ذَلْق، لها عينان تبصر بهما، ولها لسان تتكلم به، فتقول: إني أمرت بمن جعل مع الله إلها آخر، وبكل جبار عنيد، وبمن قتل نفسا بغير نفس، فتنطلق بهم قبل سائر الناس بخمسمائة عام)) وفي إسناديهما عطية العوفي. ورواه الطبراني بإسنادين رواة أحدهما رواة الصحيح، وقد روي عن أبي سعيد من قوله موقوفا عليه.
أيها الإخوة المؤمنون، إن قتل الأنفس البريئة وسفك الدماء المعصومة عند الله عز وجل لأمر عظيم، ففي الحديث عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق)) رواه الترمذي وصححه الألباني، وقال في أكبر اجتماع للناس في عصره في يوم عرفة في حجة الوداع العظيمة: ((ألا إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟)) قالوا: نعم، قال: ((اللهم اشهد ـ ثلاثا ـ، ويلكم انظروا، لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)) رواه البخاري ومسلم ، وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن رسول الله قال: ((لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار)) رواه الترمذي (1398)، وعن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يقتل المؤمن متعمداً أو الرجل يموت كافراً)) رواه أبو داود وصححه الألباني.
ألا وصلوا وسلموا على الهادي البشير ...الخ
المرفقات
خطبة في شأن اختطاف القنصل السعودي.doc
خطبة في شأن اختطاف القنصل السعودي.doc
المشاهدات 6524 | التعليقات 4
ابو عمر الطائفي;10767 wrote:
بارك الله في الشيخ ونفع به
وفق الشيخ في جمع النصوص الشرعية وأقول العلماء والسرد التاريخي لهذه الفرقة وكفى وشفى فجزاه الله خيرا، غير أني أحسب أن هذا الحديث يناسب الفرق والحركات والمناهج التي يجهل الناس حالها أو يستحسنون أفكارها كالرافضة واللبرالية وغيرها....
فالحديث عنها في مجتمع يرفض أفكارها ويقف في وجهها أشبه بمراجعه لمعلومات الحضور دون أن يضيف الخطيب لهم شيئا جديدا.
وفق الشيخ في جمع النصوص الشرعية وأقول العلماء والسرد التاريخي لهذه الفرقة وكفى وشفى فجزاه الله خيرا، غير أني أحسب أن هذا الحديث يناسب الفرق والحركات والمناهج التي يجهل الناس حالها أو يستحسنون أفكارها كالرافضة واللبرالية وغيرها....
فالحديث عنها في مجتمع يرفض أفكارها ويقف في وجهها أشبه بمراجعه لمعلومات الحضور دون أن يضيف الخطيب لهم شيئا جديدا.
ولذلك مع حسنها إلا أن هناك الكثير مما يمكن الاستغناء عنه وتكون بذلك خطبة مختصرة بخلاف وضعها الحالي فهي طويلة جدًا
شكر الله لك يا شيخ إبراهيم الهلالي
الشيخ إبراهيم الهلالي قاضي منطقة القحمة جنوب المملكة وخطيب جامع الفاروق في منطقة البرك نفع الله به وبارك في جهوده
السلام عليكم
اشكر فضيلة الشيخ الهلالي على هذه الخطبة المميزة التي رأيتها الأنسب في كشف منهج الخوارج قديما وحديثا وقد تميزت عن غيرها بوفرة الأدلة من الكتاب والسنة ووضع النقط على الحروف والوضوح في الطرح والناس تحتاج الى تذكير من وقت إلى وقت
والأنسب في نظري للخطيب أن يعطي كل موضع حقه على حدى دون تداخل فتضعف مقاصد الخطبة وياليت الشيخ الهلالي اختصر الخطبة فذلك أنفع وأقرب للسنة وفقنا الله وأيّاه وأياكم
اشكر فضيلة الشيخ الهلالي على هذه الخطبة المميزة التي رأيتها الأنسب في كشف منهج الخوارج قديما وحديثا وقد تميزت عن غيرها بوفرة الأدلة من الكتاب والسنة ووضع النقط على الحروف والوضوح في الطرح والناس تحتاج الى تذكير من وقت إلى وقت
والأنسب في نظري للخطيب أن يعطي كل موضع حقه على حدى دون تداخل فتضعف مقاصد الخطبة وياليت الشيخ الهلالي اختصر الخطبة فذلك أنفع وأقرب للسنة وفقنا الله وأيّاه وأياكم
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
مريزيق بن فليح السواط
بارك الله في الشيخ ونفع به
وفق الشيخ في جمع النصوص الشرعية وأقول العلماء والسرد التاريخي لهذه الفرقة وكفى وشفى فجزاه الله خيرا، غير أني أحسب أن هذا الحديث يناسب الفرق والحركات والمناهج التي يجهل الناس حالها أو يستحسنون أفكارها كالرافضة واللبرالية وغيرها....
فالحديث عنها في مجتمع يرفض أفكارها ويقف في وجهها أشبه بمراجعه لمعلومات الحضور دون أن يضيف الخطيب لهم شيئا جديدا.
تعديل التعليق