الْقَوْلُ عَلَىَ الْلَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ

حاطب خير
1431/12/11 - 2010/11/17 17:10PM
الْقَوْلُ عَلَىَ الْلَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ
عِبَادَ الْلَّهِ
َإِنْ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ الْعَظِيْمَةِ، وَالْأَخْطَارِ الْفَادِحَةِ الْجَسْيمَةِ؛ الَّتِيْ بُلِيْتَ بِهَا أُمَّتُنَا الْيَوْمَ: أَنَّهُ تَصَدَّرَ لِلْفَتْوَىْ أنصاف المتعلمين، يُفْتُوْنَ بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ فَضَلُّوْا وَأَضَلُّوْا، وَتَجْرَؤُوا عَلَىَ الْقَوْلِ على الْلَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ،عَنْ عَبْدِ الْلَّهِ بْنِ مَسْعُوْدٍ t قَالَ: ( لَيْسَ عَامٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ ، لَا أَقُوْلُ عَامٌ أَمَطرُ مِنْ عَامٍ ، وَلَا عَامٌ أَخْصَبُ مِنْ عَامٍ ، وَلَا أَمِيْرٌ خَيْرٌ مِنْ أَمِيْرٍ ، وَلَكِنْ ذَهَابُ خِيَارِكُمْ وَعُلَمَائِكُمْ).وَعَنْ عَبْدِ الْلَّهِ بْنِ عَمْرِوٍ tأَنَّ رَسُوْلَ الْلَّهِ rقَالَ: ( ‏إِنَّ الْلَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ‏ ‏انْتِزَاعا‏ ‏يَنْتَزِعُهُ‏ ‏مِنْ الْنَّاسِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ ‏بِقَبْضِ‏ الْعُلَمَاءِ حَتَّىَ إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِما اتَّخَذَ الْنَّاسُ رُءُوْسا جُهَّالا فَسُئلُوْا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوْا وَأَضَلُّوْا ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ،.
عِبَادَ الْلَّهِ
إنََّّهُ لَا يَجُوْزُ لِأَيِّ إِنْسَانٍ أَنْ يُفْتِيَ فِيْ مَسْأَلَةِ دِيْنِيْةٌ إِلَا إِذَا تَوَفَّرَتْ فِيْهِ مُوَاصَفَاتٌ وَشُرُوطٌ ذَكَرَهَا الْعُلَمَاءُ؛ فَمَنْ ذَلِكَ الْعِلْمُ، وَالْصِّدْقُ، وَأَنْ يَكُوْنَ حَسَنَ الْطرِيْقَةِ، مَرْضِيّ السِّيْرَةِ، عَدْلا فِيْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، مُتَشَابِهَ الْسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ .قال الشافعي رحمه الله تعالى : "لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلا عارفا بكتاب الله ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه وتأويله وتنزيله ومكيه ومدنيه وما أريد به بصيرا بحديث رسول الله r ويعرف من الحديث مثلَ ما عرف من القرآن ويكون بصيرا باللغة مشرفا على اختلاف أهل الأمصار وتكون له قريحة مع الإنصاف فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي".
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى : "ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالما بوجوه القرآن عالما بالأسانيد الصحيحة عالما بالسنن وإنما جاء خلاف من خالف لقلة معرفتهم بما جاء عن النبي r وقلة معرفتهم بصحيحها من سقيمها" ا.هـ.و لَقَدْ كَانَ رَسُوْلُ الْلَّهِ r يُسْأَلُ عَمَّا لَمْ يَنزِلْ عَلَيْهِ فِيهِ الْوَحْيِ فَيَنْتَظِرُ حَتىَ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فَيُجِيْبُ .قال الله تَعَالَىْ : (يَسْأَلُوْنَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الْطَّيِّبَاتُ)وَقَال تَعَالَىْ : ( وَيَسْأَلُوْنَكَ عَنْ ذِيْ الْقَرْنَينِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِّنْهُ ذِكْرَا ). وَقَال تَعَالَىْ : (يَسْأَلُوْنَكَ عَنِ الْسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّيَ لَا يُجَلِّيْهَا لِوَقْتِهَا إِلَا هُوَ) وَلَقَدْ كَانَ الْأَجِلَّاءُ مِنْ الْصَّحَابَةِ t تَعْرِضُ لَهُمْ الْمَسْأَلةُ لَا يَدْرُوْنَ حُكْمُ الْلَّهِ فيهَا، فَيَـهَــابــُونَهَا ويَتَوَقَفُونَ فِيهَا، فَهَاهُوَ أَبُوْ بَكْرٍ t يَقُوْلُ: ( أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِذَا قُلْتُ فِيْ كِتَابِ الْلَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ).وَهَا هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ t تَنزِلُ بِهِ الْحَادِثَةِ فَيَجْمَعُ لَهَا الْصَّحَابَةِ t وَيسْتَشِيْرُهُمْ فِيْهَا ) وَلِذَلِكَ كَانَ الْسَّلَفُ رحمهم الله تعالى يَدْرَؤُونَ الْفُتْيَا عَنْ أَنفُسِهِمْ مَا اسْتَطَاعُوْا ويُسْنِدُوْهَا إِلَىَ غَيْرِهِمْ ، فعَنْ عَبْدِ الْرَّحْمَنِ بْنِ أَبِيْ لَيْلَىَ رَحِمَهُ الْلَّهُ تَعَالَىْ ـ قَالَ :" لَقَدْ أَدْرَكْتُ بِهَذَا الْمَسْجِدِ عِشْرِيْنَ وَمِائَةً مِنْ الْأَنصَارِ مَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ يُحَدّثُ بِحَدِيْثٍ إِلَا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْحَدِيْثَ وَلَا يُسَألُ عَنْ فُتْيَا إِلَا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْفُتْيَا " وَعَنْ سُفْيَانَ رَحِمَهُ الْلهُ تَعَالَىْ قَالَ : أَدْرَكْتُ الْفُقَهَاءَ وَهُمْ يَكْرَهُوْنَ أَنْ يُجِيْبُوا فِيْ الْمَسَائِلِ وَالْفُتْيَا حَتَّىَ لَا يَجِدُوْا بُدا مِنْ أَنْ يُفْتُوْا"
عِبَادَ اللهِ
إِنَّ مِنْ الْافْتِراءِ عَلَىَ اللهِ تَعَالَىْ وَالْكَذِبَ عَلَىَ شَرِيْعَتِهِ وَ عِبَادِهِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ أنصاف المتعلمين مِنَ الْتَّسَرُّعِ إِلَىَ الْفُتْيَا بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَالْقَوْلِ عَلَىَ الْلَّهِ تَعَالَىْ بِلَا حُجَّةٍ، وَالْإِفْتَاءِ بِالْتَّشَهِّيَ وَالْتَّلْفِيْقِ، وَالْأَخْذِ بِالْرُّخَصِ الْمُخَالَفَةِ لِلِدَّلِيلِ الْصَّحِيْحِ، وَتَتَبُّعِ الْأَقْوَالِ الْشَّاذَّةَ الْمُسْتَنِدَةِ إِلَىَ أَدِلَّةِ مَنْسُوخَةٍ أَوْ ضَعِيْفَةٍ، وَالَّتِي لَا تخفَىَ عَلَىَ الْرَّاسِخِيْنَ فِيْ الْعِلْمِ.قَالَ الْلَّهُ تَعَالَىْ : ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانا وَأَنْ تَقُوْلُوْا عَلَىَ الْلَّهِ مَا لَا تَعْلَمُوْنَ ) ،وَقَالَ تَعَالَىْ : (وَلَا تَقُوْلُوْا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلَالٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوُا عَلَىَ الْلَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِيْنَ يَفْتَرُوْنَ عَلَىَ الْلَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُوْنَ مَتَاعٌ قَلِيْلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيْمٌ ) وَقَالَ تَعَالَىْ: ( وَلَا تَتَّبِعُوٓا خُطُوَٰتِ ٱلَشَّيْطَـٰنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِيْنٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِٱلَسُّوءِ وَٱلْفَحْشَاءِ وَأَنَّ تَقُوْلُوا عَلَىَ ٱلِلَّهِ مَا لَا تَعْلَمُوْنَ) وقال تعالى : ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ الْسَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُوْلا ) و قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: دخل رَجُل عَلَىَ رَبِيْعَةَ بْنِ أَبِيْ عَبْدِ الْرَّحْمَنِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَىْ فوَجَدَهُ يَبْكِيَ، فَقَالَ لَهُ: مَا يُبْكِيْكَ؟ فَقَالَ: ( اسْتُفْتِيَ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ وَظَهَرَ فِيْ الْإِسْلَامِ أَمْرٌ عَظِيْمٌ ) وَقَالَ رحمه الله تعالى : ( وَلَبَعْضُ مَنْ يُفْتِيَ هَهُنَا أَحَقُّ بِالْسِّجْنِ مِنْ الْسُّرَّاقِ ).وقال سُحْنُونٌ بْنِ سَعِيْدٍ رَحِمَهُ الْلَّهُ: "أَجْرَأُ الْنَّاسِ عَلَىَ الْفُتْيَا أَقَلُّهُمْ عِلْما" وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ الْلَّهُ تَعَالَىْ:" مَا أَفْتَيْتُ حَتَّىَ شَهِدَ لِيَ سَبْعُوْنَ أَنِّيْ أَهْلٌ لِذَلِكَ "."وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ الْلَّهُ وَاصِفا حَالَ الْمُتَعَالِمِيْنَ: "انْتَكَسَتْ عَلَيْهِمْ قُلُوبُهُمْ، وَعَمِيَ عَلَيْهِمْ مَطْلُوْبهمْ، رَضُوْا بِالْأَمَانِيِّ، وَابْتَلُوْا بِالْحُظُوظِ، وَحَصلُوْا عَلَىَ الْحِرْمَانِ، وَخَاضُوْا بِحَارَ الْعِلْمِ لَكِنْ بِالْدَّعَاوَىْ الْبَاطِلَةِ ، أَنْفَقُوْا فِيْ غَيْرِ شَيْءٍ نَفَائِسَ الْأَنْفَاسِ، وَأَتْعَبُوا أَنْفُسَهُمْ وَحِّيْرُوْا مَنْ خَلْفَهَمْ مِنَ الْنَّاسِ، ضَيَّعُوْا الْأُصُولِ فَحُرِمُوا الْوُصُولِ، وَأَعْرَضُوْا عَنْ الْرِّسَالَةِ فَوَقَعُوا فِيْ مَهَامِهَ الْحَيْرَةِ وَبَيْدَاءَ الْضَّلالَةَ
فَاتَّقُوا الْلَّهَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُوْنَ وَلَا تَقُوْلُوْا فِيْ دِيَنِ الْلَّهِ مَا لَا تَعْلَمُوْنَ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىَ عَلَىَ الْلَّهِ كَذِبا لِيُضِلَّ الْنَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ الْلَّهَ لَا يَهْدِيَ الْقَوْمَ الْظَّالِمِيْنَ ). وتذكروا حِيْنَ يُبَعْثَرُ مَا فِيْ الْقُبُوْرِ وَيـُحَصَّلُ مَا فِيْ الْصُّدُوْرِ وَتَشْهَدُ فِيْهِ الْجَوَارِحُ عَلَىَ أَهْلِ الْبَاطِلِ وَالْزُّوْرَ، ، وَهُنَالكَ يَعْلَمُ الْمُتعالِموْنَ أَنَّهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ كَانُوْا يَخْدَعُوْنَ، وَبِدِيِنِهِمْ كَانُوْا يَلْعَبُوْنَ، (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِيْنَ يُضِلُّوْنَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ )



الْخُطْبَةُ الْثَّانِيَةُ


عِبَادَ الْلَّهُ
اتَّقُوْا الْلَّهَ وَاعْلَمُوا.أنّ الْفُتْيَا بِغَيْرِ عِلْمٍ ذَنْبٌ عَظِيْمٌ وَخَطَرٌ جَسِيْمٌ فِيْهِ تَنْفَلِتُ عُرَى الْإسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، وَيتَجَرّأُ ضِعَافُ الْعُقُولِ وَدُعَاةُ الْهَوَىَ وَأَفْرَاخُ الْتَّغْرِيْبِ بِالْمُطَالَبَةِ بِالَتَفَلتُ مِنْ الْأَحْكَامِ الْشَّرْعِيَّةِ بِالْأَقْوَالِ الْشَّاذَّةَ وَالْخِلافاتِ الضعِيْفَةِ وَاسْتِجْلَابِ الرُّخَصِ الْمُخَالَفَةِ لِلْنصُوصِ. فَلَا يَجُوْزُ أَنْ يُمَكنَ مِنْ الْخَوْضِ فِيْ الْفَتْوَىْ الْجَاهِلُوْنَ بِمَقَاصِدِ الْشَّرِيِعَةِ وَمَدَارِكِ الْأَحْكَامِ، الْمُتَخَرِّصُونَ عَلَىَ مَعَانِيْهَا بِالْظَّنِّ، الْمُتَعَالِمُوْنَ بِلَا رُسُوْخٍ، الْخَائِضُونَ فِيْ مَظَانِّ الِاشْتِبَاهِ بِلَا تَمْيِيْزٍ، الْمُّقْتَحَمُونَ غِمَارَ الْفَتْوَىْ بِلَا عِلْمٍ وَلَا عُدَّةٍ وَلَا تَّأْهِيْلٍ ، وُكُلّ مِنْ أَقْدَمَ عَلَىَ الْفُتْيَا، وَتَوثَّبَ عَلَيْهَا، وَمَدَّ بَاعَ التَّكَلُّفِ إِلَيْهَا، وَلَيْسَ لَهُ مَعْرِفَةٌ وَدِرَايَةٌ بِهَذَا الْأَصْلِ الْأَصِيْلِ وَالْأَسَاسِ الْجَلِيْلِ؛ جَاءَ بِالْعَظَائِمِ وَالْمَصَائِبِ، وَأَفْتَى بِالْشُّذُوْذِ وَالْغَرَائَبِ، وَهَذَا بلا شك ديدَنُ مَنْ تَسَلَّقَ مَقَامَ الْفُتْيَا بِلَا تَأْصِيْلِ وَلَا تَحْصِيْلٍ. وَلَا تَنْبُعُ الْأَفْكَارُ الْزَّائِغَةُ وَالْعَقَائِدُ الْمُنْحَرِفَةُ وَالْأَقْوَالُ الْشَّاذَّةَ إِلَّا بِتَرْكِ مُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ وَأَخْذِ الْعِلْمِ وَالْفَتْوَىْ عَنْ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالْهَوَىَ والْوَاجِبُ عَلَىَ الْمُسْتَفْتِيَ أن يسأل الْعَالَم الَّذِيْ تَوَاتَرَ عِنْدَ الْنَّاسِ فَضْله وَعلمهُ وَصحة مَنْهَجِهِ وَكَوْنه أَهْلَا لِلْفَتْوَىْ، لَا أَنْ يَأْخُذَ الْفَتْوَىْ عنْ كُلِّ من هَبَّ وَدَبَّ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِرِّيَّنَ -رَحِمَهُ الْلَّهُ-: "إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِيْنٌ فَانْظُرُوْا عَمَّنْ تَأْخُذُوْنَ دِيْنَكُمْ ".
فَاتَّقُوا الْلَّهَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُوْنَ، وَرَاعُوا حُرْمَةَ هَذِهِ الْشَّرِيِعَةِ، وَلَا تُقُوْلُوْا عَلَىَ الْلَّهِ مَا لَا تَعْلَمُوْنَ، (وَاسْأَلُوْا أَهْلَ الْذِّكْرِ إِنَّ كنتُمْ لَا تَعْلَمُوْنَ )



المشاهدات 7221 | التعليقات 10

هذا الخطر العظيم والمنزلق الخطير وهو القول على الله بلا علم لم يقع فيه أنصاف المتعلمين وللأسف بل قد وقع فيه أرباع المتعلمين وأعشارهم ومن لا ناقة له في الفقه ولا جمل ...

رحم الله امرأ عرف قدر نفسه فتواضع وعرض نفسه على النار قبل أن يقول بقول لا أثارة من علم عنده فيه ..

ولحا الله صحفيا أو مذيعا أو كاتبا يجعل من نفسه مفتيا في قضايا الأمة وهو لا يفقه طهارته وصلاته وأيسر أمور عباداته ...


إنه زمن العجائب ...
ومن عجائبه أن يزري الصحفيون على طلبة العلم الذين يفتون على علم ثم يفتون هم بلا علم أصلا ...

وما حال المشايخ وطلبة العلم مع هؤلاء المتسلقين المتطفلين الحمقى المغفلين إلا كحال من قال :

والله ما نسجوا على مِنْوالنا ... يوماً وإِنّا منهم بُرَآء
ومن العجائب أَن يَرَوْنا دونهم ... وهمُ لنا أَرضٌ ونحن سماء


[IMG]http://www.vb-khutabaa.com/picture.php?albumid=3&pictureid=47[/IMG]











.


تحريم الإفتاء بغير علم

محمد بن صالح العثيمين

أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله وحده له الخلق والأمر فلا خالق إلا الله ولا مدبر للخلق إلا الله ولا شريعة للخلق سوى شريعة الله، فهو الذي يوجب الشيء ويحرمه وهو الذي يندب إليه ويحلله، ولقد أنكر الله على من يحللون ويحرمون بأهوائهم.
فقال تعالى: start-icon.gif قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حلالاً وحراماً قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون mid-icon.gifوما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة end-icon.gif [يونس:59-60]. ويقول تعالى: start-icon.gif ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون mid-icon.gifمتاع قليل ولهم عذاب أليم end-icon.gif [النحل:116-117].
أيها الناس: إن من أكبر الجنايات أن يقول الشخص عن شيء إنه حلال وهو لا يدري عن حكم الله فيه، أو يقول عن الشيء إنه حرام وهو لا يدري عن حكم الله فيه، أو يقول عن الشيء إنه واجب وهو لا يدري أن الله أوجبه، أو يقول عن الشي إنه غير واجب وهو لا يدري أن الله لم يوجبه.
إن هذا جناية وسوء أدب مع الله عز وجل. كيف تعلم أن الحكم لله ثم تتقدم بين يديه فتقول في دينه وشريعته ما لا تعلم. لقد قرن الله تعالى القول عليه بلا علم بالشرك به فقال سبحانه: start-icon.gif قل إنما حرّم رَبِي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون end-icon.gif [الأعراف:33].
أيها الناس: إن كثيرا من العامة يفتي بعضهم بعضا بما لا يعلمون فتجدهم يقولون: هذا حلال أو حرام أو واجب أو غير واجب وهو لا يدري عن ذلك، أفلا يعلم هذا الرجل أن الله سائله عما قال يوم القيامة. أفلا يعلم أنه إذا أضل شخصا فأحل له ما حرم الله أو حَرَمه مما أحلّ الله له فقد باء بإثمه وكان عليه مثل وزر ما عمله من إثم بسبب فتواه؟
إن بعض العامة إذا رأى شخصا يريد أن يستفتي عالما يقول له: ما حاجة أن تستفتي؟ هذا واضح. هذا حرام، مع أنه في الواقع حلال فَيحْرِمُه ما أحل الله له.
أو يقول هذا واجب فيُلْزمه بما لم يلزمه الله به أو يقول هذا غير واجب فيسقط عنه ما أوجب الله عليه، أو يقول هذا حلال وهو في الواقع حرام فيوقعه فيما حرم الله عليه، وهذا جناية منه على شريعة الله وخيانة لأخيه المسلم حيث غره بدون علم.
لو أن شخصا سأل عن طريق بلد من البلدان فقلت: الطريق من هنا وأنت لا تعلم لعد الناس ذلك خيانة منك وتغريرا، فكيف تتكلم عن طريق الجنة وهو الشريعة التي أنزل الله وأنت لا تعلم عنها شيئا.
وإن بعض المتعلمين يقعون فيما يقع فيه العامة من الجرأة على الشريعة في التحليل والتحريم والإيجاب فيتكلمون فيما لا يعلمون ويُجْمِلون في الشريعة ويفصلون وهم من أجهل الناس في أحكام الله، إذا سمعتَ الواحد منهم يتكلم فكأنما ينزل عليه الوحي من جزمه فيما يقول وعدم تورعه، لا يمكن أن ينطق بلا أدري أو لا أعلم، مع أن عدم العلم هو وصفه الحق الثابت، وهذا أضر على الناس من العامة لأن الناس ربما يثقون بقوله ويغترون به، وليت هؤلاء يقتصرون على نسبة الأمر إليهم لا بل تراهم ينسبون ذلك للإسلام فيقول: الإسلام يقول كذا الإسلام، يرى كذا، وهذا لا يجوز إلا فيما علم القائل أنه من دين الإسلام، ولا طريق إلى ذلك إلا بمعرفة كتاب الله وسنة رسوله salla-icon.gif أو إجماع المسلمين عليه.
إن بعض الناس لجرأته وعدم ورعه يقول عن الشيء المحرم الواضح تحريمه: ما أظن هذا حراما، أو عن الشيء الواجب الواضح وجوبه: ما أظن هذا واجبا، إما جهلا منه أو عنادا أو مكابرة أو تشكيكا للناس في ذلك.
أيها الناس: إن من العقل وإن من الإيمان وإن من تقوى الله وتعظيمه أن يقول الرجل عما لا يعلم لا أعلم لا أدري اسأل غيري، فإن ذلك من تمام العقل، لأن الناس إذا رأوا تثبته وثقوا به ولأنه يعرف قدر نفسه حينئذ وينزلها منزلها، وإن ذلك من تمام الإيمان بالله حيث لا يتقدم بين يدي ربه ولا يقول عليه ما لا يعلم.
ولقد كان النبي salla-icon.gif يسأل عما لم ينزل عليه فيه الوحي فينتظر حتى ينزل عليه الوحي فيجيب الله سبحانه عما سئل عنه نبيه: start-icon.gif يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات end-icon.gif [المائدة:4]. start-icon.gif ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم ذكراً end-icon.gif [الكهف:83]. start-icon.gif يسألونك عن الساعة أيان مرساها mid-icon.gifقل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو end-icon.gif [الأعراف:187].
ولقد كان الأجلاء من الصحابة تعرض لهم المسألة لا يدرون حكم الله فيها فيهابونها ويتوقفون فيها، فها هو أبو بكر radia-icon.gif يقول: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا أنا قلت في كتاب الله بغير علم.
وها هو عمر بن الخطاب radia-icon.gif تنزل به الحادثة فيجمع لها الصحابة ويستشيرهم فيها وقال ابن سيرين لم يكن أحد أهيب بما لا يعلم من أبي بكر ولم يكن أحد بعد أبي بكر أهيب بما لا يعلم من عمر.
وقال ابن مسعود radia-icon.gif: أيها الناس من سئل عن علم يعلمه فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل الله أعلم فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم.
وسئل الشعبي عن مسألة فقال لا أحسنها فقال له أصحابه: قد استحيينا لك، فقال: لكن الملائكة لم تستحي حين قالت: لا علم لنا إلا ما علمتنا.
وجاء رجل إلى مالك بن أنس أحد الأئمة الأربعة فقال: يا أبا عبد الله جئتك من مسافة بعيدة في مسألة حمّلني إياها أهل بلدي لأسألك. فقال: فسل. فسأله فقال: لا أحسنها. فبهت الرجل فقال: ماذا أقول لأهل بلدي إذا رجعت إليهم قال: تقول لهم: قال مالك: لا أحسن.
وكان الإمام أحمد يسأل عن المسألة فيتوقف أو يقول: لا أدري أو يقول: سل غيري أو سل العلماء أو نحو ذلك.
فاتقوا الله أيها المسلمون ولا تقولوا في دين الله ما لا تعلمون: start-icon.gif فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين end-icon.gif.
اللهم اعصمنا من الزلل ووفقنا لصواب القول والعمل، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين إنك أنت الغفور الرحيم.

small-white-h-line.gif
الخطبة الثانية
لم ترد .


المصدر /موقع المنبر


عندما ينطق الرويبضة
سعيد بن عبد الباري بن عوض
عباد الله، ذكر بعض العلماء في كتبهم أن رجلاً كان يفتي كل سائل دون توقف، فلحظ أقرانه ذلك منه، فأجمعوا أمرهم لامتحانه بنحت كلمة ليس لها أصل هي (الخنفشار)، فسألوه عنها فأجاب على البديهة: بأنه نبت طيب الرائحة ينبت بأطراف اليمن، إذا أكلته الإبل عقد لبنها، قال شاعرهم:
لقد عقدت محبتكم فؤادي كما عقد الحليبَ الخنفشارُ
وقال داود الأنطاكي في تذكرته كذا، وقال فلان وفلان، وقال النبي salla-icon.gif فاستوقفوه، وقالوا: كذبت على هؤلاء فلا تكذب على النبي salla-icon.gif، وتحقق لديهم أن ذلك المسكين جِراب كذب وعَيْبة افتراء في سبيل تعالمه.
عباد الله، قد تبدو هذه للسامع وكأنها طرفة فيضحك منها، لكن الأمر كما قيل: شر البلية ما يضحك.
إن هذه القصة تمثل أنموذجًا من النماذج التي ابتليت بها هذه الأمة، من الذين يتكلمون في دين الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، يقولون ما لا يعلمون، ويهرفون بما لا يعرفون، ولئن كانت هذه القصة حدثت في الأزمنة الغابرة ففي زماننا هذا مئات القصص من مثل هذه القصة، بل عندنا ـ والله ـ ما هو أشد وأنكى من ذلك، وذلك كله عندما يتعلق الأمر بالكلام في دين الله وشرعه.
لقد أصبحت الساحة العلمية مباحة لكل من هب ودب، يصول فيها ويجول كل من اشتهى ولو لم يحمل سلاحًا ولا عدة، فإذا بنا نشاهد أطباء يفسرون القرآن، ومهندسين يصنفون في الحديث، بل وعمالاً ومهنيين عوام يُقصَدون للفتوى، وصحفيين يناقشون ويجادلون في أدق مسائل الدين! نعم، إن تدبر القرآن والتفقه في الدين ليس حِكرًا على طبقة من الناس، فلا رهبانية في الإسلام. إن تدبر القرآن والفقه في الدين مطلوبان من كل مسلم، لكن هذا شيء، والتصدر للفتوى والاجتهاد والتصنيف في علوم الشريعة شيء آخر، فكل ذلك حكر على أهله، وأهله هم كل من تحققت فيهم الأهلية العلمية حسبما يقرره أهل الاختصاص، وحسب القواعد والضوابط التي اصطلحوا عليها واستمر العمل بها إلى اليوم.
عباد الله، خرَّجَ الشيخ الألباني رحمه الله في كتابه السلسلة الصحيحة حديثًا رواه ابن ماجه والحاكم والإمام أحمد في المسند عن أبي هريرة radia-icon.gif قال: قال رسول الله salla-icon.gif: ((سيأتي على الناس سنوات خدّاعات، يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤْتَمَنُ فيها الخائن، ويُخَوَّنُ فيها الأمين، وينطق فيها الرُّوَيْبِضة))، قيل: وما الرُّوَيْبِضة؟ قال: ((الرجل التافه يتكلم في أمر العامة)). وعنون له الشيخ بقوله: "أليس هذا زمانه؟!". ويقال اليوم: بلى والله، إن هذا زمانه، وإنها السنين الخداعة التي نطق فيها الرُّوَيْبِضة. لقد أخبرنا بذلك رسولنا عليه الصلاة والسلام قبل مئات السنين، أخبرنا بظهور هذا الصنف من الناس، ودارت الأيام والسنون ونطق الرُّوَيْبِضة، وتكلم في أمر الدين وأفتى وأحل وحرم وليس هو من أهل العلم، بل ولم يُعرف بطلب العلم.
أيها الموحدون، إنه يجب علينا اليوم معرفة الكفء لهذه المهمة من أهل العلم الموثوقين المعروفين بالدين والصلاح والورع والعلم. وذلك أمر الله لنا عندما أمرنا بالتوجه لأولئك في حال الجهل وعدم العلم في شأن من شؤون ديننا، قال تعالى: start-icon.gifفَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَend-icon.gif [النحل:43]. إن الكثير من الأمة اليوم بحاجة إلى معرفة من هو المؤهل لأن يُسأل، وليس كل من تكلم في الدين أهل لأن يُسأل، إنما يعرف العالم باهتدائه بهدي الوحيين القرآن والسنة على فهم السلف الصالح القرون الثلاثة المفضلة، لا على فهم المتأخرين الذين إن تكلموا في الفقه فبالرأي، أو في التفسير فبما تمليه عقولهم وأفهامهم، حتى تسمع أحدهم يفسر الجزء من القرآن لا يذكر في تفسيره حديثًا واحدًا أو قولاً لأئمة المفسرين، من أمثال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما من الصحابة، أو من بعدهم من مثل مجاهد، ولا من أصحاب التفسير كالطبري وابن كثير وغيرهما، ممن فسروا القرآن تفسيرًا أثريًا مبنيًا على الآثار الواردة فيه من أحاديث وغيرها. ويعجب الكثير من المسلمين بقوله، وما عرفوا أن ذلك أبعد ما يكون عن تفسير كلام الله ومعرفة مراده. فمن يا ترى ـ بالله عليكم ـ يكون أعلم بمراد الله في الآيات من رسوله salla-icon.gif؟! ومن يا ترى يكون أعلم بذلك من أصحابه من بعده؟! لكن مشكلتنا أننا نعجب ببهرجة الأقوال وزخرفتها، ولو خالفت الحق ما درى الكثير منا.
عباد الله، يقول ابن سيرين رحمه الله كما في مقدمة صحيح مسلم: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم".
من الواجب على كل مسلم أن يعرف من الذي يُستفتى، وليس كل من نصب نفسه لذلك فهو أهل. إن الدين يؤخذ من العلماء المشهود لهم بالعلم والتقوى والورع، الذين إذا تكلموا فبقول الله وقول رسوله لا بزخرف القول غرورًا. وما أحسن ما قاله ابن القيم في العلماء، قال رحمه الله: "ورثة الرسل وخلفاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم الذين قاموا بالدين علمًا وعملاً، وهم بمنزلة الطائفة الطيبة التي زكت فقبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وهؤلاء هم الذين جمعوا بين البصيرة في الدين والقوة على الدعوة، فبالبصائر يدرك الحق ويعرف، وبالقوة يتمكن من تبليغه وتنفيذه والدعوة إليه".
ولقد أصبح اليوم كتاب صحفيون يتكلمون في الدين، ومقدمو برامج في قنوات فضائية يفعلون ذلك. لكن يجب أن نعلم أننا لا نأخذ ديننا من كاتب محترف، ولا مذيع متكلم، ولا نأخذ ديننا من الصحف أو المجلات أو القنوات الفضائية، بل نأخذه من أفواه علمائنا الذين عرفوا بأهليتهم لذلك، لا من حملة شهادات عالية في مجالات دنيوية يحسبون أنهم بحملهم لهذه الشهادات مؤهلون للخوض في غمار المسائل الشرعية دقيقها وجليلها. إن هؤلاء ـ عباد الله ـ هم الرُّوَيْبِضة الذين ذكرهم رسول الله salla-icon.gif.
وإليكم بعض الأمثلة لبعض الرُّوَيْبِضة الذين كثروا في زماننا هذا. فقد قام أحدهم مثلاً بإنكار الشفاعة، وتكلم في ذلك وناقش بجرأة وجهل، وليس هذا شأنه لكنه متعالم، ويَضِلُّ المتعالم ويحار عندما يتكلم فيما ليس له فيه، فقد قال منكر الشفاعة مثلاً: "وتتواتر الأحاديث بهذا المعنى بصياغات مختلفة في البخاري وغيره، ويقف المسلمون أمام الاختيار الصعب بين النفي القرآني وبين ما جاء في السنة"، ويقول أخرى: "والنبي salla-icon.gif يشكو أمته في القرآن، ولا يتوسط لمذنبيها، فيقول لربه: يا رب، إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورًا، وهي شكوى صريحة وكلام مناقض لأي شفاعة".
ومثال آخر لرجل يصنَّف كاتبًا إسلاميًّا ومفكرًا، ذا مِبْضَع يدمل به جراح الأمة في تدينها المنقوص وأزمة وعيها الديني كما زعموا! فهذا الرجل الفقيه يقول: "إن علم الشريعة يتجاوز دارسي العلوم الشرعية ليشمل كل من حسن إسلامه، وتعمق في أي فرع آخر من فروع المعرفة الإنسانية والعلمية"، ويقول: "قلت للشاب الماليزي المتحمّس: إن الترويج للأغاني العربية الراقية لا يعد متعة مشروعة ومطلوبة فقط، ولكنه يؤدي رسالة أيضًا من حيث إنه يجذب الناس إلى اللغة العربية، ويعلمهم مفرداتها بمضي الوقت". هكذا يقول ويفتي في الغناء، نسأل الله العافية.



small-white-h-line.gif
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وصلى الله على نبيه الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وصحبه وإخوانه.
وبعد: فعندما تكلم أمثال هؤلاء ـ عباد الله ـ ظهرت الأقوال الشاذة والآراء الغريبة، كالقول بجواز التأمين بشتى صوره، والقول بعموم (في سبيل الله) في مصارف الزكاة لبناء المساجد والمستشفيات خرقًا للإجماع كما قرره المفسرون. والقول بنفي فضيلة ماء زمزم، والقول بإباحة الغناء. وهكذا في سلسلة أقوال شاذة وآراء فجة يمسك المتعالم لها رواية ضعيفة أو خلافًا شاذًا أو فهمًا مرضًا، فيبني عليه فتوى مجللة بحلل البيان ونضد الكلام، لكنها عَرِيّة عن الدليل والبرهان. والله المستعان.
وبعضهم يستخدم التلفيق المذهبي وتتبع الرخص، فما لا يجوز في مذهب أحمد يجوز في مذهب الشافعي، وما لا يجوز في مذهب مالك يجوز في مذهب أبي حنيفة، وهكذا يكون الرائد والقائد في هذا هو هوى النفس لا رضا الرب، عافانا الله وإياكم.
وخرج منهم كذلك من يقول لنا: يجوز للمسلم أن يبدّل دينه كما يجوز للمسيحي أن يبدّل دينه، معارضًا بذلك قول رسول الله salla-icon.gif: ((من بدّل دينه فاقتلوه)) الذي ورد في صحيح البخاري وعند أصحاب السنن الأربعة.
عباد الله، إنها مجموعة هجمات شرسة على الفتوى، وجرأة فارهة، وانحدار بها واعتداء عليها من الأصاغر حينًا ومن صغار النفوس تارة أخرى، فاتحين بذلك في حصن الدين المحكم ثلْمًا، وفي السفينة ثقبًا، لتؤول حال المسلم مع هذه الجرأة إلى الضلال والانحراف. وهذه الهجمات تمنح الجهلة فرصة لاقتحام حمى الفتوى وتقويض بناء الدين والخوض في حرماته خوضًا غير مشروط بعلم ولا تخصص ولا تقوى، فإذا اشتهت أنفس هؤلاء تناول الفتوى فليمد يده ولسانه، وليقل ما يشاء بلا رقيب من نفسه ولا غيره.
وهكذا نطق الرُّوَيْبِضة، ومُكِّن من الكلام دون أثارة من علم، وصارت الصدارة للمتفيهقين والمتشدقين الذين يحملون الناس على فتاوى شاذة وغريبة، غاية ما تؤدي إليه الإدبار عن الدين والنفور عن المسلمين. وعندما نطق الرُّوَيْبِضة في مثل هذه الأزمان دفعنا إلى أمر تضج منه الحقوق إلى الله ضجيجًا، وتعج منه الفروج والأموال والدماء إلى ربها عجيجًا، تُبدّل فيه الأحكام، ويقلب فيه الحلال بالحرام، ويجعل المعروف فيه أعلى مراتب المنكرات, والذي لم يشرعه الله ورسوله من أفضل القربات, الحق فيه غريب، وأغرب منه من يعرفه، وأغرب منهما من يدعو إليه، وينصح به نفسه والناس.
يقول ابن القيم رحمه الله واصفًا حال المتعالمين: "انتكست عليهم قلوبهم، وعميَ عليهم مطلوبهم، رضوا بالأماني، وابتلوا بالحظوظ، وحصلوا على الحرمان، وخاضوا بحار العلم لكن بالدعاوى الباطلة وشقاشق الهذيان، ولا ـ والله ـ ما ابتلّتْ من وَشَلِه أقدامهم، ولا زكت به عقولهم وأحلامهم، ولا ابيضت به لياليهم وأشرقت بنوره أيامهم، ولا ضحكت بالهدى والحق منه وجوه الدفاتر إذ بلت بمداده أقلامهم، أنفقوا في غير شيء نفائس الأنفاس، وأتعبوا أنفسهم وحيروا من خلفهم من الناس، ضيعوا الأصول فحرموا الوصول، وأعرضوا عن الرسالة فوقعوا في مَهَامِه الحيرة وبيداء الضلالة".
ويقول رحمه الله: "وقد رأى رجل ربيعة بن أبي عبد الرحمن يبكي فقال: ما يبكيك؟ فقال: استُفتِي من لا علم له, وظهر في الإسلام أمر عظيم، قال: ولَبعض من يفتي ها هنا أحق بالسجن من السُّرَّاق. قال بعض العلماء: فكيف لو رأى ربيعة زماننا وإقدام من لا علم عنده على الفتيا، وتوثّبه عليها، ومد باع التكلف إليها، وتسلقه بالجهل والجرأة عليها، مع قلة الخبرة وسوء السيرة وشؤم السريرة، وهو من بين أهل العلم منكر أو غريب، فليس له في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف نصيب, ولا يبدي جوابًا بإحسان وإن ساعد القدر فتواه كذلك يقول فلان بن فلان.
يمدون للإفتاء باعًا قصيرة وأكثرهم عند الفتاوى يُكَذْلِكُ
ونقل رحمه الله قولاً لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب radia-icon.gif، فقال: "وقال علي بن أبي طالب radia-icon.gif لكميل بن زياد النخعي وهو حديث مشهور عند أهل العلم يستغني عن الإسناد لشهرته عندهم: يا كميل، إن هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها للخير، والناس ثلاثة: فعالم رباني, ومتعلم على سبيل نجاة, وهَمَج رَعَاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل صائح، لم يستضيؤوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، ثم قال: آه! إن ها هنا علمًا ـ وأشار بيده إلى صدره ـ لو أصبت له حملة بل قد أصبت لقنًا غير مأمون، يستعمل آلة الدين للدنيا، ويستظهر بحجج الله على كتابه، وبنعمه على معاصيه، أو حامل حق لا بصيرة له في إحيائه، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، لا يدري أين الحق، إن قال أخطأ، وإن أخطأ لم يدر، مشغوف بما لا يدري حقيقته، فهو فتنة لمن فتن به. وإن من الخير كله من عرفه الله دينه، وكفى بالمرء جهلاً أن لا يعرف دينه".
عباد الله، ولخطورة هذه القضية صح عن رسول الله salla-icon.gif أنه قال: ((إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان)) رواه أحمد.
فنسأل الله جل وعلا أن يرحم أمة محمد salla-icon.gif، وأن يعصمها من إضلال المضلين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.


المصدر /موقع المنبر


خطورة الفتوى
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
أمّا بعد، فيا أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوَى الله جلّ وعلا، فبتقواه تُفلِحوا تسعَدوا في الدنيا وفي الآخرة.
إخوةَ الإسلام، أخطرُ المعاصِي وأشدُّ الذنوب القولُ على الله جلّ وعلا بغيرِ علمٍ وبيان والخوضُ في الشريعةِ بغير حُجَّة ولا بُرهان، فربُّنا جلّ وعلا يقول: start-icon.gifقُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونend-icon.gif [الأعراف: 33].
معاشرَ المسلمين، التّصدُّر للفتوَى أمرٌ عظيمٌ وشأنٌ كَبير، لا يجوزُ الإقدامُ عليه إلاَّ لمن كان ذا عِلمٍ ضَليعٍ وعقلٍ سَديد، جثَا بالرُّكَب أمامَ العلَماءِ الربانيِّين، وسَهرَ الليالي لتحصيل أدلةّ الوحيَين والتبصُّرِ بقواعد ومقاصد الدين.
وعلى هذا المنهجِ تربّى السلَف الصالحون، وتواصى عليه العلماءُ الربانيون، قال أبو بكرٍ رضي الله عنه: (أيُّ سماء تُظِلُّني وأيُّ أرضٍ تُقِلُّني إن أنا قُلتُ في كتاب الله ما لا أعلم؟!)، ويقول عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله: "أدركتُ عشرين ومائةً من أصحابِ رسول الله salla-icon.gif، فما كان مِنهم مُحدِّثٌ إلاَّ ودَّ أنَّ أخاه كفاه الحديث، ولا مُفتٍ إلاَّ ودَّ أن أخاه كفاه الفُتيا".
الفتوى مجالٌ عظيمُ الخطر كبيرُ القدر، فلا بدّ من إحكامِ قواعدِها الشرعيّة وضوابطها الدينيّة، خاصةً في نوازل الأمّةِ وأيّام الفتن، قال سبحانه: start-icon.gifوَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونend-icon.gif [النحل: 116]، ورسولُنا salla-icon.gif يقول: ((من قال عَليَّ ما لم أقُل فليَتبوَّأ بيتًا مِن جهنّم، ومن أُفتِيَ بغيرِ علمٍ كان إثمُه علَى مَن أفتاه)) متفق عليه. يقول سُحنون بن سعيد رحمه الله: "أجرَأ الناسِ على الفُتيا أقلُّهم علمًا".
إخوةَ الإيمان، منصبُ الفتوى ممّا لا يُستفاد بتصدير الآخرين للشّخص، وإنما مَدارُه على العِلم الحقيقيّ والدراية التامّة بنصوص الوحيَين وأقوال العلماء السابقين ومقاصد الشّريعة وأهدافها العظيمة. وإن الويلاتِ لتنزل والمصائب تحُلّ حينما يتصدَّر من فيه جِراءةٌ على الفتوَى بغير بحثٍ عميق ولا علمٍ دقيق ودرايةٍ وافية، فرسولنا salla-icon.gif يقول: ((إنَّ الله لا يقبِض العلم انتزاعًا ينتَزعه من النّاس، ولكن يقبِض العلم بقبضِ العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالمًا اتَّخذ الناسُ رؤوسًا جهَّالاً، فسُئِلوا فأفتوا بغير علمٍ، فضلُّوا وأضلُّوا)).
معاشرَ العلَماء، احذَروا من السّقَطات، وتذكَّروا العرضَ على بارئ الأرض والسّماوات، ولنتذكَّر قول الخطيبِ البغداديّ رحمه الله: "قلَّ من حَرص على الفتوى وسابق إليها وثابَر عليها إلاَّ قلَّ توفيقه، واضطرب في أمرِه، وإذا كان كارهًا لذلك غيرَ مختارٍ له وما وجَد مندوحةً عنه ولم يقدِر أن يُحيل الأمرَ فيه على غيره كانتِ المعونةُ له من الله أكبر، والصّلاحُ في فتاويه وجوابِه أغلَب" انتهى.
يا من يُطالِع العالَم بالفضائيات والشبكات فما سأله أحدٌ إلا وجدتَه مُتصدِّرًا للفُتيا مسَارعًا، تذكَّروا أنكم ستقفون أمامَ ربِّ العالمين، فاحذَروا من التسرُّعِ في الفتوى، وتجنَّبوا تعجُّل القولِ في كلّ صغيرة وكبيرة، وفي كل شأن. يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (إنَّ الذي يُفتي الناسَ في كلِّ ما يسألونه لمجنون).
تذكَّروا منهجَ السلفِ الصالحين وأقوالَ العلماء العامِلين، قال عليٌّ رضي الله عنه: (وا بَردها على كبدي ـ ثلاث مرات ـ، أن تسألَ الرجلَ عمّا لا يعلم، فيقول: الله أعلم)، ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: (إذا غفل العالم عن لا أدري أُصيبَت مقاتِلُه)، وعن عقبةَ بن مسلم قال: صحبتُ ابن عمر رضي الله عنه أربعةً وثلاثين شهرًا، فكثيرًا ما كان يُسأَل فيقول: لا أدري، ثم يلتَفتُ إليَّ فيقول: تَدري ما يريدُ هؤلاء؟! يريدون أن يجعلوا ظهورَنا جِسرًا إلى جهنّم.
وأقوالُ التابعين في ذلك مشهورةٌ متواتِرة، قال أبو حصين: "إنَّ أحدَكم ليُفتي في المسألة ولو ورَدت على عمَرَ لجمع لها أهل بدر"، وقال أبو عثمان الحدَّاد: "مَن تأنَّى وتثبَّت تهيَّأ له من الصّواب ما لا يتهيَّأ لصاحب البديهة"، ومكَث سُحنون متحيِّرًا في فتوى ثلاثةَ أيام، ولما قيل له قال: مسألةٌ معضِلة، قال المُستفتي: أنتَ لكلّ مُعضِلة، قال: هيهات يا ابن أخي، ليس بقولك هذا أبذُلُ لك لحمي ودمي إلى النار.
معاشرَ المسلمين، ومع هذا فقد ظهَر من الكُتَّاب والمُثقَّفين في إعلامِ المسلمين ـ وللأسف ـ من نصَّب نفسه مُفتيًا في علوم الدين والإفتاء بما يخالفُ قواعدَ الدين؛ مثل تلك الدّعوات التي تدعو لبدعةِ المولدِ النبويّ، وأنها لا بأسَ بها، مع تقرُّر أقوال العلماء في أنها بدعةٌ ما أنزل الله بها مِن سلطان، ومثل الدعاوى التي تتضمَّن تحريرَ المرأة المسلِمة من حِجابها وعِفَّتها، وغيرها من الدّعوات التي تُخالف ثوابتَ الدين وقواطعَ الوحيَين.
فلنحذر كلَّ الحذَر ـ أيها المسلمون ـ مِن مثل هذه الكتابات السّخيفة والأقوال الممزوجة، وقديمًا قال ربيعة شيخ مالك: "وبعضُ من يُفتي هنا أحقُّ بالسّجن من السُّرَّاق".
معاشرَ العلماء، تذكّروا منهجَ الصحابة والتابعين، وأنَّ الفتوى تتطلَّب تَصوُّرًا صَحيحًا للمسألة النازِلة، تصوُّرًا يحيط بجوانِبها، ويَكشِف مُلابساتها، ويَتعمَّق في ظاهِرها وباطنِها، مع تنزيلِ ذلك على الأدلّةِ الشرعية الصّحيحة والقواعِد القرآنيّة العامّة والنصوص النبويّة، وفقَ تقوى للربّ جلّ وعلا وصحّة فهمٍ وحسن قصد وتحرٍّ للحقّ، ووفقَ منهجيّة سليمةٍ في إحكام قواعدِ الاستدلال وضوابطِ النظَر التي سطَّرها العلماء وقرَّروها.
وليتذكَّر من ابتُلِي بالفتوَى وجوبَ التثبُّت والتأنِّي، ومراعاة المشورة وتقليب أوجه النظر، وعدم التسرُّع والتعجُّل، فبذلك يقع المُفتي في الزّلل، ويُجانبُ الصواب، كما نرى ذلك في أرض الواقع. قال مالك: "العجلة في الفتوى نوعٌ من الجهل والخَرَق"، وقال ابن القيم: "وكان السّلَف من الصحابة والتابعين يكرَهون التسرُّع في الفتوى"، ورسولنا salla-icon.gif يقول: ((أشدُّ ما أتخوَّف على أمتي ثلاثة: زلَّة عالم ـ وهذا إنما يحصل بالفتوى ـ، وجدل منافق بالقرآن، ودُنيا تقطع رقابكم، فاتهموها على أنفسكم))، وصحَّ عن عمرَ أنه قال: (يهدِمُ الإسلامَ زلّةُ العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحُكم الأئمة المُضلّين).
معاشرَ العلماء، ولنتذكَّر أنّ أعظمَ الضماناتِ لصحّة الفتوى واستقامتِها على طريقةِ الشريعةِ الإسلامية الحرصُ على مراعاةِ التورُّع عن الفتوَى ما أمكَن، قال عطاء رحمه الله: "أدركتُ أقوامًا إن كان أحدُهم ليُسأَل عن الشيءِ فيتكلَّم وإنّه ليرعُد"، وكان ابنُ المسيّب لا يكاد يُفتي إلا قال: اللهم سلِّمني وسلِّم مني، وقال سفيان الثوري: "أعلمُ الناس بالفُتيا أسكتُهم عنها، وأجهلُهم بها أنطقُهم"، وقال مالك رحمة الله على الجميع: "ما أفتيتُ حتى شهِد لي سبعون من أهل المدينة أني أهلٌ لذلك"، ثم قال: "أدركتُ أهلَ العلم والفقه ببلدنا إذا سُئِل كأن الموتَ أشرفَ عليه"، ويقول أيضًا لمن سأله: "ويحك! تريد أن تجعلني حُجَّة بينك وبين الله، فأحتاج أنا أولاً أن أنظرَ كيف خلاصي، ثم أُخلِّصُك"، ويقول الشافعي رحمه الله: "ما رأيتُ أحدًا جمع الله جلّ وعلا فيه من آلة الفُتيا ما جمع في ابنِ عيينة أَسكَتَ منه على الفُتيا"، وعن سُحنون أنه قال يومًا: "إنا لله، ما أشقى المُفتي والحاكم!"، ثم قال: "ها أنا ذا؛ يُتعلَّمُ مني ما تُضرَب به الرقاب، وتُوطَأ به الفُروج، وتُؤخَذ به الحقوق، أما كنتُ عن هذا غنيًّا؟!".
ومع هذا ـ أيها الناس ـ فلا بدّ للناس ممن يجيبهم في مسائلِ دينهم، ويُبيِّن لهم أحكامَ ربِّهم، ولكن هذا يجب أن لا يقومَ به إلا العلماء المُؤَهَّلون الذين بلغوا في العلمِ أعمَقَه، وفي العقل أرجحه، وفي الحكمةِ أتمَّها، وفي التروِّي أشدَّه، وفي الخبرة أعظمَها.
معاشرَ طلبةِ العلم، احرِصوا على مراعاةِ مقاصد الشريعة في الفتاوى، فلا يبلغُ طالبُ العلم درجةَ الاجتهاد حتى يتمكَّن من ذَلك، كمَا قال الشاطبي فإنه قال: "لا يتمكَّن طالب العلم من الاجتهاد حقَّ الاجتهادِ حتى يفهم هذه المقاصِدَ على كمالها، ثم يتمكَّن من الاستنباطِ بناءً على الفهم فيها"؛ ولهذا فمن الخطأ الإفتاء بالأدلة الجزئية دونَ ربطها بالكليات العامّة للتشريع والمقاصد العامة للشريعة، يقول الشاطبي أيضًا: "فزلَّة العالمِ أكثرُ ما تكون عند الغفلةِ عن اعتبارِ مقاصدِ الشرع في ذلك المعنى الذي اجتهَد فيه" انتهى.
ولهذا ـ أيها المسلمون ـ ما يقع الاضطراب والتخبُّط في الفتاوى إلاَّ حينما تصدُر الفتاوَى بمنأى عن هذا المنهَج، ذلكم أنَّ القواعد الكبرى والمقاصدَ العامّة أساسٌ لإنضاج الاجتهاد وتقويمه، وأساسٌ لتوسيعه وتمكينه من استيعاب نوازلِ الحياةِ بكل تقلُّباتها وتشعُّباتها، ولكن الشأن: أينَ العلماء الربانيون؟!
ولنعلم أنَّ الواجب حملُ الناس على المعهود الوسَط، فلا يُذهَب بالناس مذهبَ الشدّة، ولا يُمال بهم إلى درجةِ الانحلالِ والرُّخَص التي تخالف صريحَ القرآن والسنة.
وإنّ مما يجب أن يُراعَى في الفتاوى النظرَ في مآلات الفتاوى، وأن يُقدِّر العالمُ عواقبَ فتواه، وما يترتَّب عليها في الحاضر والمستقبل، يقول ابن القيم رحمه الله في كلامٍ بديع: "فإذا كان في المسألةِ نصٌّ أو إجماعٌ فعليه تبليغه بحسَب الإمكان، فمن سُئِل عن عِلمٍ فكتمَه ألجمَه الله يومَ القيامة بلِجامٍ من نار، هذا إذا أَمِن المُفتي غائلةَ الفتوى، فإن لم يأمَن من غائِلتها وخافَ مِن ترتُّب شرٍّ أكبر أمسَك عنها ترجيحًا لدَفع أعلَى المفسدَتين باحتمال أدناهما"، إلى أن قال: "وكذلك إذا كان عقلُ السائل لا يحتمل الجواب لما سأل عنه، وخاف المسؤول أن يكونَ فتنة له أمسَك عن جوابه" انتهى.
كما أنّ الواجب الحذرُ من الوقوعِ في الزلَل بالفتاوى أيّام الفتن والمحن، فقد حَذَّر من ذلك العلماء، فمن قواعِدهم التي بَرهَنوا عليها في نصوصِ الوحيين ومنهَج الصحابة قولهم: "مما لا يُطلَب نشرُه ـ أي: من العلماء والمُفتين ـ ما يُؤدِّي إعلانُه إلى مَفسدةٍ أو ضَررٍ أو إثارَةِ فتنة أو غوغاء، أو ما يُؤدِّي إلى تأثيرٍ بالمنهج العامّ للأمّة، أو يُؤدِّي إلى الحيرة والفسادِ في دنيا الناس ودينهم"، ومثَّلوا لذلك بالأقوالِ الشاذّة والخلافاتِ الضعيفة واستجلاب الرُّخَص المخالفة للنصوص.
ألا فليحذر شبابُنا من فتاوَى لا مصدَر لها، أو من فتاوى لا يتبنَّاها علماءُ الأمّة، ولا تجتمع عليها كلِمتُهم، خاصّة في المسائلِ العامّة والنوازل التي تنزل بالأمّة الإسلاميّة اليوم. كما أنّ الواجب على المسلمين الحذر من الفتاوى التي تتقمَّص الرُّخَص، خاصةً ما يقَع اليومَ في المعاملاتِ الاقتصادية من فتَاوى مبناها على مجرّد دعوى التيسير، ومع هذا تُبنى على بعضِ القواعدِ الفقهيّة عند الفقهاء التي هي مجرّد اجتهادات يُحتجُّ لها ولا يُحتجُّ بها، وقديمًا قال العلماء المُحقِّقون: "القاعدة الفقهيّة التي تُؤخَذ من أقوال الفقهاء ليست حُجَّةً بنفسها، وإنما الحُجَّة في الدليل الشرعي".
أيّها المُفتون، احرِصوا على وضوحِ العبارةِ في الفتوَى، وأن لا تحملَ عبارة غامِضة، ولا مصطلحًا غريبًا، ولا كلامًا مُجملاً لا يحصل به المقصود، أو تختلف فيه الأنظار والأفهام، وحينئذٍ الضحية من؟ هو المجتمع. فمن مُقرَّرات العلماء عدمُ جواز الإفتاء بما يُحيِّر السائلَ ويُلقيه في الإشكال، بل لا بدّ من بيان مُتضمِّن لفصل الخطاب، كافٍ في حصولِ المقصودِ.
ثمّ لا بد من الانبساط للناس، ورحابة الصدر لهم، وتحمُّل سماع مسائلهم ومشاكلهم بطيب نفسٍ وسعة بالٍ، ففي الحديث عن النبيِّ salla-icon.gif: ((أحبُّ الناسِ إلى الله أنفعهم للناس)).
بارك الله لي ولكم في القرآنِ، ونفعَنا بما فيه من البيانِ، أقول هذا القولَ، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



small-white-h-line.gif
الخطبة الثانية
الحمد لله وليِّ الصالحين، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له إِله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيِّدنا محمدًا عبده ورسوله إمامُ المتقين، اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيا أيها الناس، أوصيكم ونفسي بتقوَى الله، فمن اتقى الله وقاه، وأسعَده ولا أشقاه.
أيّها المسلمون، الواجبُ على المُستفتي سؤالُ العالم الذي تواترَ عند الناس بفضله وعلمه وبالسير على المنهج الصحيح وكونه أهلاً للفتوى، لا أن يأخذَ الفتوى من كلّ ما هبَّ ودبَّ. ذكر الخطيب البغدادي أنه سمع مُناديًا يُنادي في المدينة المُنوّرة أن لا يُفتي في مسجد رسول الله salla-icon.gif سوى مالك؛ ذلك أنه اشتهر وتواتر عند الناس بفضله وعلمه وتقواه وورَعه.
المسلم مُطالَبٌ بالبَحثِ والتحرِّي عمّن يرَى به الأمانةَ والتقوَى والعَقل والتأنِّي، فأثمنُ شيءٍ لدى الإنسان هو دينُه، وأَعظمُ بِضاعةٍ تحقيقُ تقوَى الربّ جلّ وعلا، ومَطلب ذلك لا يكون إلا بالعِلم الشرعيّ الصحيح.




المصدر /موقع المنبر


مرور الكرام;5009 wrote:

والله ما نسجوا على مِنْوالنا ... يوماً وإِنّا منهم بُرَآء
ومن العجائب أَن يَرَوْنا دونهم ... وهمُ لنا أَرضٌ ونحن سماء

جميل هذان البيتان في تصوير واقع العلماء مع أولئك السفلة ، فوالله ما يستطيع أولئك المخذولون وإن حاولوا أن يأتوا بعشر معشار ما عند العلماء من الحق المبني على الدليل من الكتاب والسنة ، فهم أرض سفلى والعلماء سماء عليا .
لقد خذلوا أنفسهم باتباعهم الهوى ، ورفع أقدار العلماء اقتفاؤهم الأثر واتباعهم الهدى ، فشتان ما هؤلاء وأولئك .


يا شيخ عبد الله

[IMG]http://www.vb-khutabaa.com/picture.php?albumid=3&pictureid=43[/IMG]



.


خطب لها علاقة بالموضوع من مختارات الخطب من الموقع

خطب مختارة في الفتوى وتتبع الرخص


يا شيخ علي

[IMG]http://www.vb-khutabaa.com/picture.php?albumid=3&pictureid=37[/IMG]


القول على الله بلا علم
صلاح بن محمد البدير



أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتقوا الله فتقواه أربحُ بضاعة، واحذروا معصيتَه فقد خابَ عبدٌ فرَّط في أمر الله وأضاعه، start-icon.gifيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَend-icon.gif [آل عمران: 102].
أيّها المسلمون، للشريعةِ حُرمةٌ عظيمة، لا يجوز انتهاكُها ولا يحِلّ تنقُّصها، ولها أحكامٌ لا يجوز تغييرها ولا تبديلها.
وإنَّ مِن التعدِّي على حرمةِ الشريعة وأحكامها نشرَ فتاوى شاذَّة وأقوالٍ ساقطة تهدِم الإسلامَ وتثلم الدينَ، وتثير البلبلةَ والفِتنة، وتفتِن ضعافَ العقول والعلمِ والدّين، وتظهِر الحقَّ في صورةِ الباطل والباطلَ في صورة الحق.
ومن البلاءِ تصدُّرُ أقوامٍ للإفتاءِ أحدُهم بين أهل العلم منكَر أو غَريب، ليس له في مَقام الفتوَى حظٌّ ولا نصيب. غرَّهم سؤالُ من لا علمَ عنده لهم ومسارعةُ أجهلَ منهم إليهم.
يقول الإمام مالك رحمه الله تعالى: أخبرني رجلٌ أنّه دخل على ربيعة بن أبي عبد الرحمن فوجده يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ أمصيبة دخَلت عليك؟! فقال: لا، ولكن استُفتِيَ مَن لا عِلم له وظهر في الإسلام أمر عظيم، وقال: ولَبعضُ من يفتي ها هنا أحقُّ بالسّجن من السُّرَّاق.
وإنَّ من الافتراءِ على الله تعالى والكذِب على شريعتِه و عبادِه ما يفعَله بعضُ من رغِبوا في الأغراضِ الدنيوية العاجلة والأعراضِ الدنيئةِ الزائلة من التسرّع إلى الفُتْيا بغير علم، والقول على الله تعالى بلا حُجّة، والإفتاء بالتشهّي والتلفيق، والأخذِ بالرّخَص المخالفة للدليل الصحيح، وتتبّع الأقوال الشاذّة المستنِدة إلى أدلّة منسوخةٍ أو ضعيفة، والتي لا يخفَى على من له أدنى بصيرةٍ مفاسدُها الكثيرة وآثارُها السيّئة العظيمة على الإسلام وأهله، والتي لا يقول بها إلا من فَرَغ قلبه من تعظيم الله وإجلاله وتقواه، وعُمِّر بحبّ الدنيا والتقرّب إلى الخلق دون الخالق. يقول بعض السلف: "أشقى الناس من باع آخرتَه بدنياه، وأشقى منه من باع آخرته بدنيا غيره".
ألا فليتذكّر هؤلاء يومًا تكعّ فيه الرجال، وتشهد فيه الجوارح والأوصال، ويحصَّل يومئذ ما في الصدور كما يُبعثر ما في القبور، وهناك يعلم المخادعون أنهم لأنفسهم كانوا يخدَعون، وبدينهم كانوا يلعبون، start-icon.gifوَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَend-icon.gif [الأنعام: 123]، start-icon.gifلِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَend-icon.gif [النحل: 25].
جهلاء سفهاءُ، قصُر في باب العِلم باعُهم، وقلَّ فيه نظرهم واطِّلاعهم، يخوضون في نوازلَ عامّة وقضايا حاسمة وهامّة بلا علم ولا رويَّة، يخبِطون خَبْط عشواء، ويأتون بما يُضادّ الشريعة الغرّاء، ويقولون باسم الإسلامِ ما الإسلامُ منه براء. قال سحنون بن سعيد رحمه الله تعالى: "أجسرُ الناسِ على الفتيا أقلّهم علمًا، يكون عند الرجل البابُ الواحد من العلم فيظنَّ أنّ الحقَّ كلّه فيه"، وقال ابنُ وهب: سمعت مالكًا يقول: "العجلةُ في الفتوى نوعٌ من الجهلِ والخرقِ"، وقال الإمام مالكٌ رحمه الله تعالى:"ما أفتيتُ حتى شهِد لي سبعون أني أَهْلٌ لذلك"، وقال عبد الرحمن بنُ مهدي: كنّا عند مالك فجاءَه رجل، فقال: يا أبا عبد الله، جئتُك من مسيرةِ ستة أشهر، حمَّلني أهل بلدي مسألةً أسألُك عنها، فسأل الرّجل عن المسألةِ، فقال الإمامُ مالك رحمه الله تعالى: لا أدرِي، فبُهت الرجل وقال: أيّ شيء أقول لأهل بلدي إذا رجعت إليهم؟! قال: تقول لهم: قال مالك: لا أدري. وقال المروذي: سمعت أبا عبد الله يقول: "ليتَّق الله عبدٌ، ولينظر ما يقول وما يتكلَّم به؛ فإنه مسؤول"، وقال بعض السلف: "ليتَّق أحدكم أن يقول: أحلَّ الله كذا وحرَّم كذا، فيقول الله له: كذبتَ لم أحلَّ كذا ولم أحرِّم كذا.
start-icon.gifوَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ mid-icon.gif مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌend-icon.gif [النحل: 116، 117]، start-icon.gifقُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَend-icon.gif [الأعراف: 33].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ والسنّة، ونفعني وإيّاكم بما فيهما من البيِّنات والحكمة. أقول ما تسمعون، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

small-white-h-line.gif
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيِّدنا محمَّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتقوا الله حقَّ تقاته، وسارعوا إلى مغفرته ورضوانه، وحاذِروا أسباب غضبه وسخطه وعذابِه.
أيّها المسلمون، لا يجوز أن يمكَّن من الخوضِ في الفتوَى الجاهِلون بمقاصدِ الشريعةِ ومداركِ الأحكام، المتخرِّصون على معانيها بالظنّ، المتعالمون بلا رُسوخ، الخائِضون في مظانّ الاشتباه بلا تمييز، المقتَحِمون غمارَ الفتوى بلا علم ولا عدّة ولا تأهيل. وفي الأمّة علماءُ متمكِّنون من دَركِ أحكامِ الوقائع، بصيرون بمسالك النّظر والاستنباط، راسِخون في التخريجِ والترجيح. ولا تنبع الأفكارُ الزائغة والعقائد المنحرفة والأقوال الشاذّة إلا بترك مجالسة العلماء والصدور عنهم، وأخذِ العلم والفتوى عن أهل الجهل والهوَى، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنَّ رسولَ الله salla-icon.gif قال: ((إنَّ الله لا يقبِض العلم انتزاعًا ينتزِعه من الناس، ولكن يقبِض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالمًا اتَّخذ الناس رؤوسا جهّالًا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلوا)) متفق عليه، وعن عبدِ الله بنِ مسعود رضي الله عنه قال: (ليس عامٌ إلا والذي بعده شرٌّ منه، لا أقول: عام أمطر من عام، ولا عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير، ولكن ذهابُ علمائكم وخياركم، ثم يحدث قومٌ يقيسون الأمور بآرائهم، فيهدم الإسلام ويُثلم).
ومن أعظم سمات أهل الأهواء أنهم لا يجالسون العلماءَ، ولا يأخذون عنهم. قال خلف بن سليمان: "كان الجهم على معبر ترمذ، وكان رجلًا كوفيَّ الأصل فصيح اللسان، لم يكن له علم ولا مجالسة لأهل العلم".
ومن سمات أهل الأهواء إظهارُ الخصومة والشنآن للعلماء الراسخين في العلم، وتسفيهُ اجتهاداتهم، وتنفيرُ الناس من فتاويهم وكتُبهم. قال الإمام الشاطبيّ رحمه الله تعالى: "وربما ردوا فتاويهم وقبَّحوها في أسماع العامّة؛ لينفِّروا الأمة عن اتّباع السنة وأهلها".
فاتقوا الله أيّها المسلمون، وراعوا حرمةَ هذه الشريعةِ، ولا تقولوا على الله ما لا تعلمون، واسألوا أهلَ الذكر إن كنتم لا تعلمون؛ ترشدوا وتسعَدوا وتفوزوا.
أيّها المسلمون، إن ثمرةَ الاستماع الاتباع، فكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنَه.
وصلّوا وسلّموا على أحمد الهادي خيرِ الورى طرًّا؛ فمن صلّى عليه صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا.
اللّهم صلِّ وسلّم على نبيّنا وسيّدنا محمدٍ، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة أصحاب السنة المتبعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين لهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنّا معهم بمنك وفضلك وجودِك وإحسانِك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللّهمّ أعزَّ الإسلام والمسلمين...



المصدر /موقع المنبر









.