عاقبة الظلم ومصارع الظالمين

فهد عبدالله الصالح
1432/02/16 - 2011/01/20 08:59AM
الحمد لله القوي العزيز الفعال لما يريد لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم أحمده سبحانه حمد العارفين وأشكره شكرا يليق بمنه وفضله وهو أرحم الراحمين واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه وسلم تسليما كثيرا
أما بعد فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بما وصانا الله لقد وصانا بتقواه ومراقبته والالتزام بشرعه والاعتصام بحبله
عبدا الله : منكر كبير وإثم عظيم بسببه تكون كل المصائب وتحل النقم الجرائم ويجد الظالم فيه مبتغاه ويضيع العدل وتضطرب حياة الناس وتنفجر النفوس غيظا وكمدا منه
إنه منكر الظلم الذي هو ضد العدل وهو وضع الشيء في غير موضعه
ولأجلِ كثرةِ مضارّ الظّلم وعظيم خطرِه وتنوُّع مفاسدِه وكثير شرِّه، لأجل ذلك حرّمه الله على نفسه وحرمه بين عباده، فقال تعالى في الحديث القدسيّ: "يا عبادي، إني حرّمت الظلمَ على نفسي، وجعلته بينكم محرَّمًا، فلا تظالموا". حرمه على نفسه جلا وعلا لأنه أعدل العادلين وأحكم الحاكمين

وحرّمه بين عباده ليحفَظوا بذلك دينَهم ويحفظوا دنياهم، وليُصلِحوا آخرَتهم، وليتمَّ بين العباد التعاوُن والتراحمُ بترك الظّلم، وليؤدّوا الحقوقَ لله وللخلق.
والظلم من المعاصي التي يعجل الله عقوبتها في الدنيا قبل الآخرة، فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من ذنبٍ أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)) أبو داود. وفي حديث أخر: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب)) رواه أحمد في مسنده
ولقد حذّرنا الله تبارك وتعالى من الظلم غايةَ التحذير، وأخبرنا بأنَّ هلاكَ القرون الماضية كان بظلمِهِم لأنفسهم ، فقال تعالى: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) ، وقال تعالى: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) ، وقال سبحانه مصورا حال أمة بعد إهلاكها: (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) وقال تعالى مبينا تنوع عقوباته التي سلطها على الطغاة قارون وفرعون وهامان: (فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
والظلم ـ أيها الأخوة ـ درجات وأنواع وأشدها ظلمٌ الناس لخالقهم بإنكار وجوده أو نسبة الخلق والرزق لغيره أو الاستهزاء بذاته أو دينه أو رسله أو كتبه أو الإشراك به فيما هو من خصائصه قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) فمن مات على الشرك بالله تعالى خلَّدَه الله في النار أبَدًا كما قال عزّ وجلّ: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)
ومن الظلم الذنوبُ والمعاصي التي بين العبدِ وربِّه ما دون الشركِ بالله، فإنّ الله إن شاء عفَا عنها بمنِّه وكرمِه، أو كفّرها بالمصائبِ والعقوبات في الدنيا، أو تجاوَز عنها بشفاعةِ النبيّ صلى الله عليه وسلم أو شفاعةِ غيره من الشافعين، أو يعذِّبُ الله العاصيَ في النار بقدرِ ذنبه ثم يخرِجه من النار ويدخِله الجنّة
والنوع الثالث من الظلم ـ أيها المسلمون ـ: مظالم بين الخَلق في حقوقٍ لبعضهم
ومن أعظمِها التطاوُلُ على أموالِ اليتامى والبسطاء والعامة الذين لا يستطيعون حيلة لاستراد حقوقهم ولا يهتدون سبيلاإِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًاأو التعدي على حقوق الغير ولو كانوا أغنياء ففي الحديث الصحيح ( مطل الغني ظلم )
ومِثلُه العدوانِ على المالِ العامّ ، بل ربما كان العدوانُ عليه أشدَّ حُرمَةً وأبشَعَ أثَرًا؛ لأنّ الضَّرَرَ فيه يُصيبُ الأمّةَ بمَجموعها، وفي صحيح البخاريّ: (مَن أخَذَ مِن الأرضِ شَيئًا بغير حقٍّ خُسِف بِه يومَ القيامَةِ إلى سَبعِ أَراضِين)، وفي الحديثِ الأخر: (مَن أخَذَ مِن طَريقِ المسلِمين شِبرًا جاء يومَ القيامة يحمِله من سبع أراضين).
ومن صور الظلم عدم العدل من رئيس الدائرة بين موظفيه في الترقيات والعلاوات وخارج الدوام
و يا مَن جعَل الله حَاجاتِ الخلقِ عِندهم احذَروا أن تَضطرّوا عباد الله لما لا يُحمَد شرعًا ولا يُرتَضَى طبعًا، من كثرة الترداد والإلحاح والاستجداء أو التنازل عن عزته وكرامته أو دفع الرشاوى المحرمة فتبوؤوا بالإثم والغضب من الله جلا وعلا، جاء عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم منَعوا الحقَّ حتى اشتُرِي، وبَسَطوا الجورَ حتى افتُدِي).
إخوةَ الإسلامِ، ومِن الظّلمِ الواضِحِ الذي يَقَع فيه بَعضُ الناسِ ظلمُ الأجَرَاء والمستَخدَمين من عمّالٍ ونحوِهم ببخسِهِم حقوقَهم أو تأخيرها عن أوقاتها أو تغيير الاتفاق المبرم معهم في بلدانهم أو إِهانَتِهم بقولٍ أو فعل، وفي صحيحِ البخاريّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثةٌ أنا خَصمُهُم يَومَ القيامة))، وذكر مِنهم: (ورجلٌ استأجَرَ أجيرًا فاستَوفى مِنه ولم يعطِهِ أجرَه)
ومن الظلم البين ممارسة الأذى الجسدي أو النفسي لأي شخص ففي الحديث (إنَّ الله يعَذِّب الذين يعذِّبون الناسَ في الدّنيا) رواه مسلم.ويشمل أيضا من يؤيد ذلك أو يسكت عنه
وظلم ذوي القرابة أشد مضاضة على النفس وأقرب الناس إلى الإنسان زوجه وأم ولده بالتقتير عليها أو سوء معاملتها أو إهانتها أو هجرانها أو تهديدها أو عدم حسن الخلق معها أو المكث كثيرا خارج المنزل ومن لا خير فيه لأهله لا خير فيه لأمته ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :( خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي ) ومثل ذلك ظلم الأبناء بإهمال تربيتهم أو سوء معاملتهم أو تفضيل بعضهم على بعض
ومن الظلم للبشرية ترك التحاكم إلى شرعه وحرمان الناس من نعيم الدنيا بالأمن والرخاء( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون )
وبعد ـ أيّها المسلمون ـ لا فلاحَ مع الظلمِ، ولا بقاءَ للظالم، ولا استقرارَ للمعتَدِي مهمَا طالَ الزمان ومهما بلَغ به الشأن، يقولُ ربنا جلّ وعَلا: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، ويَقول عزّ شأنُه: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
ويَقول عزَّ في عُلاه: هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ
وقد تتأخر عقوبة الظلم إلى حين وأجل يعلمه الله، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) قال ثم قرأ: وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِىَ ظَـٰلِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ
فالعقوبات الإلهية سنة من سنن الله التي لا تتغير ولا تتبدل، كما قال الله: قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِى ٱلأرْضِ فَٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُكَذّبِينَ
آلا فاتقوا يا عباد الله واحذروا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة احذروه بكافه صوره وأشكاله ومسمياته واحذروا مساعدة الظالم على ظلمه أو إقراره واعتبروا بمصارع الطغاة الظالمين والأمم المكذبين
وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فا استغفروه إنه هو الغفور الرحيم




الخطبة الثانية
معاشرَ المؤمنين، مظالِمُ العباد لا بدَّ من التحلّل منها والتخلّص من عواقبِها، فرسولُنا صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا خَلَصَ المؤمِنون منَ النّار حُبِسوا بقنطرةٍ بين الجنّة والنّار، فيتقاصّون مظالِمَ كانت بَينهم، حتى إذا نُقُّوا وهُذِّبوا أُذِن لهم بِدخولِ الجنّة) الحديث أخرجَه البخاريّ، وأَخرَج أيضًا عنِه صلى الله عليه وسلم قالَ: (مَن كانَت له مَظلَمةٌ لأخيهِ مِن عِرضِه أو شَيءٍ فليتحلّله منه اليومَ قبل أن لا يكونَ دِرهمٌ ولا دِينار، إن كان له عَمَلٌ صالح أُخِذ منه بقدرِ مظلمته، وإن لم تَكن له حسنات أخِذَ من سيّئات صاحبه فحُمِل عليه).
الظلم شنيع ـ يا عباد الله ـ ولا بد من مدافعته وتطهير مجتمعاتنا منه بالوسائل الشرعية، ومن أعظم وسائل إزالة الظلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله بالعدل والحكمة والموعظة الحسنة ، قال الله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
ومن الوسائل عدم الركون إلى الظالم؛ لأنه سبب في انتشار الظلم، قال الله تعالى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ، ولأن الركون إلى الظالم سكوت عن ظلمه وتأييد له
ومن الوسائل هجر الظالم وعدم إعانته على ظلمه، قال صلى الله عليه وسلم: ((انصُر أخاك ظالمًا أو مظلومًا))، قالوا: يا رسولَ الله، هذا ننصُرُه مظلومًا، فكيفَ ننصُره ظالمًا؟! قالَ: ((تأخُذُ فوقَ يَدِه)) متّفَق عليه
والحذر الحذر من تأييد الظالم بأي شكل كان فإن من يفعل ذلك فهو ظالم مثله اقرأوا إن شتم قول الله ) احشروا الذين ظلموا وأزواجهم ( يقول عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيرها أي : نظراءهم .
ويامن تسلط على رقاب الناس بسبب قوته أو ماله أو قوامته على بيته إذا دَعَتك قدرتُك على ظلمِ الناس فتذَكّر قدرةَ الله جلّ وعلا عليك،وأن الله يهمل ولا يمهل وأن حلمه لحكمة بالغة وأن نصره للمظلوم سنة باقية وأن للظلم يوما يعض على يديه وأن الذي أهلك الظالمين السالفين قادر على الانتقام من اللاحقين ،
واخشَ ـ أيها الضعيف المسكين ـ من دعوةِ المظلوم فإنّها ليسَ بَينها وبين الله حِجاب، يقولُ رسولُنا صلى الله عليه وسلم لمُعاذٍ بن جبل رضي الله عنه وقَد أرسَلَه إلى اليَمَن وقد كانوا قوما نصارى: ((واتَّق دعوةَ المظلومِ، فإنه ليس بينها وبين الله حِجاب))،
وفي الحديث الأخر : (ثلاثةٌ لا تردّ دعوتهم)، وذكَر منهم: (ودَعوة المظلوم، يرفعها الله فوقَ الغَمامِ، ويَفتَح لها أَبوابَ السّماء، ويَقولُ الرّبّ جلّ وعلا: وعِزّتي، لأنصُرَنّك ولو بعدَ حين )
ويقول صلى الله عليه وسلم ( دعوة المظلوم مستجابة ، وإن كان فاجرا ففجوره على نفسه)
فعدل الله مع كل عباده و يقول ابن تيمية رحمنا الله وإياه(إن الله ينصر الأمة العادلة ولو كانتكافرة , ويهزم الأمة الظالمة ولو كانت مسلمة)
ومن الواجبات الشرعية ـ أيها المسلمون ـ نصرة المظلوم والوقوف معه وتأييده ودعمه فالله تعالى يقول (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر) وفي الحديث السابق يقول صلى الله عليه وسلم ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما )
فالمؤمن الحق والرجل الحق يقف مع الحق ويدور معه لأن نفسه أبيه ومعدنه أصلي ومبدأه نقي وهذا ما أوجبه الله عليه وأملاه عليه ضميره وما دله عقله
اتقوا الله جميعا أيها المؤمنون ثم صلوا وسلموا على النبي المعصوم . .
المشاهدات 7169 | التعليقات 0