خطبة : ( وطنية أم جاهلية ؟! )
عبدالله البصري
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُسلِمُونَ . وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذكُرُوا نِعمَةَ اللهِ عَلَيكُم إِذْ كُنتُم أَعدَاءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوَانًا وَكُنتُم عَلَى شَفَا حُفرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِنهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُم آيَاتِهِ لَعَلَّكُم تَهتَدُونَ "
عِبَادَ اللهِ ، أُمَّةُ الإِسلامِ أُمَّةٌ عَظِيمَةٌ ، أَخرَجَهَا اللهُ لِتَكُونَ مِنَ الأُمَمِ في مَوضِعِ القِيَادَةِ ، وَأَرَادَ لها مِن دُونِ النَّاسِ الرِّيَادَةَ ، وَمِن ثَمَّ فَقَد جَعَلَ ـ سُبحَانَهُ ـ لِجَمَاعتِهَا وَاجتِمَاعِهَا رَكَائِزَ تَقُومُ عَلَيهَا حَيَاتُهَا ، وَثَوَابِتَ يَستَقِيمُ بها أَمرُهَا ، وَمَنهَجًا تَستَطِيعُ بِهِ أَن تَضطَلِعَ بِالأَمَانَةِ الَّتي حُمِّلَت ، فَإِنْ هِيَ أَقَامَت تِلكَ الرَّكَائِزَ وَحَفِظَت ثَوَابِتَهَا وَاجتَمَعَت عَلَى مَنهَجٍ صَحِيحٍ ، فَهِيَ أَهلٌ لِمَا أُمِرَت بِهِ مِن دَعوَةٍ إِلى الخَيرِ وَإِخرَاجٍ لِلنَّاسِ مِن ظُلُمَاتِ المُنكَرِ إِلى نُورِ المَعرُوفِ ، وَإِنْ هِيَ رَضِيَت بِهَدمِ رَكَائِزِهَا أَو تَخَلَّت عَن ثَوَابِتِهَا ، أَو أَضَاعَت مَنهَجَهَا ، أَو جَعَلَت أَمرَهَا شِيَعًا وَتَفَرَّقَت ، أَو نَادَت بِغَيرِ مَا يُرِيدُهُ اللهُ مِنهَا وَرَسُولُهُ ، فَلا وَاللهِ لا مَكَانَ لها في قِيَادَةٍ وَلا هِي أَهلٌ لِلرِّيَادَةِ ، وَلا وَاللهِ تَزدَادُ إِلاَّ ضَعفًا وَوَهنًا ، وَحِينَئِذٍ فَلَن تَرَاهَا أُمَمُ الأَرضِ إِلاَّ مَجمُوعَةً مِنَ الأَعرَابِ عَلَى المَاءِ يَتَشَاحُّونَ ، وَمِن أَجلِ البَهَائِمِ يَتَقَاتَلُونَ ، وَعَلَى أَتفَهِ الأَسبَابِ تَقُومُ بَينَهُمُ الحُرُوبُ الطَّوِيلَةُ ثُمَّ لا تَقعُدُ .
أَلا وَإِنَّ أَعظَمَ مَا تَجتَمِعُ عَلَيهِ أُمَّةُ الإِسلامِ مِمَّا أَوصَاهُمُ اللهُ بِهِ وَرَبَّاهُم عَلَيهِ رَسُولُهُ ، قَاعِدَتَانِ مُتَلازِمَتَانِ وَأَمرَانِ لا يَفتَرِقَانِ ، أَلا وَهُمَا الإِيمَانُ بِاللهِ وَالأُخُوَّةُ في الإِسلامِ ، الإِيمَانُ بِاللهِ وَتَقوَاهُ وَمُرَاقَبَتُهُ ، إِيمَانًا وَتَقوَى وَمُرَاقَبَةً تَملأُ كُلَّ لَحَظَاتِ عُمُرِ المُسلِمِ وَلا تُفَارِقُهُ في أَيِّ عَصرٍ أَو مِصرٍ أَو مَرحَلَةٍ ، وَتَستَمِرُّ مَعَهُ حَتَّى لا يَمُوتَ إِلاَّ مُسلِمًا ، فَلا تَغيِيرَ وَلا تَبدِيلَ وَلا تَميِيعَ ، وَلا تَهَاوُنَ وَلا تَسَاهُلَ ولا تَرَاجُعَ ، بَل هُوَ إِسلامٌ وَاستِسلامٌ ، وَطَاعَةٌ للهِ وَاتِّبَاعٌ لِمَا أَرَادَهُ ، واحتِكَامٌ إِلى مَا جَاءَ في كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ .
وَأَمَّا الرَّكِيزَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ الأُخُوَّةُ في اللهِ ، فَهِيَ رَابِطَةٌ عَظِيمَةٌ كَرِيمَةٌ ، تَنبَثِقُ مِن الإِسلامِ وَالتَّقوَى ، وَمِن أَجلِهِمَا تَقوَى وَتَبقَى ، وَلِتَقوِيَتِهِمَا تَعمَلُ وَتَجتَهِدُ .
إِنَّهَا أُخُوَّةٌ في اللهِ خَالِصَةٌ ، تَمِيعُ عِندَهَا كُلُّ رَابِطَةٍ ، وَتَنقَطِعُ بَعدَهَا كُلُّ آصِرَةٍ ، وَيَكُونُ بها الاجتِمَاعُ للهِ وَفي ذَاتِ اللهِ ، وَمِنهَا تَنشَأُ أُمَّةٌ مُسلِمَةٌ صَامِدَةٌ ، ذَاتُ قُوَّةٍ ثَابِتَةٍ وَعَزِيمَةٍ مَاضِيَةٍ ، قَادِرَةٌ عَلَى إِقَامَةِ الحَيَاةِ عَلَى أَسَاسِ مَلئِهَا بِالمَعرُوفِ وَتَطهِيرِهَا مِن لَوثَاتِ المُنكَرِ ، وَلَيسَ لَهَا أَيُّ هَدَفٍ آخَرَ ، وَلا تَنظُرُ إِلى أَيِّ تَجَمُّعٍ مُغَايِرٍ ، وَمَهمَا دُعِيَ إِلى أَيِّ مَنهَجٍ مُنحَرِفٍ أَو لُمِّعَ أَو أُظهِرَ عَلَى أَنَّهُ الجَامِعُ المُخَلِّصُ ، فَإِنَّهَا لا تَلتَفِتُ إِلَيهِ وَلا تَأخُذُ بِهِ ، إِذْ مَا هُوَ في نَظَرِهَا الصَّحَيحِ إِلاَّ نَوعٌ مِنَ الجَاهِلِيَّاتِ الكَثِيرَةِ ، وَالَّتي لم تُغنِ يَومًا عَمَّن تَمَسَّكَ بها ، وَلَن تَنفَعَ مَن سَيَأخُذُ بها ، لأَنَّهَا مَصَالِحُ شَخصِيَّةٌ فَردِيَّةٌ لا تَفتَأُ أَن تَنقَطِعَ حِبَالُهَا لأَيِّ سَبَبٍ دُنيَوِيٍّ !
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّهُ لَمَّا أَمَرَ اللهُ المُؤمِنِينَ بِتَقوَاهُ وَالاعتِصَامِ بِحَبلِهِ وَنَهَاهُم عَنِ التَّفَرُّقِ ، فَقَد ذَكَّرَهُم بِنِعمَةِ الأُخُوَّةِ فِيهِ ، حَيثُ كَانُوا قَبلَهَا أَعدَاءً مُتَنَافِرِينَ ، فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِهِم فَأَصبَحُوا مُجتَمِعِينَ ُمَتَحَابِّينَ ، وَكَانُوا إِلى النَّارِ يَسِيرُونَ فَأَنقَذَهُم مِنهَا ، ثُمَّ حَذَّرَهُم ـ تَعَالى ـ مِنَ التَّشَبُّهِ بِأَهلِ التَّفَرُّقِ وَالاختِلافِ ، مِمَّن لا يُقِيمُونَ وَزنًا لِمَا جَاءَهُم مِنَ البَيِّنَاتِ ، وَإِنَّمَا هَمُّهُم النَّفخُ في القَبَلِيَّاتِ وَالعَصَبِيَّاتِ وَالقَومِيَّاتِ .
أَلا فَمَا بَالُ فِئَاتٍ مِنَ المُجتَمَعِ قَد كَثُرَ نَفخُهُم في مُتَأَخِّرِ السَّنَوَاتِ في عِلاقَاتٍ جَاهِلِيَّةٍ مُنتِنَةٍ حَذَّرَ الإِسلامُ مِنهَا ؟ وَأَرَادُوا إِعَادَةَ جَمعِ النَّاسِ تَحتَ رَايَاتٍ عُمِّيَّةٍ قَد أَنقَذَهُمُ اللهُ مِنهَا ؟
مَا كُلُّ هَذَا التَّلمِيعِ لِمَا يُسَمَّى بِالوَطَنِيَّةِ ، تِلكَ الفِتنَةُ العَميَاءُ الَّتي شَغَلُوا بها المُسلِمِينَ ، وَدَعَوهُم إِلى تَمجِيدِهَا وَرَفعِ شَأنِهَا ، بَل وَقَصَدُوا إِلى جَعلِهَا مَعقِدًا لِلوَلاءِ وَالبَرَاءِ ، مُتَغَافِلِينَ عَن أَنَّ مِن أَكبَرِ دَعَاوَى الجَاهِلِيَّةِ الَّتي حَارَبَهَا الإِسلامُ وَوَاجَهَهَا بِقُوَّةٍ وَذَمَّهَا بِشِدَّةٍ وَنَفَّرَ مِنهَا ، مَا يَدعُونَ إِلَيهِ وَيَنشُرُونَهُ وَيَحتَفِلُونَ بِهِ كُلَّ عَامٍ ، وَيُرِيدُونَ تَأصِيلَهُ في قُلُوبِ النَّاشِئَةِ ، مِن جَعلِ التَّميِيزِ وَالتَّفرِقَةِ بَينَ المُسلِمِينَ عَلَى أَسَاسِ الوَطَنِ وَالانتِمَاءِ إِلَيهِ ، نَاسِينَ أَو مُتَنَاسِينَ أَنَّ العِبرَةَ في شَرعِ اللهِ لَيسَت بِجِنسِيِّةٍ وَلا وَطَنٍ وَلا أَيِّ انتِمَاءٍ قَبَلِيٍّ أَو عُنصُرِيٍّ أَو مَذهَبيٍّ ، وَأَنَّ التَّميِيزَ بَينَ النَّاسِ وَالتَّفَاضُلَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالإِيمَانِ وَالتَّقوَى ، وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ لم يَكُنْ يَسمَحُ لأَيِّ رَابِطَةٍ غَيرِ رَابِطَةِ الإِسلامِ أَن تَطفُوَ عَلَى السَّطحِ أَو يَكُونَ لها وُجُودٌ أَو ظُهُورٌ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " إِنَّمَا المُؤمِنُونَ إِخوَةٌ "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللهِ أَتقَاكُم "
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " لا فَضلَ لِعَرَبيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ ، وَلا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبيٍّ ، وَلا لأَحمَرَ عَلَى أَسوَدَ ، وَلا لأَسوَدَ عَلَى أَحمَرَ إِلاَّ بِالتَّقوَى " رَوَاهُ البَيهَقِيُّ في شُعَبِ الإِيمَانِ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَعَن جَابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا ـ قَالَ : كُنَّا في غَزَاةٍ ، فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنصَارِ . فَقَالَ المُهَاجِرِيُّ : يَا لَلمُهَاجِرِينَ . وَقَالَ الأَنصَارِيُّ : يَا لَلأَنصَارِ . فَسَمِعَ ذَلِكَ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ : " مَا بَالُ دَعوَى الجَاهِلِيَّةِ ؟ " قَالُوا : رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ كَسَعَ رَجُلاً مِنَ الأَنصَارِ . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنتِنَةٌ " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
هَكَذَا يُقَرِّرُ الحَبِيبُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ أَنَّ أَيَّ دَعوَى إِلى رَابِطَةٍ غَيرِ رَابِطَةِ الإِسلامِ ، فَإِنَّمَا هِيَ دَعوَى مُنتِنَةٌ ، لا خَيرَ فِيهَا وَإِنْ كَانَت مِن أَفضَلِ الرَّوَابِطِ وَأَهلُهَا مِن خَيرِ أَهلِ الأَرضِ ، نَعَم ـ إِخوَةَ الإِسلامِ ـ لا يَجُوزُ أَن تَكُونَ أَيُّ رَابِطَةٍ دُونَ الإِسلامِ مَجَالاً لِتَجَمُّعِ فِئَةٍ دُونَ أُخرَى ، حَتَّى وَلَو كَانَ الارتِبَاطُ عَلَى رَابِطَةٍ شَرِيفَةٍ كَالهِجرَةِ أَو نَصرِ النَّبيِّ ، فَكَيفَ بِوَطَنِيَّةٍ أَو عَصَبِيَّةٍ أَو قَومِيَّةٍ ؟!
فَلا يُؤَلِّفُ بَينَ النَّاسِ مَهمَا تَحَضَّرُوا وَتَمَدَّنُوا إِلاَّ الإِسلامُ وَحدَهُ ، وَلا يَجمَعُ شَتَاتَ قُلُوبِهِم وَيُذهِبُ تَنَافُرَهَا إِلاَّ الاعتِصَامُ بِحَبلِ اللهِ ، الَّذِي مَتى اعتَصَمُوا بِهِ أَصبَحُوا بِنِعمَةِ اللهِ إِخوَانًا ، وَمَتى أَفلَتُوهُ وَخَلَت مِنهُ أَيدِيهِم وَنُزِعَ مِن قُلُوبِهِم ، رَجَعُوا إِلى نَبشِ أَحقَادِهِمُ التَأرِيخِيَّةِ المَورُوثَةِ ، وَأَظهَرُوا ثَارَاتِهِمُ القَبَلِيَّةَ المَدفُونَةَ ، وتَوَلَّتهُمُ الأَطمَاعُ الشَّخصِيَّةُ والمَصَالِحُ الفَردِيَّةُ ، وَعَبَثَت بِهِمُ الرَّايَاتُ العُنصُرِيَّةُ الجَاهِلِيَّةِ .
هَكَذَا جَاءَ الإِسلامُ وَهَكَذَا يُرِيدُ اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَلَكِنَّ الكَفَرَةَ وَالمُنَافِقِينَ وَأَعدَاءَ الدِّينِ لا يَرضَونَ بِذَلِكَ وَلا يُرِيدُونَهُ ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ جَمعَ النَّاسِ مُسلِمِهِم وَكَافِرِهِم وَبَرِّهِم وَفَاجِرِهِم تَحتَ أُخُوَّةِ الوَطَنِ وَالانتِمَاءِ لِلبَلَدِ ، وَمَا هَذَا في حَقِيقَتِهِ إِلاَّ تَميِيعٌ لِمَبدَأٍ عَظِيمٍ مِن مَبَادِئِ الإِسلامِ ، أَلا وَهُوَ الوَلاءُ وَالبَرَاءُ ، وَالَّذِي هُوَ مِن أَوثَقِ عُرَى الإِيمَانِ ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " أَوثَقُ عُرَى الإِيمَانِ المُوَالاةُ في اللهِ وَالمُعَادَاةُ في اللهِ ، والحُبُّ في اللهِ وَالبُغضُ في اللهِ " أَخرَجَهُ الطَّبرَانيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
لَقَد هَاجَرَ المُسلِمُونَ إِلى الحَبَشَةِ ثُمَّ إِلى المَدِينَةِ مَعَ حُبِّهِم لِوَطَنِهِمُ الأَصلِيِّ وَهُوَ مَكَّةُ المُكَرَّمَةُ ، فَعَلُوا ذَلِكَ لِيُقِيمُوا دِينَهُم ، بَل خَرَجَ مِنهَا الحَبِيبُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ وَهُوَ يَعلَمُ أَنَّهَا خَيرُ أَرضِ اللهِ وَأَحَبُّ أَرضِ اللهِ إِليه ، وَتَرَكَهَا وَأَمَرَ أَصحَابَهُ بِتَركِهَا وَالخُرُوجِ مِنهَا ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيهَا بَعدَ سَنَوَاتٍ لِيَفتَحَهَا بِجَيشٍ جُلُّ أَفرَادِهِ لَيسُوا مِن أَبنَائِهَا ، وَانتَصَرَ بِهِم عَلَى أَهلِ وَطَنِهِ وَأَبنَاءِ عُمُومَتِهِ .
وَفي المُقَابِلِ وَجَدنَا الأَنصَارَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُم ـ قَد أَحَبُّوا المُهَاجِرِينَ وَفَضَّلُوهُم حَتَّى عَلَى أَنفُسِهِم وَأَهلِيهِم ، وَهُمُ الَّذِينَ مِن أَجلِ الدِّينِ أَبغَضُوا مَن كَانَ مَعَهُم في المَدِينَةِ مِنَ اليَهُودِ وَكَرِهُوهُم وَعَادَوهُم ، وَأَخرَجُوهُم مِنهَا وَأَجلَوهُم ، إِنَّ كُلَّ هَذَا لَيَغرِسُ في قُلُوبِ الأُمَّةِ وَيُحيِي في نُفُوسِهَا أَنَّهُ لا وَلاءَ وَلا انتِمَاءَ لِوَطَنٍ لا يُقِيمُ لِلدِّيِنِ وَزنًا ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ المَرءُ في وَطَنٍ يُقِيمُ الدِّينَ وَيَحكُمُ بِالشَّرِيعَةِ ، فَمَرحَبًا بِالدِّينِ وَأُخُوَّةٍ عَلَى الدِّينِ ، فَعِبَادَةُ اللهِ ـ جَلَّ وَعَلا ـ هِيَ الغَايَةُ ، وَمَنهَجُ خَيرِ خَلقِ اللهِ هُوَ تَحقِيقُ العُبُودِيَّةِ للهِ في أَيِّ مَكَانٍ وَوَطَنٍ ، وَهُوَ الَّذِي لَمَّا كَانَ البَقَاءُ في مَكَّةَ يُحَقِّقُ العُبُودِيَّةِ للهِ ـ سُبحَانَهُ ـ بَقِيَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ فِيهَا ، وَلَمَّا تَعَذَّرَ ذَلِكَ وَصَارَت عُبُودِيَّتُهُ لِرَبِّهِ تَتَحَقَّقُ بِالهِجرَةِ مِنهَا هَاجَرَ وَتَرَكَهَا ، وَلَمَّا صَارَت هَذِهِ العُبُودِيَّةُ تَتَحَقَّقُ بِمُقَاتَلَةِ أَهلِهَا ثُمَّ بِفَتحِهَا قَاتَلَهُمُ ثُمَّ فَتَحَهَا ، فَتَحقِيقُ العُبُودِيَّةِ للهِ ـ جَلَّ وَعَلا ـ هُوَ الأَصلُ ، وَلِهَذَا فَقَد بَيَّنَ اللهُ ـ سُبحَانَهُ ـ عَاقِبَةَ مَن تَمَسَّكُوا بِالأَرضِ وَالوَطَنِ وَلم يُهَاجِرُوا لِيَتَمَكَّنُوا مِن إِقَامَةِ دِينِهِم ، فَقَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : " إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِم قَالُوا فِيمَ كُنتُم قَالُوا كُنَّا مُستَضعَفِينَ في الأَرضِ قَالُوا أَلَم تَكُنْ أَرضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأوَاهُم جَهَنَّمُ وَسَاءَت مَصِيرًا "
فَهَل عَلِمَ دُعَاةُ الوَطَنِيَّةِ ومُشغِلُو النَّاسِ بهَا أَيَّ جُرمٍ يَجنُونَهُ عَلَى أَنفُسِهِم وَعَلَى مُجتَمَعِهِم إِذْ يُرِيدُونَ العَودَةَ بِهِ إِلى الجَاهِلِيَّةِ العَميَاءِ .
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ جَمِيعًا ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَلْنَعلَمْ أَنَّ الوَلاءَ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكُلِّ مُسلِمٍ بَرٍّ تَقِيٍّ أَيًّا كَانَ وَطَنُهُ ، وَالبَرَاءَ مِن كُلِّ فَاجِرٍ شَقِيٍّ وَلَو كَانَ أَقرَبَ قَرِيبٍ .
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنفُسِهِم حَرَجًا مِمَّا قَضَيتَ وَيُسَلِّمُوا تَسلِيمًا . وَلَو أَنَّا كَتَبنَا عَلَيهِم أَنِ اقتُلُوا أَنفُسَكُم أَوِ اخرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنهُم وَلَو أَنَّهُم فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيرًا لَهُم وَأَشَدَّ تَثبِيتًا . وَإِذًا لآتَينَاهُم مِن لَدُنَّا أَجرًا عَظِيمًا . وَلَهَدَينَاهُم صِرَاطًا مُستَقِيمًا . وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنعَمَ اللهُ عَلَيهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِيَنَّ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا . ذَلِكَ الفَضلُ مِنَ اللهِ وَكَفَى بِاللهِ عَلِيِّما "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاعلَمُوا أَنَّ الوَطَنِيَّةَ وَالعِلمَانِيَّةَ وَالقَومِيَّةَ وَالاشتِرَاكِيَّةَ وَنَحوَهَا ، إِنَّمَا هِيَ وُجُوهٌ مُتَعَدِّدَةٌ لِكَائِنٍ خَبِيثٍ وَاحِدٍ ، وَمَجمُوعَةُ أَسمَاءٍ مُخَادِعَةٍ لِمُسَمًّى قَبِيحٍ فَاسِدٍ ، وَالمُرَادُ إِبعَادُ الدِّينِ عَن دُنيَا النَّاسِ ، وَجَعلُهُم يَجتَمِعُونَ عَلَى غَيرِ دِيَنٍ وَلا عَقِيدَةٍ ، وَإِذَا كَانَ حُبُّ الوَطَنِ الَّذِي هُوَ مِنَ الفِطرَةِ يَعني حُبَّ الوَطَنِ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ الإِنسَانُ وَعَلَى أَرضِهِ مَشَى وَمِن خَيرَاتِهِ اغتَذَى وَبِمَائِهِ ارتَوَى ، فَإِنَّ هَؤُلاءِ المُنحَرِفِينَ قَدِ انحَرَفُوا بِهِ لِيَجعَلُوهُ انتِمَاءً لِلوَطَنِ بِمَعنَاهُ السِّيَاسِيِّ أَوِ القَومِيِّ ، بَل جَعَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَالقَادَةِ مَلجَأً لَهُم حِينَ يُحِسُّونَ بِالخَطَرِ عَلَى أَنفُسِهِم ، لَكِنَّهُم حِينَ تَقتَحِمُ الشُّعُوبُ هَيبَتَهُمُ الشَّخصِيَّةَ وَتَنَالُ مِن مَصَالِحِهِمُ الفَردِيَّةِ ، أَو تَرفَعُ أَصوَاتَهَا مُطَالِبَةً إِيَّاهُم بِحُقُوقِهَا المَشرُوعَةِ ، يَنسَونَ هَذِهِ الوَطَنِيَّةَ أَو يَتَنَاسُونَهَا ، بَل يَطَؤُونَهَا بِأَقدَامِهِم وَيَدفِنُونَهَا ، وَيَسحَقُونَ شُعُوبَهُم بِكُلِّ مَا يَستَطِيعُونَ ، نَاسِينَ أَنَّ تِلكَ الشُّعُوبَ المَغلُوبَةَ عَلَى أَمرِهَا ، قَد تَغَنَّت بِهَذِهِ الوَطَنِيَّةِ المَزعُومَةِ وَرَاءَهُم يَومًا مَا ، وَبَالَغَت في مَدحِهِم وَمَجَدَّتهُم ، وَرَفَعَت صُوَرَهَم وَأَطَاعَتهُم مِن دَونِ اللهُ ، فَمَا نَفَعَهَا ذَلِكَ وَلا أَغنى عَنهَا شَيئًا ، وَقَد رَأَينَا مَا حَصَلَ في عَدَدٍ مِنَ الدُّوَلِ الَّتي ثَارَت شُعُوبُهَا عَلَى حُكَّامِهَا ، أَو تِلكَ الَّتي قَامَت فِيهَا بَعضُ الطَّوَائِفِ المُنحَرِفَةِ بِإِثَارَةِ القَلاقِلِ وَالمُشكِلاتِ ، أَوِ الأُخرَى الَّتي قَامَت فِيهَا أَقَلِّيَّةٌ مُجرِمَةٌ مُمسِكَةٌ بِالزِّمَامِ ، فَقَتَلُوا أَهلَ وَطَنِهِم مِمَّن هُم عَلَى الحَقِّ وَالسُّنَّةِ وَسَحَقُوهُم ، وَهَدَمُوا مَسَاجِدَهُم وَاعتَدَوا عَلَى مُمتَلَكَاتِهِم وَنَهَبُوا أَموَالَهُم وَهَتَكُوا أَعرَاضَهُم ، فَأَينَ هِيَ الوَطَنِيَّةُ المَزعُومَةُ ؟!
وَلِمَاذَا لم تَجمَعِ النَّاسَ وَتُؤَلِّفْ بَينَهُم وَتَحمِيهِم ؟!
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّهُ لا يُنكَرُ مَا جُبِلَ عَلَيهِ الإِنسَانُ مِن حُبِّ وَطَنِهِ وَحِرصِهِ على الذَّودِ عَن حِيَاضِهِ وَدَفعِ كُلِّ مَا قَد يَمَسُّهُ مِن مَكرُوهٍ ، فَذَلِكَ نَوعٌ مِنَ الوَطَنِيَّةِ لا بَأسَ بِهِ مَتى كَانَ تَابِعًا لِمَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرضَاهُ ، وَلا يَتبُعُهُ تَعَدٍّ عَلَى حَدٍّ مِن حُدُودِ اللهِ أَو تَعطِيلٌ حُكمٍ مِن أَحكَامِ شَرعِهِ ، وَأَمَّا الوَطَنِيَّةُ بِمَفهُومِهَا الَّذِي يُرِيدُهُ كَثِيرٌ مِنَ المُنَادِينَ بها اليَومَ وَيُرَوِّجُونَ لَهَا ، لِيَكُونَ النَّصرَانيُّ وَاليَهُودِيُّ وَالرَّافِضِيُّ وَكُلُّ صَاحِبِ دَينٍ مُحَرَّفٍ أَو مَذهَبٍ ضَالٍّ مُسَاوِينَ لِلمُسلِمِينَ في كُلِّ شَيءٍ ، فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ وَمَرفُوضَةٌ وَلا خَيرَ فِيهَا كَائِنَةً مَا كَانَت .
وَأَمَّا اختِزَالُ الوَطَنِيَّةِ في يَومٍ يُجعَلُ إِجَازَةً ويُحتَفَلُ فِيهِ ، وَتُرفَعُ فِيهِ الأَعلامُ وَالشِّعَارَاتُ ، وَيُتَكَلُّفُ لَهُ في المَيَادِينِ العَامَّةِ بِالحَفَلاتِ ، وَتُحيَا لَهُ مَهرَجَانَاتٌ يختَلِطُ فِيهَا الرِّجَالُ بِالنِّسَاءِ ، وَتُرفَعُ فِيهَا أَصوَاتُ المَزَامِيرِ وَالغِناءِ ، وَيحصُلُ بَعدَهَا مَا يَحصُلُ مِن هَرجٍ وَمَرجٍ وَازدِحَامٍ وَإِيذَاءٍ لِلآخَرِينَ ، وَفوضَى عَامَّةٍ وَجَهَالاتٍ عَارِمَةٍ وَتَكسِيرٍ وَتَصوِيرٍ ، فَمَا كُلُّ هَذَا إِلاَّ تَجَنٍّ عَلَى الوَطَنِ وَإِزرَاءٌ بِهِ ، وَشَغلٌ لِلأُمَّةِ وَالمُجتَمَعِ بِدَعَاوَى فَارِغَةٍ ، وَهَدرٌ لِلأَموَالِ العَامَّةِ وَعَبَثٌ بِالمُقَدَّرَاتِ ، لا يَرضَاهُ مُسلِمٌ تَقِيٌّ وَلا يَفعَلُهُ عَاقِلٌ نَقِيٌّ ، وَلا يُشَجِّعُهُ مَن يُرِيدُ لِمُجتَمَعِهِ الخَيرَ .
فاللَّهُمَّ اجعَلْنَا مِمَّن يَستَمسِكُونَ بما أُوحِيَ إِلَيهِم وَيَثبُتُونَ عَلَيهِ ، وَجَنِّبْنَا البِدَعَ وَالمُحدَثَاتِ وَالمُنكَرَاتِ ، وَأَلزِمْنَا سُنَّةَ نَبِيِّكَ وَهَديَهُ الكَرِيمَ ، وَاجمَعْ قُلُوبَنَا عَلَى الإِيمَانِ وَاجعَلْنَا بِهِ إِخوَةً مُتَحَابِّينَ .
المشاهدات 11629 | التعليقات 11
جزاكم الله خيراً ، ونفع بكم الإسلام والمسلمين..
شبيب القحطاني
عضو نشط
جزاكم الله خيرا ونفع بعلمكم
حبذا لو حليتم الخطبة بنقل عن علمائنا الأجلاء كابن باز وابن عثيمين في اليوم الوطني وأمثاله من البدع المحدثة
شيخنا عبد الله وردت في الخطبة (عُمِّيَّةٍ) فهل هذا هو تشكيلها الصحيح ؟
جزاكم الله خيراً ، ونفع بكم الإسلام والمسلمين..
عسى الله أن ينفع بكم أيها الأخ الكريم ، ويفتح علينا وعليكم بما فيه الخير لأمتنا ومجتمعنا .
حبذا لو حليتم الخطبة بنقل عن علمائنا الأجلاء كابن باز وابن عثيمين في اليوم الوطني وأمثاله من البدع المحدثة
@ خوف الإطالة .
@ أن كلام الشيخين وكلام اللجنة موجود ومنتشر في الكتب وفي الشبكة لمن أراده ، ولا يخفى على الإخوة جميعًا فيما أظن ، والحمد لله .
وأما كلمة ( عمية ) فدونك ـ أخي الكريم ـ كلام الإمام النووي في شرحه على مسلم حيث قال :
هِيَ بِضَمِّ العَين وَكَسرهَا لُغَتَانِ مَشهُورَتَانِ ، وَالمِيمُ مَكسُورَة مُشَدَّدَة ، وَاليَاء مُشَدَّدَة أَيضًا ، قَالُوا : هِيَ الأَمرُ الأَعمَى لا يَستَبِين وَجهُهُ ، كَذَا قَالَهُ أَحمَد بن حَنبَلٍ وَالجُمهُور ، قَالَ إِسحَاقُ بن رَاهوَيهِ : هَذَا كَتَقَاتُلِ القَومِ لِلعَصَبِيَّةِ .
وفقك الله ـ أخي الكريم ـ وسددك ونفع بك .
جزاك الله خيراً , وفي كلامك تذكير لي ولبقية الإخوة أن نبحث قبل أن نسأل
وَعَن جَابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا ـ قَالَ : كُنَّا في غَزَاةٍ ، فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنصَارِ . فَقَالَ المُهَاجِرِيُّ : يَا لَلمُهَاجِرِينَ . وَقَالَ الأَنصَارِيُّ : يَا لَلأَنصَارِ . فَسَمِعَ ذَلِكَ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ : " مَا بَالُ دَعوَى الجَاهِلِيَّةِ ؟ " قَالُوا : رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ كَسَعَ رَجُلاً مِنَ الأَنصَارِ . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنتِنَةٌ " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
شيخي الحديث عند البخاري ومسلم
بارك الله فيكم شيخنا ونفعنا بكم
وليسمح لي فضيلتكم بالمساهمة بهذه الخطبة التي ألقيتها العام الماضي وقد استفدت من خطبة للشيخ عبد الرحمن الحجي حفظه الله بتصرف وزيادة ارجو أن ينتفع بها أخواني:
أن الحمد لله...
عباد الله:
إن الله تعالى بمنه وكرمه أنعم علينا في هذه البلاد بهذه الجماعة وهذا الرخاء وبهذا التوحيد والدين الصافي والعقيدة الصحيحة نعما متتالية من عند الله أرزاق داره وأحوال قارة أذهب عنا عيبه الجاهلية وعصبيته القبلية والنزعة إلى العرق والجنسية، رزقنا الله التوحيد والسنة تدرس في مدارسنا ويأخذها صغارنا عن أكابرنا فلله الحمد والشكر أولا وأخرا وظاهرا وباطنا.
نحن في نعم عظيمه وكل يوم تشرق علينا شمسه ونحن متمسكون بديننا فهو عيد لنا كل يوم ينشق علينا فجره لا نعصي الله فيه فهو عيد لنا وبا الأيمان والطاعة تحفظ النعم وتزول النقم قال تعالى:{ الذين آمنوا ولم يلبسوا أيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون }وقال تعالى:{وأذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم أن عذابي لشديد}
ونحن في كل يوم لا نعصي الله فهو يوم عيد لنا ولا نحتاج يوما لنخصصه من أيام السنة لهذا العيد لأن رسولنا صلى الله عليه وسلم نهانا عن ذلك أشد النهي قدم المدينة فوجد للأنصار يومين يلعبون فيها ويحتفلون بهما - قد تكون ذكرى لأحداث وطنية أو قبلية أو تخليدا لشخصية من زعمائهم ورؤسائهم فقال عليه الصلاة والسلام :( إن الله قد أبدلكما بهذين العيدين خيرا منهما يوم الفطر ويوم الأضحى) فلا يحب الله إظهار شعائر العيد والفرح والسرور والتهاني والاحتفال إلا في هذين اليومين وما عداهما فآن إظهار شعائر العيد فيه مبغوضة عند الله فعيد الفطر يأتي بعد رمضان بصيامه وقيامه وتلاوة القرآن وذكر الله ودعائه وإخراج صدقة الفطر عند انتهائه فيأتي العيد بعد هذه العبادات العظيمة وكذلك عيد الأضحى يأتي بعد الوقوف بعرفة في ذلك الجمع العظيم وبعد أيام العشر المباركة وما فيها من أعمال صالحه هذان العيدان هما اللذان يحبهما الله ويحب منا أظهار السرور والفرح والاحتفال والدعاء والتهنئة فيهما وما عداهما فإن الله يبغض أي شيء يزاحمهما.
أيها المسلمون: هذا البلاد الطاهرة لا تحتاج أن تتشبه بالكفار في هذه الأعياد المحدثة التي يفعلونها وهي من شعائرهم وإن الكفار مهما فعلنا فلن يرضوا عنا حتى نتبع ملتهم لأنهم يحسدوننا على ديننا وعلى شريعتنا وعلى مانحن فيه من الخير العظيم والفضل العميم قال تعالى:{ ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق }وقال سبحانه:{ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم } فديننا دين كامل وشريعتنا شريعة تامة قال تعالى { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وآخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا} فهذا الدين كامل وقيامه إنما يكون بتطبيقه والعمل بة والدعوة إليه والاعتزاز بالأنتماء له والتناصح فيه يقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ( الدين النصيحة ) قلنا لمن يا رسول الله؟ قال:( لله ولرسوله ولكتابه وللائمة المسلمين وعامتهم)وإذا تناصح الناس مع بعضهم وناصحو من ولاه الله أمرهم خرج الدغل والغل والحقد من قلوبهم فطابت حياتهم واستقرت أحوالهم ونعموا بالأمن ورغد العيش في بلادهم يقول النبي صلى الله عليه وسلم :(ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم إخلاص العمل لله ومناصحة من ولاه الله أمركم ولزوم جماعة المسلمين فآن دعوتهم تحيط من ورائهم)
عباد الله: هذه فتاوى علمائكم منذ قيام هذه الدولة المباركة قبل ثلاث مائه سنه انه لا يشرع أي عيد أو احتفال إلا بالأعياد الشرعية ذكر المؤرخ الشهير خير الدين الزركلي في كتابه الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز انه في شهر شوال عام 1369 هـ كان بعض المسئولين قد اعدوا العدة لإقامة احتفال بمناسبة مرور خمسين عاما على دخول الملك عبد العزيز الرياض وقد وضعت الترتيبات والاستعدادات بحيث تعطل المدارس والدوائر الحكومية في الرابع من شهر شوال ويفتح أمراء المناطق أبوابهم لاستقبال المهنئين نيابة عن الملك وتوزع الأطعمة والأكسية على الفقراء والمحتاجين احتفالا بهذه المنآسبة لكن قبل أن يقع شيء من ذالك صدر بيان من وزارة الخارجية هذا نصه{ كانت الحكومة قد أقرت الاحتفال بالذكرى الذهبية لدخول جلالة الملك إلى الرياض
منذ خمسين سنه وقد استفتي علماء الدين في ذلك فأفتوا بأنه ليس من سنة المسلمين ولا يجوز إن يتخذ المسلمون عيدا إلا عيدي الفطر والأضحى ونزولا من جلالته على حكم الشريعة أمر بإلغاء المراسم والترتيبات }
هكذا انتهت القصة قبل أن تبدأ فبلد تعلن التزامها بحكم الشريعة ويفتي علمائها بحرمة بعض الممارسات
فيرجع الملك إلى قولهم فيكون هذا من مآثره رحمه الله ومن مآثر العلماء الذين بينوا ونصحوا
[font="] أيها المسلمون: في الاحتفال بهذه الأعياد الوطنية محرم شرعا ولا يجوز في ديننا لأن فيه مزاحمة للأعياد
[/font] الشرعية والواقع يفضح الصورة فكم سمعنا من أناس لا سيما الشباب يتبرمون في الاعياد الشرعية ويقولون لا نحس بطعم الفرح فيها فاذا جأت هذه الأعياد المحدثة رئينا الفرح بها والبشر في يومها وليلتها لما فيها من انفلات ولعب ولهو محرم واختاط مع النساء وتسكع في الاسواق والميادين وتبرج وسفور ولما في الاحتفال بهذه الأعياد من فتح باب الشر للاحتفال بميلاد الأنبياء و الأولياء والاحتفال بالغزوات والمعارك الخالدة في تاريخ الإسلام فيتسع الخرق على الراقع وتكثر الأحتفالات المحدثة ويقوم سوق البدعة محل السنة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
{ يأيها الذين امنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون }
الحمد الله رب العالمين ::
فاتقوا الله عباد الله حق تقاته بفعل ما أمركم به وترك ما نهاكم عنه ففي ذلك ملاك الأمر كله وفيه الخير في الدنيا والأخره
عباد الله: قد يقول قائل إن هذه الأعياد إنما أقرت حين خرج أناس خانوا أوطانهم إما أهل غلو عادوا على أوطانهم بالتخريب والتفجير والتكفير وإما أهل نفاق وعلمنه رجعوا إلى أوطانهم بعد أن انسلخوا من مبادئهم وقيمهم يعبثون بالدين ويخربون الأخلاق و الأعراض ويتشبهون بأسيادهم من اليهود والنصارى وهذه علة عليلة وتبرير سقيم واعتذار قبيح لا تنطلي على مسلم يؤمن بالله ويحتكم لشرعه ولا على مواطن صالح عاش في نعمة الإسلام في هذه البلاد وتفيأ ظلالها. فحب الوطن أمر جبلي مغروز في الفطرة فالوطن عديل الروح في كتاب الله وقد شبه الله إخراج العبد من وطنه بإخراج روحه من جسده { ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليلا منهم } فآتى الله بأصعب آمرين إخراج الروح من الجسد وإخراج الجسد من الوطن فهي فطرة غرسها الله في النفوس لا تحتاج الى يوم تحتفل به قال تعالى{ وآذ آخذنا ميثاقكم لا تسفكون دمائكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم }ولشدة مفارقة الديار على النفس رتب الله الأجر العظيم للمهاجر في سبيله والمفارق لوطنه استجابة لله ولرسوله وللسبب نفسه كانت عقوبة الزاني غير المحصن الجلد والتغريب عاما بابعاده عن وطنه فحب الوطن ليس بحاجة الا كل هذه الأمور والأفعال الحاصلة والعادات المحدثة وإنما يكون حب الوطن بالمحافظة عليه وبما قام عليه وهذه البلاد قامت على شرع الله والدعوة إلى دينه ونصرة قضايا المسلمين قامت على التوحيد والسنة تحقيقا وتعظيما وتعليما ونشرا قامت على إقامة الحدود وتطبيق الشرع قامت على العفة والطهر والحشمة والحياء قامت على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمن أحبها حافظ على هذه المكتسبات وسعى في بقائها وعمل على وئد كل دعوه تحاول المساس بهآ. اما حب الوطن في يوم واحد بالرقص واللعب وإيذاء الخلق وتبذير الأموال والاختلاط بين الرجال والنساء في الأسواق والميادين العامه والمجاهرة بالعصيان دون نكير ولا حسيب فهو مؤذن شر وبلاء يخشى على اهله بحلول العقاب والعذاب وسلب النعم وحلول النقم مما يحتم على أهل هذه البلاد أن ينئوا بأنفسهم عنه ويحذروا من فعله وينكروا على فاعله ويأخذوا بأيدي السفهاء قبل ان تخرق سفينة المجتمع فيحصل الندم ولات ساعة مندم
أن حب الوطن ليست دعوى يدعيها من يناقض ما قامت عليه البلاد منذ تأسيسها قبل 300 سنه بل يسعى إلى تغريبها والقضاء على معالم التدين فيها والكيد لمناهجها وأهل العلم والحسبة فيها والطعن في مسلماتها والدعوة إلى إخراج نسائها إلى التبرج والسفور والاختلاط فهذه ليست وطنيه وإنما ادعاء لها وتترس بها لضرب الوطن وزعزعه أمنه وتفريق مجتمعه وزرع الإحن والشقاق والخلاف بين أبنائه
فاتقوا الله عباد الله والتزموا بشرعة واحذروا سبل الظلال ودعاته وخذوا عن علمائكم فهم أحرص الناس على حفظ أمن البلد واستقراره ورخاؤ أهله وليكن فرحكم وسروركم وفق ما أراد الله لكم وما جاء عن نبيكم صلى الله عليه وسلم فبذلك يحفظ الوطن ويسود الأمن وتزداد النعم
و تذكروا أن لكم وطنا أخرجكم منه عدوكم إبليس بعد أن كاد لأبيكم ادم ووسوس له فأكل من الشجرة التي نهاه الله عنها فأخرج من الجنة وأهبط إلى هذه الدار التي انتم فيها غرباء بعداء فاعملوا بطاعة ربكم حتى ترجعوا إلى تلك الدار
فحيا على جنات عدن فأنها منازلنا الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم
عبدالله البصري
[align=justify]
وفي هذه المشاركة ملف الخطبة ( وورد ) لأنني نسيت رفعه في المشاركة الأولى ، وأزيدكم :
دروس في الوطنية للشيخ ناصر العمر :
http://almoslim.net/node/100213
[/align]
المرفقات
https://khutabaa.com/wp-content/uploads/attachment/5/0/وطنية%20أم%20جاهلية.doc
https://khutabaa.com/wp-content/uploads/attachment/5/0/وطنية%20أم%20جاهلية.doc
تعديل التعليق