خطبة : ( الاستسقاء بلسان الحال )

عبدالله البصري
1431/11/14 - 2010/10/22 04:34AM

الاستسقاء بلسان الحال 14 / 11 / 1431

الخطبة الأولى :


أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا . وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمرِهِ قَد جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيءٍ قَدرًا "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، عِندَمَا يَحِلُّ مَوسِمُ الأَمطَارِ وَيَحِينُ وَقتُ نُزُولِهَا ، تَنشَرِحُ الصُّدُورُ طَمَعًا في رَحمَةِ اللهِ ، وَتَطمَئِنُّ النُّفُوسُ تَحَرِّيًا لِلفَرجِ بَعدَ الشِّدَّةِ ، وَتَخِفُّ عَلَى المُمحِلِينَ مَرَارَةُ الجَدْبِ بِاستِطعَامِ حَلاوَةِ الخِصْبِ ، وَتَرَى الأَبصَارَ إِلى السَّمَاءِ مُرتَفِعَةً ، وَتُلفِي الأَعيُنَ إِلى الآفَاقِ نَاظِرَةً ، وَيَتَرَقَّبُ النَّاسُ الأَنحَاءَ يَمنَةً وَيَسرَةً لَعَلَّهُم يَرَونَ بَرقًا يَلُوحُ وَلَو مِن بَعِيدٍ ، وَتَرَاهُم يَتَسَاءَلُونَ عَن مَوَاقِعِ القَطْرِ ويَتَلَقَّفُونَ أَخبَارَهُ ، فَمَا تَنزِلُ مِنهُ قَطرَةٌ إِلاَّ شَمُّوهَا مَعَ نَسمَةِ الصَّبَاحِ فََسَعِدُوا ، وَلا يَمُرُّ يَومٌ لا يَرَونَ فِيهِ مِنَ السَّحَابِ غَادِيَّةً أَو رَائِحَةً ، إِلاَّ تَأَلَّمُوا وَضَاقَت مِنهُمُ الصُّدُورُ .
وَكُلَّمَا تَقَدَّمَت أَيَّامُ المَوسِمِ وَأَحَسُّوا بِتَأَخُّرِ المَطَرِ عَن إِبَّانِهِ ، أَخَذَ اليَأسُ مِن بَعضِهِم مَأخَذَهُ ، وَعَادَ لِقُلُوبِ آخَرِينَ قُنُوطُهَا ، وَتَسَاءَلَ بَعضُ الخَيِّرِينَ : مَتى تُقَامُ صَلاةُ الاستِسقَاءِ فَنُلِحَّ عَلَى اللهِ بِالدُّعَاءِ ؟
أَمَّا الَّذِينَ رُزِقُوا الفِقهَ في الدِّينِ وَوَعَوا سُنَنَ اللهِ في الخَلقِ وَالكَونِ ، فَحَالُهُم حَالٌ أُخرَى ، إِذْ عَلِمُوا أَنْ لا مَلجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيهِ ، وَلا مَفَرَّ مِنَ الرَّحِيمِ إِلاَّ بِالقُربِ مِنهُ ، وَأَنَّ رَحمَتَهُ لم تُستَنزَلْ بِمِثلِ التَّوبَةِ الصَّادِقَةِ النَّصُوحِ ، وَأَنَّ عَذَابَهُ لم يُستَرفَعْ بِمِثلِ الخَوفِ مِنهُ وَدَوَامِ خَشيَتِهِ وَمُرَاقَبَتِهِ ، وَأَنَّهُ ـ تَعَالى ـ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم ، وَهُم مَعَ هَذَا يَعلَمُونَ عِلمَ يَقِينٍ لا مِريَةَ فِيهِ ، أَنَّ خَزَائِنَهُ ـ سُبحَانَهُ ـ مَلأَى لا تَغِيظُهَا الهِبَاتُ وَلا تَنقُصُهَا الأُعطِيَاتُ ، وَأَنَّهُ ـ تَعَالى ـ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ وَخَيرُ الرَّاحِمِينَ ، أَرحَمُ بِالعِبَادِ مِن أُمَّهَاتِهِم وَآبَائِهِم ، بَلْ وَأَلطَفُ بِالخَلقِ مِن أَنفُسِهِم وَذَوَاتِهِم ، في الصَّحِيحَينِ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ : " يَدُ اللهِ مَلأَى لا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ ، سَحَّاءُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ ، أَرَأَيتُم مَا أَنفَقَ مُذْ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرضَ ؟ فَإِنَّهُ لم يَغِضْ مَا في يَدِهِ ... "
وَلَقَد عَلِمَ المُؤمِنُونَ أَنَّ مَا يُصِيبُهُم مِن مَصَائِبَ وَمَا يُبتَلَونَ بِهِ مِن نَقصٍ في الأَموَالِ وَالأَنفُسِ وَفَسَادٍ في الثَّمَرَاتِ ، أَو غَورِ مِيَاهٍ أَو غَلاءٍ أَو وَبَاءٍ ، أَو نَزعِ بَرَكَةٍ أَو قِلَّةِ خَيرٍ أَو ضِيقِ عَيشٍ ، أَو تَسَلُّطِ أَعدَاءٍ أَو تَعَدِّي ظَلَمَةٍ ، عَلِمُوا أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ مِن عِندِ أَنفُسِهِم وَبِسَبَبِ تَقصِيرِهِم في جَنبِ اللهِ ، مُوقِنِينَ أَنَّ مَا ارتَفَعَ مِنهُم مِن مَعَاصٍ وَذُنُوبٍ أَكثَرُ مِمَّا نَزَلَ بهم مِن عُقُوبَاتٍ وَبَلايَا ، وَأَنَّ رَبَّهُم لَو حَاسَبَهُمُ عَلى كُلِّ مَا فَعَلُوا لأَهلَكَهُم وَذَهَبَ بهم ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " أَوَلَمَّا أَصَابَتكُم مُصِيَبَةٌ قَد أَصَبتُم مِثلَيهَا قُلتُم أَنىَّ هَذَا قُل هُوَ مِن عِندِ أَنفُسِكُم إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ "
وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " ظَهَرَ الفَسَادُ في البَرِّ وَالبَحرِ بما كَسَبَت أَيدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَلَو يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بما كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُم إِلى أَجَلٍ مُسَمَّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُم فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا "

نَعَم ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ لَقَد عَلِمَ المُوَفَّقُونَ أَنَّ الذُّنُوبَ هِيَ الدَّاءُ الَّذِي يَجِبُ أَن يُعَادَ في وَصفِهِ وَيُزَادَ ، وَأَن يُفَكَّرَ في عِلاجِهِ وَكَيفِيَّةِ التَّخَلُّصِ مِن آثَارِهِ ، حَتى وَلَو شَعَرَ بَعضُ النَّاسِ بِالَضِّيقِ مِن تَكرَارِ الوَعظِ بِذَلِكَ أَو عَدَّهُ مِنَ البَدَهِيَّاتِ الَّتي لا يَسُوغُ تَكرَارُهَا ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُوَ مِن خَيرِ العِلاجِ ، إِذْ لا بُدَّ لِلمَرِيضِ لِيُشفَى مِن مَرَضِهِ وَيَزُولَ عَنهُ بَلاؤُهُ مِن تَجَرُّعِ الدَّوَاءِ وَإِن كَانَ مُرًّا ، وَالتَّصَبُّرِ عَلَى مَضَضِهِ وَإِن كَانَ حَارًّا ، وَإِذَا رَأَيتَ المَرِيضَ يَعَافُ العِلاجَ النَّاجِعَ استِبَشَاعًا لِمَرَارَتِهِ ، أَو يَكرَهُ الطَّبِيبَ المَاهِرَ لأَنَّهُ يُصَارِحُهُ بِحَقِيقَةِ دَائِهِ ، ثُمَّ تَتُوقُ نَفسُهُ لِشُربِ مَا لَذَّ طَعمُهُ وَإِنَّ كَانَ مُضِرًّا بِصِحَّتِهِ ، فَاعلَمْ أَنَّهُ مُبتَلًى في عَقلِهِ وَتَصَوُّرِهِ قَبلَ أَن يَمرَضَ جَسَدُهُ ، وَهَكَذَا مَن جَمَعَ مَعَ المَعَاصِي أَمنًا مِنَ العُقُوبَةِ وَغَفلَةً عَنِ الجَزَاءِ ، وَالتِفَاتًا عَنِ النَّاصِحِينَ وَتَأجِيلاً لِلتَّوبَةِ ، إِنَّ مَن يَفعَلُ هَذَا وَهُوَ يَرَى تَزَايُدَ أَمرَاضِ النُّفُوسِ المُزمِنَةِ ، وَيُحِسُّ بِتَفَاقُمِ أَدوَاءِ القُلُوبِ الوَبِيلَةِ ، إِنَّهُ لَحَرِيٌّ بِأَلاَّ يُجَابَ لَهُ دُعَاءٌ وَلا تُسمَعَ لَهُ مَسأَلَةٌ ، وَأَلاَّ يُسقَى وَلَوِ استَسقَى ثُمَّ استَسقَى إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ ، ذَلِكَ أَنَّ الدُّعَاءَ الحَرِيَّ بِأَن يُرفَعَ وَيُجَابَ ، لَيسَ مَا خَفَّت بِهِ الأَلسِنَةُ وَكَذَّبَتهُ الظَّوَاهِرُ وَالتَفَتَت عَنهُ القُلُوبُ ، لا وَاللهِ ، وَمَن ظَنَّ مِثلَ هَذَا الظَّنِّ فَمَا عَرَفَ كَيفَ يَكُونُ الدُّعَاءُ ، نَعَم ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ إِنَّ دُعَاءَ المَسأَلَةِ وَالتَّضَرُّعِ لا يُجَابُ إِلاَّ بِأَن يُخلَصَ في دُعَاءِ العِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ ، وَإِنَّ مَدَّ اليَدَينِ إِلى السَّمَاءِ لِلاستِسقَاءِ لا بُدَّ أَن يَكُونَ مِن أَجسَادٍ طَاهِرَةٍ وَقُلُوبٍ نَقِيَّةٍ وَنُفُوسٍ تَقِيَّةٍ زَكِيَّةٍ ، وَمَن كَانَ غَافِلاً عَنِ اللهِ عَامَّةَ دَهرِهِ غَيرَ مُلتَفِتٍ إِلَيهِ في غَالِبِ أَيَّامِهِ ، يَرفَعُ إِلَيهِ كَفَّينِ طَالَمَا امتَدَّت إِلى الحَرَامِ ، وَيَدعُو بِلِسَانٍ طَالَمَا شَهِدَ بِالزُّورِ ، وَيَرجُو بِقَلبٍ ضَيَّقَهُ بِشِركٍ أَو شَكٍّ أَو حِقدٍ أَو حَسَدٍ ، فَلا يَستَنكِرَنَّ أَلاَّ يُجِيبَ اللهُ دُعَاءَهُ ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مَن سَرَّهُ أَن يَستَجِيبَ اللهُ ـ تَعَالى ـ لَهُ عِندَ الشَّدَائِدِ وَالكَربِ ؛ فَليُكثِرِ الدُّعَاءَ في الرَّخَاءِ " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ .


أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ مِمَّا يُجَدِّدُ الحُزنَ وَيَبعَثُ في النُّفُوسِ الأَسَى ، أَن يُكَرِّرَ الوُعَّاظُ مِثلَ هَذَهِ العِظَاتِ عَلَى المَسَامِعِ بَينَ حِينٍ وَحِينٍ ، وَتَعلُوَ أَصوَاتُ النَّاصِحِينَ لإِخرَاجِ الأُمَّةِ مِمَّا يُحِيطُ بها مِن مَصَائِبَ ، ثم تَبقَى الأُمَّةُ رَافِعَةً أُنُوفَهَا استِكبَارًا وَاستِنكَافًا ، غَارِقَةً في لُجَجٍ التَّقصِيرِ وَالهَوَى ، غَافِلَةً عَنِ استِصلاحِ أَحوَالِهَا ، أَلا فَمَتَى يُحِسُّ كُلٌّ مِنَّا حِينَ سَمَاعِهِ خُطبَةً أَو حُضُورِهِ مَوعِظَةً أَنَّهُ هُوَ المَقصُودُ أَو مِن ضِمنِ المَقصُودِينَ ؟

إِنَّهَا لَمُصِيبَةٌ وَأَيُّ مُصِيَبَةٍ أَن يَستَمِرَّ كُلُّ إِنسَانٍ بِإلقَاءِ لَومِهِ عَلَى مَن عَدَاهُ ، ثُمَّ يُخرِجَ نَفسَهُ وَكَأَنَّهُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ أَو نَبيٌّ مُرسَلٌ لا يُخطِئُ وَلا يَعصِي ، إِنَّ مِثلَ هَذِهِ النَّظرَةِ القَاصِرَةِ هِيَ الَّتي عَطَّلَتِ العُقُولَ عَنِ الرُّجُوعِ إِلى رُشدِهَا ، وَحَالَت بَينَ القُلُوبِ وَبَينَ الانتِقَاعِ بِالمَوَاعِظِ ، إِذَا قِيلَ يَا قَومُ قَد ضُيِّعَتِ الصَّلاةَ ، لم يُحِسَّ أَيٌّ مِنَّا بِأَنَّهُ المَقصُودُ ، وَإِذَا قِيلَ قَد أُكِلَ الحَرَامُ بَرَّأَ كُلُّ امرِئٍ نَفسَهُ وَطَهَّرَهَا ، وَإِذَا قِيلَ قُطِعَتِ الأَرحَامِ وَهُجِرَتِ القَرَابَاتُ وَأُوذِيَ الجِيرَانُ ، تَذَكَّرَ الفَردُ خَطَأَ أَرحَامِهِ وَجِيرَانِهِ عَلَيهِ وَلم يَذكُرْ تَقصِيرَهُ في حَقِّهِم ، مَعَ أَنَّ المُتَتَبِّعَ لِلأَحوَالِ ، يَجِدُ عَشَرَاتٍ ممَّن يَترُكُونَ صَلاةَ الفَجرِ مَعَ الجَمَاعَةِ بِالأَيَّامِ المُتَتَالِيَةِ لا يَشهَدُونَهَا ، وَيَتَأَخَّرُونَ عَن بَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ لأَعذَارٍ وَاهِيَةٍ فلا يَكَادُون يُدرِكُونَهَا ، ثُمَّ لا سُنَنَ رَاتِبَةً وَلا تَزَوُّدَ مِن نَوَافِلَ ، وَلا مُكُوثَ في المَسَاجِدِ لِتِلاوَةٍ أَو دُعَاءٍ أَوِ استِغفَارٍ ، وَقُلْ مِثلَ ذَلِكَ في الهَجرِ وَالقَطِيعَةِ وَالأَذَى ، يَسمَعُ المَرءُ المَوعِظَةَ تِلوَ الأُخرَى ، وَيُذكَّرُ بِاللهِ وَالدَّارِ الآخِرَةِ ، وَيُحَذَّرُ مِن عَدَمِ رَفَعِ عَمَلِهِ أَوِ استِجَابَةِ دُعَائِهِ ، ثُمَّ لا تَرَى أَيَّ بَيتٍ وَلا عَائِلَةٍ وَلا جِيرَانٍ إِلاَّ وَلَهُم نَصِيبٌ مِن هَذَا المُنكَرِ العَظِيمِ ، وَفِيهِم مَن لَهُم سَنَوَاتٌ وَسَنَوَاتٌ وَهُم مُتَغَاضِبُونَ ، يُغَالِطُونَ أَنفُسَهُم وَيُكَابِرُونَ ، كَأَنْ لم يَسمَعُوا آيَاتِ اللهِ وَأَحَادِيثَ رَسُولِهِ في لَعنِ المُتَقَاطِعِينَ وَبَيَانِ خَسَارَةِ المُتَدَابِرِينَ تُتلَى عَلَيهِم وَتُروَى عَلَى مَسَامِعِهِم ، ثُمَّ انتَقِلْ إِلى مَا يَدخُلُ جَوفَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا ، وَتَأَمَّلْ مَا يَكتَنِفُ تَعَامُلاتِنَا إِلاَّ مَن رَحِمَ اللهُ ، لِتَجِدَ الغِشَّ والتَّحَايُلَ عَلَى الآخَرِينَ ، وَاستِيفَاءَ حَقِّ النَّفسِ وَبَخسَ النَّاسِ أَشيَاءَهُم ، وَظُلمَ الأُجَرَاءِ وَهَضمَ حُقُوقِهِم ، وَأَكلَ الرِّبَا وَتَعَاطِيَ الرِّشوَةِ ، وَالتَّعَدِّيَ عَلى أَموَالِ الآخَرِينَ وَأَرَاضِيهِم وَمُمتَلَكَاتِهِم ، وَالتَّنَافُسَ في حُطَامِ الدُّنيَا وَجَمعِ المَالِ وَحُبَّ التَّمَلُّكِ ، نَاهِيكَ عَن التَّقصِيرِ في الأَعمَالِ الوَظِيفِيَّةِ تَقصِيرًا مُخِلاًّ ، وَأَمَّا نَهبُ مَالِ المُسلِمِينَ العَامِّ فَحَدِّثْ وَلا حَرَجَ ، وَكَأَنَّ النَّاسَ قَد غَدَوا في أَرضٍ مَسبَعَةٍ ، تَأكُلُ أُسُودُهَا نِعَاجَهَا ، وَيَستَولي قَوِيُّهَا عَلَى ضَعِيفِهَا ، أَلا فَمَتَى نَتَّقِي اللهَ في أَنفُسِنَا وَإِخوَانِنَا ؟
بَل مَتى نَتَّقِيهِ في البَهَائِمِ وَالعَجَمَاوَاتِ الَّتي مُنِعَتِ القَطرَ بِسَبَبِنَا ؟
مَتَى نَعُودُ إِلى رُشدِنَا فَنُقِيمَ صَلاتَنَا كَمَا أَمَرَنَا اللهُ " في بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرفَعَ وَيُذكَرَ فِيهَا اسمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلهِيهِم تِجَارَةٌ وَلا بَيعٌ عَن ذِكرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَومًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبصَارُ " ؟
مَتَى نَتَعَامَلُ مَعَ اللهِ حَقَّ التَّعَامُلِ فَنُراقِبَهُ في بَيعِنَا وَشَرَائِنَا وَأَخَذِنَا وَعطَائِنَا ؟
مَتى نَتَرَاحَمُ لِيَرحَمَنَا اللهُ ؟
قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " الرَّاحِمُونَ يَرحَمُهُمُ الرَّحمنُ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى ـ اِرحمُوا مَن في الأَرضِ يَرحَمْكُم مَن في السَّمَاءِ " رَوَاهُ أَحمَدُ وَالتَّرمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .

أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفسٌ مَا قَدَّمَت لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بما تَعمَلُونَ . وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُم أَنفُسَهُم أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ "




الخطبة الثانية :


أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ حَقَّ تَقوَاهُ ، وَاستَعِدُّوا بِصَالحِ الأَعمَالِ لِيَومِ لِقَاهُ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّهُ إِذَا كَانَتِ المَلابِسُ دَنِسَةً وَالأَجسَادُ نَجِسَةً ، فَإِنَّ مِنَ الحَمَاقَةِ أَن يَبدَأَ صَاحِبُهَا بِتَطيِيبِهَا وتَبخِيرِهَا قَبلَ غَسلِهَا وَتَطهِيرِهَا ، وَإِذَا كَانَتِ القُلُوبُ قَد تَدَنَّسَت بِالمَعَاصِي أَو تَلَبَّسَت بِشَيءٍ مِنَ الكَبَائِرِ ، أَو حُقِنَتِ النُّفُوسُ كُرهًا لِلآخَرِينَ وَبُغضًا لِلمُسلِمِينَ ، أَو شَابَ الأَعمَالَ شِركٌ أَو رِيَاءٌ أَو طَلَبُ سُمعَةٍ ، أَو تُوُرِّطَ في رِبًا أَو رِشوَةٍ ، أَو وُقِعَ في سِحرٍ أَو مُعَامَلَةِ كَهَنَةٍ ، أَو مُلِئَتِ البُيُوتُ قَنَوَاتٍ مَاجِنَةً وَأَجهِزَةَ فَسَادٍ خَبِيثَةً ، فَأَيُّهُمَا أَولى بِأَن يُبدَأَ بِهِ ، أَهُوَ الدُّعَاءُ وَالمَسأَلَةُ ، أَمِ التَّوبَةُ وَالاستِغفَارُ ؟
أَهُوَ طَلَبُ مَا عِندَ اللهِ مِنَ الغَيثِ وَالبَرَكَةِ ، أَم إِزَالَةُ الظُّلمِ وَالتَّخَلُّصُ ممَّا يَجلِبُ السُّخطَ وَيَدفَعُ رِضَا الرَّبِّ ؟

إِنَّهُ حِينَ تَتَلَوَّثُ الأَيدِي بِتَنَاوُلِ الحَرَامِ أخذًا وإِعطَاءً ، وَتَتَّسِخُ بِالتَّعَدِّي عَلَى المُسلِمِينَ في أَموَالِهِم أَو أَيٍّ مِن حُقُوقِهِم ، فَكَيفَ يُستَنكَرُ أَن تُرفَعَ ثُمَّ تُرَدَّ خَائِبَةً ؟

لا بُدَّ قَبلَ تَحرِيكِ الأَلسِنَةِ بِالدُّعَاءِ أَن تَتُوبَ القُلُوبُ إِلى اللهِ وَتُنِيبَ ، وَتَعمَلَ الجَوَارِحُ كُلُّهَا بِطَاعَتِهِ ، وَأَن يُتَخَلَّصَ ممَّا في البُيُوتِ مِنَ المُنكَرَاتِ ، وَأَن يُحِبَّ كُلُّ امرِئٍ لإِخوَانِهِ مِنَ الخَيرِ مَا يُحِبُّهُ لِنَفسِهِ ، فَإِذَا نَحنُ فَعَلنَا وَدَعَونَا اللهَ بِلِسَانِ الحَالِ ، إِذَا نَحنُ أَصلَحنَا أَنفُسَنَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، وَتَخَلَّقنَا بِأَخلاقِ الإِسلامِ وَتَأَدَّبنَا بِآدَابِهِ ، وَاتَّبَعنَا السُّنَّةَ وَاقتَفَينَا الأَثَرَ ، فَمَا أَسهَلَ الدُّعَاءَ بِالمَقَالِ حِينَئِذٍ !!
إِنَّهُ لا يَحتَاجُ إِلاَّ إِلى رَفعِ اليَدَينِ إِلى السَّمَاءِ بِصِدقٍ وَإِخلاصٍ ، مَعَ استِكمَالِ آدَابِ الدُّعَاءِ ، وَحِينَهَا فَقَد تَكُونُ الإِجَابَةُ أَعجَلَ إِلى أَحَدِنَا مِن استِكمَالِهِ دُعَاءَهُ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعُوني أَستَجِبْ لَكُم "
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " إِنَّ اللهَ ـ تَعَالى ـ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَستَحِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيهِ يَدَيهِ أَن يَرُدَّهُمَا صِفرًا خَائِبَتَينِ " رَوَاهُ أَحمَدُ وَأَصحَابُ السُّنَنِ إِلاَّ النَّسَائِيَّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَأَخرَجَ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ وَاللَّفظُ لِلبُخَارِيِّ عَنِ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ يَومَ الجُمُعَةِ مِن بَابٍ كَانَ وِجَاهَ المِنبَرِ وَرَسُولُ اللهِ ـ صَلى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَائِمٌ يَخطُبُ ، فَاستَقبَلَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَائِمًا ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، هَلَكَتِ المَوَاشِي وَانقَطَعَتِ السُّبُلُ ، فَادعُ اللهَ يُغِيثُنَا . قَالَ : فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَدَيهِ فَقَالَ : " اللَّهُمَّ اسقِنَا ، اللَّهُمَّ اسقِنَا ، اللَّهُمَّ اسقِنَا " قَالَ أَنَسٌ : وَلا وَاللهِ مَا نَرَى في السَّمَاءِ مِن سَحَابٍ وَلا قَزَعَةً وَلا شَيئًا ، وَمَا بَينَنَا وَبَينَ سَلْعٍ مِن بَيتٍ وَلا دَارٍ . قَالَ : فَطَلَعَت مِن وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثلُ التُّرسِ ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ انتَشَرَت ثُمَّ أَمطَرَت ، قَالَ : وَاللهِ مَا رَأَينَا الشَّمسَ سِتًّا ... الحَدِيثَ .

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ، كُونُوا مَعَ اللهِ يَكُنْ مَعَكُم ، فَإِنَّهُ ـ تَعَالى ـ عِندَ ظَنِّ عَبدِهِ بِهِ وَهُوَ مَعَهُ إِذَا ذَكَرَهُ ، تَعَرَّفُوا إِلَيهِ في الرَّخَاءِ يَعرِفْكُم في الشِّدَّةِ ، أَطِيعُوهُ فِيمَا أَمَرَكُم يُنجِزْ لَكُم مَا وَعَدَكُم ، هَذَا وَصَلُّوا وَسَلُّمُوا عَلَى محمَّدِ بنِ عَبدِ اللهِ .
المشاهدات 6495 | التعليقات 9

يا حبّي لمن نصح وأخلص!

فحديث القلب إلى القلب سرى, فحرّك المشاعر, والدمع جرى,

أستفغر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيّوم وأتوب إليه, اللهم صلّ وسلّم على سيّدنا محمد وآله وصحبه والتّابعين لهم بإحسان النّاصحين لأمّة الإسلام.


ما شاء الله تبار الله
الموضوع المناسب في الوقت المناسب
وياليتك ياشيخنا بكرت قليلا



ما فيه مثل الصراحة في معالجة الأخطاء خاصة أننا في زمن خرج لنا من يتقعر ويقول رغبوا الناس ولا ترهبوهم اذكروا لهم فضائل الأعمال ولا تضيقوا صدورهم بعذاب المعاصي ... إلخ

والصحيح أنه ما مثل أن يقترن الترغيب بالترهيب ويزاوج بين النصيحة والتعليم بالقدوة الحسنة وضرب الأمثال ... إلى آخره .

أما تخدير الناس وأنكم ما مثلكم وأنتم أحسن من غيركم فهذه مشكلة كبيرة تحتاج إلى من يحلها ويبين للناس أن النبي صلى الله عليه وسلم رغب ورهب وجعل قلوب الناس تعيش بين خوف ورجاء تذكر الجنة فتشتاق إليها وتنشط للتزود من النوافل والفضائل وتذكر النار فيطير نومها وتتجافى الجنوب عن المضاجع ...

وقضية الغيث ما يشك طالب العلم أن في تأخره عقوبة لنا وأننا مفرطون ومرتكبون لكثير من المعاصي من ترك الصلوات واتباع الشهوات ومتابعة القنوات وأمراض قلوب وشبهات وسحر وأكل حرام ورشوة وربا وظلم للعمال وتهاون في حقوق الوالدين والأقارب والأرحام والجيران ... إلخ .
عسى الله يغيث البلاد والعباد ويرحمنا برحمته الواسعة ...



شكر الله للإخوة جميعًا مرورهم وتعليقهم .

وقد ذكر ابن رجب ـ رحمه الله ـ في جامع العلوم والحكم عند شرحه حديث : " ثم ذكر الرجل يُطيلُ السفرَ أشعثَ أغبرَ ، يمدُّ يديه إلى السَّماء : يا رب ، يا رب ، ومطعمُه حرام ، ومشربه حرامٌ ، وملبسه حرام ، وغُذِي بالحرام ، فأنَّى يُستجاب لذلك ؟! "
أن فيه ذِكرًا لأربعة أسباب تقتضي إجابة الدعاء : ومنها : حصول التبذُّل في اللِّباس والهيئة بالشعث والاغبرار . قال : وهو ـ أيضًا ـ من المقتضيات لإجابة الدُّعاء ، كما في الحديث المشهور عن النَّبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " ربَّ أشعث أغبرَ ذي طِمرين ، مدفوع بالأبواب ، لو أقسم على الله لأبرَّه " قال : ولما خرج النَّبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ للاستسقاء خرج متبذِّلاً متواضعًا متضرِّعًا .ا.هـ


وأقول : إن حصول التبذل في اللباس والهيئة الظاهرة بالشعث والاغبرار ليس مقصودًا لذاته دون ما وراءه من معانٍ وما يدل عليه من حال صاحبه في داخلِهِ ، ولا أظن أحدًا يدعي أن مجرد التبذل يكون سببًا في إجابة الدعاء لولا أن ذلك التبذل والشعث ناشئ عن قلبِ عارفٍ بحقيقة الدنيا ، معرض عن زخارفها ، زاهد في زينتها ، مهتم بإصلاح نفسه ، منشغل بآخرته عن التجمل في الدنيا والانشغال بالتزين في اللباس والهيئة .
فالحالة الظاهرة ـ من هذا الوجه ـ هي دعاء في حد ذاتها واسترحام لله ـ جل وعلا ـ ولذا فقد جعل القرطبي في شرحه على صحيح مسلم المقصود بالأشعث الأغبر هو الحاج ، والحاج ولا شك خارج في سفر طاعة أشعث أغبر ، وحالته حالة استرحام واستعطاف لربه .
ولا يخفى علينا ما ورد من قول الرب ـ تبارك وتعالى ـ حين يباهي بأهل عرفات أهل السماء فيقول لهم : انظروا إلى عبادي جاؤوني شعثًا غبرًا .
وفي بعض الروايات : أشهدكم أني قد غفرت لهم .

فالمقصود أن الحالة التي يكون العبد عليها طائعًا مستقيمًا ، مستكينًا لربه متضرعًا ، منكسرًا متخشعًا لينًا متواضعًا ، هي من أسباب إجابة دعائه ، بل هي دعاء في حد ذاتها ، فنسأل الله أن يجعلنا ممن هم على طاعته مهتدين وعلى صراطه مستقيمين ، وبما يرضيه عاملين وعما يغضبه منتهين ، وأن يجنبنا حال من يدعو بلسانه وقلبه غافل لاهٍ .


غفر الله لك شيخنا الفاضل
وزادك علما وحلما وتقى
=============


أبو تميم;4745 wrote:
غفر الله لك شيخنا الفاضل
وزادك علما وحلما وتقى
=============
أجاب الله دعاءك ونفعنا جميعًا بما نكتب ونلقي ، وجعله لوجهه خالصًا .


خطبة نافعة

نفع الله بكم يا شيخ عبدالله


جزاك الله خيرًا ـ أخي الكريم إبراهيم السعدي ـ على رفعك لهذه الخطبة ، ولعله يناسب من لم يخطب بها أولاً أن يخطب بها الجمعة القادمة .
أسأل الله أن يجعلنا مباركين أينما كنا ، وأن يغيث البلاد والعباد ويرحم الأمة أجمعين .


خطبة مؤلمة يا شيخ عبدالله