الخطبة من الورقة وكيف تكون مؤثرة ؟

عبدالله البصري
1431/07/26 - 2010/07/08 09:06AM

لَم يُعهَدْ عن الأوائل - خُلفاء أم خُطباء - أنَّهم كانوا يَعِظون الناس من خلال الورقة؛ لأنَّهم أهل فصاحة وبيان، وأنَّ البلاغة تجرِي على لسانهم جريانَ الماء في السَّيْل، فيعبِّرون بسُهولة عمَّا يجول في نفوسهم، ويَجيش في صدورهم، ويدور ويَحدُث في واقعهم بدون أدنى كُلْفة أو تصنُّع، ولم أسمع - حسب علمي - أنَّ أحدًا من الخُطباء ارْتقى المنبر وألْقى خُطْبته من خلال الورقة، وإنَّما حدَث ذلك في عهود متأخِّرة، حين انحسرتِ الخطب في دواوين - خُطب جاهزة - بعد أن كانتْ قائمةً على الارتجال والبديهة، وما كان يتمتَّع به الخطباء مِن أسلوب بياني رائِق مِن خلال بيانهم لأصول الدِّين، وقواعد الشريعة.

ولا يَعْني استغناءُ الأوائل عن الخُطبة من الورقة عدمَ استعدادهم وإعدادهم للموضوع ومعالِمه الرئيسة، بل الأدلَّة تُشيرُ إلى اهتمامهم بتحضيرها، ولو قُبَيل ارتقائهم المنبر، ومِن ذلك: قول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "وقد كنت قد زورتُ في نفسي مقالة" وهذا الاهتمام ينبُع مِن حبِّهم للدِّين، وشعورهم بالمسؤولية أمامَ ربهم، وقد دوَّن التاريخُ الإسلامي عن خلفائنا وعلمائنا وقادتنا روائعَ الخُطب المِنْبريَّة، وما تضمنتْه من أسلوب بيانيٍّ مؤثِّر يستنهض الهِمم، ويقوِّي العزائم، ويبعث على الرُّوح والقوَّة المعنويَّة، والالْتزام بمعاني الدِّين الإسلامي، ومِن ذلك: الخُطُب التي يُلقيها قادةُ الفتح الإسلامي، وما لها من التأثير في شَحْذ الهِمم، والاستبسال في سبيل الدِّفاع عن الإسلام وحِياضه.

الحاجة إلى الخطبة من الورقة:
في رأيي أنَّ الحاجة دَعتْ للخُطبة من الورقة في زماننا لأسباب؛ منها:
1- الدَّواعي الاحترازية في بعض البلدان؛ وذلك لئلاَّ يخرجَ الخطيب عن مضمون الخُطبة، وإطارها العام، فينخرط الخطيبُ في الكلام عن السياسة، وما لا فائدة فيه، مما يجرُّ الفرْد والمجتمع إلى ما لا يُحمد عُقباه، وهو مما يتوجَّب على الخطيب الالْتزام به مِن باب طاعةِ أولي الأمْر، أو الإطالة غير المحمودة، والاستطراد في مواضيع لا صلةَ لها بصُلب الحَدَث، وعلى الرَّغْم من ذلك، فالخُطب المكتوبة الموجَّهة والمعدَّة مِن وزارة الأوقاف في تِلْكم البلاد فيها خيرٌ كثير، ويستطيع الخطيبُ الحريص على دِينه وهدايةِ الناس التأثير والتوجيه، ومِن خلال الورقة، وسيأتي بيانه - إنْ شاء الله.

2- إيثار بعضِ الخُطباء الخُطبة من الورقة عَلَى الارتجال، والمعلوم أنَّ الخُطباء يتفاوتون مِن ناحية الاستعداد والتحضير والتأثير؛ فالبعضُ منهم كالسيل الجارِف في أسلوبه وبيانه، ووضوح مقْصدِه، وقوَّة حافظته، وله قوَّةٌ عجيبة في استحضار المعاني في قوالبَ من الألفاظ البلاغية والبيانية، دون أن يتلعثم أو يتردَّد، وهو بالكاد يَبْلع رِيقَه؛ ليستمرَّ في وعْظه وإرْشاده، والبعض الآخَر يحتاج للورقة؛ لضبط ألفاظ الخُطبة، ولتكون على قواعدِ اللغة؛ حتى لا يشطح ويَقَع في الخطأ، ولا يخرج عن مضمون ما يرْمي إليه، وينْسَى موضوعَ الخطبة، أو يُطيل في وعْظه، وقد رأينا علماءَ ومفكِّرين لا يُحبِّذون الارتجالية في الخُطبة، رغمَ علمهم الواسع، ورسوخِهم في الدِّين، وليس ذلك بعيبٍ ما دام المقصودُ هو إيصالَ الفِكرة الحسنة إلى الناس، ودعوتهم إلى الاستقامة على المنهج السليم.

كيف تكون الخُطبة من الورقة مؤثِّرة؟
في مِثْل تلك الأحوال التي تُفرَض الخُطبة الورقية المعدَّة سلفًا على الخُطباء، فالبعض منهم يتشاءم منها، ويَعدُّ ذلك نقصًا في علمه وقدرته البيانية، وقد يكون ذلك صحيحًا إذا كانت مواضيعها لا تُلائم حالَ العصر، وهو يرَى أنَّ مرضًا ما أو حالةً اجتماعيَّة تنتشر في محيطه ومجتمعه، فلا يُمكنه - والحال تلك - أن يعبِّر عما يجول في خاطِره، ولكنَّ هناك أساليبَ في مثل تلك الأحوال يُمكن للخطيب الماهِر الناجح أن يستغلَّها في صالحه، ويجعل خُطبتَه مؤثِّرة، ويوجه الحاضرين لِمَا يريد من المعاني السامية، ويملك بها ناصيةَ الموقف، ومنها:
أولاً: الإخلاص، ولا شكَّ أنَّ الإخلاص له دورٌ عظيم في التأثير، وحمْل المستمعين على الالْتزام بمعاني الإسلام، ولو كان المتلوُّ هو آيةً من كتاب الله - تعالى - وقد كانتْ بعض خُطبُ ومواعظ الخلفاء ما هي إلا آياتٌ من كتاب الله تعالى، لكن اقترنَ بها الإخلاصُ والصِّدق، والعمل بالمضمون، فأثمرَتْ وأينعت خُطبُهم ومواعظُهم.
ثانيًا: قراءة الخُطبة بشكل جيِّد، وضبط ألفاظها من ناحية الشَّكْل؛ لتتميز كلُّ كلمة عن الأخرى؛ لتكونَ اللغة سليمة من الأخطاء، والتأكيد على تلاوة الآيات القرآنية والأحاديث النبوية بما يوافِق قواعدَ اللغة، وأحكام التجويد، ممَّا له أبلغ الأثَر في انتفاع المدعوين، وينبغي على الخَطيب الصادق ألاَّ يَستهينَ بذلك، فرُبَّ آيةٍ من كتاب الله أوجبتْ هدايةَ خلْق من الناس.
ثالثًا: هندسة الصَّوْت؛ أي: تكون نبراتُ صوته وَفقَ معاني الخُطبة، فيرفع من نبرة صوته عندما يُريد أن يحذِّر من عقوبة الله ومقْته، ويخفض عندَ الحاجة، فيكون إيقاعُ صوته كالرَّسم البياني؛ لأجْل أن يستوعبَ الحاضرون بيانه، وهم بالطبع ليسوا على مستوى واحدٍ من الاستيعاب والفَهْم، بخلاف ما لو كانت نبرةُ صوته على وتيرةٍ واحدة، فستملُّه الأسماع، وتمجُّ خُطبته النفوس، ويكون حاله كمَن يقرأ جريدة، أو مقالاً دون أن يحرِّك شعورًا، أو يلهب حماسًا.
رابعًا: توزيع النظر ما بيْن الورقة والجمهور، ويتمُّ ذلك باعتدال وتوازُن، ويعتمد ذلك على الإعداد الجيِّد، والقراءة للخطبة قبلَ ارْتقاء المنبر، ومِن الخطأ أن يُديمَ الخطيب نظرَه في الورقة، وينسى أنَّه يخاطب بشرًا لهم أحاسيسُ ومشاعر، فلا يليق به أن يُعطيَهم ظهرَه، ويولِّيَهم دُبرَه، وهو يعظهم ويوجههم، وكذلك التفاعُل مع معاني الخُطبة له الأثرُ البالغ في جعْل الخطبة مؤثرةً في النفوس.
خامسًا: التمهُّل في قراءة الخُطبة، وعدم الإسراع في تلاوتها؛ مِن أجل أن يستوعبَ الحاضرون معانيَها، وليتجنَّبِ الخطيب كذلك الوقوعَ في الخطأ في ألفاظها، ولو كانتْ من الورقة.

والمقصود: أنَّ الخطيب والواعظ داعٍ إلى الله، يحمل في قلْبه همَّ الدعوة، وهو حريصٌ على استغلال كلِّ فرصة سانِحة من أجْل الإصلاح والهِداية، حتى ولو كانتْ كلمة واحدة، فكيف إذا كانت خُطبة مكتوبة، تتضمن آياتٍ كريمة، وأحاديثَ شريفة، قُصارى ما فيها أنها قد لا تتلاءم مع الظَّرف؟!، فليكن فَطِنًا ماهرًا في اقتناصِ الفُرص، ولو كان التركيزُ على تلاوة الآيات والأحاديث فحسبُ، وبشكل مؤثِّر وإيماني.


منقول .
الكاتب : مرشد الحيالي
المصدر : موقع الألوكة .
http://www.alukah.net/Sharia/0/23407/
المشاهدات 5256 | التعليقات 1

جزيت خيرا..
وهناك موضوع قديم في المنتدى قريب من هذا, بعنوان: (استخدام الوسائل الحديثة في خطبة الجمعة).
على الرابط:

https://khutabaa.com/forums/موضوع/134767