خطبة : ( الإصلاح بين التظاهر والاحتساب )

عبدالله البصري
1432/02/30 - 2011/02/03 20:43PM
الإصلاح بين التظاهر والاحتساب 1 / 3 / 1432

الخطبة الأولى :

أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، للهِ في خَلقِهِ شُؤُونٌ ، وَفي مَسِيرِ الحَيَاةِ دُرُوسٌ وَعِبَرٌ ، وَكَم مِن مِحنَةٍ فِيهَا مِن المِنَحِ مَا لا يَقدْرُهُ عَقلٌ وَلا يَخطُرُ بِبَالٍ ، وَقَد رَأَيتُم مَا حَدَثَ في الأَيَّامِ المَاضِيَةِ مِن تَظَاهُرَاتٍ في بَعضِ الدُّوَلِ ، وَزَوَالِ رُؤَسَاءَ بَعدَ تَمَكُّنٍ ، وَذُلِّ آخَرِينَ بَعدَ عِزٍّ ، وَاضطِرَابِ أَحوَالٍ بَعدَ استِقرَارٍ ، وَسُيُولٍ جَارِفَةٍ وَأَمطَارٍ غَزِيرَةٍ ، وَللهِ فِيمَا يُقَدِّرُ مِنَ الحِكَمِ وَالأَسرَارِ أَعظَمُهَا وَأَبلَغُهَا " إِنَّ في خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَاختِلافِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ وَالفُلكِ الَّتي تَجرِي في البَحرِ بما يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَاءٍ فَأَحيَا بِهِ الأَرضَ بَعدَ مَوتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَينَ السَّمَاءِ وَالأَرَضِ لآيَاتٍ لِقَومٍ يَعقِلُونَ " " قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلكِ تُؤتي المُلكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ "
إِنَّ هَذِهِ الأَحدَاثَ الأَلِيمَةَ وَتِلكَ الأَقدَارَ المُوجِعَةَ ، بِقَدرِ مَا فِيهَا مِن فَسَادٍ وَدَمَارٍ وَخَرَابٍ ، وَإِزهَاقِ أَروَاحٍ وَإِذهَابِ أَمنٍ وَزَعزَعَةِ اطمِئنَانٍ ، إِلاَّ أَنَّهَا حَمَلَت فَوَائِدَ وَمَعَانيَ عَظِيمَةً ، وَبَيَّنَت لِلعَالمِ دُرُوسًا وَتَجَارِبَ عَمِيقَةً ، وَمِن أَجلِّ تِلكَ الفَوَائِدِ أَنَّهَا أَزَالَت أَقنِعَةً كَثِيفَةً كَانَت تُغَطِّي وُجُوهِ الفَسَادِ الكَالِحَةَ ، وَإِذَا كَانَت وَسَائِلُ الإِعلامِ قَد حَمَلَت وِزرَ إِضلالِ النَّاسِ وَتَغيِيبِ الحَقَائِقِ عَنهُم في كَثِيرٍ مِنَ الوَقَائِعِ وَالمُنَاسَبَاتِ ، وَمَارَسَت دَورَ التَّضلِيلِ لِلمُجتَمِعَاتِ مُنذُ عُقُودٍ وَسَنَوَاتٍ ، فَقَد أَرَادَ اللهُ بِهَذِهِ الأَحدَاثِ أَن تَتَّضِحَ لِلنَّاسِ الحَقَّائِقُ وَيَرَوهَا بِأَعيُنِهِم كَمَا هِيَ بِلا تَغيِيرٍ ، لَقَد رَأَينَا تَظَاهُرَاتٍ ضِدَّ الفَسَادِ وَالظُّلمِ الَّذِي مَارَسَتهُ وَمَا تَزَالُ تُمَارِسُهُ حُكُومَاتٌ لم تَخَفِ اللهَ في شُعُوبِهَا ، وَرَأَينَا سُيُولاً بَيَّنَت تَقصِيرَ بَعضِ المَسؤُولِينَ في أَمَانَاتِهِم وَفَضَحَت تَلاعُبَهُم بِالأَموَالِ العَامَّةِ ، أَمَّا التَّظَاهُرَاتُ فَقَد كَانَت حَاشِدَةً وَقَوِيَّةً حَتَّى أَطَاحَت بِرُؤَسَاءَ وَأَلجَأَت آخَرِينَ إِلى الاعتِذَارِ ، وَأَمَّا السُّيُولُ فَقَد أَلزَمَت كُبَرَاءَ عَلَى تَفَقُّدِ الأَحوَالِ بِأَنفُسِهِم وَالوَعدِ بِإِصلاحَاتٍ وَتَغيِيرَاتٍ مُستَقبَلِيَّةٍ . وَكَانَ الدَّرسُ الثَّاني وَالفَائِدَةُ الأُخرَى مِن هَذِهِ الأَحدَاثِ الكَبِيرَةِ أَنَّ التَّظَاهُرَاتِ الَّتي حَدَثَت وَالغَضَبَ الَّذِي بَرَزَ ، لم يَكُنْ قَاصِرًا عَلَى أَصحَابِ مَنهَجٍ بِعَينِهِ ، بَل لَقَد وَجَدَتِ الشُّعُوبَ أَنفُسَهَا في ظِلِّ سِيَاسَةِ التَّجَاهُلِ وَالتَّجوِيعِ وَنَهبِ الثَّرَوَاتِ مُضطَرَّةً لِلخُرُوجِ في الشَّوَارِعِ لِتُوَاجِهَ مَا تُوَاجِهُ ، لأَنَّهَا أَصبَحَت بَينَ خِيَارَينِ أَحلاهُمَا مُرٌّ : إِمَّا المَوتُ البَطِيءُ جُوعًا وَهَمًّا ، وَإِمَّا مُجَابَهَةُ هَؤُلاءِ الحُكَّامِ حَتى يَقضِيَ اللهُ أَمرًا كَانَ مَفعُولاً .
لَقَد عَاشَتِ الشُّعُوبُ سِنِينَ مِنَ التَّظلِيلِ الإِعلامِيِّ الدَّوليِّ وَالمَحَلِّيِّ ، وَالَّذِي زُعِمَ فِيهِ أَنَّ الإِسلامَ وَالإِسلامِيِّينَ هُم أَهلُ الإِرهَابِ وَمَصدَرُهُ ، وَأَنَّهُم مُوقِدُو الفِتَنِ ومُسَعِّرُو الحُرُوبِ ، وَقَد طُرِقَ هَذَا الأَمرُ حَتَّى تَشَرَّبَهُ النَّاسُ وَعَادُوا لا يَشُكُّونَ في صِحَّتِهِ ، وَهَا هُمُ اليَومَ يَرَونَ الشُّعُوبَ بِقَضِّهَا وَقَضِيضِهَا تَخرُجُ في تَظَاهُرَاتٍ حَاشِدَةٍ ، فَيَنتُجُ عَن خُرُوجِهَا إِفسَادٌ وَقَتلٌ وَتَروِيعٌ وَذَهَابُ أَمنٍ وَاختِلالُ أَحوَالٍ ، فَمَنِ الَّذِي أَوقَدَهَا وَأَحمَى وَطِيسَهَا ؟!
بَل مَنِ الَّذِي عَبَّأَ تِلكَ الشُّعُوبَ طُوَالَ السِّنِينَ حَتَّى عَادَت صُدُورُهَا كَالقُدُورِ ، ثُمَّ انفَجَرَت في لَحَظَاتِ غَضَبٍ مُفَاجِئَةٍ ؟! أَلَيسُوا هُمُ الحُكَّامَ الطُّغَاةَ وَأَتبَاعَهُم وَجُنُودَهُم ؟!
لَقَد كَشَفت هَذِهِ الأَحدَاثُ أَنَّ هَؤُلاءِ الطُّغَاةَ كَانُوا هُمُ المُؤَجِّجِينَ لِلإِرهَابِ بِتَمَادِيهِم في الظُّلمِ وَإِصرَارِهِم عَلَى البَغيِ ، الغَارِسِينَ لِلأَحقَادِ في القُلُوبِ بَتَجَاهُلِ الشُّعُوبِ وَإِهانَتِهَا وَالعَبَثِ بِمُقَدَّرَاتِهَا ، المُغضِبِينَ لَهَا بِالتَّضيِيقِ عَلَيهَا في دِينِهَا وَالعَمَلِ عَلَى تَغيِيرِ قِيَمِهَا وَإِفسَادِ أَخلاقِهَا ، حَتَّى لم يَبقَ لَهَا إِلاَّ أَن تَخرُجَ بِعُلَمَائِهَا وَعَامَّتِهَا ، وَتَثُورَ ثَورَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ مُستَنكِرَةً الظُّلمَ وَالهَضمَ ، مُنتَظِرَةً الفَرَجَ وَالخَلاصَ .
وَمِنَ الدُّرُوسِ في هَذِهِ الأَحدَاثِ أَنَّ دَولَةَ الظُّلمِ زَائِلَةٌ مَهمَا انتَفَخَت وَانتَفَشَت ، وَإِنَّ فِرعَونَ بِسُلطَتِهِ وَقَارُونَ بِمَالِهِ ، سَيَظَلاَّنِ مَثَلَينِ وَنَمُوذَجَينِ لِسُقُوطِ كُلِّ مَن أَعمَاهُ المُلكُ أَو أَطغَاهُ المَالُ فَتَكَبَّرَ وَتَجَبَّرَ ، ثُمَّ صَارَ مَآلُهُ إِلى الهَلاكِ وَأَصبَحَ خَبَرًا بَعدَ أَن كَانَ عَينًا .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَمَعَ مَا أَحدَثَتهُ بَعضُ التَّظَاهُرَاتِ مِن آثَارٍ قَد تُحمَدُ في النَّظرَةِ الأُولى ، إِلاَّ أَنَّ عَلَى المُجتَمَعَاتِ الإِسلامِيَّةِ أَن تَعِيَ أَنَّ التَّظَاهُرَاتِ لَيسَت هِيَ الحَلَّ النَّاجِعَ لمُشكِلاتِهِم ، وَلا المُخَلِّصَ لَهُم مِمَّا يُعَانُونَهُ مِن ظُلمٍ وَهَضمٍ في كُلِّ مَرَّةٍ ، عَلَيهِم أَن يَعلَمُوا أَنَّ العَشوَائِيَّةَ وَالهَمَجِيَّةَ قَد تَحُولُ بَينَهُم وَبَينَ الوُصُولِ إِلى مَقَاصِدِهِم النَّبِيلَةِ وَبُلُوغِ أَهدَافِهِمُ السَّامِيَةِ ، وَإِذَا أَرَادَتِ الأُمَّةُ أَن تَأخُذَ بِحُقُوقِهَا كَامِلَةٍ فَلْتَتَّقِ رَبِّهَا ، وَلْتَنْصَحْ لَوُلاةِ أَمرِهَا ، وَلْتَأمُرْهُم بِالمَعرُوفِ وَلْتَنهَهُم عَنِ المُنكَرِ ، وَلْتَقُمْ كُلُّهَا عَن بَكرَةِ أَبِيهَا بِهَذَا الوَاجِبِ العَظِيمِ ، آخِذَةً في اعتِبَارِهَا أَنَّ الأَمرَ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيَ عَنِ المُنكَرِ لا يَقتَصِرُ عَلَى الانحِرَافَاتِ السُّلُوكِيَّةِ الفَردِيَّةِ ، أَوِ الغَزوِ الثَقَافيِّ الخَارِجِيِّ فَحَسبُ ، وَإِنَّمَا يَتَجَاوَزُ ذَلِكَ لِلأَخذِ عَلَى أَيدِي المُفسِدِينَ وَالعَابِثِينَ بِحُقُوقِ المُسلِمِينَ في أَنفُسِهِم وَأَموَالِهِم وَأَعرَاضِهِم ، ثُمَّ إِنَّ الحَاكِمَ إِمَّا أَن يَكُونَ عَادِلاً أَو جَائِرًا أَو كَافِرًا ، فَأَمَّا الحَاكِمُ المُؤمِنُ العَادِلُ فَتَجِبُ طَاعَتُهُ في غَيرِ مَعصِيَةِ اللهِ ، وَيَحرُمُ الخُرُوجُ عَلَيهِ ، بَل إِنَّ إِكرَامَهُ مِن إِكرَامِ اللهِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولي الأَمرِ مِنكُم "
وَفي صَحِيحِ مُسلِمٍ مَرفُوعًا : " مَن أَطَاعَ الأَمِيرَ فَقَد أَطَاعَني ، وَمَن عَصَى الأَمِيرَ فَقَد عَصَاني "
وَأَخرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ : " إِنَّ مِن إِجَلالِ اللهِ إِكرَامَ ذِي الشَّيبَةِ المُسلِمِ ، وَحَامِلِ القُرآنِ غَيرِ الغَالي فِيهِ وَالجَافي عَنهُ ، وَإِكرَامَ ذِي السُّلطَانِ المُقسِطِ " حَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ .
وَأَمَّا النَّوعُ الثَّاني مِنَ الحُكَّامِ ، فَهُوَ الكَافِرُ كُفرًا طَارِئًا أَو أَصلِيًّا ، وَهَذَا يَجِبُ الخُرُوجُ عَلَيهِ في حَالِ القُدرَةِ عَلَى تَغيِيرِهِ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ " وَلَن يَجعَلَ اللهُ لِلكَافِرِينَ عَلَى المُؤمِنِينَ سَبِيلاً "
وَفي حَدِيثِ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : " وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأَمرَ أَهلَهُ ، إِلاَّ أَن تَرَوا كُفرًا بَوَاحًا عِندَكُم مِنَ اللهِ فِيهِ بُرهَانٌ " رَوَاهُ الشَّيخَانِ .
وَأَمَّا الثَّالِثُ مِنَ الحُكَّامِ فَهُوَ الحَاكِمُ المُسلِمُ الجَائِرُ ، فَهُوَ لَيسَ بِعَدلٍ وَلا كَافِرًا ، وَهَذَا تَجِبُ مُنَاصَحَتُهُ وَالأَخذُ عَلَى يَدَيهِ وَيَحرُمُ الخُرُوجُ عَلَيهِ ، فَإِن زَالَ المُنكَرُ بِمُنَاصَحَتِهِ سِرٍّا اكتُفِيَ بها ، وَإِلاَّ جُهِرَ في نُصحِهِ بِالرِّفقِ أَو بِالشِّدَّةِ المُنَاسِبَةِ ، بِحَسَبِ القُدرَةِ وَبِحَسَبِ مِقدَارِ المُنكَرِ ، شَرِيطَةَ أَلاَّ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلى مُنكَرٍ أَشَدَّ أَو يُثِيرَ فِتنَةَ الخُرُوجِ عَلَيهِ .
في صَحِيحِ مُسلِمٍ قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " سَيَكُونُ بَعدِي أُمَرَاءُ فَتَعرِفُونَ وَتُنكِرُونَ ، فَمَن أَنكَرَ فَقَد بَرِئَ ، وَمَن كَرِهَ فَقَد سَلِمَ ، وَلَكِنْ مَن رَضِيَ وَتَابَعَ " قَالُوا : أَفَلا نُنَابِذُهُم بِالسَّيفِ ؟ قَالَ : " لا ، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاةَ " فَقَولُهُ : " فَمَن أَنكَرَ فَقَد بَرِئَ " أَي فَقَد بَرِئَ مِن تَبِعَاتِ المُنكَرِ كَامِلَةً وَأَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيهِ دُونَ نُقصَانِ . وَقَولُهُ : " وَمَن كَرِهَ فَقَد سَلِمَ " أَي سَلِمَ مِن أَن يَكُونَ شَرِيكًا في المُنكَرِ وَإِنْ لم يَسلَمْ مِن تَبِعَاتِهِ كُلِّهَا لأَنَّهُ لم يُنكِرْ . " وَلَكِنْ مَن رَضِيَ وَتَابَعَ " فَهَذَا لم يَبرَأْ وَلم يَسلَمْ ، بَل هُوَ شَرِيكٌ في الإِثمِ مَعَ الفَاعِلِ .
وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَم يَأخُذُوا عَلَى يَدَيهِ أَوشَكَ أَن يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ مِن عِندِهِ "
وَإِنَّ مَا حَلَّ في بَعضِ أَجزَاءِ بِلادِنَا مِن غَرَقٍ وَدَمَارٍ بِسَبَبِ الأَمطَارِ وَالسُّيُولِ ، إِنَّهُ بِسَبَبِ تَركِ الحَبلِ عَلَى الغَارِبِ لِلظَّالِمِ يَسرِقُ وَيَغُشُّ ويَرتَشِي ، وَلَمَّا لَم يُؤخَذْ عَلَى يَدَيهِ فَقَد عَمَّ العِقَابُ كَثِيرِينَ ، وَمِثلُ ذَلِكَ مَا جَرَى عَلَى إِخوَةٍ لَنَا في دُوَلٍ غَيرِ بَعِيدَةٍ ، إِنَّهُ بِسَبَبِ تَركِ الفَسَادِ يَستَفحِلُ وَيَتَرَاكَمُ حَتَّى تَفَجَّرَ ، فَالوَاجِبُ إِذًا أَن تَمتَدَّ جُسُورُ الأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ بَينَ الحُكَّامِ وَالشُّعُوبِ كُلٌّ بِحَسَبِهِ ، مَنِ استَطَاعَ نُصحَ المَسؤُولِ مُبَاشَرَةً فَهَذَا وَاجِبُهُ ، وَمَن لم يَستَطِعْ فَبِأَيِّ وَسَيلَةٍ مِن وَسَائِلِ الاتِّصَالِ مَقرُوءَةً أَو مَسمُوعَةً أَو غَيرَ ذَلِكَ ، وَمَن جَهَرَ بِمَعصِيَتِهِ فَإِنَّهُ يُجهَرُ بِالإِنكَارِ عَلَيهِ وَلا كَرَامَةَ لَهُ " كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللهِ "
ثُمَّ إِنَّ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الشُّعُوبِ عَامَّةً وَعَلَى الدُّعَاةِ وَالعُلَمَاءِ خَاصَّةً أَن يَكُونُوا عَلَى وَعيٍ بِأَهَمِّيَّةِ مُكَافَحَةِ الفَسَادِ , وَأَن يَعمَلُوا عَلَى صِنَاعَةِ أَفكَارٍ جَدِيدَةٍ وَإِنشَاءِ مَشرُوعَاتٍ لِلإِصلاحِ بِطُرُقٍ مَدَنِيَّةٍ حَضَارِيَّةٍ ، مُحتَسِبِينَ مَا يَحتَاجُهُ ذَلِكَ مِن جُهُودٍ وَأَفكَارٍ وَأَموَالٍ وَأَوقَاتٍ ، فَاللهَ اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ بِدَعمِ كُلِّ مَشرُوعٍ إِسلامِيٍّ إِصلاحِيٍّ مُبَارَكٍ ، دَعَوِيًّا كَانَ أَو إِغَاثِيًّا ، أَو تَعلِيمِيًّا أَو تَثقِيفِيًّا ، مُرُوا بِالمَعرُوفِ وَانهوا عَنِ المُنكَرِ ، وَاحتَسِبُوا عَلَى أَصحَابِ المُنكَرَاتِ صَغُرَت مَكَانَتُهُم أَو كَبُرَت ، وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثمِ وَالعُدوَانِ ؛ فَإِنَّهُ لَمِنَ المُحزِنِ حَقًّا ، أَن تَظَلَّ الشُّعُوبُ تَتَلَقَّى مَوجَاتِ التَّغرِيبِ وَضَرَبَاتِ الإِفسَادِ عَامًا بَعدَ آخَرَ ، حَتَّى إِذَا انتَبَهَت وَإِذَا هِيَ قَد أُفسِدَ دِينُهَا وَعُبِثَ بِأَخَلاقِهَا وَقِيَمِهَا ، وَعَاثَت أَيدِي الغَدرِ في مُقَدَّرَاتِهَا وَنَهَبَت ثَرَوَاتِهَا ، فَلَم تَجِدْ بُدًّا مِنَ الخُرُوجِ بِمُظَاهَرَاتٍ غَوغَائِيَّةٍ ، بَحثًا عَن لُقمَةِ عَيشٍ تَسُدُّ بها جُوعَهَا ، مُتَمَثِّلَةً قَولَ الَشَّاعِرِ :
إِذَا لم يَكُنْ إِلاَّ الأَسِنَّةُ مَركَبٌ
فَمَا حِيلَةُ المُضطَرِّ إِلاَّ رُكُوبُهَا
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " فَلَولا كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبلِكُم أُولُو بَقِيَّةٍ يَنهَونَ عَنِ الفَسَادِ في الأَرضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّن أَنجَينَا مِنهُم وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُترِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجرِمِينَ . وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهلِكَ القُرَى بِظُلمٍ وَأَهلُهَا مُصلِحُونَ "


الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنَهيَهُ وَلا تَعصُوهُ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ مِمَّا يَجِبُ أَن نَعلَمَهُ يَقِينًا وَيَستَقِرَّ في الأَذهَانِ ، أَنَّهُ مَا مِن دَولَةٍ بَعدَ دَولَةِ الإِسلامِ الأُولى وَدُوَلِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ ، إِلاَّ وَيَحدُثُ فِيهَا مِنَ الظُّلمِ مَا يَحدُثُ ، وَيَستَأثِرُ فِيهَا الوُلاةُ بِجُزءٍ مِنَ المَالِ يَقِلُّ أَو يَكثُرُ دُونَ الرَّعِيَّةِ ، وَقَد جَاءَ في بَعضِ الأَحَادِيثِ مَا يَتَضَمَّنُ أَنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ وَلا بُدَّ ، فَفِي البُخَارِيِّ وَمُسلِمٍ عَن عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : بَايَعنَا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى السَّمعِ وَالطَّاعَةِ في العُسرِ وَاليُسرِ وَالمَنشَطِ وَالمَكرَهِ ، وَعَلَى أَثَرَةٍ عَلَينَا .
وَفِيهِمَا أَنَّهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ قَالَ لِلأَنصَارِ : " إِنَّكُم سَتَلقَونَ بَعدِي أَثَرَةً ، فَاصبِرُوا حَتَّى تَلقَوني عَلَى الحَوضِ "
فَفِي هَذَينِ الحَدِيثَينِ وَأَمثَالِهِمَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الأَثَرَةَ وَهِيَ الاختِصَاصُ بِالمَالِ مِنَ الوُلاةِ دُونَ الرَّعِيَّةِ وَأَكلُ بَعضِ حُقُوقِهِم حَاصِلَةٌ وَلا بُدَّ ، وَفي هَذَا دَرسٌ عَظِيمٌ لِلأُمَّةِ في هَذِهِ الأَزمِنَةِ يَجِبُ أَن تَعِيَهُ ، فَإِذَا هِيَ سَكَنَتِ الأَكوَاخَ أَو لم يَجِدْ بَعضُ أَفرَادِهَا مَلجَأً وَلا سَكَنًا ، أَو لَبِسَتِ الخَلِقَ مِنَ الثِّيَابِ أَوِ افتَرَشَت رَدِيءَ الفُرُشِ ، ثُمَّ رَأَت وُلاتَهَا بَعدَ ذَلِكَ يَسكُنُونَ القُصُورَ الشَّامِخَةَ أَو يَلبَسُونَ الثِّيَابَ الغَالِيَةَ ، أَو يَركَبُونَ المَرَاكِبَ الفَارِهَةَ أَو يَتَمَتَّعُونَ بِزَخَارِفِ الدُّنيَا ، فَإِنَّ هَذَا يَجِبُ أَلاَّ يُهِمَّهَا في شَيءٍ وَلا يَدعُوَهَا لِلخُرُوجِ عَلَيهِم مَا لم تَرَ مِنهُم كُفرًا بَوَاحًا عِندَهَا مِنَ اللهِ فِيهِ بُرهَانٌ ، فَمَتَاعُ الدُّنيَا قَلِيلٌ ، وَلا بُدَّ يَومًا أَن يَزُولَ عَن هَؤُلاءِ الحُكَّامِ أَو يَزُولُوا هُم عَنهُ ، وَالأَمرُ في المَظَالِمِ مَضبُوطٌ وَمُحكَمٌ ، لا يَضِيعُ عِندَ اللهِ مِنهُ شَيءٌ ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مَن ضَرَبَ بِسَوطٍ ظُلمًا اقتُصَّ مِنهُ يَومَ القِيَامَةِ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ في الأَدَبِ المُفرَدِ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَأَمَّا الأَمرُ الَّذِي يَجِبُ أَن تُولِيَهُ الأُمَّةُ كُلَّ اهتِمَامِهَا وَتَصُبَّ فِيهِ كُلَّ عِنَايَتِهِا وَلا تَغضَبَ إِلاَّ مِن أَجلِهِ ، فَإِنَّمَا هُوَ أَمرُ الدِّينِ وَالعَقِيدَةِ ، وَالَّذِي مِن وَاجِبَاتِهِ أَن يَفِيَ المَرءُ لِلإِمَامِ بِبَيعَتِهِ وَأَلاَّ يُنَازِعَ الأَمرَ أَهلَهُ ، وَلا يَشغَلَ نَفسَهُ بِمُحَاوَلَةِ أَخذِ الإِمرَةِ مِنَ الأُمَرَاءِ مَا دَامَتِ الأُمُورُ قَدِ انتَظَمَت لَهُم وَالأَمنُ مُستَتِبٌّ وَالدِّينُ قَائِمٌ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ المُنَازَعَةَ تُوجِبُ شَرًّا كَثِيرًا ، وَلا يَنتُجُ عَنهَا إِلاَّ الفِتَنُ وَالتَّفَرُّقُ بَينَ المُسلِمِينَ وَقَتلُ بَعضِهِم بَعضًا ، وَهَذَا مَا أَثبَتَهُ التَّأرِيخُ عَلَى مَدَى قُرُونٍ ، فَإِنَّهُ مُنذُ أَن عَمَدَ أَهلُ الفِتَنِ إِلى مُنَازَعَةِ الأَمرِ أَهلَهُ مِن عَهدِ عُثمَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ إِلى يَومِنَا هَذَا ، فَإِنَّ الأُمَّةَ لم تَزَلْ في فَسَادٍ وَفِتَنٍ وَحُرُوبٍ وَقَتلٍ وَهَرجٍ ، يُقَالُ هَذَا الكَلامُ ـ أَيُّهَا الإِخوَةُ ـ وَنَحنُ نَسمَعُ أَو يُنقَلُ إِلَينَا عَن بَعضِ مَن يَزعُمُونَ الإِصلاحَ في قَنَوَاتِهِم دَعَوتُهُم إِلى التَّظَاهُرِ وَالخُرُوجِ عَلَى وُلاةِ الأَمرِ ، وَتَاللهِ مَا أَرَادُوا الخَيرَ وَلا وُفِّقُوا لِلصَّوَابِ " وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمُونَ "
فَلْيَحذَرِ المُؤمِنُ التَّسَرُّعَ وَالتَّشَرُّفَ لِلفِتَنِ ، وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِن شَرِّهَا ، فَإِنَّ الفِتنَةَ إِذَا وَقَعَت أَكَلَتِ الأَخضَرَ وَاليَابِسَ ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِن الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ .
المشاهدات 6131 | التعليقات 7

أجزل الله لك الأجر والمثوبة وسدد على الخير خطاك


وحيا الله مرورك الكريم ـ أخي الشيخ عبدالله ـ وبارك في جهودك ونفع بك وسددك .


يكفي هذه الأحداث إيجابية أنها فضحت الفساد وهتكت أستار المفسدين وأظهرت عورات المتلاعبين بالأموال العامة ... فعليهم من الله ما يستحقون ونسأله تعالى أن يهيئ لأمة محمد رشدا ويولي عليها خيارها .


مرور الكرام;5789 wrote:
يكفي هذه الأحداث إيجابية أنها فضحت الفساد وهتكت أستار المفسدين وأظهرت عورات المتلاعبين بالأموال العامة ... فعليهم من الله ما يستحقون ونسأله تعالى أن يهيئ لأمة محمد رشدا ويولي عليها خيارها .

" وعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا " ورب ضارة نافعة ، وما زالت التظاهرات في مصر على أشدها ، فنسأل الله أن يحقن دماء إخواننا في مصر وأن يكفيهم شر من يصطادون في الماء العكر ، وأن يولي عليهم من يحكم بينهم بالعدل ويرحمهم .


نشكرك يا شيخ عبدالله على هذه الخطبة
وأنقل هنا أصولا ينطلق منها أهل السنة والجماعة في التعامل مع الحكام ؛ وهذه الأصول الأصيلة يمكن اعتبارها ردّاً إجمالياً على جميع الشبهات المثارة , فمن ضبط هذه الأصول والتزمها فقد اتضح له الحق وزالت عنه الكثير من الشبهات .

الأصل الأول:

المسلم مأمور بالتثبّت في ما يبلغه من الأخبار ، إذ ليست كلّ الدعاوى التي تُثار على حكام المسلمين صحيحة ؛ فيجب التأكّد من صحة الخبر
ولذلك فإنه يُقال :
إن الكثير من الشبه المثارة ما هي إلا دعاوى مجردة من البراهين .
تقريره
قال الله تعالى :
{ . . . إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }الحجرات6

* قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ( فتاواه 19/63 ) :
« يسمع خبر الفاسق ويتبين ويتثبت ؛ فلا يجزم بصدقه ولا كذبه إلا ببينة كما قال تعالى : (إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) . . . » انتهى .

* وقال - رحمه الله - ( فتاواه 15 / 308 ) :
« وأيضاً فإنه علّل ذلك بخوف الندم , والندم إنما يحصل على عقوبة البريء من الذنب , كما في سنن أبى داود ( ادرؤوا الحدود بالشبهات فإن الإمامَ أن يخطيءَ في العفو خير من أن يخطيءَ في العقوبة ) , فإذا دار الأمرُ بين أن يخطيء فيعاقب بريئاً أو يخطيء فيعفو عن مذنب ؛ كان هذا الخطأ خير الخطأين » انتهى .
* وقال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - ( تفسيره 4/245 ) :
« يأمر الله تعالى بالتثبُّت في خبر الفاسق ليُحتاط لـه , لئلا يُحكَم بقوله فيكون - في نفس الأمر - كاذباً أو مخطئاً » انتهى .
* وقال العلامة السعدي - رحمه الله - ( تفسيره ص 800 ) :
« وهذا أيضاً من الآداب التي على أولي الألباب التأدب بها واستعمالها ؛ وهو أنه إذا أخبرهم فاسق بخبر أن يتثبتوا في خبره فلا يأخذوه مجرداً ؛ فإن في ذلك خطراً كبيراً ووقوعاً في الإثم . . .
ففيه دليل على أن :
§ خبر الصادق مقبول ,
§ وخبر الكاذب مردود ,
§ وخبر الفاسق متوقف فيه » انتهى .

فائدة مهمة :
الآية وردت في خبر الفاسق , ومثله : خبر المجهول . وبيان ذلك من وجهين :

الوجه الأول :
أن المجهول يحتمل أن يكون فاسقاً . فصار الاحتياط : أن يتوقف قبولُ خبره على التثبت , كما يتوقف قبولُ خبر الفاسق على التثبت .

الوجه الثاني :
أن الله علّل للأمر بالتثبت بعلة هي : ألاّ نُصيبَ بالجهالة , والإصابة بالجهالة محتملة في خبر المجهول , كما هي محتملة في خبر الفاسق .

وهذان الوجهان يثبتان - بجلاء - خطأ من قصر الآية على من تبيّن فسقه ! فقال بقبول خبر كل من لم يكن فاسقاً ، كالمجهول !

الأصل الثاني:

أجمع أهل السنة على أنه : لا يجوز الخروج على وليّ الأمر ؛ إلا في حالة مواقعته للكفر البواح .

ولذلك فإنه يُقال :
إن الكثير من الشبه المثارة ما هي إلا معاصٍ لا تصل بفاعلها إلى حدّ الوقوع في الكفر ؛ والسبيل هو التعامل مع معاصي الحاكم وفق ما في الكتاب والسنة : من النصح , والدعاء بالصلاح , مع بقاء السمع والطاعة في كل ما يأمر به - عدا ما أمر به من المعاصي - .
تقريره
• قال الإمام النووي - رحمه الله - ( شرحه لصحيح مسلم ، جزء : 11 - 12 ، ص 432 ، تحت الحديث رقم : 4748 ، كتاب : الإمارة , باب : وجوب طاعة الأمراء . . . ) :
« . . . وأما الخروج عليهم وقتالهم : فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقةً ظالمين , وقد تظاهرت الأحاديث على ما ذكرته , وأجمع أهل السنة أنه : لا ينعزل السلطان بالفسق » انتهى .

* وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - ( الفتح 13/9 ، تحت الحديث رقم : 7054 ) :
« قال ابن بطال : وفي الحديث حجة على ترك الخروج على السلطان ولو جار , وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه , وأن طاعته خير من الخروج عليه ؛ لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء . وحجّتهم هذا الخبرُ وغيره مما يساعده , ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح » انتهى .

وموافقةً لهذا الإجماع :

* فقد قال الإمام ابن باز - رحمه الله - عن السعودية (فتاواه 4/91) « وهذه الدولة - بحمد الله - :
لم يصدر منها ما يوجب الخروج عليها , وإنما الذي يستبيح الخروج على الدولة بالمعاصي هم الخوارج الذين يكفرون المسلمين بالذنوب . . . » انتهى .

وقال - رحمه الله - ( فتاواه 8/202 ) :
« . . . فإذا أمروا بمعصيةٍ فلا يُطاعون في المعصية ؛ لكن لا يجوز الخروج عليهم بأسبابها . . . » انتهى .

وقال - رحمه الله - ( فتاواه 8/203 ) :
« . . . فهذا يدل على أنه لا يجوز لهم منازعة ولاة الأمور , ولا الخروج عليهم إلا أن يروا كفراً بواحاً عندهم من الله فيه برهان » انتهى .

وقال - رحمه الله - عمّن لا يرى وجوب البيعة لولاة الأمر في السعودية ( الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية ص 54 ، ط الأولى ) :
« . . . بل هذا من المنكرات العظيمة , بل هذا دين الخوارج .

هذا دين الخوارج والمعتزلة :
الخروج على ولاة الأمور وعدم السمع والطاعة لهم إذا وُجدتْ معصية » انتهى .

* وقال الإمام ابن عثيمين – رحمه الله – لما سئل عن بعض أنواع الرسوم التي تؤخذ من الحكومات هل هي من الضرائب ؟ ( الباب المفتوح 3/416 ، لقاء 65 ، سؤال 1465 ) :
« تعمّ كلّ شيء يؤخذ بلا حقّ ؛ فهو من الضرائب , وهو محرم . . .
ولكن على المسلم السمع والطاعة , وأن يسمع لولاة الأمور ويطيعهم , وإذا طلبوا مالاً على هذه المعاملات أعطاهم إياه . . .

ولا يجوز أن تُتّخذ مثل هذه الأمور وسيلةً إلى :
§ القدح في ولاة الأمور ,
§ وسبّهم في المجالس ,
§ وما أشبه ذلك » انتهى .

وقال – رحمه الله – ( شرح الواسطية 2/337 ، ط ابن الجوزي ) :
« . . . خلافاً للخوارج الذين يرون أنه لا طاعة للإمام والأمير إذا كان عاصياً ؛ لأن من قاعدتهم أن الكبيرة تُخرج من الملة » انتهى .

وقال – رحمه الله – ( شرح رياض الصالحين 4/514 ، ط الوطن ) :
« مهما فسق ولاة الأمور لا يجوز الخروج عليهم ؛ لو شربوا الخمر , لو زنوا , لو ظلموا الناس ؛ لا يجوز الخروج عليهم » انتهى .

وقال – رحمه الله – ( شرح رياض الصالحين 4/517 ، ط الوطن ) :
« وأما قول بعض السفهاء : إنه لا تجب علينا طاعة ولاة الأمور إلا إذا استقاموا استقامة تامة !
فهذا خطأ , وهذا غلط , وهذا ليس من الشرع في شيء ؛
بل هذا مذهب الخوارج :
الذين يريدون من ولاة الأمور أن يستقيموا على أمر الله في كل شيء . وهذا لم يحصل من زمن , فقد تغيرت الأمور » انتهى .

وقال – رحمه الله – ( شرح رياض الصالحين 5/269 ، ط الوطن ) :
« يجب علينا أن نسمع ونطيع وإن كانوا هم أنفسهم مقصرين ؛ فتقصيرهم هذا عليهم , عليهم ما حُمّلوا وعلينا ما حُمّلنا » انتهى .

وقال – رحمه الله – ( شرح رياض الصالحين 3/333 ، ط الوطن ) :
« ليس معنى ذلك أنه إذا أمر بمعصية تسقط طاعته مطلقاً !
لا . إنما تسقط طاعته في هذا الأمر المُعيّن الذي هو معصية لله , أما ما سوى ذلك فإنه تجب طاعته » انتهى .


الأصل الثالث:

ليس كلّ من وقع في الكفر أصبح كافراً ؛ إذ قد يوجد عند الواقع في الكفر ما يمنع من تكفيره .

ولذلك فإنه يقال :
إن بعض الأمور التي تثار على بعض حكام المسلمين هي من قبيل المكفّرات , ولكن ليس لأحدٍ أن يُعامل هذا الحاكم كما يُعامَل الحاكم الكافر ؛ حتى تُقام عليه الحُجّة . بحيث تتوفّر فيه شروط التكفير وتنتفي عنه موانعه .
تقريره
• قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ( فتاواه 16/434 ) :
« فليس كل مخطيء كافراً ؛ لا سيما في المسائل الدقيقة التي كثر فيها نزاع الأمة » انتهى .

وقال - رحمه الله - ( فتاواه 12/466 ) :
« وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط ؛ حتى :
§ تقام عليه الحجة ,
§ وتبين له المحجة ,
ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزُل ذلك عنه بالشكّ ؛ بل لا يزول إلا :
بعد إقامة الحجة , وإزالة الشبهة » انتهى .

وقال - رحمه الله - ( فتاواه 12/487 ) :
« . . . كلّما رأوهم قالوا : ( من قال كذا فهو كافر ) , اعتقد المستمع أن هذا اللفظ شامل لكلّ من قاله , ولم يتدبروا أن التكفير لـه شروط وموانع قد تنتفي في حق المُعَيّن , وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المُعَيّن إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع .

يُبيِّن هذا :
أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه » انتهى .
وقال - رحمه الله - عن مسائل التكفير ( فتاواه 23/348 ) :
« . . . ولكن المقصود هنا :
أن مذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل بين النوع والعين . . . » انتهى .

وقال - رحمه الله - ( فتاواه 12/500 ) :
« . . . فتكفير المُعيّن من هؤلاء الجهال وأمثالهم بحيث يُحكم عليه بأنه من الكفار ؛ لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يتبيّن بها أنهم مخالفون للرسل ؛ وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر .
وهكذا الكلام في تكفير جميع المُعيّنين . . . » انتهى .

* وقال الإمام الألباني - رحمه الله - ( الصحيحة ، تحت الحديث رقم : 3048 ) :
« ليس كل من وقع في الكفر - من المؤمنين - وقع الكفرُ عليه وأحاط به » انتهى .

* وقال الإمام ابن عثيمين - رحمه الله - ( الباب المفتوح 3/125 ، لقاء 51 ، سؤال 1222 ) :
« كلّ إنسان فعل مُكفِّراً فلا بدّ ألاّ يوجد فيه مانعٌ من موانع التكفير . . .
فلا بدّ من الكفر الصريح الذي لا يحتمل التأويل .
فإن كان يحتمل التأويل فإنه لا يُكفَّر صاحبُه وإن قلنا أنه كُفرٌ [3] ؛
فيُفرَّق بين : القول والقائل , وبين الفعل والفاعل ,
قد تكون الفعْلةُ فِسقاً ولا يُفسّق الفاعل لوجود مانع يمنع من تفسيقه ,
وقد تكون كفراً ولا يُكفّر الفاعل لوجود ما يمنع من تكفيره ,
وما ضرّ الأمة في خروج الخوارج إلا هذا التأويل . . .
ربما يفعل الإنسان فعلاً فِسقاً لا شكّ فيه لكنه لا يدري .
فإذا قلتَ يا أخي هذا حرام . قال : ( جزاك الله خيراً ) , وانتهى عنه .
إذاً : كيف أحكم على إنسان أنه فاسق دون أن تقوم عليه الحجة ؟
فهؤلاء الذين تُشير إليهم من حكام العرب والمسلمين :
قد يكونون معذورين لم تتبيَّن لهم الحجة ,
أو بُيِّنتْ لهم وجاءهم من يُلبِّسُ عليهم ويُشبِّه عليهم » انتهى .

وقال - رحمه الله - جواباً على سؤال : ( هل يعتبر الذين لا يحكمون القرآن والسنة ويحكمون الشرائع الفرنسية أو الإنجليزية كفاراً ؟ ) ,
( الباب المفتوح 1/24 ، لقاء 1 ، سؤال 31 ) :
« هذا يحتاج إلى النظر ؛
ما هو السبب الذي حملهم على هذا ؟
وهل أحدٌ غرَّهم ممن يدّعي العلم وقال أن هذا لا يخالف الشرع ؟
أم ماذا ؟ . .
فالحكم في هذه المسألة لا يمكن إلا على كل قضيةٍ بعينها » انتهى .

فائدة :
شروط التكفير أربعةٌ , تقابلها أربعٌ من الموانع ؛ وهي :
1. توفر العلم وانتفاء الجهل .
2. وتوفر القصد وانتفاء الخطإ .
3. وتوفر الاختيار وانتفاء الإكراه .
4. وانعدام التأويل السائغ , والمانع المقابل له هو : وجود التأويل السائغ .


الأصل الرابع:

الخروج على الحاكم الكافر ليس على إطلاقه ؛ بل هو مشروط بـ :
1. القدرة على إزالته ,
2. مع إحلال مسلمٍ مكانه ,
3. بحيث لا تترتّب على هذا الخروج مفسدة أعظم من مفسدة بقاء الكافر .
ولذلك فإنه يقال :
ليس كل من وقع في الكفر وأصبح كافراً - من حكام المسلمين - جاز الخروج عليه .

فائدة :
* قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - مُشيراً إلى شيءٍ من التلازم بين الخروج والمفسدة ( المنهاج 3/391 ) :
« ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته » انتهى .
تقريره
* قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - عن الحاكم الكافر ( الفتح 13/9 ، تحت الحديث رقم : 7054 ) :
« . . . فلا تجوز طاعته في ذلك , بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها » انتهى .

* وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ( الصارم 2/413 ) :
« فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف , أو في وقت هو فيه مستضعف ؛ فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين . وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين , وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون » انتهى .

* وقال الإمام ابن باز - رحمه الله - ( فتاواه 8/203 ) :
« . . . إلا إذا رأى المسلمون كفراً بواحاً عندهم من الله فيه برهان : فلا بأس أن يخرجوا على هذا السلطان لإزالته إذا كان عندهم قدرة , أما إذا لم يكن عندهم قدرة : فلا يخرجوا . أو كان الخروج يُسبّب شراً أكثر : فليس لهم الخروج ؛ رعايةً للمصالح العامة .
والقاعدة الشرعية المُجمع عليها أنه ( لا يجوز إزالة الشرّ بما هو أشرّ منه ) ؛ بل يجب درء الشرّ بما يزيله أو يُخفّفه . أما درء الشرّ بشرٍّ أكثر : فلا يجوز بإجماع المسلمين .
فإذا كانت هذه الطائفة - التي تريد إزالة هذا السلطان الذي فعل كفراً بواحاً - عندها قدرة تزيله بها وتضع إماماً صالحاً طيباً من دون أن يترتب على هذا فساد كبير على المسلمين وشرّ أعظم من شرّ هذا السلطان : فلا بأس ,
أما إذا كان الخروج يترتب عليه فساد كبير واختلال الأمن وظلم الناس واغتيال من لا يستحقّ الاغتيال إلى غير هذا من الفساد العظيم : فهذا لا يجوز . . . » انتهى .

* وقال الإمام ابن عثيمين - رحمه الله - عن الخروج على الحاكم الكافر ( الباب المفتوح 3/126 ، لقاء 51 ، سؤال 1222 ) :
« إن كنّا قادرين على إزالته : فحينئذٍ نخرج ,
وإذا كنّا غير قادرين : فلا نخرج ؛
لأن جميع الواجبات الشرعية مشروطةٌ بالقدرة والاستطاعة .
ثم إذا خرجنا فقد يترتب على خروجنا مفسدة أكبر وأعظم مما لو بقي هذا الرجل على ما هو عليه .
لأننا خرجنا ثم ظهرت العِزّةُ له ؛ صِرْنا أذِلّة أكثر , وتمادى في طغيانه وكفره أكثر .

فهذه المسائل تحتاج إلى : تعقُّلٍ , وأن يقترن الشرعُ بالعقل , وأن تُبعد العاطفة في هذه الأمور , فنحن محتاجون للعاطفة لأجل تُحمِّسنا , ومحتاجون للعقل والشرع حتى لا ننساق وراء العاطفة التي تؤدي إلى الهلاك » انتهى .
وقال - رحمه الله - ( شرح رياض الصالحين 4/515 ، ط الوطن ) :
« . . . فقولوا ثلاثة شروط , وإن شئتم فقولوا أربعة :
1. أن تروا ,
2. كفراً ,
3. بواحاً ,
4. عندكم من الله فيه برهان ؛ هذه أربعة شروط .
وإذا رأينا هذا - مثلاً - : فلا تجوز المنازعة حتى تكون لدينا قدرة على إزاحته ,
فإن لم يكن لدينا قدرة : فلا تجوز المنازعة ؛ لأنه ربما إذا نازعنا - وليس عندنا قدرة - يقضي على البقية الصالحة , وتتمّ سيطرته .

فهذه الشروط شروط للجواز أو للوجوب - وجوب الخروج على ولي الأمر - ؛ لكن بشرط أن يكون لدينا قدرة , فإن لم يكن لدينا قدرة : فلا يجوز الخروج ؛ لأن هذا من إلقاء النفس في التهلكة .

أيّ فائدة إذا خرجنا على هذا الوالي - الذي رأينا عنده كفراً بواحاً عندنا من الله فيه برهان - ونحن لا نخرج إليه إلا بسكين المطبخ وهو معه الدبابات والرشاشات ؟
لا فائدة ! ومعنى هذا أننا خرجنا لنقتل أنفسنا !

نعم لا بدّ أن نتحيّل بكلّ حيلة على القضاء عليه وعلى حكمه , لكن بالشروط الأربعة التي ذكرها النبي - عليه الصلاة والسلام - : ( أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان ) »

منقول


بورك فيك ـ أخي الشيخ مازن ـ وجزيت خيرًا على هذا النقل الموفق ، ولا شك أن الأمة بعد ما حصل في تونس ومصر ، وما نراه الآن في جهات أخرى كالجزائر واليمن من تظاهرات ، لا شك أنهم يحتاجون إلى مثل هذا التأصيل الشرعي قبل أن يقعوا فيما وقع فيه الإخوة في ذينك القُطرين ؛ ليكونوا على بينة من أمرهم قبل أن يقدموا على ما قد تكون نهايته أسوأ مما كانوا عليه ، في حين أنهم لو اتبعوا طريقة شرعية واحتسبوا على ولاتهم ومسؤوليهم ، وأحيوا شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وسعوا للإصلاح بالدعوة إلى الله على بصيرة وبطرق أذكى ، لوصلوا إلى ما يهدفون إليه ، أو لحققوا على الأقل نسبة كبيرة من أهدافهم ولم يخسروا كثيرًا .
فالاستعجال كثيرًا ما تكون نتائجه في النهاية على غير ما توقعه صاحبه .
ولا شك أن هذا التأصيل يؤكد عليه قبل أن تقع الفتنة ، وأما إذا وقعت فلن ينفع مثل هذا الكلام كثيرًا كما هي التجارب والواقع ، وإنما يقال إذ ذاك : ( لكل حادث حديث ) ، وقد لا ينفع اللوم حينها أو اجترار ما كان ينبغي أن يكون ، وإنما يجد كل أحد نفسه ملزمًا بالمشاركة بما يحقق أكبر قدر من المصلحة ويقضي على ما يتوقع من مفاسد .
نسأل الله أن يفقه المسلمين في دينهم ، وأن يرزقهم البصيرة ، ويهيئ لهم من أمرهم رشدًا .


شكر الله لكم هذا الجهد ووفقكم الله لما يحبّ ويرضى