نماذج عملية في قضاء حوائج الناس بقلم: د. حسن المرسي

محمد مرسى
1431/10/19 - 2010/09/28 14:49PM
الدعوة إلى الله ليست منبرًا لعرض الأفكار والنظريات، والداعية ليس (مذياعًا) يردِّد الأفكار المجردة فحسب، بل إن الدعوة والداعية يجب أن ينتقلا نقلة نوعية تجعلهما يعيشان هموم الناس، ويحملان بقسط وافر من هذه الهموم.

وهذا الأمر ليس من قبيل الدعاية والمتاجرة كما هو الشأن لدى الأحزاب، وإنما هو مبدأ في صلب المنهج الإسلامي لا يصلح الإسلام إلا به، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: "من بات ولم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم".رواه الحاكم في مستدركه والطبراني في المعجم الأوسط عن حذيفة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ.
وقال فيه الألباني في السلسلة الضعيفة الجزء الأول صفحة 48: ضعيف جداً

وهي عبادة نتقرب إلى الله تعالى بها حسب مقدرتنا، كما في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق" (أخرجه بن أبي شيبة في مصنفه وأبو يعلي في مسنده وحسنه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب).

فالداعية يدور حول مجتمعه وحول المسلمين وليس حول ذاته، ويعيش لسواه لا لنفسه، ويوفر الراحة للآخرين ولو على حساب راحته، بل إن الداعية بحق هو الذي تسعده سعادة الآخرين وتشقيه شقاوتهم، يرتاح إذا ارتاحوا ويطمئن إذا اطمأنوا، ويسعد إذا سعدوا.

فالمسلم يتفقد المجتمع الذي يعيش فيه من:
رعاية الأرامل والأيتام والمساكين.
وأعمال النظافة للشوارع والمرافق العامة.
والتخفيف عن الناس من تفريج الكربات.
والصلح بين المتخاصمين وإزالة أسباب الجفاء.
وتجهيز الميت ودفنه.
وإطفاء الحريق.
وإغاثة الملهوف والمنكوب.
وقضاء حوائج الناس.
ورعاية المسنين.
ورعاية المرضى وخدمتهم.
وأعمال الإغاثة.

يقول الشهيد سيد قطب رحمة الله عليه: (فالناس في حاجة إلى كنف رحيم، وإلى رعاية فائقة، وإلى بشاشة سمحة، وإلى ود يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم، في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء، ويحمل همومهم ولا يعينهم بهمه، ويجدون عنده دائمًا الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضا، وهكذا كان قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصالحين).

أعرف داعية كثير الجلوس إلى الناس والاستماع إليهم حتى غدا بيته مقصدًا للناس ومرجعًا لهم، يبثون فيه همومهم ويستقضون فيه حوائجهم، ويحلون عن طريقه مشاكلهم، ولقد شق هذا على بعض أصحابه، واعتقدوا ذلك مضيعة للوقت وشغلاً عن الدعوة، ولم يعلم هؤلاء أن هذا هو ميدان الدعوة العملي، وأن هذا هو الطريق الذي يوصل بالناس وصلاً مباشرًا، فالدعوة الناجحة هي الدعوة الموصولة بقضايا الناس؛ لأنها عند ذلك تكون موصولة بقلوبهم ومشاعرهم.

وهذا الداعية وإخوانه من الوجوه الجميلة الرائعة التي لا تبحث عن شهرة أو تسعى إلى ثناء أو مدح، هؤلاء الناس هم أكثر حبًّا وأكثر تقديرًا، وأهم من ذلك كله هم أكثر الناس سعادةً لأن كل من خدموهم يدعون لهم بالخير والصحة والسعادة (طبعًا ليس كل العاملين مكلفين بكل هذا، ولكن لكل واحد من أحباب الدعوة حظه ونصيبه منها حسب توظيفه وحسب طاقته وميوله وحاجة الدعوة).

يقول صلى الله عليه وسلم: "إن لله خلقًا خلقهم لقضاء حوائج الناس، يفزع الناس إليهم في حوائجهم، أولئك الآمنون من عذاب الله عز وجل"..
رواه الطبراني وفيه عبد الرحمن بن أيوب وضعفه الجمهور وحسن حديثه الترمذي وأحمد بن طارق الراوي عنه لم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح.
وقال عنه الشيخ الألباني : ( ضعيف ) انظر حديث رقم : 1949 في ضعيف الجامع

القرآن والمجتمع:
القرآن يدعو إلى التكافل الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء فيقول تعالى: ﴿وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)﴾ (النور).

وحقيقة المجتمع المسلم ما أقيم فيه التكامل على أوسع صوره، وقام أفراده برعاية المحتاج من الفقراء والمساكين وإغاثة الملهوف وفك الأسير وحماية المستضعف من اليتم والتشرد، فالقرآن يقول: ﴿فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)﴾ (البلد)، ويقول تعالى: ﴿كَلاَّ بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18)﴾ (الفجر).

بل يجعل القرآن من لا يقوم بواجب هذه الفئات مكذبًا بالدين غير مصدق ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)﴾ (الماعون).
المشاهدات 6432 | التعليقات 2

نماذج من قضاء حوائج المسلمين:
وهذه في البداية..
نماذج من الرسل عليهم السلام...
الرسل عليهم السلام لم يكونوا يتقوقعون في حصونهم يحرسهم أتباعهم أو ينظرون من وراء جدر، بل كانوا يخرجون إلى الناس، يعيشون بينهم، ويأكلون مثل طعامهم، ويمشون في أسواقهم، يتعرفون على أحوالهم، ويحبون الخير لشعوبهم، ومن هو كذلك لا يتهرب من مشاكلهم ولا يتوارى عند تلاطم همومهم ويقول (أنتم وشأنكم)، وإنما يقدم نفسه وعقله يتبنى هموم قومه يذلل ويدفع ويزيل وكذلك كانوا- صلوات الله وسلامه عليهم-.

(1) يوسف عليه السلام:
يوسف عليه السلام ما فتئ إن مكن له الله في قلب الملك إلا وطلب منه تبني هموم الناس فقال: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)﴾ (يوسف)، وما كان يطلب يوسف عليه السلام ذلك إلا أنه علم أنه لا أحد يقوم مقامه في العدل والإصلاح وتوصيل الفقراء لحقوقهم فرأى أن ذلك فرض عليه فطلبه، يقول الأستاذ سيد قطب: (لم يكن يوسف يطلب لشخصه وهو يرى إقبال الملك عليه أن يجعله على خزائن الأرض إنما كان حصيفًا في اختيار اللحظة التي يستجاب له فيها لينهض بالواجب المرهق الثقيل ذي التبعة الضخمة في أشد أوقات الأزمة، وليكون مسئولاً عن إطعام شعب كامل وشعوب كذلك تجاوره طوال سبع سنوات، لا زرع فيها، فليس هذا غنمًا يطلبه يوسف لنفسه، فإن التكفل بإطعام شعب جائع سبع سنوات متوالية لا يقول أحد إنه غنيمة إنما هي تبعة يهرب منها الرجال؛ لأنها قد تكلفهم رءوسهم، والجوع كافر، وقد تمزق الجماهير الجائعة أجسادهم في لحظات الكفر والمنون).. إنما هي همة يوسف عليه السلام.. وهمة الصالحين.

(2) موسى وهارون عليهما السلام:
عندما يقولا لفرعون: ﴿إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى﴾ (طه: من الآية 47)، لم يكونا لينسيا هموم جماهيرهم من بني إسرائيل وهم تحت سلطان فرعون الباطش وإنما قدما ما يهم الناس؛ لأن هم الناس ومشاكلهم من قضايا الدعوة والواجب مراعاتها ورفع الظلم عنهم.

إن أصحاب النجدة والمروءة لا تسمح لهم نفوسهم بالتأخر أو التردد عند رؤية ذوي الحاجات، فيتطوعون بإنجاز وقضاء حوائجهم طلبًا للآخرة والثواب من الله تعالى.

موقف آخر لموسى عليه السلام...
انظر إلى الشهم الكريم نبي الله موسى عليه والسلام حين فرَّ هاربًا من بطش فرعون وقد أصابه الإعياء والتعب، فلما ورد ماء مدين ووجد الناس يسقون وجد امرأتين قد تنحيتا جانبًا تنتظران أن يفرغ الرجال حتى تسقيا، فلما عرف حاجتيهما لم ينتظر منهما الطلب، بل تقدَّم بنفسه وسقى لهما ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)﴾ (القصص).

وهكذا أصحاب النجدة والمروءة يندفعون نحو المكرمات، ومنها إغاثة الملهوف وذوي الحاجات، إنها فطرة في الأنبياء، والصالحين، والإيجابيين، ومن سار على دربهم.

(3) محمد صلى الله عليه وسلم:
رسولنا صلى الله عليه وسلم كان أول المسلمين قيامًا على أمر الناس ومشاركًا لهم في همومهم، يخفف عنهم وطأة الاستضعاف والاضطهاد الاجتماعي، وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال "كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله فتنطلق به حيث شاءت فيقضي لها حاجتها".

وهذه هي شهامته وشجاعته وحرصه على مجتمعه وأهله صلى الله عليه وسلم، يروي عنه أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق الناس قبل الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم قد سبق إلى الصوت وهو يقول: "لم تراعوا، لم تراعوا..."، وهو على فرس لأبي طلحة عرى.. ما عليه سرج، في عنقه سيف فقال: "لقد وجدته بحرًا" (رواه البخاري ومسلم).

بينما الناس يستعدون للذهاب إذا به صلى الله عليه وسلم كان قد ذهب وعاد.. إيجابية وشهامة.

وهذا أيضًا رسولنا صلى الله عليه وسلم قبل بعثته كان ضمن شمائله الكريمة قضاء حوائج الناس، كما أثنت عليه زوجه الوفية السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها؛ حيث قالت له يوم أن جاء فزعًا من الغار في بداية الوحي: "كلا والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق...".

ثم كان بعد الرسالة سعيه في ذلك أشد صلى الله عليه وسلم

زانتك في الخلق العظيم شمائل يغري بهن ويولع الكرماء
فإذا سخوت بلغت بالجود المدى وفعلت ما لا تفعل الأنــواء
وإذا عفوت فقادرًا ومقدرًا لا يستهين بعفوك الجهلاء
وإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هم الرحـماء

(4) نموذج قرآني (ذو القرنين):
مجتمع حدد مشكلته بوضوح وهي (الفساد): ﴿إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ﴾ (الكهف: من الآية 94)، فحدد حل مشكلة هذا المجتمع (سدًّا)، لكنهم اخطأوا الوسيلة فقد أرادوها من خارج جهودهم وجهادهم فقالوا ﴿فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا﴾ (الكهف: من الآية 94)، لكنه طلب منهم قوتهم العملية ﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا﴾ (الكهف: من الآية 95).

وهكذا طلب ذو القرنين من هذا المجتمع بذل الجهود وتوظيف الطاقات لتحقيق الهدف المنشود ﴿آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)﴾ (الكهف).

هكذا تفاعل ذو القرنين مع المجتمع فقاموا جميعًا بعمل مشترك، ولم يقم ذو القرنين بالعمل وحده نيابة عن المجتمع، إلا أنه كان مقصد الناس، وكان قديرًا لقضاء حاجة الناس ومشرفًا عليها.

(5) رجل ذكر اسمه في الساحات:
يقول صلى الله عليه وسلم: "بينا رجل بفلاة من الأرض، فسمع صوتًا في سحابة: اسق حديقة فلان. فتنحى ذلك السحاب. فأفرغ ماءه في حرة (أرض لها مجارٍ كثيرة) فإذا شرجة (مسيل الماء إلى الأرض السهلة) من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله. فتتبع الماء. فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته (مجرفة من الحديد) فقال له: يا عبد الله! ما اسمك؟ قال: فلان- للاسم الذي سمع في السحابة- فقال له: يا عبد الله! لم تسألني عن اسمي؟ فقال: إني سمعت صوتًا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان. لاسمك. فما تصنع فيها؟ قال: أما إذ قلت هذا، فإني أنظر إلى ما يخرج منها، فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثًا، وأرد فيها ثلثه" (مسلم)، وفي رواية "اجعل ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل".

(6) ابن عباس والاعتكاف:
عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان معتكفًا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فسلم عليه ثم جلس فقال له ابن عباس:
يا فلان أراك كئيبًا حزينًا، قال: نعم يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لفلان على حق، لا ورمة صاحب هذا القبر ما أقدر عليه، قال ابن عباس: أفلا أكلمه فيك؟! قال: إن أحببت.

قال: فانتقل ابن عباس ثم خرج من المسجد، فقال له الرجل: أنسيت ما كنت فيه؟! قال: لا، ولكني سمعت صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم والعهد به قريب- فدمعت عيناه- وهو يقول: "من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيرًا من اعتكافه عشر سنين، ومن اعتكف يومًا ابتغاء وجه الله تعالى جعل الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق أبعد ما بين الخافقين" (شعب الإيمان للبيهقي).

(7) عبد الله بن المبارك والحج:
خرج عبد الله بن المبارك إلى الحج فاجتاز بعض البلاد فمات طائر معهم فأمر بإلقائه على المزبلة، فخرجت جارية من دار قريبة فأخذت الطائر الميت ولفته وأسرعت به إلى الدار، فلما سألها لم أخذت الميتة؟!.

قالت: إنها وأخاها فقيران لا يجدون شيئًا ولا يعلم بهما أحد، فأمر ابن المبارك برد الأحمال، وقال لوكيله كم معك من النفقة؟ قال: ألف دينار. قال: أبق منها عشرين دينارًا وأعط باقي الألف إلى الجارية وعد بنا إلى مرو، فهذا أفضل من حجنا هذا العام.

قال ذو الرياستين لثمامة بن أشرس: ما أدري ما أصنع بكثرة الطلاب المحتاجين، فقال له: ذل- أي اخطأ- عن موضعك وعلى ألا يلقاك منهم أحد، فقال له: صدقت... وجلس لهم في قضاء حوائجهم.

أي أن الذي يصرف توجه الناس إليك معصيتك، والذي يدعوهم إليك طاعتك وقدرتك، فاحمد الله على كثرة الطلاب واحمده على الطاعة.

(8) أبو بكر يحلب الغنم:
كان أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه يحلب للحي أغنامهم، فلما استخلف قالت جارية منهم: الآن لا يحلبها. فقال: بلى وإني لأرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه عن شيء كنت أفعله.

(9) رحمك الله يا عمر.. حتى الأرامل؟!
ولقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتعاهد الأرامل بالليل يستقي لهن الماء، فرآه طلحة رضي الله عنه ليلة يدخل بيت امرأة.. فدخل طلحة على المرأة نهارًا فإذا هي امرأة عمياء مقعدة فقال لها: يا هذه ما يصنع هذا عندك؟ قالت: إنه منذ كذا وكذا يتعاهدني يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى.

فقال طلحة رضي الله عنه: ثكلتك أمك يا طلحة... أعورات عمر تتبع؟

حدث أبو جعفر محمد بن القاسم الكرخي قال: عرضت على أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات رقعة في حاجة لي فقرأها ووضعها من يده- تركها- ولم يوقع فيها بشيء، فأخذتها وقمت وأنا أقول متمثلاً من حيث يسمع هذين البيتين:
وإذا خطبت إلى كريم حاجة وأبى فلا تقعد عليه بحاجب
فلربما منع الكريم وما به بخل ولكن سوء حظ الطالب

فقال وقد سمع ما قلت: ارجع يا أبا جعفر بغير سوء حظ الطالب، ولكن إذا سألتموني الحاجة فعاودونا، فإن القلوب بيد الله تعالى. فأخذ الرقعة ووقع فيها بما أردت.

وعن عبد الله بن الحسن بن الحسين رضي الله تعالى عنهم قال: أتيت باب عمر بن عبد العزيز في حاجة فقال: إذا كانت لك حاجة إلي فأرسل إلي رسولاً أو اكتب لي كتابًا فإني لأستحي من الله أن يراك ببابي.

وكان أبو وائل يطوف على نساء الحي وعجائزهم يشتري لهن حوائجهن ويقوم بما يصلحهن.

وقال مجاهد: صحبت ابن عمر في السفر لأخدمه فكان يخدمني.

(10) كتابة بين الجلد واللحم:
وكان كثير من الصالحين يشترط على أصحابه أن يخدمهم في السفر.

وصحب رجل قومًا في الجهاد فاشترط عليهم أن يخدمهم، وكان إذا أراد أحد منهم أن يغسل رأسه أو ثوبه قال:
هذا من شرطي فيفعله. فمات فجردوه للغسل فرأوه على يده مكتوبًا "من أهل الجنة" فنظروا فإذا هي كتابة بين الجلد واللحم.

(11) وفي الصحيحين عن أنس قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر فمنا الصائم ومنا المفطر. قال: فنزلنا منزلاً في يوم حار أكثرنا ظلاًّ صاحب الكساء، ومنا من يتقي الشمس بيده. قال: فسقط الصوام وقام المفطرون وضربوا الأبنية وسقوا الركاب فقال صلى الله عليه وسلم: "ذهب المفطرون بالأجر".. لأنهم يخدمون إخوانهم ويقومون على مصالحهم فزاد لهم الأجر.

(12) وكان حكيم بن حزام يحزن على اليوم الذي لا يجد فيه محتاجًا ليقضي له حاجة.


(13) أحد الأخوة في مناسك العمرة آثر ألا يقوم بها- أي العمرة- إلا وهو يخدم الآخرين فكان يقف ليجد امرأة عجوزًا على كرسي فيطوف بها ويسعى حتى ينتهي ولربما لا يعرفها، خدمة وحسبة لله عز وجل وطمعًا في الثواب وأيضًا إدمان للخدمة.

(14) أحد الأخوة الشباب وكان أكبر سنًّا من زملائه في شقة يعيشون معًا فكان يقوم بالليل يصلح من شأن أحذيتهم ويغسل الجوارب (الشرابات) فيقومون صباحًا ولا يعلمون من قام بهذا الأمر.

(15) الأستاذ محمد حامد أبو النصر- رحمه الله- وكان من عائلة ميسورة تأتي له بملابس داخلية كثيرة بناء على طلبه، وكان يقوم ليلاً باستبدال ملابس إخوانه القديمة بالجديدة، فيقومون صباحًا، ولا يعلمون من قام بهذا الصنيع، ولربما ظن بعضهم أنها كرامة من الكرامات، وأن الملائكة هي التي تقوم بخدمتهم!!!.

(16) الإمام البنا- عليه رحمة الله- وكان ذاهبًا إلى بلاد الصعيد للقاء إخوانه، وعقد مؤتمر هناك، فينزل المحطة ويجد إخوانه في استقباله بسعادة غامرة إلا واحدًا، فتوجه إليه وأصر على معرفة حزنه فأخبره بأن زوجته تنتابها حالة صرع، فذهب إليه الإمام البنا وقرأ لها قرآنًا فقامت بعافية وشفيت بفضل الله، ثم ذهب إلى إخوانه وكأن شيئًا لم يكن.

(17) هذا سليل بيت النبوة علي بن الحسن وهو يغسل عند موته وجدوا أثرًا على كتفه ولم يعرف له سببًا وبعد أيام من موته خرج الفقراء من بيوتهم يبحثون عن طعام وكساء، فلما سألوا في ذلك قالوا: كان يكفينا بذلك علي بن الحسن يأتينا يحمل على كتفه بالليل... حتى مات انقطع ذلك عنا، فعلموا أن الأثر الذي على كتفه من جرَّاء خدمته الفقراء وحمله إليهم.

(18) كان سلفنا الصالح رياحين من رياحين الجنة إذا شمها المؤمنون اشتاقت نفوسهم إليها.
قال عنهم مجاهد: ما المجتهد فيكم اليوم إلا كاللاعب فيهم.


مجتهد القرن الثالث الهجري كاللاعب فيهم!! فكيف بمجتهد القرن الخامس عشر؟!.

* بعث معاوية بن أبي سفيان إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما بمائة ألف، ففرقتها من يومها فلم يبق منها درهم، فقالت لها خادمتها: هلا بقيت لنا درهمًا نشتري به لحمًا لتفطري عليه؟ فقالت: "لو ذكرتني لفعلت".

(19) وبلغت الرحمة من أويس القرني مبلغًا، كان معه إذا أمسى تصدق بما في بيته من الفضل من الطعام والثياب، ثم يقول: "اللهم من مات جوعًا فلا تؤاخذني به، ومن مات عريانًا فلا تؤاخذني به".

وكان مع فقرة وحاجته يلتقط الكسرة من المزابل فيغسلها ويتصدق ببعضها ويأكل بعضها ويقول: "اللهم إني أبرأ إليك من كل كبد جائع".

(20) أثناء سجن الكاتب المصري المعروف مصطفى أمين سنة 1965 صدر قرار بمنعه من الأكل والشرب، لإجباره على تغيير مواقفه..

كلنا يعلم أن الأكل ممكن الاستغناء عنه لفترة، أما العطش فهو عذاب لا يحتمل وكان الجو حارًّا جدًّا.. والعطش قاسيًا جدًّا.. وهو مريض بالسكر ومرضى السكر يشربون الماء بكثرة.

في اليوم الأول شرب ماء الاستنجاء الموجود في الحمام!.

وفي اليوم التالي وجد الإناء خاليًا لأنهم اكتشفوا أنه يشرب منه!.

حتى أنه اضطر أن يشرب من ماء البول أعزكم الله!.

وفي اليوم الثالث لم يجد حتى بوله ليشربه!.

وبينما هو يدور كالمجنون في الغرفة، ويترنح، رأى باب الزنزانة يفتح بهدوء ثم رأى يدًا تمتد في ظلام الزنزانة تحمل كوبًا كبيرًا من الماء المثلج!.

تصور أنه هذيان، أو غيبوبة سكر، يقول فمد يده ولمس الكوب فوجد المياه باردة جدًّا.. وعندما رفع رأسه رأى حامل الكوب يضع أصابعه على فمه.. وكأنه يقول لا تتكلم.

شرب الماء بسرعة، يقول إنه ألذ كوب ماء شربه في حياته!! ثم اختفى الحارس المجهول بسرعة؛ ولكنه عرف ملامح وجهه.

وعندما خرج في الغد للتريض خارج الزنزانة رآه وعرفه فهرع إليه ليسأله: لماذا فعلت ما فعلت؟.

لو كانوا ضبطوك فممكن أنهم سيفصلونك؟!.
فقال الحارس: يفصلوني فقط؟! كانوا سيقتلونني رميًا بالرصاص!.
فقال له: ما الذي جعلك تقوم بهذه المغامرة؟!.
قال: إنني أعرفك وأنت لا تعرفني، منذ 9 سنوات تقريبًا أرسل فلاح في الجيزة خطابًا لك يقول فيه:
إنه فلاح في إحدى القرى، وإن أمنية حياته أن يشتري جاموسة ليعيل أولاده ويعيش على خيرها.. وأنه مكث 7 سنوات يقتصد في قوته وقوت عياله حتى جمع مبلغًا.. ثم باع مصاغ زوجته واشترى بالمبلغ جاموسة وبعد كم يوم ماتت الجاموسة!! وحزن عليها حزنًا شديدًا، حكى لك ذلك الفلاح قصته وتمنى عليك أن تهديه جاموسة بدل التي ماتت.. بعد ذلك بشهور دق باب البيت الصغير الذي يملكه الفلاح ودخلت محررة من جريدة (أخبار اليوم) تجر وراءها الجاموسة التي أهديتها إياه!.

وكانت (أخبار اليوم) قد اعتادت أن تحقق أحلام مئات من قرائها في ليلة القدر... من كل عام.

ثم قال: هذا الفلاح الذي أرسلتم له الجاموسة منذ 9 سنوات هو أبي، هكذا... رد الجميل.

(21) يذكر أن رجلاً يسمى ابن جدعان قال: خرجت في فصل الربيع، وإذا بي أرى إبلي سمانًا يكاد الربيع أن يفجر الحليب من ثديها، وكلما اقترب الحوار- ابن الناقة- من أمه درت عليه وانهال الحليب منها لكثرة الخير والبركة، فنظرت إلى ناقة من نياقي ابنها خلفها، وتذكرت جارًا لي له بنات سبع، فقير الحال فقلت: والله لأتصدقن بهذه الناقة وولدها لجاري، والله يقول: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ (آل عمران: من الآية 92).

وأحب حلالي هذه الناقة يقول: فأخذتها وابنها وطرقت الباب على الجار، وقلت خذها هدية مني لك، فرأيت الفرح في وجهه لا يدري ماذا يقول، فكان يشرب من لبنها ويحتطب على ظهرها، وينتظر وليدها يكبر ليبيعه، وجاءه منها خير عظيم.

فلما انتهى الربيع وجاء الصيف بجفافه وقحطه، تشققت الأرض وبدأ البدو يرتحلون يبحثون عن الماء في الدحول- الدحول هي حفر في الأرض توصل لمحابس مائية أو أقبية مائية تحت الأرض له فتحات فوق الأرض يعرفها البدو- يقول: فدخلت في هذا الدحل حتى أحضر الماء لنشرب، وأولاده الثلاثة خارج الدحل ينتظرون.. فتاه تحت الأرض ولم يعرف الخروج.

وانتظره أبناؤه يومًا ويومين وثلاثة حتى يئسوا، قالوا: لعل ثعبانًا لدغه فمات، أو لعله تاه تحت الأرض وهلك، وكانوا- عياذًا بالله- ينتظرون هلاكه طمعًا في تقسيم المال والحلال، فذهبوا إلى البيت وقسموا، وتذكروا أن أباهم قد أعطى ناقة لجارهم الفقير، فذهبوا إليه وقالوا له: أعد الناقة خيرًا لك وخذ هذا الجمل مكانها وإلا سنسحبها عنوة الآن ولن نعطيك شيئًا. قال: أشتكيكم إلى أبيكم.

قالوا: اشتك إليه فإنه قد مات.
قال: مات؟! كيف مات؟ وأين مات؟ ولم لم أعلم بذلك؟!.
قالوا: دخل دحلاً في الصحراء ولم يخرج.

قال: ناشدتكم الله اذهبوا بي إلى مكان الدحل ثم خذوا الناقة وافعلوا ما شئتم ولا أريد جملكم.
فذهبوا به فلما رأى المكان الذي دخل فيه صاحبه الوفي ذهب وأحضر حبلاً وأشعل شمعة، ثم ربط نفسه خارج الدحل ونزل يزحف على قفاه حتى وصل إلى أماكن فيها يحبو وأماكن فيها يزحف وأماكن يتدحرج، ويشم رائحة الرطوبة تقترب، وإذا به يسمع أنين الرجل عند الماء، فأخذ يزحف تجاه الأنين في الظلام ويتلمس الأرض، فوقعت يده على الطين ثم وقعت يده على الرجل.


فوضع يده على أنفاسه فإذا هو حي يتنفس بعد أسبوع، فقام وجره وربط عينيه حتى لا تنبهر بضوء الشمس، ثم أخرجه معه إلى خارج الدحل، ومرس له التمر وسقاه، وحمله على ظهره، وجاء به إلى داره، ودبت الحياة في الرجل من جديد- وأولاده لا يعلمون- فقال: أخبرني بالله عليك أسبوعًا كاملاً وأنت تحت الأرض ولم تمت!.

قال: سأحدثك حديثًا عجبًا، لما نزلت ضعت، وتشعبت بي الطرق فقلت: آوي إلى الماء الذي وصلت إليه، وأخذت أشرب منه ولكن الجوع لا يرحم فالماء لا يكفي. يقول: وبعد ثلاثة أيام وقد أخذ الجوع مني كل مأخذ، وبينما أنا متسلق على قفاي قد أسلمت وفوضت أمري إلى الله، وإذا بي أحس دفء اللبن يتدفق على فمي!.

يقول: فاعتدلت في جلستي، وإذا بإناء في الظلام لا أراه يقترب من فمي فأشرب حتى أرتوي ثم يذهب، فأخذ يأتيني ثلاث مرات في اليوم، ولكنه منذ يومين انقطع ما أدري ما سبب انقطاعه؟

يقول: فقلت له: لو تعلم سبب انقطاعه لتعجبت.. ظن أولادك أنك مت، وجاءوا إلى وسحبوا الناقة التي كان الله يسقيك منها.

(22) روى أحد الإخوان من بلدة حريملاء إحدى قرى الرياض أن إحدى النساء من نفس البلدة أصيبت بمرض سرطان الدم، ولحاجتها للرعاية استقدمت خادمة إندونيسية، وكانت هذه المرأة صاحبة دين وخلق، وبعد مرور أسبوع تقريبًا على حضور الخادمة لاحظت هذه المرأة أن الخادمة تمكث طويلاً في دورة المياه- أعزكم الله- وأكثر من المعتاد، وتترد كثيرًا على الدورة، وفي إحدى المرات سألتها عن سبب بقائها طويلاً في الدورة؟!.

وعندما سألتها أخذت الخادمة تبكي بكاءً شديدًا، وعندما سألتها عن سبب بكائها قالت: إنني وضعت ابني من عشرين يومًا فقط، وعندما اتصل بي المكتب في إندونيسيا أردت اغتنام الفرصة والحضور للعمل عندكم لحاجتنا الماسة للمال، وسبب بقائي طويلاً في الدورة هو أن صدري مليء بالحليب وأقوم بتخفيفه.

عندما علمت هذه المرأة قامت فورًا بالحجز لها في أقرب رحلة إلى إندونيسيا، وصرفت المبلغ الذي ستتقاضاه خلال السنتين بالتمام والكمال، ثم استدعتها وقالت لها: هذا راتبك لمدة سنتين مقدمًا، اذهبي إلى ابنك وأرضعيه واعتني به، وبعد سنتين بإمكانك الحضور إلينا، وأعطتها أرقام الهواتف في حال رغبتها للعودة بعد سنتين.

وبعد سفر الخادمة كان لدى المرأة موعد متابعة لتطور السرطان، وعند الفحص الروتيني للدم كانت المفاجأة.. لم يجدوا فيها أي أثر للسرطان!.

طلب الطبيب منها أن تعيد التحليل عدة مرات، وكانت النتيجة واحدة!، ذهل الطبيب لشفائها لخطورة المرض، فحولها على الأشعة فوجد نسبة السرطان 0%، عندها أيقن الطبيب شفاءها.

سألها عن العلاج المستخدم وكان جوابها: عن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "داووا مرضاكم بالصدقة".

(23) كان الإمام أبو حنيفة تاجرًا للملابس والأصواف والحرير، وكان له متجر معروف، كان يمر الحول عليه فيبقى ما يكفيه لنفقته ثم يقضي بالباقي حوائج الفقراء وطلاب العلم، أقواتهم وكسوتهم ويقول لهم:
هذه أرباح بضاعتكم أجراها الله لكم على يدي، والله ما أعطيتكم من مالي شيئًا، وإنما هو فضل الله علي منكم، فما في رزق الله حول لأحد غير الله.

وبلغ من جوده وبره بالناس أنه كان إذا أنفق على عياله نفقة تصدق بمثلها على غيرهم من المحتاجين، وإذا اكتسى ثوبًا جديدًا كسى المساكين بقدر ثمنه.

(24) صورة من واقع الحياة... كيف كان الحسن البصري جارًا صالحًا لأهل البصرة، وحينما أخبر أحدهم عنه قال: أنا جاره في بيته وجليسه في مجلسه. فماذا قال عنه؟، قال مسلمة بن عبد الملك: أخبرني يا خالد بن صفوان عن الحسن البصري فإني أظن أنك تعرف من أمره ما لا يعرف سواك؟، فقلت: أصلح الله الأمير، أنا خير من يخبرك عنه بعلم فأنا جاره في بيته وجليسه في مجلسه وأعلم أهل البصرة به. قال مسلمة: هات ما عندك. فقال خالد: إنه امرؤ، سريرته كعلانيته، وقوله كفعله، وإذا أمر بمعروف كان أعمل الناس به، وإذا نهى عن منكر كان أترك الناس له، ولقد رأيناه مستغنيًا عن الناس، زاهدًا في ما في أيديهم، ورأيت الناس محتاجين إليه، طالبين ما عنده.

فقال مسلمة: حسبك يا خالد حسبك. كيف يضل قوم فيهم مثل هذا؟
نعم كيف يضل مجتمع فيه جار مثل الحسن البصري؟!
فأين نحن من الحسن البصري؟؟

(25) قيل لقيس بن سعد: هل رأيت قط أسخى منك؟ قال: نعم، نزلنا بالبادية على امرأة فجاء زوجها فقالت له: إنه نزل بنا ضيفان. فجاء بناقة فنحرها وقال: شأنكم، فلما كان من الغد جاء بأخرى فنحرها وقال: شأنكم. فقلنا: ما أكلنا ما نحرت البارحة إلا قليل فقال: أني لا أطعم ضيفًا من البائت، فبقينا عنده أيامًا والسماء تمطر وهو يفعل كذلك، فلما أردنا الرحيل وضعنا مائة دينار في بيته وقلنا للمرأة: اعتذري لنا إليه. ومضينا، فلما ارتفع النهار إذا برجل يصيح خلفنا: قفوا أيها الركب اللئام، أعطيتمونا ثمن قرانا لضيفنا. ثم لحقنا وقال: خذوها وإلا طعنتكم برمحي هذا. فأخذناها وانصرفنا.

(26) كان حاتم الطائي يكنى بـ(أبا سفانة أو أبا عدي)، وكان ولده عدي يعادي النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا إلى طيء (بلد حاتم) فهرب عدي بأهله وولده ولحق بالشام وخلف أخته سفانة، فأسرتها خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أتي بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: يا محمد هلك الولد، وغاب الرافد، فإن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب فإن أبي كان سيد قومه، يفك العاني، ويقتل الجاني، ويحفظ الجار، ويحمي الديار، ويفرج المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ويحمل الكل، ويعين على نوائب الدهر، وما أتاه أحد في حاجة فرده خائبًا، أنا بنت حاتم الطائي.

فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "يا جارية هذه صفات المؤمنين حقًّا، لو كان أبوك مسلمًا لترحمنا عليه، خلوا عنها فإن أباها يحب مكارم الأخلاق"، فأطلقها صلى الله عليه وسلم ومن عليها، فاستأذنته في الدعاء له فأذن لها وقال لأصحابه اسمعوا واعووا، فقالت: (أصاب الله ببرك مواقعه، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة، ولا سلب نعمة عن كريم قوم إلا وجعلك سبب في ردها عليه..).

فلما أطلقها رجعت إلى قومها، فأتت أخاها عديًا وهو بدومة الجندل فقالت له: يا أخي أئت هذا الرجل قبل أن تعلقك حبائله، فإني قد رأيت هديًا ورأيًا سيغلب أهل الغلبة، رأيت خصالاً تعجبني.. رأيته يحب الفقير، ويفك الأسير، ويرحم الصغير، ويعرف الكبير، وما رأيت أكرم منه، وإني أرى أن تلحق به، فإن يك نبيًّا فللسابق فضله، وإن يك ملكًا فلن يذل في عز اليمن).

فقدم عدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فألقى له وسادة محشوة ليفًا، وجلس النبي صلى الله عليه وسلم على الأرض، فأسلم عدي بن حاتم وأسلمت أخته سفانة، وكانت من أجود نساء العرب.

(27) أرسل رجل ابنه في تجارة فمضت أشهر ولم يقع له على خبر، فتصدق برغيفين، فلما كان بعد سنة رجع ابنه سالمًا رابحًا، فسأله أبوه: هل أصابك في سفرك بلاء؟ قال: نعم.. غرقت السفينة بنا في وسط البحر وغرقت في جملة الناس، وإذا بشابين أخذاني فطرحاني على الشط وقالا لي: قل لوالدك هذا برغيفيك. فكيف لو تصدقت بأكثر من ذلك؟.

(28) حُكي أن رجلاً جلس يومًا يأكل هو وزوجته وبين أيديهما دجاجة مشوية، فوقف سائل ببابه، فخرج إليه وانتهره فذهب.. فحدث أن هذا الرجل افتقر وزالت نعمته وطلق زوجته، وتزوجت بعده برجل آخر، فجلس يأكل معها في بعض الأيام وبين أيديهما دجاجة مشوية، وإذا بسائل يطرق الباب، فقال الرجل لزوجته: أدفعي إليه هذه الدجاجة، فخرجت بها فإذا هو زوجها الأول.. فدفعت إليه الدجاجة ورجعت وهي باكية، فسألها زوجها عن بكائها فأخبرته أن السائل كان زوجها الأول، وذكرت له قصتها مع ذلك السائل الذي انتهره زوجها الأول فقال لها زوجها: أنا والله ذلك السائل!.

(29) كان رجل عنده فرس معروفة بأصالتها سمع بها رجل فأراد أن يسرقها منه، واحتال لذلك بأن أظهر نفسه بمظهر المنقطع في الطريق عند مرور صاحب الفرس، فلما رآه نزل إليه وسقاه ثم حمله وأركبه فرسه، فلما تمكن منه انطلق بها هاربًا، فناداه صاحب الفرس: رويدك.. الفرس لك ولكن لي طلب عندك.. قال: وما هو؟ قال: إذا سألك أحد كيف حصلت على الفرس فلا تقل له احتلت بحيلة كذا، ولكن قل صاحب الفرس أهداها لي، قال السارق: لماذا؟ قال صاحب الفرس: حتى لا ينقطع المعروف بين الناس، أخشى أن لا يغاث ملهوف، فربما مر قوم برجل منقطع حقيقة يقولون: لا تساعدوه لأن فلان قد ساعد فلان فغدر به.

(30) يُروى أن رجلاً سأل موسى عليه السلام أن يسأل ربه ويدعوه يوسع عليه. فقال له موسى عليه السلام: يا هذا قليل تؤدي شكره خير من كثير يطغيك، فقال الرجل لموسى عليه السلام: أدعو الله أن يوسع علي عامين، فطلب موسى من الله أن يوسع عليه عامين وأخبره بذلك... فتشاور الرجل وزوجته ماذا يفعلان في هذين العامين؟.

فبنى الرجل بيتًا له أربعة أبواب.
وكتب على الباب الأول: هنا يطعم الجائع.
وكتب على الباب الثاني: هنا يسقى الظمآن.
وكتب على الباب الثالث: هنا يكسى العريان.
وكتب على الباب الرابع: هنا تقضى الحاجات.

وكلما مر موسى عليه السلام على الرجل وجد أناسًا كثيرين على الأبواب؛ حتى انتهى العامان وزيادة ولم يمنع الرزق عن الرجل ولم يغلق باب من الأبواب، فسأل موسى عليه السلام: يا رب.. وسعت عليه عامين.. ولكن تركته حتى الآن، فقال الله تعالى: "يا موسى، فتحت على عبدي بابًا واحدًا ففتح أربعة أبواب، أيكون العبد أكرم من سيده يا موسى".

(31) مرت بمصر فترة انتشر فيها قطاع الطرق ليلاً، وكانوا يشيرون للسيارات بالوقوف إنقاذًا لأزمة، فإذا وقفت السيارة انقضوا عليها وسلبوا أموال وملابس الركاب، وفي تلك الفترة كان حسن البنا مرشد الإخوان عائدًا إلى القاهرة بعد منتصف الليل، فرأى سيارة على جانب الطريق ورجل يشير بالوقوف فلم يتردد لحظة وطلب من الأخ الذي يقود السيارة أن يقف ونزل بمفرده يسأل الرجل عما يطلب فأخبره أن بنزين السيارة قد فرغ وطلب مددًا من البنزين، وفي ذلك الوقت كانت الكلاكسات لم تكن منتشرة بل كان التنبيه بالنفير (هو بوق معدني ينتهي بقطعة من الكاوتشوك مفرغة إذا ضغط عليها أحدثت صوتًا) فنزع الإمام الشهيد الجلدة من البوق وملأها بنزين عدة مرات من خزان سيارته وأفرغها في سيارة الرجل، كل ذلك ولم يسأل الإمام الرجل عن اسمه أو هويته أو دينه أو عمله، ودهش الرجل من هذه المعاملة النبيلة، فقدم نفسه للإمام قائلاً أنا محمد عبد الرسول القاضي في محكمة القاهرة من أنت؟ قال الإمام في تواضع أنا حسن البنا مدرس في مدرسة البنين الابتدائية، فسأله القاضي حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين؟ قال نعم، ومن يومها كان المرحوم محمد عبد الرسول أحد الألسنة الطاهرة التي تدافع عن الإخوان المسلمين في الوسط القضائي، وهكذا كان الإمام البنا عملاً وخدمةً.. لا كلامًا ومنةً.

(32) موقف الشيخ أحمد ياسين (شيخ قعيد أيقظ أمة):
في مدرسته جعل من نفسه منذ وضع قدمه فيها النواة التي يلتف حولها الطلاب المجدون، ووجههم إلى المسجد ليكمل لهم عقب صلاة العصر ولمرتين أسبوعيًّا ما لم تتسع لهم حصصهم المدرسية وسر بذلك أولياء الأمور إلا بعضهم فقد جاء أحد كبار ضباط السلطة ليشكو للناظر أن هذا المدرس يجمع الأولاد في المسجد ويشرح لهم دروسهم وكان قد قيض الله للشيخ ناظرًا محترمًا فقد أجاب الشاهد بما أفهمه وأقنعه الشاهد في ذلك دروس خصوصية مجانية في المسجد للتلاميذ، حركة، عطاء، وتجميع.

ومن مواقف العمل الاجتماعي الايجابي في الفترة من بين 1975/ 1976م تعرضت بلدية غزة القائمة على نظافة المدينة؛ لإهمال نتيجة قلة مواردها وإمكاناتها، فقرر الشيخ أحمد ياسين والشباب مباشرة تنظيف الشوارع بأنفسهم في مجموعات كان يشرف عليها الشيخ بنفسه ويحث الشباب على الجد والهمة ويدعو لهم.

* أصبح الشيخ يفصل في القضايا كالزواج والطلاق والأرض والمشكلات التي تقع بين الجيران وفي كل ما يتنازع الناس فيه وكثير منهم يرتضونه الحكم لهم فيفصل بينهم بما يرضي الله ورسوله فسار بيته ساحة قضاء يقصده الناس من كل مكان.

(33) من الخدمات الاجتماعية للإخوان:
عمل الإخوان من أول يوم على الإصلاح الريفي، وأسسوا جماعة للعناية بنهضة القرى المصرية، واشترك بعض الإخوان في عمل مزرعة تعاونية نموذجية في فرشوط، وتبارت شعب الإخوان في إطعام الفقراء، وإنارة القرى، وعمل لجان للزكاة، والعناية بالمصالحة بين المتخاصمين، وتولت بعض الشعب إحصاء الأطفال المشردين والأسر الفقيرة لتشغيل الأطفال وإعالة العجزة الذين لا عائل لهم؛ ولهذا فقد أنشئوا قبل صدور القانون 45 الخاص بتنظيم الجمعيات والمؤسسات الخيرية مكتبًا خاصًّا للمساعدات الاجتماعية لرعاية الأسر الفقيرة على أساس عملي علمي صحيح، وحينما صدر القانون 45 تطور هذا المكتب فأصبح قسمًا مستقلاًّ له لائحته الخاصة وسُمي باسم (جماعات أقسام البر والخدمات الاجتماعية للإخوان المسلمين)، واتسعت دائرة نشاطه إلى تقديم خدمات صحية وثقافية إلى جانب ما كان يقوم به مكتب المساعدات الاجتماعية من خدمات، وقدَّمت أقسام البر والخدمات الاجتماعية خدمات كثيرة لا سبيل إلى حصرها، وكان له حتى سنة 1948م خمسمائة شعبة في أنحاء مصر تشرف عليها وزارة الشئون الاجتماعية (إرشاد المجتمع ص43، 44).

(34) قصة حكتها لي إحدى السيدات: وهي واقعية وتهدي إلى أن من يقوم بالمعروف لا يضيعه الله لا كما يقول الناس (اعمل المعروف وألقيه في البحر)؛ ولكن اعمل المعروف، وانتظر الأجر من الله في الدنيا والآخرة أيضًا.

** تحكي وتقول: طرقت بابي سيدة فقيرة تسأل عن شيء فقمت وأحضرت 5 جنيهات بلا تردد، ثم ذهبت إلى المطبخ لأحضر لها شيئًا آخر فوجدت كيس سكر وحيدًا، فوقفت وترددت كثيرًا، أعطيها الكيس وينفد السكر من عندي، أم أكتفي بالـ5 جنيهات، وكاد الشيطان ينتصر لولا فضل الله فأخذت الكيس والـ5 جنيهات، وأعطيتها للمرأة الفقيرة، أحسست بعدها براحة وشعور بالانتصار، وكان هذا يكفيني، وبعد قليل وجدت والد زوجي ينادي على أولادي، ويعطيهم 20 كيسًا من السكر، وكانت هذه أول مرة يقوم بهذا العمل معنا، ويقول هذا السكر زائد عندي أعطيه لوالدتكم، فكان 20 كيسًا مقابل كيس واحد، بالإضافة إلى راحة نفس وسعادة روحية.

(35) قصة طبيب صديق لي، يحكي أنه في المستشفى الحكومي الذي يعمل به، دخلت امرأة كبيرة في السن في أزمة قلبية وكانت محجوزة بمستشفى أمراض معدية (فأصبح عندها مرض معدٍ وأزمة قلبية)، فلا يجوز نقلها إلى العناية المركزة حتى لا تنتشر العدوى وإنما يأتي لها طبيب من العناية المركزة وإسعافها أوليًّا.

ففكر الطبيب أن هذه لو كانت والدته ماذا يفعل؟ فسأل ابن المريضة هل معك سيارة؟ أم نستأجر تاكسيًّا وبسرعة نذهب بها إلى العناية لإنقاذها من الأزمة القلبية المفاجئة؟ وذلك هو المهم الآن والأولى، فأخبره أنه معه سيارة فحملها مع ابنها وذهبا بها إلى العناية المركزة.. وكانت لحظة الوصول لحظة حرجة جدًّا ومهمة جدًّا، فتم إنقاذها بفضل الله ثم بفضل هذا القرار السريع والعاجل، ثم عادت مرة ثانية لاستكمال علاجها... ثم حدث أن اشترى هذا الطبيب سيارة جديدة بعد أيام قليلة وسار بها وحدث لها عطل شديد جدًّا في الطريق... فأرشده الناس إلى ميكانيكي سيارات قريب وبسرعة، فمن يا ترى كان هذا الميكانيكي، كان ابن المرأة التي تم إنقاذها، فأنقذ له سيارته بسرعة من هلاك محقق وأكرمه (كضيف) ثم رفض تمامًا أن يأخذ منه أي أجر، ردًّا لجميله وموقفه السابق.. وهكذا كما قلنا صاحب المعروف لا يقع وإذا وقع لا ينكسر أو وجد متكأ.

(36) قبل فترة وعلى لسان واحدة من الداعيات التي أثق في مصداقيتهن سمعت قصة والله إني لأبكي كلما تذكرتها.

هذه القصة عن شخص جاء له منادٍ في المنام أن يتصل برقم محدد، ويطلب فلان الفلاني ويأخذه لمكة للعمرة.. الشخص طبعًا في اليوم الأول اعتبرها أضغاث أحلام، ولما تكررت لليوم الثاني سأل شيخ مسجد في حارتهم وأفتاه بأن هذا نداء، وبأن عليه إذا جاءه النداء لليوم الثالث أن يتمعن في الرقم وينفذ الوصية.

هذا الشخص ما قصر أخذ الرقم في النداء الثالث واتصل على صاحبه وطلب فلانًا وقال له يا أخي جاءني نداء في المنام يطلب مني أخذك للعمرة، وأنا لازم أنفذ هذا الأمر!! طبعًا الشخص المقصود ضحك، وقال له: أي عمرة؟! تعرف أني من سنوات طويلة ما أذكر أني حتى صليت أي صلاة.

طبعًا المتصل أصر عليه وقال له: أنا لازم أخذك للعمرة؛ لأن هذا أمر لا أستطيع أن أخالفه وأرجوك ساعدني، وافق الأخ الثاني وقال له: على شرط أن تأخذني على حسابك وكل تكاليف العمرة عليك وتردني إلى بيتي، الشخص الثاني وافق واتفقا بأن يمر عليه في الرياض اليوم الثاني ويأخذه إلى مكة للعمرة.

ذهب له في الموعد المحدد بينهم ووجده شخص ما فيه أية سمة من سمات الصلاح، أشعث وأغبر، وعلى ما يبدو أنه سكير، وكان مستغربًا جدًّا أن يأتيه نداء لمدة 3 أيام لشخص بهذه الحالة.

المهم أخذه إلى أقرب ميقات وجعله يغتسل ويلبس ملابس الإحرام، وبعدها أخذه إلى مكة لتأدية العمرة، والحمد لله أدوا العمرة سويًّا، وبعدما أنهوا المناسك وقصروا شعرهم، قرروا العودة، وبحسب الاتفاق عليه إرجاع الأخ الثاني إلى بيته في الرياض؛ لكنه قبل أن يخرج من مكة طلب منه أن يؤدي ركعتين لله؛ لأنه يمكن هذه آخر مرة يدخل فيها البيت الحرام.. وهو يصلي الركعتين طوَّل في السجود ولما نهزه من معه اكتشف أنه مات وهو ساجد.

ما قدر يتحمل وبكى وهو يحسده على مثل هذه الخاتمة "يحشر الإنسان على آخر شيء كان عليه".

طبعًا غسلوه بماء زمزم، وصلوا عليه في الحرم، وبعدها أخذه للرياض، وأبلغ أهله وأقاموا العزاء ب3 أيام، ثم اتصل على زوجة المتوفى وطلب يكلمها، وسألها ماذا كان يعمل زوجها حتى يلاقي مثل هذه الخاتمة التي يحسده عليها الصالحون، وردت عليه: والله يا أخي إن زوجي هذا من فترة طويلة لم يعد يصوم أو يصلي، وأن زجاجة الخمر هي رفيقه الوحيد في حله وترحاله، ولا أذكر له من المحاسن إلا شيئًا واحدًا، لنا جارة أرملة فقيرة وعندها أطفال، وزوجي هذا كل ليلة يشتري لنا عشاء للبيت، ويشتري لهم معنا ويمر عليها يضع أكلهم في الباب، ويقول لها: خذي أكلك من الباب، وهي تدعي له بهذا الدعاء: "روح الله يحسن خاتمتك".

يعني سبحان الله دعاء هذه الأرملة المحتاجة الذي ما بينه وبين الله حجاب، أوصل هذا الرجل لخاتمة، كلٌّ منا يرجوها من الله.

(37) قصة في فضل الصدقة:
هذه قصة أوردها لكم من صاحبها كما أوردها لي- وقد ألححت عليه أن يسردها كما عاشها فجزاه الله خيرًا- أضعها بين أيديكم لتقرؤها وتتعلموا من الدروس وهي كثيرة.

وقد والله توقفت عليها كثيرًا واستفدت منها كثيرًا..

هذه قصة واقعية وقعت لي وأنا من سكان جدة وكانت أحداثها في عام 1419هـ أقول فيها:
مرة سافرت المنطقة الشرقية لحضور معسكر للأنشطة الطلابية، وكنت مولعًا بهذه الرحلات.. وقد استمرت الرحلة 5 أيام، وقد كنت لا أعرف أي شخص في هذه المنطقة أبدًا.. كان معسكرًا جميلاً وقد قضيت فيه وقتًا ممتعًا ورائعًا، وبعد الخمسة أيام جاء موعد السفر، وبالفعل ذهب شخص إلى المطار وودعني وذهب، نظرت في جيبي فإذا أنا معي 50 ريالاً فقط، فقلت في نفسي أنا لن أحتاج إلى أية نقود الآن رحلتي بعد قليل وسأذهب لأهلي، ولكن الأمر لم يكن بالسهولة التي تصورتها، والمفاجأة الكبرى التي كانت بانتظاري أفسدت فرحتي بالرجوع إلى أهلي وبيتي؛ حيث ذهبت أبحث عن البوابة التي تقلع منها طائرتي فوجدت أن رحلتي قد ذهبت وقد فاتتني الطائرة، ذهبت مباشرة لأستعلم عن أقرب رحلة ممكنة لكن المفاجأة صعقتني عندما قال لي الموظف: لا توجد رحلة ممكنة إلا في الغد، حاولت بشتى الطرق لكن بلا جدوى، عرفت أنها مصيبة كبيرة لأن معنى هذا أن أجلس يومًا كاملاً في المطار أو أرجع إلى المدينة وأنا ليس في جيبي إلا 50 ريالاً فقط، أنا متأكد تمامًا أن الخمسين لن تسكنني في فندق ولن تأكلني وترجعني للمطار، ليس معي جوال أو بطاقة صراف؛ لأني طالب، والجوالات قليلة جدًّا، ولو كانت هذه الأشياء معي حينها لما وقعت في ذلك الحرج لكن قدر الله لي الأمر، قررت بعد عناء وتفكير أن أرجع إلى المدينة، ولست أدري هل هو القرار الصائب أو لا غير أني فكرت في الرجوع إلى المعسكر الذي كنت فيه لعلي ألاقي فيه مقرًّا لي أو مأوى حتى اليوم التالي، ركبت سيارة أجرة وحاولت لأخفض الأجرة قدر المستطاع حتى لا أقع في مشاكل أكبر فدفعت للسائق 30 ريالاً بشق الأنفس ليوصلني؛ حيث أريد، عندما وصلت إلى باب المعسكر أو مقر الرحلة كانت الكارثة... لم أجد أحدًا أبدًا.. التفت وناديت بلا جدوى... علمت بعدها أن الكل ذهب في حاله وليس باليد حيلة إلا أن أمشي، مشيت ومشيت أتجول في الشوارع والطرقات ليس في الفكر شيء بل كنت مشتت الذهن تمامًا من وقع ما أنا فيه، بعيد عن أهلي، في مكان غريب، ليس معي ما يسعفني لآكل أو لأصل لبيتي، عندها عرفت قيمة الريال والله، ولكني لم أيأس، كان الوقت عصرًا فمشيت وجلست وأكلت وجبة بـ10 ريالات، بعدها دخلت المسجد لصلاة المغرب وثقتي لم تتزعزع أبدًا بالله بأنه كاشف الهم وعالم الحال، صليت المغرب وجلست والله أستغفر الله وأستحضر فوائد الاستغفار، استغفرت كثيرًا كثيرًا ودعوت، وما زلت أتذكر إحساسي الذي تغير تمامًا من عدم الاطمئنان إلى راحة وسعادة، وكأني صليت عند بيتي لا في مكان يبعد عن بيتي قرابة 1500 كيلو متر، خرجت بعد العشاء وثقتي بالله كبيرة أن يفرج عني ويساعدني، وجدت مسكينًا عند الباب كان يلح في السؤال وتأثرت لمنظره غير أني أعرف تمامًا أنه ليس في جيبي إلا عشرة ريالات فقط، فكرت لوهلة.. هل أعطيه العشرة ريالات، ثم وبخت نفسي ولمتها وقلت: كيف أعيش إذًا؟... وكيف أواجه مشاكلي أنا؟! وكيف أفعل في مكان بعيد وظرف كهذا بلا مال؟... والله العظيم كان ترددًا كبيرًا جدًّا جدًّا... ولا أدري كيف امتدت يدي إلى جيبي وأخرجت المبلغ كله ودفعته للرجل دون أدنى إحساس، بل دون أدنى خوف من العواقب إلا ابتغاء أن تفرج من عند الله، وانصرفت في طريقي، استفقت بعد حين وإذا بي قد فعلتها حقًّا!!! لقد أعطيت الرجل كل ما أملك... وقد أكون أنا أشد حاجة منه. لقد أعطيته كل المال الذي عندي!!! والله إنها لحلاوة في النفس، لكن ما زال الشيطان يقوم بتخويفي من عواقب الأمور، لكن سلمت أمري لله، كنت أعرف تمامًا أن الحسنة بعشر أمثالها، بل كنت أحسبها بعد ذلك... أنا دفعت 10 ريالات للمسكين إذًا سيعوضني الله عنها بـ100 ريال، وكنت أقولها ببساطة تامة وثقة كبيرة لا أدري من أين أتت تلك الثقة لكنه قدر الله، استمررت في الاستغفار واستمررت في المشي قرابة الساعة، وبينما كنت في أحد الطرقات القريبة من مكان المعسكر الذي كنا فيه إذا بسيارة تمشي خلفي وصاحبها ينادي باسمي، نعم والله يناديني أنا! تعجبت ونظرت من تراه يعرف اسمي في هذه المنطقة؟ وزالت كل التساؤلات عندما وقف صاحب السيارة بالقرب مني وقال لي: أنت فلان؟.


قلت: نعم أنا هو.. كيف تعرفني؟ قال: اركب بس، ركبت معه السيارة وأنا مندهش، وقال لي: أنا فلان كنت معاكم بالرحلة ألا تذكرني؟ قلت: بصراحة لم أتعرف على الكل لكن عمومًا أهلاً بك، قال لي: تصدق أنا أبحث عنك منذ العصر؟ قلت: لماذا؟ قال لي: يا أخي الكريم لك مكافأة 500 ريال باقية لك عندي، وبحثت عنك لأعطيها لك وها أنا الآن قد وجدتك.. فخذ الخمسمائة ريال، وعندما وضعها في يدي كدت أصعق من الدهشة، ومن سرعة كرم الله ولطفه وعظم ثوابه، ورغم أن الأمر لم يستغرق منذ خروجي من المسجد إلا ساعة واحدة، وجاءني الثواب ليس بـ10 أمثال بل بـ50 مثلاً!!! نعم... لقد كنت أجلس بالقرب من الرجل وأنا مندهش بل في شبه غيبوبة عما يقول، ولما أفقت جلست أضحك، فعجب من ضحكي وسألني عن السبب؟ فقلت له: لا شيء تذكرت أمرًا أضحكني، ولما عرف قصة رحلتي الحزينة، وكيف فاتتني طائرتي قرَّر أن يصحبني إلى بيته؛ حيث إنه كان من سكان المدينة، وبت عنده تلك الليلة كاملة وأوصلني للمطار، وودعني صديقي الذي لست أدري كيف عرفني أصلاً، غير أني متأكد من أن الله ساقه إليَّ، عدت إلى أهلي في جدة وأنا أحمل في جيبي 500 ريال لا 50 ريالاً، ولكني كنت أحمل شيئًا أكبر من ذلك كله، شيئًا كنت متأكدًا منه ولكنه استقر في قلبي وتيقن بعد هذه التجربة، إنه... ثقتي بالله تعالى... وأنه يقدر الخير دائمًا... وأنه لن يضيع من يستغفره ويتوكل عليه ويعين الآخرين ويساعدهم.