تعدد الزوجات..هو الأصل للشيخ د. ناصر الخنين

تعدد الزوجات..هو الأصل ناصر الخنين

يختلف حكم التعدد ويتفاوت حسب أحوال كل رجل تعليق التعدد بمرض الزوجة الأولى أو كبر سنها تحجير واسع إعداد د. ناصر بن عبدالله الخنين*


كانت ظاهرة (تعدد الزوجات) من الممارسات المنتشرة في الجاهلية قبل البعثة، وأقر الإسلام هذه العادة لما فيها من فوائد كثيرة تخدم مصلحة الرجل والمرأة على السواء، ووضع لها الضوابط الشرعية التي تحمي حقوق كل الأطراف.


وفي الدراسة التالية يجيب فضيلة الشيخ الدكتور ناصر بن عبدالرحمن الخنين، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام على كثير من التساؤلات المطروحة في هذا الموضوع المهم.


ولا نحب أن نطيل في المقدمة، بل نترك القارئ ليطلع على الحجج التي صاغها فضيلته حول مزايا وفوائد تعدد الزوجات، وبيان لمعنى العدل بين الزوجات.


الأصل هو التعدد


يتساءل بعض الناس عن الأسباب التي تدعو إلى (تعدد الزوجات)، وكأن الأصل هو المنع، وهذا ما أدى إلى الاعتقاد بأن التعدد لا يقع إلا بسبب معين، إذا وجد هذا السبب ساغ التعدد وجاز ، وإلا فلا. هذا المعنى غير صحيح، وللأسف فإنه شائع ذائع في كثير من الأوساط، والصحيح الذي عليه العمل والمعول في فهم النصوص الشرعية الواردة في الحث على الزواج أن الأصل هو التعدد؛ رغبة في الإحسان والإحصان إذا كان الزوج المسلم قادرا عادلا؛ فإن خاف الظلم، ولم يأنس من نفسه القدرة على العدل بين الزوجات اقتصر على واحدة، وهذا ما رجحه شيخ الإسلام وفي المعاصرين أبو عبدالله: عبدالعزيز بن عبدالله بن باز - رحمه الله - وقد كان يلاطف جلساءه أحيانا فيقول: (يا فلان أأنت معدد أم أنت من الخائفين؟!) وهي تورية لها معنيان قريب أراد به الشيخ الخوف ممن تحتك، وبعيد أراد به قوله تعالى: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة} [النساء: 3].


وتعليق التعدد بسبب معين كمرض الزوجة أو كبر سنها أو غيره.. من التضييق في أمر وسعه الله تعالى، وإنما شرط التعدد هو أن يغلب على ظن المسلم القدرة على القيام بنفقات الزوجات والعدل بينه في القسم والمسكن والنفقة والعشرة بالمعروف، فيتقي الله في ذلك ما استطاع، وأما الميل القلبي بالحب والجماع ونحوه؛ مما لا يملكه الزوج فالأمر موسع عليه فيه إذا غلب عليه(1)، لكن لا ينبغي أن يميل في ذلك كل الميل لقوله تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة} [النساء: 129] وقد ذهب أكثر العلماء إلى أن المراد بالميل هنا هو في القسم والإنفاق لا في المحبة، لأنها مما لا يملكه العبد. ويؤيد هذا ما روته عائشة - رضي لله عنها - أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل ويقول: (اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)، قال أبو داود: يعني القلب. وقد أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد وابن حبان والحاكم وصححه..


قال الحافظ بن كثير في تفسير الآية المتقدمة: (أي: لن تستطيعوا أيها الناس أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه؛ فإنه وإن كان وقع القسم الصوري ليلة وليلة، فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة)، وقال أيضا في قوله (فلا تميلوا كل الميل) أي: فإذا ملتم إلى واحدة منهن فلا تبالغوا في الميل بالكلية (فتذروها كالمعلقة) أي: فتبقى هذه الأخرى معلقة). وهي التي لا ذات زوج ولا مطلقة.


وقال في قوله تعالى: {وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما} [النساء: 129] أي: وإن أصلحتم في أموركم وقسمتم بالعدل فيما تملكون واتقيتم الله في جميع الأحوال غفر الله لكم ما كان من ميل إلى بعض النساء دون بعض).


فبان مما تقدم أن سنة التعدد غير مقيدة بسبب محدد، وإنما شرطها العدل الغالب على الظن وتقوى الله تعالى في ذلك، وأن الأصل هو التعدد ولا يعدل عنه إلا لمن خاف عدم تحقق العدل بين الزوجات؛ قال حبر الأمة - رضي الله عنه لسعيد بن جبير: (فتزوج فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء).


والذي أميل إليه وتعضده قواعد الشريعة ونصوصها العامة هو أن التعدد يختلف حكمه ويتفاوت بحسب أحوال كل رجل والقرائن المحيطة بذاته وصفاته؛ فالأصل في التعدد والإباحة مطلقا، بشرط العدل بمقتضى الأمر في قوله تعالى:{وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا (3)} [النساء] ، وقد ينتقل هذا الأمر إلى الندب في حق المحسن القادر على العدل، فإنه بتزوجه أكثر من واحدة يزيد في إعفاف نفسه وإعفاف غيره من النساء، ويكون بمنأى من فضول النظر والوقوع في الخطر، وأما من كان موسرا ولا تكفيه الواحدة، وعنده من القدرة المالية والجنسية ما يستطيع بهما النفقة والإحسان، ويخشى عليه عند الاكتفاء بالواحدة من الوقوع في الزنا لشدة الداعي، وكثرة المغريات، ولا يعصمه من ذلك بعد الله إلا التعدد فإنه يكاد يتوجب عليه ذلك حتى ينقله عن الوقوع في الفحشاء أو قربانها، وهو قادر على العدل والإحسان، فيكون بتعدده محسنا لنفسه أولا ناقلا لها من الإثم الراجح إلى ما يثاب عليه، ثم إنه يحسن إلى غيره من النساء ممن هن ينتظرن أمثاله من المحسنين فهن محل الإحسان المالي والغريزي، ويكثر بذلك سواد الأمة المسلمة.


ومن الرجال من لا يحسن سياسة الأمور، ويقع منه الظلم على زوجته، أو أولاده ويظهر عليه التقتير، فالظن به أنه إذا عدد وقع فيما يؤاخذ عليه؛ فمثل هذا قد يقال إنه يكره في حقه التعدد؛ لأنه سيوقعه فيما يؤاخذ عليه ويأثم بسببه؛ بل قد يحرم عليه إذا نوى بذلك المضارة والمكايدة لزوجته أو إحدى زوجاته، وترتب عليه حقوق مالية أو مظالم وقعت بسبب هذا التعدد؛ وهكذا صار التعدد يدور في فلك الأحكام الفقهية الخمسة بحسب أحوال كل رجل في ذاته وصفاته والقرائن التي تحفه وتلابسه.


مزايا التعدد:


أما عن فوائد التعدد القائم على العدل، فكثيرة لا يكاد يحيط بها عد ولا حد، من محاسن دين الإسلام ومن عزره العظام المتعدي نفعها من الأفراد إلى العشائر إلى مستوى أمة الإسلام ليس في الدنيا فحسب، بل في عرصات القيامة يوم الجزاء حين تبرز الأمم بين يدي الديان جل وعلا فيباهي المصطفى عليه الصلاة والسلام بأمته من بين سائر الأمم في ذلك الموقف المهيب.


يقول الشيخ الطاهر بن عاشور في (التحرير والتنوير)4/226 مبرزا محاسن التعدد في نظره: (وقد شرع الله تعدد النساء للقادر العادل لمصالح جمة؛ منها أن في ذلك وسيلة إلى تكثير عدد الأمة وبازدياد المواليد فيها، ومنها أن ذلك يعين على كفالة النساء اللائي هن أكثر من الرجال في كل أمة؛ لأن الأنوثة في المواليد أكثر من الذكورة، ولأن الرجال يعرض لهم من أسباب الهلاك في الحروب والشدائد ما لا يعرض للنساء، ولأن النساء أطول أعمارا من الرجال غالبا، بما فطرهن الله عليه، ومنها أن الشريعة قد حرمت الزنا وضيقت في تحريمه، لما يجر إليه من الفساد في الأخلاق والأنساب ونظام العائلات؛ فناسب أن توسع على الناس في تعدد النساء لمن كان من الرجال ميالا للتعدد مجبولا عليه، ومنها قصد الابتعاد عن الطلاق إلا لضرورة..)ا.هـ.


ويقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - متحدثا عن فوائد التعدد ومحاسنه في (أضواء البيان) - 3/773 ما نصه: (ولا شك أن الطريق التي هي أقوم الطرق وأعدلها هي إباحة تعدد الزوجات؛ لأمور محسوسة يعرفها كل العقلاء؛ منها أن المرأة الواحدة تحيض وتمرض وتنفس إلى غير ذلك من العوائق المانعة من قيامها بأخص لوازم الزوجية، والرجل مستعد للتسبب في زيادة الأمة؛ فلو حبس عليها في أحوال أعذارها لعطلت منافعه باطلا في غير ذنب. ومنها: أن الله أجرى العادة بأن الرجال أقل عددا من النساء في أقطار الدنيا، وأكثر تعرضا لأسباب الموت منهن في جميع ميادين الحياة؛ فلو قصر الرجل على واحدة لبقي عدد ضخم من النساء محروما من الأزواج، فيضطرون إلى ركوب الفاحشة؛ فالعدول عن هدي القرآن في هذه المسألة من أعظم أسباب ضياع الأخلاق، والانحطاط إلى درجة البهائم في عدم الصيانة والمحافظة على الشرف والمروءة والأخلاق، فسبحان الحكيم الخبير {الـر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير (1)} [هود] ومنها: أن الإناث كلهن مستعدات للزواج، وكثير من الرجال لا قدرة لهم على القيام بلوازم الزواج لفقرهم؛ فالمستعدون للزواج من الرجال أقل من المستعدات له من النساء؛ لأن المرأة لا عائق لها، والرجل يعوقه الفقر وعدم القدرة على لوازم النكاح؛ فلو قصر الواحد على الواحدة لضاع كثير من المستعدات للزواج أيضا بعدم وجود أزواج، فيكون ذلك سببا لضياع الفضيلة وتفشي الرذيلة، والانحطاط الخلقي وضياع القيم الإنسانية كما هو واضح..)ا. هـ.


ومن فوائد التعدد وأد الفتن ودرء المفاسد سد أبوابها، وبخاصة عند وجود مثيراتها - كما في وقتنا الحاضر-؛ تقول الدكتورة الجوهرة بنت ناصر - استشارات متقدمة في جريدة المدينة في عددها الصادر في 23/5/1422هـ: (أمر التعدد قضية مسلم بها جعلت مخرجا ومنفذا للرجال والنساء على حد سواء، والتعدد أمر محمود، بل إنه واجب إلزامي حين بزوغ الفتن وكثرة المفاسد وظهور المحرمات..) ثم تقول: (والجميع يعلمون أن التعدد أمر مشروع لا يجادل فيه إلا منافق، ومن يحاربه أو يشوه صورته الحقيقية فهو في الأصل يحارب الله ورسوله..)


وقصدها من كلامها السابق بالوجوب الإلزامي يحمل على من تطيش سهام نظراته وتفور شهوته من الرجال ويخشى الزنا وهو قادر يظن بنفسه العدل ولا يكفيه ما عنده من النساء عن ذلك.


إثراء للنوابغ


ومن فؤائد التعدد إثراء المجتمع المسلم بالقياديين والنابغين في فنون شتى كالعلم والسياسة والتجارة والأدب وسائر فنون الريادة؛ وذلك من خلال تزوج من نبغ في ذلك بذوات التميز من النساء؛ فيكون منهم النوابغ والمتميزون من الأولاد؛ ذكورا وإناثا؛ وفق سنة الله في الوراثة؛ وقد نقل العلامة القاسمي في تفسيره (محاسن التأويل) عن أحد فلاسفة المسلمين كلاما تعليقا من ذلك الفيلسوف على ما اقترحه عالمان معاصران: أحدهما ألماني والآخر إنجليزي يريان فيه إباحة تعدد الزوجات في المجتمع الغربي للنابغين من الرجال ليكثر نسلهم.. فقال الفيلسوف المسلم: (وتعدد الزوجات للنابغين من المسلمين قد جاء به الإسلام قبل هذين الفيلسوفين بأكثر من ألف وثلاثمائة سنة؛ فقد أباح لهم تعددهن إلى أربع؛ ليكثر نسلهم فيكثر عدد النابغين الذين بهم وحدهم تتم الأعمال الكبيرة في هذه الدنيا، فهو من مكتشفات هذا الدين الاجتماعية، وقد جعل رضاهن بذلك شرطا له لئلا يكون فيه إجحاف بحقوقهن، والعاقلة من النساء تفضل أن تكون زوجة لنابغة من الرجال - وإن كان ذا زوجات أخر على أن تكون زوجة لرجل أحمق، وإن اقتصر عليها؛ لأنها تعلم أن أولادها من الأول ينجبون - أي يصيرون نجباء - أكثر منهم من الثاني).


ثم يقول: (والقدرة على العدل بين أربع من النساء متوقف على عقل كبير وسياسة في الإدارة، وحكمة بالغة في المعاملة، لا تتأتى إلا لمن كان نابغة بين الرجال، ذا مكانة من العقل ترفعه على أقرانه، والرجل النابغة إذا تزوج بأكثر من واحدة كثر نسله فكثر النوابغ، والشعب الذي يكثر نوابغه أقدر على الغلبة في تنازع البقاء من سائر الشعوب كما يدلنا عليه التاريخ..).


ويمضي هذا الفيلسوف قائلا: (والنابغة لا يطيب له أن يقترن إلا بمن جمعت نبوغا مثل نبوغه إلى حسن رائع؛ فإن معاشرة الحمقاء ليست مما يطيب للعاقل الراقي، وإن الخير يطلب عند حسان الوجوه، ولذلك قال تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء ..} [النساء: 3] ولم يقل: وانكحوا من النساء، وفي قوله (مثنى وثلاث ورباع) إشارة إلى مراتب نبوغ الرجل الثلاث؛ فكأنه أراد ألا يتجاوز الذي قل نبوغه الاقتران باثنتين، وألا يتجاوز الذي نبوغه متوسط الاقتران بثلاث وأن يحل الذي نبوغه أعلى من الأولين الاقتران بأربع..).


وفيما قال ملامح حسنة لمن تأملها، وأما حكمه الأخير فلا يسلم به على أنه حكم فقهي.


فائدة دعوية


ومن فوائد التعدد تمكين ذوات الهمم والدعوية، وطالبات العلم من الاستفادة من الرجال المتميزين في هذه المجالات؛ فمعلوم أن الرجل له حقوق كثيرة وواجبات متعددة قد يثقل على المرأة الواحدة النهوض بها، فإذا تزوج بثانية أو ثالثة أو رابعة خفت الواجبات وتوزعت المسؤوليات على نسائه، وتمكن ذوات الفضل وطالبات العلم من القيام بمسؤولياتهن الدعوية والتحضير لدراساتهن العلمية في أوقات فراغهن وأيام وجود الزوج عند غيرهن؛ ثم إذا أنجزن ما أنجزن وكانت ليلة إحداهن أقبلت في شوق إليه وعرضت ما لديها عليه من إنجازات علمية أو أفكار دعوية إذا كان ممن له دراية بذلك.. فحصل له فضل التوجيه والعشرة والإفادة، وحصل له فضل القوامة والتشجيع والعشرة والثواب؛ فلا يكون مصلحة ذلك قاصرة عليهما، بل تصبح مصلحة عامة متعدية إلى من حولهما على قدر التخصص والنفع ومستوى التأثير الحسن؛ فيكون ذلك كله مندرجا في عموم قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى..} [المائدة: 2].


ثم إن المستفيد الأول من التعدد هو المرأة المسلمة؛ لأنه لا اقتصر ذوو الصلاح وأهل الفضل واليسار على واحدة لحرم غيرها من خيرهم وصلاحهم وفضلهم؛ سواء كان ذلك علما أو مالا أو صلاحا أو نبوغا.. ولكن الله لطف بالنساء فمكن لهن من أمثال هؤلاء ليكون نفعهم متعديا وفضلهم شاملا وهي شريعة الحكيم الخبير جل وعلا.


كما أن من محاسن التعدد وفوائده أنه يدفع السآمة ويرفع الملل والرتابة من حياة الزوجين؛ فيجددها ويطريها، وينوعها ويحليها؛ فإن الأرض إذا داوم عليها الغيث واستمر وتتابع وإن كان نافعا إلا أنها تمله وتنتن منه، ولكنه إذا غاب عنها فأشرقت الشمس عليها وجفت تاقت إليه واشتدت حاجتها إلى وابله وصيبه؛ فذاك مثل هذا؛ واللبيب بالإشارة يفقه.


لقد سئل سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز - رحمه الله - في سحر إحدى ليالي العشر الأخيرة من رمضان في عام 1408هـ في برنامج (نور على الدرب) سؤالا ورد عليه من سائل من الباحة، قال فيه: لدي امرأة لي منها أولاد، ونفسي تتوق إلى الثانية، وكلما حدثت زوجتي برغبتي هذه تأبت علي وهددتني بأنها ستذهب إلى أهلها، وتترك أولادها..، فبم تنصحونني وتنصوحونها يا سماحة الشيخ؟!


فأجاب - رحمه الله - بما فتح الله عليه؛ فكان مما قال: (اتق الله يا أمة الله في ذلك، فإن الزواج من حق الزوج، وليس للزوجة منع زوجها من التزوج بثانية أو ثالثة أو رابعة، والذي شرع ذلك هو الله سبحانه من فوق سبع سموات، وهو يعلم ما يصلح حال الرجال وحال النساء، ولذلك أباحه وأحله لمصالح عديدة يعود بعضها إلى الزوجة نفسها، فقد يكون الزوج بخيلا فإذا تزوج بثانية أطلق الله يده على زوجته الأولى بحكم العدل، وقد ينفع الله بزوجك فيحسن إلى أرملة أو مطلقة أو عانس؛ فيكون لك بالرضا أجر من ذلك، وقد يرزقه الله تعالى من زواجه ذرية ذكورا أو إناثا فلا يقوم عليك أو ينفعك في المستقبل إلا هؤلاء. وقد يكون زوجك قد كره بعض طباعك فإذا عاشر الأخرى من النساء بان له فضلك لما يرى من نقص النساء في بعض الجوانب، فتعتدل نظرته لك بعدما يجرب غيرك، والأمر الأهم من ذلك كله هو أن كراهيتك لزواج زوجك فيه خطر عظيم عليك من أن يحبط الله عملك؛ بكراهية بعض ما أنزل الله عز وجل؛ وأمر التعدد صريح يتلى في قوله تعالى: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء..} [النساء: 3] وكراهية ما أنزل الله موجب لحبطان العمل، فقد قال سبحانه: {ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم (9)} [محمد] ولا يلزم كراهية كل ما أنزل الله حتى يحبط العمل بل كراهية آية واحدة كاف ومؤذن بذلك لمن علم وتعمد). انتهى مضمون ما جاء في هذه الفتوى المهمة في هذا الأمر الدقيق.


صعوبات التعدد:


أما عن الصعوبات التي تواجه المعدد فإذا كان قادرا عاقلا عادلا فإن الصعوبات التي تبرز له لا يؤبه بها ولا يلتفت إليها؛ لأنها في صورة أو أخرى تعتري سائر البشر؛ فكل إنسان أيا كان خلق في كبد بمقتضى جواب القسم الوارد في سورة (البلد) {لقد خلقنا الإنسان في كبد (4)}؛ والكبد: هو التعب والنصب والنكد؛ والأكباد منوعة بمقتضى التنكير الوارد في الآية؛ فكل إنسان يكابد كبدا يناسبه بمقتضى حكمة الله البالغة؛ فكبد الصغار غير كبد الكبار، وكبد الأمراء غير كبد الضعفاء، وكبد الأغنياء يباين كبد الفقراء، وكذا شأن النساء..، والعبرة بمن يصبر على كبده ويصابره، ويحتسبه عند الله ليتعاظم أجره عليه، ولا يدرك ذلك ويعمل به إلا مؤمن؛ ولهذا ورد في الصحيح قوله عليه الصلاة والسلام: (عجبت لأمر المؤمن إن أمره كله خير؛ إن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء صبر، وليس ذلك إلا للمؤمن). أو كما قال عليه الصلاة والسلام.


وقد تكون الجوانب المادية أبرز الصعوبات أمام المعددين، ولكن إذا صحت النية وحسن الظن بالله تعالى وفعلت الأسباب زالت هذه المشكلات وتقاطر الرزق على من تلك سجاياه من المعددين من حيث لا يحتسب؛ فكل دابة أيا كان من إنسان أو حيوان أو غيره على الله رزقها؛ سوقا وتيسيرا وتقديرا، بمقتضى قوله تعالى بأسلوب العقد المؤكد في أحوال الإنكار: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين (6)} [هود] .


بل إن من أعظم أبواب الرزق وأوسع مجالات الغنى المعنوي والمادي الزواج بقصد العفاف والإعفاف؛ استنادا إلى قوله تعالى في سورة (النور) {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم (32)} [النور] ، يقول القرطبي في تفسيره لهذه الآية: (وهذا وعد بالغنى للمتزوجين طلب رضا الله واعتصاما من معاصيه، وقال ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح وقد قال الله تعالى: {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله}، وروي هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا، ومن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة كلهم حق على الله عونه المجاهد في سبيل الله، والناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء) أخرجه ابن ماجة في سننه) انتهى ما جاء في تفسير القرطبي.


ومن جميل ما عالجه الشنقيطي في (أضواء البيان) 3/377 شبهة أن التعدد يلزم منه الخصام والشغب المفضي إلى النكد؛ فقد قال رحمه الله: (وما يزعمه بعض الملاحدة من أعداء الإسلام من أن تعدد الزوجات يلزمه الخصام والشغب الدائم المفضي إلى نكد الحياة؛ لأنه كلما أرضى إحدى الضرتين سخطت الأخرى؛ فهو بين سخطتين دائما، وأن هذا ليس من الحكمة؛ فهو كلام ساقط؛ يظهر سقوطه لكل عاقل؛ لأن الخصام والمشاغبة بين أفراد أهل البيت لا انفكاك عنه ألبته؛ فيقع بين الرجل وأمه، وبينه وبين أبيه، وبينه وبين أولاده، وبينه وبين زوجته الواحدة؛ فهو أمر عادي ليس له كبير شأن، وهو في جنب المصالح العظيمة التي ذكرنا في تعدد الزوجات من صيانة النساء، وتيسر التزويج لجميعهن، وكثرة عدد الأمة؛ لتقوم بعددها الكثير في وجه أعداء الإسلام.. كلاشيء؛ لأن المصلحة العظمى يقدم جلبها على دفع المفسدة الصغرى.. فالقرآن أباح تعدد الزوجات لمصلحة المرأة في عدم حرمانها من الزواج، ولمصلحة الرجل بعدم تعطل منافعه في حال قيام العذر بالمرأة الواحدة، ولمصلحة الأمة ليكثر عددها فيمكنها مقاومة عدوها؛ لتكون كلمة الله هي العليا، فهو تشريع حكيم خبير، لا يطعن فيه إلا من أعمى الله بصيرته بظلمات الكفر، وتحديد الزوجات بأربع تحديد من حكيم خبير، وهو أمر وسط بين القلة المفضية إلى تعطل بعض منافع الرجال، وبين الكثرة التي هي مظنة عدم القدرة على القيام بلوازم الزوجية..)ا.هـ.


ومهما يكن من أمر فإن الرجل الحكيم الحازم في رفق، الرفيق في حزم وعدل وصبر يستطيع بإذن الله وعونه مواجهة ما قد يبدو من مشكلات أو منغصات هي وإن برزت لا تساوي شيئا في غمرة المصالح العليا الخاصة والعامة؛ مما يحتسبه الزوج المعدد عند الله تعالى.


زيادة الوعي العام الأصل أن كل عادة أو تقليد يصطدم مع نصوص الإسلام ولا يصدر عنها لا ينبغي أن يعتد به ولا يعتاد عليه؛ إذا كان الأمر كذلك لتساقطت عرى الإسلام عروة عروة حتى لا يبقى من الإسلام إلا اسمه وقد لا يبقى إلا اسمه؛ ومن هنا فإنه في مجتمع المسلمين ينبغي أن تكيف عاداتهم وتشكل تقاليدهم من خلال نصوص الدين وضوابطه حتى لا يقع التصادم بين الوقائع الاجتماعية وما في الإسلام من شرائع؛ جاءت لمصلحة البشر أجمعين.


وعلى كل فالذي ألحظه أن وعي أولياء الأمور في كثير من البيئات والمدن أخذ ينمو وبدأ يظهر في هذه القضية، وبخاصة بعد أن فشا التعليم وتوسع العلم الشرعي، وانبت من خلال وسائل الإعلام المتعددة، بل أصبح كثير من النساء يتعقل، يتفهم الجوانب الإيجابية للتعدد، يحس بفوائده الاجتماعية، ويستشعر الثواب من الله تعالى عندما تحتسب الزوجة عند الله عز وجل إحسان زوجها إلى أخواتها المسلمات مع إحسانه إليها؛ فتنفك من عقدة الأثرة والإنسانية، وهذه درجة عالية من السماحة، وفيها نوع من الإيثار المحمود؛ تقول د. الجوهرة بنت ناصر: (إن الفطرة السليمة تؤكد حاجة الرجل إلى أربع من النساء، بينما المرأة لا تستطيع التفكير في غير زوجها وأطفالها وبيتها، فلا تنظر المرأة إلى الرجل من خلال نفسها وتخسر رضا الله وزوجها إليها..)


ثم نقول في كلام موضوعي نسوي نفيس: (ولا شك أن الزوج أو الرجل في سن الأربعين يبلغ أشده، ويكمل نضجه، ويتم إدراكه؛ فيغدو بنظرة أخرى للحياة من احتياجاته البدنية والنفسية والتكوينية والفطرية؛ فأرجو ألا يغفل هذا الأمر المهم جدا في حياة الرجل، وذلك عكس ما يحدث للنساء، فهن يحددن أمورا كثيرة، ويلتزمن كثيرا من الضوابط، وحب الحدودية والخصوصية، والتوحد بأسرتها، وهذا قد يجعل لديها كثيرا من الأنانية والنرجسية، فلا تعود تفكر في أختها المسلمة على الإطلاق، بل إنها تشعر بالغيرة القاتلة، والتسلط المستبد..) ثم توجه نصيحتها الثمينة إلى بنات جنسها قائلة: (فعلى المسلمة أن تعود نفسها على السماحة وحب الخير للجميع، ومعرفة أنها عامل للسلام والتضحية، والإيثار؛ إكراما وتقديرا لكيان الأسرة واستمرارية الحياة..) انتهى كلام هذه الباحثة المنصفة. والوارد في عدد المدينة المتقدم.


ومن إنصاف هذه الباحثة أنها نصحت النساء اللاتي يرغب أزواجهن في التعدد بالعناية بأنفسهن وتطوير ذواتهن فكريا وعلميا وثقافيا وصحيا ورشاقة وجملا؛ فإن عدل الزوج عن ذلك فيها وإلا كما تقول: (وإلا على المرأة انقاذ الوضع برمته وتزويج زوجها إلى من ترى أنها ذات دين وخلق كريم، فاضل، ولن تعي إبعاد خطورة هذا الأمر إلا شخصية واعية حكيمة ناضجة؛ تعي خوفها من الله والعمل على كسب رضاه سبحانه، ثم حب زوجها وطاعته وإعانته والرحمة به وإنقاذه من سبل الشيطان ومزالقه..)


وهذه نصيحة صادقة، صدرت من عقل متقدم في النضج والاتزان وبعد النظر في العواقب والمآلات.


صور من عدم العدل


أما ما يقال أن عدم العدل بين الزوجات يقود الحياة الزوجية إلى نتائج مؤلمة فهذا صحيح، وليست النتائج مؤلمة على الزوج المائل غير العادل في الدنيا فحسب، بل هي في الآخرة أظهر وأبدى؛ فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل)، ويستثنى من هذا الميل الحب والجماع على ما تقدم.


ومن مفاسد غير العدل بين الزوجات وقوع الخصومات، وظهور المشاحنات، وقد يمتد ذلك إلى الأولاد من ذكور وبنات، وقد يصل الأمر إلى حد وقوع المقاطعات في الرحم.. وأشد من ذلك كله تعدي حدود الله تعالى وتجاوز ما تفضل به وأباحه بالإساءة إليه والتفريط فيه، وتحكيم الهوى والشهوات، وإخراج هذا الأمر الذي هو من محاسن الإسلام في صورة منفرة مزهدة فيه، تفضي إلى التطاول على الدين والتشنيع بأفعال المسلمين في نظر المرجفين والكافرين، فتقع النفرة من الدين بسبب هذا التصرف المشين.


المصدر: دعاء[/right]
[/font][/size][/size][/font]
المشاهدات 3821 | التعليقات 0