خطبة :( على الباغي تدور الدوائر )

عبدالله البصري
1432/02/17 - 2011/01/21 04:28AM
على الباغي تدور الدوائر 17 / 2 / 1432

الخطبة الأولى :


أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، العَدلُ أَسَاسُ عِمَارَةِ الكَونِ ، بِهِ صَلاحُ العِبَادِ وَحَيَاةُ البِلادِ ، وَعَلَيهِ قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ ، وَمِن أَجلِهِ أَرسَلَ اللهُ الرُّسُلَ وَأَنزَلَ الكُتُبَ ، وَلِتَثبِيتِهِ وَإِرسَائِهِ أَمَدَّ ـ سُبحَانَهُ ـ النَّاسَ بِالقُوَّةِ " لَقَد أَرسَلنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنزَلنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسطِ وَأَنزَلنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعلَمَ اللهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالغَيبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ "
وَاللهُ ـ سُبحَانَهُ ـ هُوَ الحَكَمُ العَدلُ ، لا يَحكُمُ إِلاَّ بِالحَقِّ ، وَلا يَقُولُ إِلاَّ الحَقَّ ، وَلا يَقضِي إِلاَّ بِالحَقِّ ، وَقَد أَمَرَ ـ سُبحَانَهُ ـ بِالعَدلِ وَالإِحسَانِ ، وَنَهَى عَنِ الظُّلمِ وَالطُّغيَانِ ، وَحَرَّمَ الظُّلمَ عَلَى نَفسِهِ وَعَلَى عِبَادِه ، قَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " إِنَّ اللهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُربى وَيَنهَى عَنِ الفَحشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالبَغيِ "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُم أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلى أَهلِهَا وَإِذَا حَكَمتُم بَينَ النَّاسِ أَن تَحكُمُوا بِالعَدلِ "
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلعَبِيدِ "
وَقَالَ في الحَدِيثِ القُدسِيِّ الَّذِي رَوَاهُ مُسلِمٌ : " يَا عِبَادِي ، إِنِّي حَرَّمتُ الظُّلمَ عَلَى نَفسِي وَجَعَلتُهُ بَينَكُم مُحَرَّمًا فَلا تَظَالَمُوا "
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " اتَّقُوا الظُّلمَ فَإِنَّ الظُّلمَ ظُلُمَاتٌ يَومَ القِيَامَةِ " أَخرَجَهُ مُسلِمٌ .

وَكَمَا أَمَرَ ـ تَعَالى ـ عِبَادَهُ بِالعَدلِ في الأَحكَامِ وَالأَفعَالِ ، فَقَد أَوجَبَ عَلَيهِمُ العَدلَ في الأَقوَالِ فَقَالَ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَو عَلَى أَنفُسِكُم أَوِ الوَالِدَينِ وَالأَقرَبِينَ إِنَّ يَكُنْ غَنِيًّا أَو فَقِيرًا فَاللهُ أَولى بهمَا فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعدِلُوا "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَإِذَا قُلتُم فَاعدِلُوا وَلَو كَانَ ذَا قُربى وَبِعَهدِ اللهِ أَوفُوا "
بَل إِنَّهُ في الحَالِ الَّتي تَبغِي فِيهَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤمِنِينَ عَلَى أُخرَى ، فَإِنَّ الإِصلاحَ بَينَهُمَا يَجِبُ أَن يَكُونَ بِالقِسطِ وَالعَدلِ ، بِلا جَورٍ عَلَى الطَّائِفَةِ الظَّالمةِ وَلَو جَارَت وَتَجَاوَزتَ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤمِنِينَ اقتَتَلُوا فَأَصلِحُوا بَينَهُمَا فَإِن بَغَت إِحدَاهُمَا عَلَى الأُخرَى فَقَاتِلُوا الَّتي تَبغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمرِ اللهِ فَإِن فَاءَت فَأَصلِحُوا بَينَهُمَا بِالعَدلِ وَأَقسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقسِطِينَ "
بَل وَمِمَّا هُوَ أَبلَغُ مِن ذَلِكَ وَأَظهَرُ في مَحَبَّتِهِ ـ سُبحَانَهُ ـ لِلعَدلِ أَن أَوجَبَهُ عَلَى المُؤمِنِينَ حَتَّى مَعَ أَعدَائِهِم ، فَقَالَ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالقِسطِ وَلا يَجرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَومٍ عَلَى أَلاَّ تَعدِلُوا اعدِلُوا هُوَ أَقرَبُ لِلتَّقوَى وَاتَّقُوا اللهَ "

وَإِذَا كَانَ العَدلُ مَطلُوبًا مِن جَمِيعِ النَّاسِ مَعَ بَعضِهِم ، وَعَلَيهِ تَقُومُ حَيَاتُهُم وَتُبنى مَصَالِحُهُم ، فَإِنَّهُ لا أَجمَلَ مِنَ العَدلِ إِذَا جَاءَ مِمَّن هُوَ قَادِرٌ عَلَى الظُّلمِ ، نَعَم ، لا أَكمَلَ مِن عَدلِ الأَئِمَّةِ وَالوُلاةِ ، وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لِمَا يُنزِلُهُ اللهُ ـ تَعَالى ـ بِسَبَبِ عَدلِهِم مِنَ الخَيرِ وَالبَرَكَةِ ، وَلِمَا يَبُثُّهُ عَلَى أَيدِيهِم إِن عَدَلُوا مِن أَمنٍ في البِلادِ وَطُمَأنِينَةٍ في قُلُوبِ العِبَادِ ، وَمِن ثَمَّ فَقَد بَيَّنَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَضِيلَةَ الإِمَامِ العَادِلِ ، وَأَخبَرَ عَمَّا أَعَدَّهُ ـ سُبحَانَهُ ـ لَهُ مِنَ الأَجرِ في أَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةٍ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " سَبعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ ، يَومَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ : إِمَامٌ عَادِلٌ " الحَدِيثَ ، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ ،
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " ثَلاثَةٌ لا تُرَدُّ دَعوَتُهُم : الإِمَامُ العَادِلُ ، وَالصَّائِمُ حَتى يُفطِرَ ، وَدَعوَةُ المَظلُومِ " الحَدِيثَ رَوَاهُ أَحمَدُ وَصَحَّحَهُ أَحمَدُ شَاكِر .
وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " المُقسِطُونَ عِندَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِن نُورٍ عَن يَمِينِ الرَّحمَنِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ في بَعضِ خُطَبِهِ : " أَصحَابُ الجَنَّةِ ثَلاثَةٌ : إِمَامٌ مُقسِطٌ مُصَّدِّقٌ مُوَفَّقٌ ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ القَلبِ بِكُلِّ ذِي قُربى وَمُسلِمٍ ، وَرَجُلٌ عَفِيفٌ فَقِيرٌ مُصَّدِّقٌ " رَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
بَل لَقَد عَدَّ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ إِجلالَ الإِمَامِ العَادِلِ مِن إِجلالِ اللهِ ـ تَعَالى ـ وَتَعظِيمِهِ فقَالَ : " إِنَّ مِن إِجلالِ اللهِ إِكرَامَ ذِي الشَّيبَةِ المُسلِمِ ، وَحَامِلِ القُرآنِ غَيرِ الغَالي فِيهِ وَلا الجَافي عَنهُ ، وَإِكرَامَ ذِي السُّلطَانِ المُقسِطِ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ .
وَفي المُقَابِلِ فَقَد عَدَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ الظَّلَمَةَ المُتَسَلِّطِينَ مِن أَهلِ النَّارِ فَقَالَ : " صِنفَانِ مِن أَهلِ النَّارِ لم أَرَهُمَا : قَومٌ مَعَهُم سِيَاطٌ كَأَذنَابِ البَقَرِ يَضرِبُونَ بها النَّاسَ ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلاتٌ مَائِلاتٌ " الحَدِيثَ ، أَخرَجَهُ مُسلِمٌ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّهُ لَمَّا عَمَّ العَدلُ في الرَّعِيلِ الأَوَّلِ مِن أَئِمَّةِ المُسلِمِينَ ، كَانَتِ المَحَبَّةُ بَينَ المُسلِمِينَ سَائِدَةً ، وَالخَيرَاتُ في الرَّعِيَّةِ نَازِلَةً ، وَالبَرَكَاتُ في المُجتَمَعاتِ مَلحُوظَةً ، لَقَد كَانَ أُولَئِكَ الرَّعِيلُ الأَوَّلُ مِنَ الوُلاةِ وَالأُمَرَاءِ عَلَى خَيرِ مَا كَانَ صَاحِبُ وِلايَةٍ ، عَدَلُوا بَينَ النَّاسِ في القَضَايَا ، وَسَاوَوا بَينَهُم في العَطَايَا ، حَفِظُوا لِرَعَايَاهُم حُقُوقَهُم وَأَعطَوهُم مَا لَهُم ، فَبَادَلَهُمُ النَّاسُ حُبًّا بِحُبٍّ وَعَدلاً بِعَدلٍ ومَحَضُوهُم أَنفُسَهُم ، وَبَذَلُوا لَهُم ثَمَرَةَ قُلُوبِهِم وَمُهَجَ أَفئِدَتِهِم ، فَأَعطَوهُم مَا لَهُم مِن حَقِّ السَّمعِ وَالطَّاعَةِ ، وَنَصَحُوا لَهُم وَدَافَعُوا عَنهُم بِأَروَاحِهِم وَأَجسَادِهِم ، فَكَانَتِ الدَّولَةُ الإِسلامِيَّةُ ظَاهِرَةً مَنصُورَةً ، مَرفُوعَةَ الرَّايَاتِ عَالِيَةَ الرُّؤُوسِ ، وَلَمَّا تَوَلَّتِ القُرُونُ المُفَضَّلَةُ الأُولى ، كَانَتِ الدُّوَلُ مَعَ رَعَايَاهَا في مَدٍّ وَجَزرٍ ، وَاختَلَفَ الأُمَرَاءُ وَالوُلاةُ عَدلاً وَجَورًا ، فَكَانَ مِنهُمُ الخَيِّرُونَ العَادِلُونَ سِنِينَ عَدَدًا ، وَكَانَ مِنهُمُ الأَشرَارُ الظَّالِمُونَ عُقُودًا وَمُدَدًا ، وَمِن ثَمَّ اختَلَفَت حَالُ الدَّولَةِ الإِسلامِيَّةِ قُوَّةً وَضَعفًا ، وَتَبَايَنَت أَوضَاعُهَا غَلَبَةً وَانهِزَامًا ، حَتَّى وَصَلَ النَّاسُ إِلى هَذَا العَصرِ الَّذِي اشتَدَّت فِيهِ غُربَةُ الدِّينِ ، وَابتُعِدَ كَثِيرًا عَنِ الحُكمِ بما أَنزَلَهُ رَبُّ العَالمِينَ ، فَأَصبَحَ كَثِيرٌ مِنَ المُسلِمِينَ يَعِيشُونَ غُربَةً وَهُم في أَوطَانِهِم وَبَينَ أَهلِيهِم وَإِخوَانِهِم ، حُورِبُوا في دِينِهِم ، وَاستُبِيحَت حُرُمَاتُهُم ، وَتُجُسِّسَ عَلَيهِم في عِبَادَاتِهِم ، وَرُوقِبَت حَرَكَاتُهُم وَسَكَنَاتُهُم ، وَفُرِضَت عَلَيهِم عَادَاتُ الكُفَّارِ فَرضًا ، وأُطِرُوا عَلَى البَاطِلِ أَطرًا ، وجُوِّعُوا بَعدَ ذَلِكَ وَاسَتُؤثِرَ بِالأَموَالِ دُونَهُم ، وَهُضِمُوا حُقُوقَهُم وَضُيِّقَ عَلَيهِم في أَرزَاقِهِم ، فَعَاشُوا مُصِيبَتَينِ عَظِيمَتَينِ تَعَوَّذَ مِنهُمَا النَّبيُّ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ مُصِيبَةُ الإِبعَادِ عَنِ الدِّينِ ، وَمُصِيبَةُ الفَقرِ وَالقِلَّةِ ، نَعَم ، لَقَد عَاشَت كَثِيرٌ مِنَ الشُّعُوبِ الإِسلامِيَّةِ غُربَةً شَدِيدَةً ، وَاقتَادَهُمُ الحُكَّامُ الظَّلَمَةُ بِالقُوَّةِ وَالقَسوَةِ ، حَتَّى عَادَ المَظلُومُ يَصرُخُ فَلا يَجِدُ مُجِيبًا ، وَحَتَّى عَادَ المَلهُوفُ يَستَغِيثُ فَلا يَلقَى مُغِيثًا ، فَنَشَأَت فَجوَةٌ سَحِيقَةٌ بَينَ الحُكَّامِ وَالشُّعُوبِ ، جَعَلَت تِلكَ الشُّعُوبَ تَفُورُ غَلَيَانًا ، فَلَم يُستَنكَرْ أَن تَخذُلَ حُكَّامَهَا مَرَّةً بَعدَ أُخرَى ، وَأَصبَحَ مِنَ الطَبِيعِيِّ أَن تَتَحَوَّلَ تِلكَ الجَمَاهِيرُ مِن وَلائِهَا لرَئِيسِهَا الأَوَّلِ ، وَتُسرِعَ بِالوَلاءِ لِمَن يَنقَلِبُ عَلَيهِ ، وَأَصبَحَ النَّاسُ يَألَفُونَ مَنظَرًا لا تَقبَلُهُ العُقُولُ الرَّاجِحَةُ وَلا تَستَسِيغُهُ الفِطَرُ السَّلِيمَةُ ، فَضلاً عَنِ الدِّيَانَةِ وَمَحَاسِنِ الأَخلاقِ وَدَوَاعِي المُرُوءَةِ ، إِنَّهُ مَنظَرُ ذَلِكَ الرَّئِيسِ المُتَبَجِّحِ المُتَكَبِّرِ الظَّالِمِ ، تَهتَزُّ لأَمرِهِ القُلُوبُ ، وَتَرتَعِدُ لِنَهيِهِ الأَفئِدَةُ ، وَيَخطُبُ الكَثِيرُونَ وُدَّهُ خَوفًا مِن بَطشِهِ وَسُلطَتِهِ ، وَيَتَلَمَّسُونَ رِضَاهُ خَشيَةَ عُقُوبَتِهِ وَنِقمَتِهِ ، وَتَأتي أَفوَاجُ المُتَزَلِّفِينَ إِلَيهِ فَتَركَعُ بَينَ يَدَيهِ ، وَتُحَيِّيهِ في الشَّوَارِعِ وَتَهتِفُ بِاسمِهِ في السَّاحَاتِ ، وَلا تَألُو في التَّقَرُّبِ إِلَيهِ بِكُلِّ وَسَائِلِ التَّقَرُّبِ ، ثُمَّ لا يُفَاجَأُ وَدُونَ سَابِقِ إِنذَارٍ ، إِلاَّ وَتِلكَ الشُّعُوبُ الهَادِئَةُ الوَادِعَةُ ، تَتَحَوَّلُ بَينَ عَشِيَّةٍ وَضُحَاهَا إِلى أُسُودٍ ثَائِرَةٍ وَوُحُوشٍ كَاسِرَةٍ ، وَتَنقَلِبُ بُحُورًا مِنَ الغَضَبِ هَادِرَةً مَائِرَةً ، فَتَرمِيهِ بِحُمَمٍ مِن غَيظِهَا ، وَتَصُبُّ عَلَيهِ جَامَّ غَضَبِهَا ، فَإِذَا الَّذِي كَانَ بِالأَمسِ يُهَدِّدُ وَيَتَوَعَّدُ ، يَستَجدِي رَعِيَّتَهُ أَن يُخَفِّفُوا مِن ثَورَتِهِم عَلَيهِ وَيَعُودُوا إِلى رُشدِهِم ، وَلَكِنْ هَيهَاتَ وَقَد فَاتَ الأَوَانُ وَتَخَلَّى الجَمِيعُ عَنهُ ، لَقَد أَبعَدَ الظُّلمُ عَنهُ كُلَّ الأَصدِقَاءِ ، وَلم يُبقِ الجَورُ لَهُ أَعوَانًا وَلا أَولِيَاءَ أَوفِيَاءَ ، وَفَرَّقتِ المَصلَحَةُ عَنهُ كُلَّ مُنَافِقٍ كَانَ يَتَقَرَّبُ إِلَيهِ مِن أَجلِهَا ، فَمَضَى إِلى عَالِمِ الضَّيَاعِ وَحِيدًا ، وَخَرَجَ مِن بَلَدِهِ مُشَرَّدًا طَرِيدًا ، لا تَذكُرُهُ الأَلسِنَةُ بِخَيرٍ وَلا تُثني عَلَيهِ ، وَلا تَأَسَى عَلَيهِ القُلُوبُ وَلا تَأَسَفُ عَلَيهِ الشُّعُوبُ ، لَكِنَّهَا أَنَّاتٌ المَظلُومِينَ تُنَغِّصُ عَلَيهِ عَيشَهُ ، وَدَعَوَاتُهُم تُطَارِدُهُ قَائِمًا قَاعِدًا ، وَلَعَنَاتُهُم تُلاحِقُهُ حَيًّا وَقَد لا تَنقَطِعُ عَنهُ مَيِّتًا ، فَسُبحَانَ مَن أَحيَا بِالعَدلِ القُلُوبَ وَأَنَارَ بِهِ الصُّدُورَ ، فَانشَرَحَت لأَئِمَّةِ العَدلِ وَأَحَبَّتهُم ، وَوَالَتهُم وَأَطَاعَتهُم وَدَعَت لَهُم ، وَضَيَّقَ بِالظُّلمِ صُدُورَ المَظلُومِينَ وَقَسَّى بِهِ قُلُوبَهُم ، فَلَعَنُوا وُلاةَ الجَورِ وَأَبغَضُوهُم وَقَاتَلُوهُم ، وَصَدَقَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ حَيثُ قَالَ : " خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُم وَيُحِبُّونَكُم ، وَيُصَلُّونَ عَلَيكُم وَتُصَلُّونَ عَلَيهِم ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبغِضُونَهُم وَيُبغِضُونَكُم ، وَتَلعَنُونَهُم وَيَلعَنُونَكُم " الحَدِيثَ ، رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ .

أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " وَلا تَحسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعمَلُ الظَّالمونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُم لِيَومٍ تَشخَصُ فِيهِ الأَبصَارُ . مُهطِعِينَ مُقنِعِي رُؤُوسِهِم لا يَرتَدُّ إِلَيهِم طَرفُهُم وَأَفئِدَتُهُم هَوَاءٌ . وَأَنذِرِ النَّاسَ يَومَ يَأتِيهِمُ العَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَم تَكُونُوا أَقسَمتُم مِن قَبلُ مَا لَكُم مِن زَوَالٍ . وَسَكَنتُم في مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُم وَتَبَيَّنَ لَكُم كَيفَ فَعَلنَا بِهِم وَضَرَبنَا لَكُمُ الأَمثَالَ . وَقَد مَكَرُوا مَكرَهُم وَعِندَ اللهِ مَكرُهُم وَإِن كَانَ مَكرُهُم لِتَزُولَ مِنهُ الجِبَالُ . فَلا تَحسَبَنَّ اللهَ مُخلِفَ وَعدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ "



الخطبة الثانية :


أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقوا اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، في ظِلِّ العَدلِ يَعِيشُ الإِنسَانُ آمِنًا في سِربِهِ ، مُطمَئِنًّا عَلَى أَهلِهِ وَمَالِهِ ، عَابِدًا رَبَّهُ في هُدُوءِ نَفسٍ وَرَاحَةِ بَالٍ ، مُؤَدِّيًا شَعَائِرَ دِينِهِ بِحُرِّيَّةٍ تَامَّةٍ ، يُعطِي مَا عَلَيهِ كَامِلاً ، وَيَأخُذُ مَا لَهُ وَافيًا ، وَمِن ثَمَّ يَشعُرُ بِانتِمَائِهِ الحَقِيقِيِّ لِمُجتَمَعِهِ الَّذِي يَعِيشُ فِيهِ ، وَفي ظِلِّ هَذَا الانتِمَاءِ يَعِيشُ المُجتَمَعُ مَتِينًا مُتَمَاسِكًا ، شَدِيدًا عَلَى الأَعدَاءِ عَصِيًّا عَلَى المُتَرَبِّصِينَ ، لا يَستَطِيعُ النَّيلَ مِنهُ أَحَدٌ بِسُهُولَةٍ ؛ لأَنَّ كُلَّ فَردٍ فِيهِ يَعلَمُ أَنَّهُ إِنْ لم يُدَافِعْ عَن مُجتَمَعِهِ ، فَإِنَّ الأَعدَاءَ سَيَسُومُونَهُ الذُّلَّ وَالهَوَانَ ، وَمِن ثَمَّ يَقِفُ كُلُّهُ في مُوَاجَهَةِ أَيِّ تَجَاوُزٍ لِلنِّظَامِ أَو خُرُوجٍ عَلَى الأَحكَامِ ، وَأَمَّا حِينَ يَنتَشِرُ الظُّلمُ وَتَعُمُّ الأَثَرَةُ ، وَلا يَجِدُ صَاحِبُ الحَقِّ مَلاذًا ، فَإِنَّ الفَردَ لا يَشعُرُ لِذَلِكَ المُجتَمَعِ بِأَيِّ انتِمَاءٍ ، وَمِن ثَمَّ يَعِيشُ المُجتَمَعُ مُتَنَافِرًا مُتَبَاغِضًا ، يَتَحَيَّنُ كُلَّ فُرصَةٍ لِلإِيقَاعِ بِكُبَرَائِهِ ، وَيَفرَحُ بِكُلِّ صَيحَةٍ عَلَيهِم لَعَلَّهَا تَكُونُ المُخَلِّصَةَ لَهُ مِمَّا يُعَانِيهِ مِن ظُلمٍ ، وَمِن ثَمَّ يَهُونُ عَلَى الأَعدَاءِ اجتِذَابُهُ إِلَيهِم .

إِنَّ الدَّولَةَ في الإِسلامِ لم تَكُنْ يَومًا هِيَ المَسؤُولَةَ وَحدَهَا عَنِ الأَمنِ وَأَخذِ النَّاسِ بِالنِّظَامِ ، غَيرَ أَنَّهَا بِعَدلِهَا في الرَّعِيَّةِ وَحُكمِهَا بِالسَّوِيَّةِ ، أَشعَرَت كُلَّ وَاحِدٍ مِنهُم بِأَنَّ هَذَا المُجتَمَعَ مُجتَمَعُهُ ، وَأَنَّهُ يَستَحِقُّ أَن يَعِيشَ فِيهِ وَيَنتَمِيَ إِلَيهِ وَيُدَافِعَ عَنهُ ، وَلَقَد فَهِمَتِ الرَّعِيَّةُ في المُجتَمَعِ المُسلِمِ المَحكُومِ بِالعَدلِ قَولَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " اُنصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَو مَظلُومًا " فَرَدُّوا الظَّالِمَ عَن ظُلمِهِ ، وَأَخَذُوا لِلمَظلُومِ حَقَّهُ ، فَنَصَرَ بَعضُهُم بَعضًا ، وَعَاشُوا مُتَوَاصِينَ بِالحَقِّ مُتَوَاصِينَ بِالصَّبرِ ، مُلتَزِمِينَ بِالنَّصِيحَةِ مُقَاوِمِينَ لِلمُنكَرَاتِ ، فَأَفلَحُوا بِذَلِكَ وَأَخرَجُوا أَنفُسَهُم مِنَ الخُسرَانِ الَّذِي مُنِيَ بِهِ كَثِيرٌ مِن بَني الإِنسَانِ .

وَإِنَّ أَشَدَّ مَا يَجِبُ أَن تَحذَرَهُ الأُمَّةُ اليَومَ وَتَخَافَهُ تحقيقًا لِلعَدلِ وَاجتِنَابًا لِلظُّلمِ ، مَا بُلِيَت بِهِ مِن ثَنَاءِ المُنَافِقِينَ الكَاذِبِ وَقَلبِهِم لِلحَقَائِقِ ، وَمُحَاوَلَتِهِم تَغيِيبَ الوُلاةِ عَنِ الوَاقِعِ ، وَآخَرُونَ مِن وَرَائِهِم مِن بِطَانَةِ سُوءٍ فَاسِدَةٍ ، تَحُولُ بَينَ الوُلاةِ وَبَينَ الاستِمَاعِ لِنَصَائِحِ الأُمَنَاءِ المُخلِصِينَ وَشَكَاوَى المَظلُومِينَ .

وَإِنَّ مَا يَحدُثُ اليَومَ في بِلادٍ عَدِيدَةٍ مِن ثَورَاتٍ عَارِمَةٍ تَعصِفُ بِرُؤَسَاءِ الدُّوَلِ وَتُسقِطُ عُرُوشَهُم ، وَتَقتَلِعُهُم مِن كَرَاسِيِّهِم وَتَطرُدُهُم مِن أَوطَانِهِم شَرَّ طِردَةٍ ، إِنَّهَا لَتُؤَكِّدُ لِمَن كَانَ لَهُ قَلبٌ أَنَّ القُوَّةَ للهِ وَحدَهُ ، بِيَدِهِ المُلكُ يُؤتِيهِ مَن يَشَاءُ وَيَنزِعُهُ ممَّن يَشَاءُ ، وَيُعِزُّ مَن يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَن يَشَاءُ ، وَأَنَّ مَرتَعَ الظُّلمِ وَخِيمٌ وَعَاقِبَتَهُ سَيِّئَةٌ ، عَن أَبي مُوسَى ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " إِنَّ اللهَ لَيُملِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لم يُفلِتْهُ " قَالَ : ثُمَّ قَرَأَ " وَكَذَلِكَ أَخذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ " أَخرَجَهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ ، وَفي الحَدِيثِ القُدسِيِّ الَّذِي أَخرَجَهُ البُخَارِيُّ : " مَن عَادَى لي وَلِيًّا فَقَد آذَنتُهُ بِالحَربِ "
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ " ثَلاثُ دَعَوَاتٍ مُستَجَابَاتٌ : دَعوَةُ المَظلُومِ ، وَدَعوَةُ المُسَافِرِ ، وَدَعوَةُ الوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ " فَاتَّقُوا اللهَ وَانصَحُوا لِمَن وَلاَّهُ اللهُ أَمرَكُم ، وَمُرُوا بِالمَعرُوفِ وَانهُو عَنِ المُنكَرِ ، وَاعدِلُوا فِيمَا بَينَكُم يُوَلِّ اللهُ عَلَيكُم خِيَارَكُم .
المشاهدات 4994 | التعليقات 5

ما شاء الله تبارك الله ...
لقد أجدت وأحسنت ونصحت خطيبنا المبارك
وفقك الله وسدد خطاك


[align=justify]
وإياك وفق الله وجزاك خيرًا ـ أخي الشيخ عبدالعزيز ـ ونسأل الله أن يوفق ولاة أمر المسلمين جميعًا للعدل في رعاياهم والحكم بما أنزل الله ؛ لتسود المحبة بينهم ويؤدي بعضهم حق بعض فيؤجروا ، ولا يضطروا للخروج عليهم أو قتل أنفسهم غيظًا وقهرًا فيأثم الجميع .
[/align]


وخذوا من الأدب هذه النصوص للإثراء :


** قال بعض السلف: دعوتان أرجو إحداهما كما أخشى الأخرى : دعوة مظلوم أعنته ، ودعوة ضعيف ظلمته .

** قال بعضهم :

قضى الله أن البغي يصرع أهله ... وأن على الباغي تدور الدوائر

** وقال بعضهم في وصف دعوة مظلوم وما أجمله !! :

وسارية لم تسر في الليل تبتغي ... مناخاً ولم يقصر لها القيد مانع
تسير وراء الليل والليل ضارب ... بأكنافه فيه سمير وهاجع
إذا وردت لم يردد الله وفدها ... على أهلها والله راء وسامع
سرت حيث لا تجري الرياح ولم تنخ ... لورد ولم يقطع بها البيد قاطع
تفتح أبواب السموات دونها ... إذا قرع الأبواب منهن قارع
وإني لأرجو الله حتى كأنني ... أرى بجميل الظن ما الله صانع

** وقال أبو العلاء :
نَطّقتُ حَيّاً نَيّراً، فاعذِري
مَن نَطّقَ النّيّرَ، أوْ لومي
سَلي عن الخيرِ، فعَهدي بهِ،
معَ التّقَصّي، غَيرُ مَعلوم
أنصَفَ مَولانا، وكلُّ امرىءٍ
يَظلِمُ، والظّلمُ مَنَ اللُّوم
قد يُقتَلُ الحُرُّ، وما دِينُهُ،
في طاعَةِ اللَّهِ، بمَكلوم
لا شيءَ، في الجوّ وآفاقِهِ،
أصعدُ من دَعَوةِ مَظلوم



جزاك الله خيرا
وبوركت فيما كتبت
ووفقك الله لكل خير

نسأل الله ان ينصف شعوب الأمة الإسلامية المقهورة


[align=justify]
جزاكما الله خيرًا أخوي الكريمين مرورًا وناصرًا على الإثراء وصالح الدعاء ، تقبل الله منا ومنكما .
[/align]