خطبة : (يخوف الله بهما عباده)
عبدالله البصري
وَإِنَّهُ حِينَ يَأتي في كِتَابِ اللهِ أَو عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ حُكمٌ أَو خَبَرٌ أَو تَعلِيلٌ ، فَيُخَالِفُهُ مُخَالِفٌ زَاعِمًا أَنَّ لَدَيهِ غَيرَ ذَلِكَ عِلمًا أَو أَنَّهُ أُوتيَ أَحسَنَ مِنهُ فَهمًا ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ ضَلالٌ وَغُرُورٌ أَوحَاهُ إِلَيهِ شَيطَانُهُ الرَّجِيمُ ، وَبَاطِلٌ تَلَقَّتهُ نَفسُهُ الأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ ، وَزَيغُ قَلبٍ فَاسِدٍ يُظهِرُهُ لِسَانٌ فَاسِقٌ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، أَخرَجَ مُسلِمٌ في صَحِيحِهِ مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ أَنَّ الشَّمسَ انكَسَفَت عَلَى عَهدِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَامَ قِيَامًا شَدِيدًا ... ثُمَّ قَالَ : " إِنَّ الشَّمسَ وَالقَمَرَ لا يَكسِفَانِ لِمَوتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ ، وَلَكِنَّهُمَا مِن آيَاتِ اللهِ يُخَوِّفُ اللهُ بهمَا عِبَادَهُ ، فَإِذَا رَأَيتُم كُسُوفًا فَاذكُرُوا اللهَ حَتَّى يَنجَلِيَا "
وَأَخرَجَ أَيضًا مِن حَدِيثِ أَبي مَسعُودٍ الأَنصَارِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " إِنَّ الشَّمسَ وَالقَمَرَ آيَتَانِ مِن آيَاتِ اللهِ يُخَوِّفُ اللهُ بهمَا عِبَادَهُ ، وَإِنَّهُمَا لا يَنكَسِفَانِ لِمَوتِ أَحَدٍ مِن النَّاسِ ؛ فَإِذَا رَأَيتُم مِنهَا شَيئًا فَصَلُّوا وَادعُوا اللهَ حَتَّى يُكشَفَ مَا بِكُم "
إِنَّ هَذَينِ الحَدِيثَينِ الصَّحِيحَينِ اللَّذَينِ نَطَقَ بهمَا أَعلَمُ النَّاسِ بِرَبِّهِ وأحرَاهُم بِفَهمِ مَا يُجرِيهِ الخَالِقُ في الكَونِ ، إِنَّ فِيهِمَا لَبَيَانًا شَافِيًا وَعِلمًا كَافِيًا لِمَا يُهِمُّ المُسلِمَ مِن أَمرِ ذَلِكَ الكُسُوفِ أَوِ الخُسُوفِ ، إِذ يَدُلاَّنِ دَلالَةً ظَاهِرَةً صَرِيحَةً عَلَى أَنَّ الحِكمَةَ مِن كُسُوفِ الشَّمسِ وَخُسُوفِ القَمَرِ إِنَّمَا هِيَ تَخوِيفُ العِبَادِ وَتَذكِيرُهُم بِرَبِّهِم ، وَلَفتُ أَنظَارِهِم إِلى نِعَمٍ هُم عَنهَا غَافِلُونَ سَادِرُونَ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ " وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيلُ نَسلَخُ مِنهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُظلِمُونَ . وَالشَّمسُ تَجرِي لِمُستَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ . وَالقَمَرَ قَدَّرنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ القَدِيمِ . لا الشَّمسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدرِكَ القَمَرَ وَلا اللَّيلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ في فَلَكٍ يَسبَحُونَ "
إِنَّهَا لَنِعَمٌ عَظِيمَةٌ ، لَيلٌ وَنَهَارٌ يَتَوَالى جَريُهُمَا وَيَختَلِفَانِ ، في حَرَكَةٍ لِلكَونِ مُحكَمَةٍ بَدِيعَةٍ ، وَتَوَالٍ لِلأَجرَامِ السَّمَاوِيَّةِ مُنتَظِمٍ ، وَنِظَامٍ لا يَختَلِفُ عَن مَسَارِهِ وَلا يَخرُجُ عَنهُ قَدرَ ذَرَّةٍ ، وَلَوِ اختَلَفَ شَيئًا يَسِيرًا وَتَغَيَّرَ قَلِيلاً لَحَدَثَ هَذَا الخُسُوفُ أَو ذَاكَ الكُسُوفُ ، فَكَيفَ لَو حَدَثَ تَغَيَّرٌ كَبِيرٌ يُذهِبُ ضَوءَ الشَّمسِ أَوِ القَمَرِ ؟!
مَاذَا سَيَحدُثُ لِهَذَا العَالَمِ وَكَيفَ سَيَعِيشُ النَّاسُ في الكَونِ ؟! " قُل أَرَأَيتُم إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيكُمُ اللَّيلَ سَرمَدًا إِلى يَومِ القِيَامَةِ مَن إِلَهٌ غَيرُ اللهِ يَأتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسمَعُونَ . قُل أَرَأَيتُم إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيكُمُ النَّهَارَ سَرمَدًا إِلى يَومِ القِيَامَةِ مَن إِلَهٌ غَيرُ اللهِ يَأتِيكُم بِلَيلٍ تَسكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبصِرُونَ . وَمِن رَحمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ لِتَسكُنُوا فِيهِ وَلِتَبتَغُوا مِن فَضلِهِ وَلَعَلَّكُم تَشكُرُونَ " إِنَّ النَّاسَ لَيَشتَاقُونَ إِلى الصُّبحِ وَضَوءِ الشَّمسِ حِينَ يَطُولُ بِهِمُ اللَّيلُ قَلِيلاً في أَيَّامِ الشِّتَاءِ ، وَإِذْ يَطُولُ عَلَيهِمُ النَّهَارُ في الصَّيفِ شَيئًا ويَلفَحُهُم حَرُّ الهَجِيرِ ، فَإِنَّهُم يَنتَظِرُونَ اللَّيلَ وَيَحُنُّونَ إِلى ظُلمَتِهِ لِيَرتَاحُوا فِيهِ وَيَسكُنُوا ، فَكَيفَ بِهِم لَو فَقَدُوا الضِّيَاءَ عَلَى الدَّوَامِ ؟!
كَيفَ بِهِم لَو دَامَ عَلَيهِمُ اللَّيلُ إِلى يَومِ القِيَامَةِ وَحَلَّ بهمُ الظَّلامُ مَدَى حَيَاتِهِم ؟
أَم كَيفَ بِهِم لَو حُرِمَوا ظُلمَةَ اللَّيلِ وَهُدُوءَهُ وَسَكَنَهُ ، فَغَدَوا في ضِيَاءٍ دَائِمٍ ؟!
أَلا إِنَّهَا رَحمَةُ اللهِ بِخَلقِهِ ، جَعَلَ بها اللَّيلَ سَكِينَةً وَقَرَارًا ، وَالنَّهَارَ عَمَلاً وَنَشَاطًا ، لَعَلَّهُم يَشكُرُونَهُ عَلَى مَا يَسَّرَهُ لَهُم مِن نِعمَةٍ وَرَحمَةٍ ، وَمَا دَبَّرَهُ لَهُم وَاختَارَهُ مِن تَوَالي اللَّيلِ وَالنَّهَارِ ، وَمِن سِيرِ كُلِّ سُنَنِ الحَيَاةِ عَلَى نِظَامٍ دَقِيقٍ اختَارَهُ ـ تَعَالى ـ لَهُم بِوَاسِعِ رَحمَتِهِ وَلَطِيفِ عِلمِهِ وَبَالِغِ حِكمَتِهِ ، وَحِينَ يَغفُلُونَ عَن كُلِّ هَذَا لِطُولِ الإِلفِ وَالتَّكرَارِ ، فَإِنَّهُ ـ تَعَالى ـ يُقَدِّرُ هَذَا التَّغَيُّرَ الطَّفِيفَ في حَرَكَةِ الشَّمسِ وَالقَمَرِ وَالأَرضِ ؛ لِيَقَعَ الخُسُوفُ أَوِ الكُسُوفُ لِتَخوِيفِهِم وَإِنذَارِهِم ، وَلَفتِ أَنظَارِهِم لِنِعمَتِهِ ـ تَعَالى ـ عَلَيهِم لَعَلَّهُم يَشكُرُونَ وَلا يَكفُرُونَ .
أَمَّا عِبَادُ اللهِ المُتَّقُونَ الخَائِفُونَ الرَّاجُونَ ، فَإِنَّهُم إِلى الصَّلاةِ يَفزَعُونَ ، وَبِالذِّكرِ يَلهَجُونَ ، وَبِالاستِغفَارِ يَشتَغِلُونَ ، يَدعُونَ رَبَّهُم وَإِلَيهِ يَرغَبُونَ ، وَيَخَافُونَ مِنهُ وَيَرهَبُونَ ، مُقتَدِينَ بِمُعلِّمِهِم وَإِمَامِهِم ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ حَيثُ كَانَ يَفزَعُ إِلى الصَّلاةِ في مِثلِ هَذِهِ الأَحدَاثِ العَظِيمَةِ . عَن أَبي بَكرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : كُنَّا عِندَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَانكَسَفَتِ الشَّمسُ ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى انتَهَى إِلى المَسجِدِ ، وَثَابَ إِلَيهِ النَّاسُ ، فَصَلَّى بِنَا رَكعَتَينِ ، فَلَمَّا انكَشَفَتِ الشَّمسُ قَالَ : " إِنَّ الشَّمسَ وَالقَمَرَ آيَتَانِ مِن آيَاتِ اللهِ يُخَوِّفُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ بهمَا عِبَادَهُ ، وَإِنَّهُمَا لا يَخسِفَانِ لِمَوتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ ، فَإِذَا رَأَيتُم ذَلِكَ فَصَلُّوا حَتَّى يُكشَفَ مَا بِكُم " الحَدِيثَ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَفي لَفظٍ : " فَقَامَ إِلى المَسجِدِ يَجُرُّ رِدَاءَهُ مِنَ العَجَلَةِ "
وَرَوَى أَيضًا عَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : خَسَفَتِ الشَّمسُ عَلَى عَهدِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَامَ فَصَلَّى فَأَطَالَ القِيَامَ جِدًّا ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ جِدًّا ، ثُمَّ رَفَعَ فَأَطَالَ القِيَامَ جِدًّا وَهُوَ دُونَ القِيَامِ الأَوَّلِ ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ ، ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ فَأَطَالَ القِيَامَ وَهُوَ دُونَ القِيَامِ الأَوَّلِ ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ ، ثُمَّ رَفَعَ فَأَطَالَ القِيَامَ وَهُوَ دُونَ القِيَامِ الأَوَّلِ ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ ، ثُمَّ سَجَدَ فَفَرَغَ مِن صَلاتِهِ وَقَد جُلِّيَ عَنِ الشَّمسِ ، فَخَطَبَ النَّاسَ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثنى عَلَيهِ ، ثُمَّ قَالَ : " إِنَّ الشَّمسَ وَالقَمَرَ لا يَنكَسِفَانِ لِمَوتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ ، فَإِذَا رَأَيتُم ذَلِكَ فَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا وَاذكُرُوا اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " وَقَالَ : " يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ، إِنَّهُ لَيسَ أَحَدٌ أَغيَرَ مِنَ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ أَن يَزنيَ عَبدُهُ أَو أَمَتُهُ ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ، لَو تَعلَمُونَ مَا أَعلَمُ لَضَحِكتُم قَلِيلاً وَلَبَكَيتُم كَثِيرًا "
هَكَذَا عَلِمَ النَّبيُّ الكَرِيمُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ الحِكمَةَ مِنَ الكُسُوفِ بما عَلَّمَهُ رَبُّهُ وَفَهَّمَهُ ، وَهَكَذَا تَصَرَّفَ بهذِهِ السُّرعَةِ وَهُرِعَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ خَوفًا مِن رَبِّهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى ـ وَهَكَذَا صَلَّى تِلكَ الصَّلاةَ الطَّوِيلَةَ ، العَجِيبَةَ الغَرِيبَةَ في هَيئَتِهَا وَطُولِهَا ، وَهَكَذَا خَطَبَ وَدَعَا إِلى الصَّلاةِ وَالصَّدَقَةِ وَذِكرِ اللهِ ، وَهَكَذَا بَيَّنَ غَيرَةَ اللهِ وَغَضَبَهُ ـ سُبحَانَهُ ـ مِنِ اقتِرَافِ عِبَادِهِ المُوبِقَاتِ وَالمُنكَرَاتِ ، وَأَلمَحَ إِلى أَنَّهَا سَبَبٌ مِن أَسبَابِ فَسَادِ الكَونِ وَتَغَيُّرِ السُّنَنِ ، فَكَيفَ تَرَونَ النَّاسَ اليَومَ يَفعَلُونَ ؟
وَبِمَ يَتَصَرَّفُونَ حِيَالَ هَذَا الأَمرِ العَظِيمِ وَالخَطبِ الجَلِيلِ وَالحَدَثِ الكَونِيِّ المُهِمِّ ؟!
إِنَّهَا لأَعَاجِيبُ تَبعَثُ في النُّفُوسِ الأَسَى وَتُثِيرُ في جَنَبَاتِهَا الأَحزَانَ ، إِذ كَيفَ يَتَغَيَّرُ التَّعَامُلُ مَعَ هَذَا الحَدَثِ تَغَيُّرًا كَامِلاً وَيَنقَلِبُ لَدَى بَعضِ مَن خَلَت قُلُوبُهُم مِن صَرِيحِ الإِيمَانِ وَفَقَدَت صَادِقَ الاتِّبَاعِ ، وَبُلُوا بِتَقلِيدِ الغَربِ الكَافِرِ في كُلِّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ ، وَتَابَعُوهُ في كُلِّ جِدٍّ وَهَزَلٍ ، وَسَارُوا خَلفَهُ غَيرَ مُتَنَبِّهِينَ لِضَرَرٍ أَو خَطَرٍ ، وَقَد نَقَلَت بَعضُ الصُّحُفِ تَهَافُتَ النَّاسِ إِلى بَعضِ الأَمَاكِنِ كِبَارًا وَصِغَارًا ، وَخُرُوجَهُم رِجَالاً وَنِسَاءً ؛ وَتَجَمهُرَهُم وَقَد لَبِسُوا نَظَّارَاتٍ خَاصَّةً لِمُشَاهَدَةِ هَذِهِ الظَّاهِرَةِ العَجِيبَةِ ، وَنَقَلَت عَن بَعضِ مُدِيرِي المَدَارِسِ اعتِبَارَ مُشَاهَدَةِ الطُّلابِ لِلخُسُوفِ ضِمنَ حِصَصِ النَّشَاطِ المُقَرَّرَةِ لِلطُّلابِ ، وَكَيفَ أَبدَى الطُّلاَّبُ في تِلكَ المَدَارِسِ سَعَادَتَهُم بِمُشَاهَدَةِ هَذِهِ الظَّاهِرَةِ ، فَلا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ !! وَجَلَّ ـ سُبحَانَهُ ـ وَتَقَدَّسَ !! وَصَدَقَ ـ تَعَالى ـ إِذ يَقُولُ : " مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ "
وَصَدَقَ رَسُولُهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ حَيثُ قَالَ في خُطبَتِهِ عَقِبَ الكُسُوفِ : " يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ، لَو تَعلَمُونَ مَا أَعلَمُ لَضَحِكتُم قَلِيلاً وَلَبَكَيتُم كَثِيرًا "
إِنَّهَا لانتِكَاسَةٌ عَظِيمَةٌ أَن تَبلُغَ الغَفلَةُ بِالنَّاسِ عَن هَذِهِ الآيَةِ العَظِيمَةِ ، لِدَرَجَةِ أَن يَترُكُوا مَا سُنَّ لهم حَيَالَهَا مِنَ الصَّلاةِ وَالذِّكرِ وَالاستِغفَارِ وَالصَّدَقَةِ ثُمَّ يُبدُوا سَعَادَتَهُم بِمُشَاهَدَتِهَا وَقَد جَعَلَهَا الحَكِيمُ ـ سُبحَانَهُ ـ تَخوِيفًا لَهُم وَتَذكِيرًا وَإِنذَارًا ، ثم يُصبِحَ هَمُّهُم تَجهِيزَ مَنَاظِيرِهِم وَاختِيَارَ أَفضَلِ الأَمَاكِنِ لِمُشَاهَدَةِ الكُسُوفِ أَوِ الخُسُوفِ ، ثم لا يَخَافُوا إِلاَّ ممَّا قَد يُصِيبُ أَعيُنَهُم مِن جَرَّاءِ النَّظَرِ إِلى الشَّمسِ في كُسُوفِهَا ، وَيَكُونَ جُلُّ تَحذِيرِهِم مِمَّا قَد يُسَبِّبُهُ النَّظَرُ مِن أَمرَاضٍ ، وَكَأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُم في غَيرِ هَذِهِ الحَالَةِ النَّظَرُ وَالاستِمتَاعُ !!
وَايمُ اللهِ إِنَّ هَذَا لَمِن تَغيِيرِ أَحكَامِ الشَّرعِ ، وَالغَفلَةِ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي أَوجَدَ اللهُ لَهُ هَذِهِ الآيَاتِ وَهُوَ تَخوِيفُ عِبَادِهِ ، وَإِنَّ هَذَا لَيَدُلُّ عَلَى مِقدَارِ الجَهلِ الَّذِي تَنطَوِي عَلَيهِ بَعضُ القُلُوبِ ، وَالَّذِي يُحَاوِلُ بَعضُ المُتَعَالِمِينَ تَقرِيرَهُ وَتَسوِيغَهُ ، إِذ يُفرِّغُونَ هَذَا الحَدَثَ العَظِيمَ مِن كُلِّ مَعَانِيهِ الَّتي جَعَلَهَا اللهُ فِيهِ ، وَيَدَّعُونَ أَنَّهُ مُجَرَّدُ ظَاهِرَةٍ كَونِيَّةٍ عَادِيَّةٍ ، وَأَنَّهُم يَعلَمُونَ مَتَى تَبدَأُ وَمَتَى تَنتَهِي ، أَو أَنَّهُ سَيَكُونُ في هَذَا العَامِ كُسُوفٌ أَو اثنَانِ ، أَو أَنَّهُم يَعلَمُونَ قَدرَهُ عَلَى هَذِهِ البُقَعِةِ وَنِسبَتَهُ في تِلكَ ، وَايمُ اللهِ إِنَّ هَذَا لَمِن أَعجَبِ العَجَبِ بَل مِنَ أَسوَأِ الجَهلِ ، وَإِلاَّ فَإِنَّنَا قَد نَعلَمُ جَمِيِعًا بِالسَّاعَةِ وَالدَّقِيقَةِ مَتَى تُشرِقُ الشَّمسُ وَمَتَى تَغِيبُ ؟ وَمَتَى يَمضِي مِنَ اللَّيلِ ثُلُثُهُ وَمَتَى يَنتَصِفُ ، فَهَل يُغَيِّرُ ذَلِكَ مِن أَحكَامِ الشَّرعِ شَيئًا ؟ لا وَاللهِ وَتَاللهِ !! فَأَحكَامُ الشَّرعِ لا تَتَغَيَّرُ وَلا تَتَبَدَّلُ ، وَهَبْ أَنَّ أَحَدًا عَلِمَ بما عَلَّمَهُ اللهُ مَتَى يَحدُثُ الكُسُوفُ وَأَينَ يَحِلُّ وَمَتَى يَرتَحِلُ ؟ فَهَل هُوَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُغَيِّرَ في الكَونِ شَيئًا ؟!
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ عَن فِرعَونَ وَجُنُودِهِ : " فَمَا بَكَت عَلَيهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ "
وَعَن أَبي قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ مُرَّ عَلَيهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ : " مُستَرِيحٌ وَمُستَرَاحٌ مِنهُ " قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَا المُستَرِيحُ وَالمُستَرَاحُ مِنهُ ؟ قَالَ : " العَبدُ المُؤمِنُ يَستَرِيحُ مِن نَصَبِ الدُّنيَا وَأَذَاهَا إِلى رَحمَةِ اللهِ ، وَالعَبدُ الفَاجِرُ يَستَرِيحُ مِنهُ العِبَادُ وَالبِلادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ " أَخرَجَهُ الشَّيخَانِ .
نَعَم ـ عِبَادَ اللهِ ـ إِنَّ الكَونَ لَيَغَارُ أَن يَقَعَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لأَمرِ خَالِقِهِ ، وَإِنَّهُ لِيَتَحَمَّلُ مِنَ العَاصِينَ عِبئًا وَثِقَلاً ، وَمِن ثَمَّ فَهُوَ يُعَبِّرُ عَن هَذَا بِقُدرَةِ اللهِ بِالتَّغَيُّرِ ، فَتَبكِي السَّمَاءُ وَالأَرضُ عَلَى المُؤمِنِينَ وَالصَّالحِينَ ، وَلا تَبكِي عَلَى غَيرِهِم مِنَ الكُفَّارِ وَالعُصَاةِ وَالمُنَافِقِينَ ، وَقَد تُعَبِّرُ بِإِذنِ اللهِ بِهَذَا الكُسُوفِ وَالخُسُوفِ ، أَو بِتِلكَ الفَيَضَانَاتِ وَالأَعَاصِيرِ ، أَو بِالزَّلازِلِ وَالبَرَاكِينِ ، أَلا فَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُم ، وَتُوبُوا إِلَيهِ مِن ذُنُوبِكُم ، وَقَدِّمُوا مِنَ الأَعمَالِ الصَّالِحَةِ مَا تُرضَونَهُ ـ تَعَالى ـ بِهِ وَتَستَعتِبُونَهُ ، فَإِنَّهُ لا حَيَاةَ طَيِّبَةً وَلا أَمنَ وَلا اطمِئنَانَ إِلاَّ بِتَمَامِ الخُضُوعِ لِلخَالِقِ ـ سُبحَانَهُ ـ " هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمسَ ضِيَاءً وَالقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَومٍ يَعلَمُونَ . إِنَّ في اختِلافِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ في السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ لآيَاتٍ لِقَومٍ يَتَّقُونَ . إِنَّ الَّذِينَ لا يَرجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالحَيَاةِ الدُّنيَا وَاطمَأَنُّوا بها وَالَّذِينَ هُم عَن آيَاتِنَا غَافِلُونَ . أُولَئِكَ مَأوَاهُمُ النَّارُ بما كَانُوا يَكسِبُونَ . إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهدِيهِم رَبُّهُم بِإِيمَانِهِم تَجرِي مِن تَحتِهِمُ الأَنهَارُ في جَنَّاتِ النَّعِيمِ . دَعوَاهُم فِيهَا سُبحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُم فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعوَاهُم أَنِ الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ "
المشاهدات 4223 | التعليقات 4
جزاك الله خيرا
فَلا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ !! وَجَلَّ الله ـ سُبحَانَهُ ـ وَتَقَدَّسَ !! وَصَدَقَ ـ تَعَالى ـ إِذ يَقُولُ : " مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ " ( الحج : 74 )
اللهم صلّ وسلّم وبارك على نبيّنا محمّد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
حيا الله الإخوة جميعًا ، وشكر لهم مرورهم وأجاب دعاءهم .
عن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة ، عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به : آمين ولك بمثل " رواه مسلم .
وشكر خاص لأخي أبي البراء على هذا التصحيح المؤدب المهذب لنقلي للآية الكريمة من سورة الحج ، وقد نقلتها من المكتبة الشاملة من المصحف المضمن لأحد التفاسير ، ولكن ، يأبى الله الكمال إلا لذاته وصفاته ، فتقبل الله منا ومن أخينا أبي البراء ما أخلصنا فيه ، وتجاوز عنا فيما زللنا ، وعصمنا فيما نستقبل من الزلل والخطل ، إنه جواد كريم .
عبدالله محمد الروقي
أحسن الله إليك
تعديل التعليق