تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء

[تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ]
8/3/1432

الْحَمْدُ لله المَلِكِ المُقَدِّرِ الْعَزِيْزِ المُدَبِّرِ [لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدَاً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيْكٌ فِيْ المُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ] {الْإِسْرَاءِ:111} نَحْمَدُهُ حَمْدَاً يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظِيْمِ سُلْطَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ [لَهُ مُلْكُ الْسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدَاً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيْكٌ فِيْ المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرَاً] {الْفُرْقَانَ:2} وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ؛ خَيَّرَهُ رَبُّهُ أَنْ يَكُوْنَ مَلِكَاً نَبِيَّاً، أَوْ عَبْدَاً نَبِيَّاً فَاخْتَارَ الْنُّبُوَّةَ مَعَ الْعُبُوْدِيَّةِ، وَخَيَّرَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ يُؤْتِيَهُ خَزَائِنَ الْأَرْضِ وَالْخُلْدَ فِيْهَا ثُمَّ الْجَنَّةَ وَبَيْنَ لِقَاءِ الله تَعَالَى فَاخْتَارَ لِقَاءَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا تَصِفُ اللَّحْظَةَ الْأَخِيرَةَ مِنْ حَيَاتِهِ عَلَيْهِ الْصَّلاةُ وَالْسَّلامُ:«فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى سَقْفِ الْبَيْتِ ثُمَّ قَالَ: الْلَّهُمَّ الْرَّفِيْقَ الْأَعْلَى فَقُلْتُ: إِذَنْ لَا يَخْتَارُنَا، قَالَتْ: فَكَانَتْ آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا: الْلَّهُمَّ الْرَّفِيْقَ الْأَعْلَى» صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الْدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيْعُوْهُ، وَاشْكُرُوْهُ إِذْ خَلَقَكُمْ وَأَعْطَاكُمْ وَهَدَاكُمْ [خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِيْ بُطُوْنِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقَاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِيْ ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّىُ تُصْرَفُوْنَ] {الْزُّمَرْ:6}.
أَيُّهَا الْنَّاسُ: مِنْ أَسْمَاءِ الله تَعَالَىْ المَلِكُ، وَلَهُ سُبْحَانَهُ المُلْكُ، وَمُلْكُهُ لَا يُحِيْطُ بِهِ مَخْلُوْقٌ، وَلَا يُحْصِيهِ بَشَرٌ «يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوْا فِيْ صَعِيْدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُوْنِيْ فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ».
وَمَنِ اسْتَعْرَضَ الْقُرْآنَ وَجَدَ الْإِفَادَةَ عَنْ سِعَةِ مُلْكِ الله تَعَالَى فِيْ كَثِيْرٍ مِنَ الْآيَاتِ، وَفِيْ أُمِّ الْكِتَابِ [الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِيْنَ] {الْفَاتِحَةِ:2} وَكَوْنُهُ سُبْحَانَهُ رَبَّاً لِلْعَالَمِيْنَ يَدُلُّ عَلَى اتِّسَاعِ مُلْكِهِ، وَفِيْهَا أَيْضَاً [مَالِكِ يَوْمِ الْدِّيْنِ] {الْفَاتِحَةِ:4} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:«لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ فِيْ ذَلِكَ الْيَوْمِ مَعَهُ حُكْمَاً كَمُلْكِهِمْ فِيْ الْدُّنْيَا» [يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ المُلْكُ الْيَوْمَ لله الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ] {غَافِرِ:16}.
فَيَسْقُطُ فِيْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلُّ مُلْكٍ إِلَّا مُلْكَهُ سُبْحَانَهُ، وَيُجَرَّدُ كُلُّ سُلْطَانٍ عَنْ سُلْطَانِهِ، وَيَكُوْنُ مُلُوْكُ الْدُّنْيَا وَجَبَابِرَتُهَا كَسَائِرِ الْنَّاسِ، فَلَا أَمْرَ لَهُمْ وَلَا نَهْيَ [إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُوْنَ] {مَرْيَمَ:40} [ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْدِّيْنِ * يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئَاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لله] {الانْفِطَارِ:18-19}. وَقَالَ الْنِّبِيُّ ^:«أَغْيَظُ رَجُلٍ عَلَى الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَخْبَثُهُ وَأَغْيَظُهُ عَلَيْهِ رَجُلٍ كَانَ يُسَمَّى مَلِكَ الْأَمْلَاكِ لَا مَالِكَ إِلَّا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ» رَوَاهُ الْشَّيْخَانِ وَالَلَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
وَفِي الْقُرْآنِ تَسْمِيَةُ الله تَعَالَى مَلِكَاً، وَبَيَانُ أَنَّ المُلْكَ لَهُ سُبْحَانَهُ وَبِيَدِهِ عَزَّ وَجَلَّ [فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الْحَقُّ] {الْمُؤْمِنُوْنَ:116} [هُوَ اللهُ الَّذِيْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ المَلِكُ] {الْحَشْرِ:23} [ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ] {فَاطِرِ:13} [تَبَارَكَ الَّذِيْ بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ] {الْمَلِكُ:1} وَمِنَ الْذِّكْرِ الْيَوْمِيِّ المُكَرَّرِ عَقِبَ الْصَّلَوَاتِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ.
وَمُلْكُهُ سُبْحَانَهُ يَشْمَلُ جَمِيْعَ الْوُجُودِ [لله مُلْكُ الْسَّمَاوَاتِ وَالْأَّرْضِ وَمَا فِيْهِنَّ] {الْمَائِدَةِ:120} [وَتَبَارَكَ الَّذِيْ لَهُ مُلْكُ الْسَّمَاوَاتِ وَالْأَّرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا] {الزُّخْرُفِ:85}.
وَإِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى هُوَ المَلِكَ، وَكَانَ المُلْكُ لَهُ سُبْحَانَهُ، وَكَانَ المُلْكُ بِيَدِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ فَهُوَ الَّذِيْ يَهَبُهُ مَنْ يَشَاءُ، وَيَمْنَعُهُ مَنْ يَشَاءُ، وَيَنْزِعُهُ مِمَّنْ يَشَاءُ.
وَحِكْمَتُهُ سُبْحَانَهُ الْقَاضِيَةُ بِأَنَّ الْدُّنْيَا لَا تُسَاوِي عِنْدَهُ شَيْئَاً، وَلَا تَزِنُ جَنَاحَ بَعُوْضَةٍ، وَهِيَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ جَدْيٍ مَيِّتٍ مُلْقَى في الْأَرْضِ لَا يَأْبَهُ الْنَّاسُ بِهِ.. فَإِنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ أَنْ يَمْنَحَ المُلْكَ أَبَرَّ الْنَّاسِ، وَلَا أَنْ يَمْنَعَهُ أَفْجَرَ الْنَّاسِ، فَمَلَّكَ سُبْحَانَهُ الْبَرَّ وَالْفَاجِرَ وَالمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ. بَلْ آتَى المُلْكَ مَنْ أَنْكَرَ رُبُوْبِيَّتَهُ [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِيْ حَاجَّ إِبْرَاهِيْمَ فِيْ رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللهُ المُلْكَ] {الْبَقَرَةِ:258} وَمَنَحَ فِرْعَوْنَ مُلْكَ مِصْرَ وَهُوَ الَّذِيْ ادَّعَى الْرُّبُوبِيَّةَ وَقَالَ [أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى] {الْنَّازِعَاتِ:24}.
وَفِي المُقَابِلِ آتَى سُبْحَانَهُ المُلْكَ أَنْبِيَاءَ وَصَالِحِينَ قَائِمِينَ لله تَعَالَىْ؛ فَمَلَّكَ ذُرِّيَّةَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الْسَّلَامُ [فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيْمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكَاً عَظِيْماً] {الْنِّسَاءِ:54} وَقَالَ مُوْسَى مُعَدِّدَاً نِعَمَ الله تَعَالَى عَلَى قَوْمِهِ [يَا قَوْمِ اذْكُرُوْا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيْكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوْكَاً] {الْمَائِدَةِ:20} وَكَانَ مِنْ أَشْهَرِ مُلُوْكِهِم دَاوُدَ [وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوْتَ وَآتَاهُ اللهُ المُلْكَ وَالْحِكْمَةَ] {الْبَقَرَةِ:251} ثُمَّ خَلَفَهُ عَلَى المُلْكِ ابْنُهُ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِمَا الْسَّلامُ [وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ] {الْنَّمْلِ:16} وَهُوَ الَّذِي دَعَا فَقَالَ [رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكَاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ] {صَ:35} فَاسْتَجَابَ اللهُ تَعَالَى دَعْوَتَهُ، وَاتَّسَعَتْ مَمْلَكَتُهُ، وَسُخِّرْتَ لَهُ الرِّيحُ وَالْجِنُّ وَالْطَّيْرُ وَالْوَحْشُ وَالْحَشَرَاتُ.
وَقَبْلَ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا الْسَّلامُ كَانَ المُلْكُ لِطَالُوتَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْنَّبِيُّ مَلِكَاً عَلَى بَنِي إِسْرَائِيْلَ وَذَكَرَ اللهُ تَعَالَى قِصَّتَهُ فِيْ الْقُرْآنِ الْكَرِيْمِ [أَلَمْ تَرَ إِلَى المَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيْلَ مِنْ بَعْدِ مُوْسَىْ إِذْ قَالُوْا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكَاً نُّقَاتِلْ فِيْ سَبِيِلِ الله] {الْبَقَرَةِ:246} فَاخْتَارَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ رَجُلَاً مِنْ عَامَّةِ الْنَّاسِ لَيْسَ ذَا جَاهٍ رَفِيْعٍ وَلَا مَالٍ عَرِيْضٍ، فَاسْتُنَكُرُوا ذَلِكَ وَتَعَجَّبُوْا [قَالُوْا أَنَّى يَكُوْنُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ] {الْبَقَرَةِ:247} فَهُمْ يُرِيْدُوْنَ وَجِيْهَاً أَوْ ثَرِيَّاً يَحْكُمُهُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْنَّاسَ حِيْنَ يُرِيْدُوْنَ وَضَعَاً مِنَ الْأَوْضَاعِ لَا يَخْتَارُونَ الْرَّجُلَ المُنَاسِبَ لِلْمَوْقِفِ، وَلَكِنْ يُرِيْدُوْنَ الْرَّجُلَ المُنَاسِبَ لِنُّفُوْسِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ.
وَلَكِنَّ نَبِيَّهُمْ عَلَيْهِ الْسَّلَامُ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى اخْتَارَ هَذَا الْقَائِدَ لِهَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيْمِ، وَفِيْهِ صِفَتَانِ مِنْ صِفَاتِ الْقِيَادَةِ وَهُمَا قُوَّةُ الْعَقْلِ وَقُوَّةُ الْجِسْمِ، فَبِقُوَّةِ الْعَقْلِ يُحْسِنُ الْسِيَاسَةَ وَتَدْبِيْرَ شُئُوْنِ الْرَّعِيَةِ، وَلَا يَخْتَطِفُ مَنْ حَوْلَهُ الْحُكَمَ مِنْهُ فَيَحْكُمُوْنَ بِاسْمِهِ، وَيَظْلِمُوْنَ الْرَّعِيَّةِ بِسُلْطَانِهِ، وَيُفْسِدُوْنَ فِيْ الْدَّوْلَةِ تَحْتَ دِثَارِهِ. وَبِقُوَّةِ الْجِسْمِ يَكُوْنُ مُهَابَاً مُطَاعَاً عَلَى مُقَدِّمَةِ الْجَيْشِ فِيْ سَاحَاتِ الْوَغَى، وَالْرَّعِيَّةُ تُحِبُّ الْقَوِيَّ الْشُّجَاعَ إِذَا قَامَ فِيْهِمْ بِالْقِسْطِ وَتَخْضَعُ لَهُ [قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِيْ الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] {الْبَقَرَةِ:247} وَالِاصْطِفَاءُ هُنَا يُرَادُ بِهِ خَلْقُ الاسْتِعْدَادِ الْفِطْرِيِّ لِلْمُلْكِ وَإِدَارَةِ شُئُوْنِ الْنَّاسِ فِيهِ؛ إِذْ هَيَّأَهُ اللهُ تَعَالَىْ لِلْمُلَكِ بِمَا أَعْطَاهُ مِنْ صِفَاتِهِ، وَكَمْ مِنْ عَالِمٍ بِالْسِّيَاسَةِ وَالْقِيَادَةِ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَعِدٍّ لِلْسُلْطَةِ، يَتَّخِذَهُ مَنْ هُوَ مُسْتَعِدٌّ لَهَا سِرَاجَاً يَسْتَضِيْءُ بِرَأْيِّهِ فِيْ تَأْسِيْسِ مَمْلَكَةٍ أَوْ سِيَاسَتِهَا، وَلَمْ يَنْهَضْ بِهِ رَأْيُّهُ إِلَى أَنْ يَكُوْنَ هُوَ الْسَّيِّدَ الْزَّعِيْمَ فِيْهَا.
وَذَكَرَ بَعْضُ المُفَسِّرِيْنَ أَنَّ الْسِّرَّ فِيْ اخْتِيَارِ نَبِيِّهِمْ هَذَا المَلِكَ لَهُمْ مِنْ أَغْمَارِ الْنَّاسِ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ تَبْقَى لَهُمْ حَالَتُهُمْ الْشُورِيَّةُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، فَجَعَلَ مَلِكَهُمْ مِنْ عَامَّتِهِمْ لَا مِنْ سَادَتِهِمْ؛ لِتَكُوْنَ قَدَمُهُ فِي المُلْكِ غَيْرَ رَاسِخَةٍ، فَلَا يُخْشَى مِنْهُ أَنْ يَشْتَدَّ فِيْ اسْتِعْبَادِ أُمَّتِهِ؛ لِأَنَّ المُلُوْكَ فِيْ ابْتِدَاءِ تَأْسِيْسِ الْدُّوَلِ يَكُوْنُوْنَ أَقْرَبَ إِلَى الْخَيْرِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَادُوْا عَظَمَةَ المُلْكِ، وَلَمْ يَنْسَوْا مُسَاوَاتِهِمْ لِأَمْثَالِهِمْ، وَمَا يَزَالُونَ يَتَوَقَّعُونَ الْخُلْعَ؛ وَلِهَذَا كَانَتِ الْخِلَافَةُ سُنَّةَ الْإِسْلَامِ.
وَإِذَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى إِسْعَادَ أُمَّةٍ جَعَلَ حَاكِمَهَا مُقَوِّيَاً لِمَا فِيْهَا مِنَ الاسْتِعْدَادِ لِلْخَيْرِ، حَتَّى يَغْلِبَ خَيْرُهَا عَلَى شَرِّهَا، فَتَكُوْنَ سَعِيْدَةً، وَإِذَا أَرَادَ إِهْلَاكَ أُمَّةٍ جَعَلَ حَاكِمَهَا مُقَوِّيَاً لِدَوَاعِي الْشَّرِّ فِيْهَا حَتَّى يَتَغَلَّبَ شَرُّهَا عَلَى خَيْرِهَا، فَتَكُوْنَ شَقِيَّةً ذَلِيلَةً، فَتَعْدُوا عَلَيْهَا أُمَّةٌ قَوِيَّةٌ، فَلَا تَزَالُ تَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا، وَتَفْتَاتُ عَلَيْهَا فِيْ أُمُورِهَا، أَوْ تُنَاجِزُهَا الْحَرْبَ فَتُزِيلُ سُلْطَانَهَا مِنَ الْأَرْضِ، يُرِيْدُ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ فَيَكُوْنُ بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ فِيْ نِظَامِ الاجْتِمَاعِ، فَهُوَ يُؤْتِي المُلْكَ مَنْ يَشَاءُ وَيَنْزِعُهُ مِمَّنْ يَشَاءُ. بِعَدْلٍ وَحِكْمَةٍ، لَا بِظُلْمٍ وَلَا عَبَثٍ.
وَأُمَّةُ بَنِي إِسْرَائِيْلَ سُلِبَتْ مُلْكَهَا وَسِيَادَتَهَا فِي الْأَرْضِ لَمَا ظَلَمَتْ، وَحُوِّلَ المُلْكُ وَالْسِّيَادَةُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ^، وَهُوَ مَا عَنَاهُ الْنَّبِيُّ ^ بِقَوْلِهِ:«إِنِّي قَدْ أُعْطِيتُ خَزَائِنَ مَفَاتِيْحِ الْأَرْضِ»رَوَاهُ الْشَّيْخَانِ، وَلمَّا شَكَوْا إِلَيْهِ الْفَاقَةَ قَالَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ:«وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوْزُ كِسْرَى» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. فَوَقَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ ^ إِذْ سَادَتْ أُمَّةُ الْإِسْلَامِ أُمَمَ الْأَرْضِ قُرُوْنَاً طِوَالَاً حَتَّى ضَعُفَ الْدِّيْنُ فِيْهَا فَتَضَعْضَعَ سُلْطَانُهَا، وَسُلِّطَ عَلَيْهَا أَعْدَاؤُهَا، فَأَذَلُّوْهَا وَقَهَرُوْهَا وَاسْتَبَاحُوْهَا، وَالْحَرْبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ سِجَالٌ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ مَنْ أَبْنَائِهَا [إِنَّ الْأَرْضَ لله يُوْرِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ] {الْأَعْرَافِ:128} [وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِيْ الْزَّبُوُرِ مِنْ بَعْدِ الْذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الْصَّالِحُوْنَ] {الْأَنْبِيَاءِ:105}.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُصْلِحَ أَحْوَالَنَا وَأَحْوَالَ المُسْلِمِيْنَ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ عِبَادِهِ المُتَّقِيْنَ، إِنَّهُ سَمِيْعٌ مُجِيْبٌ..
وَأَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لله حَمْدَاً طَيِّبَاً كَثِيْرَاً مُبَارَكَاً فِيْهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الْدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيْعُوْهُ، وَآمِنُوا بِرَسُوْلِهِ وَاتَّبِعُوْهُ؛ فَفِيْ مَا جَاءَ بِهِ الرَّشَادُ وَالْهِدَايَةُ وَالْكِفَايَةُ [قُلْ يَا أَيُّهَا الْنَّاسُ إِنِّي رَسُوْلُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيْعَاً الَّذِيْ لَهُ مُلْكُ الْسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيْتُ فَآَمِنُوا بِالله وَرَسُوْلِهِ الْنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِيْ يُؤْمِنُ بِالله وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوْهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُوْنَ] {الْأَعْرَافِ:158}.
أَيُّهَا الْنَّاسُ: مِنْ يُؤْتِي المُلْكَ وَيُهَيِّئُ أَسْبَابَهُ لِمَنْ يُرِيْدُ هُوَ الَّذِي يَمْنَعُهُ عَمَّنْ شَاءَ وَلَوْ طَلَبَهُ، وَيَنْزِعَهُ مِمَّنْ يَشَاءُ وَلَوْ تَشَبَّثَ بِهِ؛ فَالمُلْكُ لله تَعَالَى وَبِيَدِهِ [قُلِّ الْلَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ] {آَلِ عِمْرَانَ:26}.
وَكَمَا أَنَّ لِإِيتَاءِ المُلْكِ وَثَبَاتِهِ أَسْبَابَاً فَإِنَّ لِنَزْعِهِ وَزَلْزَلَتِهِ أَسْبَابَاً أَيْضَاً، وَأَعْظَمُ أَسْبَابِ نَزْعِهِ الْظُّلْمُ بِأَنْوَاعِهِ كُلِّهَا، فَسُنَّةُ الله تَعَالَى مَاضِيَةٌ فِي أَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلْمُلْكِ مَعَ الْظُّلْمِ [فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الْظَّالِمِيْنَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ] {إِبْرَاهِيْمَ:13-14}. فَصَلَاحُ الْدُّنْيَا يَكُوْنُ بِالْعَدْلِ، كَمَا أَنَّ صَلَاحَ الْآَخِرَةِ يَكُوْنُ بِالإِيْمَانِ وَالْعَمَلِ الْصَّالِحِ؛ وَلِذَا قِيلَ: الْدُّنْيَا تَدُوْمُ مَعَ الْعَدْلِ وَالْكُفْرِ، وَلَا تَدُوْمُ مَعَ الْظُّلْمِ وَالْإِسْلَامِ. وَكَتَبَ بَعْضُ عُمَّالِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيْزِ إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّ مَدِيْنَتَنَا قَدْ خَرِبَتْ، فَإِنْ رَأَى أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ أَنْ يَقْطَعَ لَنَا مَالْاً نَرُمُّهَا بِهِ. فَرَدَّ عَلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ؛ فَحَصِّنْهَا بِالْعَدْلِ، وَنَقِّ طُرُقَهَا مِنَ الْظُّلْمِ ؛ فَإِنَّهُ مَرَمَّتُهَا. وَالْسَّلامُ.
إِنَّ لِلْمُلْكِ غُنْمَاً وَغُرْمَاً فِيْ الْدُّنْيَا وَفِيْ الْآَخِرَةِ؛ فَغُنْمُهُ فِيْ الْدُّنْيَا الْرِّفْعَةُ وَالشُّهْرَةُ وَالْرِّيَاسَةُ وَخُضُوعُ الْنَّاسِ، وَغُرْمُهُ فِي الْدُّنْيَا لِمَنْ قَامَ بِهِ الْسَّهَرُ عَلَى مَصَالِحِ الْرَّعِيَّةِ، وَالْتَّعَبُ فِيْ إِدَارَةِ شُئُوْنِ الْدَّوْلَةِ، وَإِحَاطَتِهَا بِأَسْبَابِ الْقُوَّةِ وَالْهَيْبَةِ وَالمَنَعَةِ.
وَأَمَّا غُنْمُهُ فِي الْآَخِرَةِ فَأَجْرٌ عَظِيْمٌ لِمَنْ قَامَ بِحَقِّهِ، وَأَوَّلُ الْسَّبْعَةِ الَّذِيْنَ يَسْتَظِلُّوْنَ فِيْ ظِلِّ الْرَّحْمَنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَالمُقْسِطُونَ مِنَ الْحُكَّامِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِيْنِ الْرَّحْمَنِ، وَهُمْ الَّذِيْنَ يَعْدِلُوْنَ فِيْ حُكْمِهِمْ. وَأَمَّا غُرْمُهُ فِيْ الْآَخِرَةِ فَطُولُ الْحَبْسِ بِكَثْرَةِ المَظَالِمِ، وَغِشُّ الْرَّعِيَّةِ يُوجِبُ الْحِرْمَانَ مِنَ الْجَنَّةِ.
وَمَنْ أَرَادَ غُنْمَ المُلْكِ فِي الْدُّنْيَا لَكِنَّهُ لَمْ يَتَحَمَّلْ غُرْمَهُ صَارَ إِلَى الْظُّلْمِ، وَسَلَّطَ أَعْوَانَهُ الْظَّلَمَةَ عَلَى الْنَّاسِ، فَيَنْزِعُ اللهُ تَعَالَىْ مِنْهُ المُلْكَ، وَقَدْ عَبَّرَ اللهُ تَعَالَى عَنْ ذَهَابِ المُلْكِ بِنَزْعِهِ [وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ] لِأَنَّ مَنِ اتَّخَذُوا المُلْكَ غُنْمَاً لَا يَتَخَلَّوْنَ عَنْهُ بِسُهُوْلَةٍ، وَيَتَشَبَّثُونَ بِهِ تَشَبُّثَاً شَدِيْدَاً؛ لِأَجْلِ غُنْمِهِ، فَيُنْزَعُوْنَ مِنْهُ نَزْعَاً، وَالْنَّزْعُ هُوَ شِدَّةُ الْقَلْعِ وَهِيَ مُقَابِلَةٌ لِشِدَّةِ تَمَسُّكِهِمْ بِهِ.
وَمَنْ قَرَأَ الْتَّارِيْخَ الْقَدِيمَ وَالمُعَاصِرَ وَجَدَ فِيْهِ أَعَاجِيْبَ مِنْ أَنْوَاعِ تَقْدِيْرِ الْرَبِّ سُبْحَانَهُ فِيْ نَزْعِ المُلْكِ؛ فَمِنَ المُلُوْكِ مَنْ يَنْزِعُ الُملْكَ مِنْهُ أَبُوْهُ أَوْ أَخُوْهُ أَوْ ابْنُهُ أَوْ قَرِيْبُه أَوْ صَدِيْقُهُ الحَمِيمُ، وَمَا دَرَى وَهُوَ يُقَرِّبُهُ أَنَّهُ يَنْزِعُ مُلْكَهُ مِنْهُ.. وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْزِعُ مُلْكَهُ مِنْهُ عَدُوُّهُ بِقُوَّةٍ قَاهِرَةٍ.. وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْقِدُ حَيَاتَهُ وَحَيَاةَ المُقَرَّبِيْنَ مِنْهُ أَثْنَاءَ نَزْعِ مُلْكِهِ مِنْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْلَمُ جَسَدُهُ لَكِنْ يَعْتَلُّ قَلْبُهُ بِنَزْعِ مُلْكِهِ، وَلله تَعَالَى شُؤونٌ كَثِيْرَةٌ فِي خَلْقِهِ [يَسْأَلُهُ مَنْ فِيْ الْسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِيْ شَأْنٍ] {الْرَّحْمَنِ:29}.
وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا...
المشاهدات 2941 | التعليقات 0