غربة

2022-10-05 - 1444/03/09

التعريف

قال الشيخ سلمان العودة: العرب يطلقون الغربة على عدة معانٍ: فيطلقون الغربة على معنى الخفاء والغموض، ومنه قول بعض العلماء؛ أو تسميتهم للألفاظ ذات الدلالة غير الواضحة، في الأحاديث النبوية: غريب الحديث. فالمقصود بالغريب هنا، هو: اللفظ الذي يوجد في معناه غموض وخفاء ويحتاج إلى كشف وبيان؛ هذا معنىً من معاني الغربة. المعنى الثاني: من معاني الغربة هو: معنى النزوح والخروج عن الوطن، ومن ذلك قول الشاعر: وما كان غض الطرف منا سجية ولكننا في مدحج الغربان أي: غريبان، فهما قد نزحا عن وطنهما. ومن معاني الغربة أيضاً: أن يوجد الإنسان بين قوم غير قومه، وفي بلد غير بلده، وأهل غير أهله، فهو بينهم غريب؛ لأنهم لهم حال وله حال إلى معان أخرى كثيرة. وكل هذه المعاني متحققة في معنى غربة المسلم، فالمسلم غريب بمعنى أنه قد نزح عن وطنه وخرج عنه، إذ أن الإنسان إذا خلف في القوم الذين يقتدي بهم، شعر بالغربة، ولذلك كان الإمام أحمد رحمه الله يتمثل بقول الشاعر: إذا ما مضى القرن الذي أنت فيهمُ وكلفت في قرن فأنت غريب والمسلم غريب أيضاً، بمعنى أن الناس من حوله في العموم، مخالفون لما هو عليه، عقيدة وسلوكاً ومنهجاً، ولذلك يشعر بينهم بالغربة، بمعنى المخالفة لما هم عليه. وكذلك المسلم يشعر بالغربة، بمعنى الغموض والاستخفاء؛ لأنه يجد في كثير من الأحيان أن المكانة والحظوة والشهرة والسمعة، هي لغير المتقين، وغير الصالحين من أهل الرياضة، أو أهل الفن، أو المال، أو الجاه أو غيرهم. هذه بإجمال بعض مشاعر الغربة، التي تنطلق من المعنى اللغوي لهذه الكلمة، وتنطبق على المعنى الشرعي لها، ويوافقها واقع المسلم في كل زمان وفي كل مكان.

 

ويقول الشيخ عبدالله الجلالي: فمعنى الغربة: أن يكون الشيء غير مألوف في مكانه أو في زمانه، ولذلك فإن غربة الإسلام معناها: أن يكون الإسلام غير مألوف في مكانه أو في أرضه أو في زمانه في فترة من الفترات .

العناصر

1- تعريف الغربة وواجب المسلم تجاهها .

 

2- الغرباء من المؤمنين وأوصافهم في الدنيا وعلى أي الأحوال هم فيها .

 

3- صفة الغريب الذي لو أقسم على الله لأبر قسمه .

 

4- درجات غربة الإسلام .

 

5- صور ممن كان يحب الغربة ويخفي نفسه وينتقل من موضع إلى موضع .

 

6- بيان معنى قوله صلى الله عليه وسلم (وسيعود غريبا كما بدأ) .

 

7- شدة الغربة وقسوتها في أيامنا الحاضرة .

 

8- صور من الأذى الذي تعرض له الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك الغربة .

 

9- كيفية اجتياز سلفنا الصالح لغربة الإسلام الأولى .

 

10- كيف نجتاز هذه الغربة ؟.

 

الايات

p>1- قال تعالى: (طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) [الرعد:29] .

الاحاديث

1- عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم « إن الاسلام بدأ غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء » قيل ومن هم يا رسول الله قال: «الذين يصلحون إذا فسد الناس » [أخرجه أبو عمرو الداني في " السنن الواردة في الفتن " ( 25 / 1 ) وقال الألباني في الصحيحة (1273) إسناده صحيح] .

 

2- عن عبد الله بن عمرو يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول ذات يوم ونحن عنده « طوبى للغرباء » قيل ومن الغرباء يا رسول الله قال « أناس صالحون قليل في ناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم » [الترغيب والترهيب للمنذري (4818) وقال الألباني صحيح لغيره] .

 

3- عن ابن عمر قال أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم ببعض جسدي فقال لي يا ابن عمر « كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك من أهل القبور » [صحيح البخاري (641) ] .

 

4- عن أبي أمامه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم قال « إن أغبط الناس عندي لمؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من صلاة أحسن عبادة ربه عز و جل وكان رزقه كفافا لايشار إليه بالأصابع وصبر على ذلك حتى يلقى الله عز و جل ثم حلت منيته وقل تراثه وقلت بواكيه » [الغرباء - محمد بن الحسين الآجري (35) والحاكم في مستدركه ج 4/ ص 137 حديث رقم: 7148 ] .

 

5- عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها » [صحيح مسلم (390) ] .

 

6- عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم قم فابعث بعث النار»، فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك يا رب، وما بعث النار، قال: من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعين، قال: فحينئذ يشيب المولود، (وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد) [الحج: 2] قال: فيقولون: فأينا ذلك الواحد ؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تسع مائة وتسعة وتسعين من يأجوج ومأجوج ومنكم واحد » قال: فقال الناس: الله أكبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، والله إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، والله إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة » قال: فكبر الناس، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنتم يومئذ في الناس إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود - أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض » [مسند أحمد (11284) وقال شعيب الأرناؤوط إسناده صحيح على شرط الشيخين] .

 

الاثار

1- حزم بن مهران القطعي قال سمعت معاوية بن قرة يقول بلغني أن كعبا كان يقول طوبى لهم طوبى لهم فقيل ومن هم يا أبا اسحاق قال طوبى لهم إن شهدوا لم يدخلوا وإن خطبوا لم ينكحوا وإن ماتوا لم يفتقدوا[الغرباء - محمد بن الحسين الآجري ص 46] .

 

2- عن عبد الله بن عمرو قال أحب شيء إلى الله عز و جل الغرباء قيل وما الغرباء قال الفرارون بدينهم يجتمعون إلى عيسى بن مريم عليه السلام يوم القيامة [الغرباء - محمد بن الحسين الآجري (37) ] .

 

3- قال دخل عمر بن الخطاب المسجد فوجد معاذ بن جبل جالسا إلى بيت النبي صلى الله عليه و سلم وهو يبكي فقال له عمر ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن هلك أخوك لرجل من أصحابه قال لا ولكن حديثا حدثنيه حبي صلى الله عليه و سلم وأنا في هذا المسجد فقال ما هو يا أبا عبد الرحمن قال أخبرني أن الله عز و جل يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإن حضروا لم يعرفوا قلوبهم مصابيح الهدى يخرجون من كل فتنة عمياء مظلمة [الغرباء - محمد بن الحسين الآجري (38) ] .

 

4- قال محمد بن الحنفية رحمه الله ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف لمن لا يجد من معاشرته بدا حتى يجعل الله عز و جل له منه فرجا ومخرجا [الغرباء - محمد بن الحسين الآجري (63) ] .

القصص

1- قال أبو عبد الله مؤذن مسجد بني حرام جاورني شاب فكنت إذا أذنت للصلاة وأقمت فكأنه في نقرة قفاي فإذا صليت صلى ثم لبس نعليه ثم دخل منزله فكنت أتمنى أن يكلمني أو يسألني حاجة فقال لي ذات يوم يا أبا عبد الله عندك مصحف تعيرني أقرأ فيه فأخرجت إليه مصحفا فدفعته إليه فضمه إلى صدره ثم قال ليكونن اليوم لي ولك شأن ففقدته ذلك اليوم فلم أره يخرج فأقمت للمغرب فلم يخرج فأقمت لعشاء الآخرة فلم يخرج فساء ظني فلما صليت عشاء الآخره جئت إلى الدار التي هو فيها فإذا فيها دلو ومطهرة وإذا على بابه ستر فدفعت الباب وإذا به ميتا والمصحف في حجره فأخذت المصحف من حجره واستعنت بقوم على حمله حتى وضعناه على سريره وبقيت ليلتي أفكر من أكلم حتى يكفنه فأذنت للفجر بوقت ودخلت المسجد لأركع فإذا بضوء في القبلة فدنوت منه فإذا بكفن ملفوف في القبلة فأخذته وحمدت الله تعالى وأدخلته البيت وخرجت فأقمت للصلاة فلما سلمت وإذا عن يميني ثابت البناني ومالك بن دينار وحبيب الفارسي وصالح المري فقلت لهم يا إخواني ما غدا بكم قالوا لي مات في جوارك الليلة أحد قلت مات شاب كان يصلي معي الصلوات قالوا لي أرناه فلما دخلوا عليه كشف مالك بن دينار الثوب عن وجهه ثم قبل موضع سجوده ثم قال بأبي أنت يا حجاج إذا عرفت في موضع تحولت منه إلى موضع غيره حتى لا تعرف خذوا في غسله وإذا مع كل واحد منهم كفن فقال كل واحد منهم أنا أكفنه فلما طال ذلك منهم قلت لهم إني فكرت في أمره هذه الليلة فقلت من أكلم حتى يكفنه فأتيت المسجد فأذنت ثم دخلت لأركع فإذا كفن ملفوف لا أدري من وضعه فقالوا يكفن في ذلك الكفن فكفناه وأخرجناه فما كدنا نرفع جنازته من كثرة من حضره من الجمع[الغرباء - محمد بن الحسين الآجري (39) ] .

 

2- قال أبا بكر بن أبي الطيب: بلغنا عن عبد الله بن الفرج العابد قال احتجت إلى صانع يصنع لي شيئا من أمر الروز جاريين فأتيت السوق فجعلت أرمق الصناع فإذا في أواخرهم شاب مصفر بين يديه زبيل كبير ومر وعليه جبة صوف ومئزر صوف فقلت له تعمل قال نعم قلت بكم قال بدرهم ودانق فقلت له قم حتى تعمل قال على شريطة فقلت وما هي قال إذا كان وقت الظهر وأذن المؤذن خرجت وتطهرت وصليت في المسجد جماعة ورجعت وإذا كان وقت العصر فكذلك فقلت نعم فقام معي فجئنا المنزل فواقفته على ما يفعله من موضع إلى موضع فشد وسطه وجعل يعمل ولا يكلمني بشيء حتى أذن المؤذن الظهر فقال يا عبد الله قد أذن المؤذن قلت شأنك فخرج فصلى ثم رجع فلم يزل يعمل إلى آخر النهار فوزنت له أجرته وانصرف فلما كان بعد أيام احتجنا إلى عمل فقالت لي زوجتي اطلب لنا ذلك الصانع الشاب فإنه نصحنا في عملنا فجئت السوق فلم أره فسألت عنه فقالوا تسأل عن ذلك المصفر المشئوم الذي لا نراه إلا من سبت إلى سبت لا يجلس إلا وحده في آخر الناس قال فانصرفت فلما كان يوم السبت أتيت السوق فصادفته فقلت له تعمل قال قد عرفت الأجرة والشرط قلت أستخير الله فقام فعمل على النحو الذي كان عمله فلما وزنت له الأجرة زدته فأبى أن يأخذ الزيادة فألححت عليه فضجر وتركني ومضى فغمنى ذلك فاتبعته وداريته حتى أخذ أجرته فقط فلما كان بعد مدة احتجنا أيضا إليه فمضيت في يوم السبت فلم أصادفه فسألت عنه فقيل لي هو عليل فقال لي من يخبره أمره إنما كان يجئ إلى السوق من سبت إلى سبت يعمل بدرهم ودانق و يتقوت كل يوم دانق وقد مرض فسألت عن منزله فأتيته وهو في بيت عجوز فقلت لها هنا الشاب الروزجاري فقالت هو عليل منذ أيام فدخلت عليه فوجدته لما به وتحت رأسه لبنة فسلمت عليه وقلت له لك حاجة قال نعم إن قبلت قلت أقبل إن شاء الله قال إذا أنا مت فبع هذا المر واغسل جبتي هذه الصوف وهذا المئزر فكفني بهما وافتق جيب الجبة فإن فيها خاتم فخذه ثم انظر يوم يركب هارون الرشيد الخليفة فقف له في موضع يراك فكلمه وأره الخاتم فإنه سيدعوك فسلم إليه الخاتم ولا يكون هذا إلا بعد دفني قلت نعم فلما مات فعلت به ما أمرني ثم نظرت اليوم الذي يركب فيه الرشيد فجلست له على الطريق فلما مر ناديته يا أمير المؤمنين لك عندي وديعة ولوحت بالخاتم فأمر بي فأخذت وحملت حتى دخل إلى داره ثم دعاني وصرف جميع من عنده وقال لي من أنت قلت عبد الله بن الفرج فقال هذا الخاتم من أين لك فحدثته قصة الشاب فجعل يبكي حتى رحمته فلما أنس إلى قلت يا أمير المؤمنين من هو منك قال ابني قلت كيف صار إلى هذه الحال قال ولد لي قبل أن ابتلي بالخلافة فنشأ نشوءا حسنا وتعلم القرآن والعلم فلما وليت الخلافة تركني ولم ينل من دنياي شيئا فدفعت إلى أمه هذا الخاتم وهو ياقوت ويسوي مالا كثيرا فدفعته إليها وقلت لها تدفعين هذا إليه وكان بارا بأمه وتسألينه أن يكون معه فلعله ان يحتاج إليه يوما من الأيام فينتفع به وتوفيت أمه فما عرفت له خبرا إلا ما أخبرتني به أنت ثم قال لي إذا كان الليل فاخرج معي إلى قبره فما كان الليل خرج وحده معي يمشي حتى أتينا قبره فجلس إليه فبكى بكاء شديدا فلما طلع الفجر قمنا فرجع ثم قال تعاهدني في كل الأيام حتى أزور قبره فكنت أتعاهده في الأيام فيخرج فيزور قبره ثم يرجع قال عبد الله بن الفرج فلم أعلم أنه ابن الرشيد حتى أخبرني الرشيد أنه ابنه أو كما قال ابن أبي الطيب [الغرباء - محمد بن الحسين الآجري (45) ] .

 

3- عن زكريا بن أبي خالد قال خرج فتى يطلب الدنيا فتعذرت عليه فكتب إلى أمه ... سأكسب مالا أو أرى أمي ... ضريحة من الأرض لاعلى سكوب ... ولا واله حري على حزينة ... ولا أحد ممن أحب قريب ... سوى أن يرى قبري غريب فربما ... بدا أن يرى قبر الغريب غريب فوافي الكتاب وقد ماتت أمه فأجابته خالته ... تذكرت أحوالا وادريت عبرة ... وهيجت أحزانا وذاك عجيب ... فإن تك مشتاقا إلينا فإننا ... إليك ظمأ والحبيب حبيب ... فامتن على أم عليك شفيقة ... وأنت غريب ... فإن الذي يأتيك بالرزق ... يجئ به والحي منك قريب ... [الغرباء - محمد بن الحسين الآجري (60) ] .

الاشعار

أشعار 1- قال أبو بكر عبدالله بن حميد:

 

وترى المؤمن في الدنيا غريبا مستفزا *** فهو لا يجزع من ذل ولا يطلب عزا

وتراه من جميع الخلق خلوا مشمئزا *** ثم بالطاعة ما عاش وبالخير ملزا

الدراسات

متفرقات

1- قال محمد بن الحسين رحمه الله الغرباء في وقتنا هذا من أخذ بالسنن وصبر عليها وحذر البدع وصبر عنها واتبع آثار من سلف من أئمة المسلمين وعرف زمانه وشدة فساده وفساد فاستغنى أهله فاستغنا بإصلاح شأن نفسه من حفظ جوارحه وترك الخوض فيما لا يعنيه وعمل في إصلاح كسرته وكان طلبه من الدنيا ما فيه كفايته في ترك الفضل الذي يطغيه ودارى أهل زمانه ولم يداهنهم وصبر على ذلك فهذا غريب من يأنس إليه من العشيرة والإخوان قليل ولا يضره ذلك [الغرباء - محمد بن الحسين الآجري (63) ] .

 

2- قال الشيخ سلمان العودة: الأوصاف التي وصف بها النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء الغرباء، وقد وردت أحاديث عديدة في وصفهم، ولكن الصحيح منها أنه صلى الله عليه وسلم وصفهم بالغرباء، ووصفهم بأنهم قوم صالحون قليل في أهل سوء كثير، ووصفهم بأن من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم، فهم متمسكون بالكتاب والسنة حين يتمسك الناس بآراء الرجال، أو يعرضون عن الإسلام بالكلية، وهم داعون إلى القرآن والسنة حين يترك الناس الدعوة إليهما، وهم صابرون على ما يلقونه في سبيل هذه الدعوة من الإيذاء والعناد والمخالفة والتكذيب ولذلك وعدوا بما وعدوا به. 3

 

- قال الإمام النووي في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: (بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيباً وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيباً فَطُوبىَ لِلْغُرَبَاءِ) قال القاضي : وظاهر الحديث العموم ، وأن الإسلام بدأ في آحاد من الناس وقلة ، ثم انتشر وظهر ، ثم سيلحقه النقص والإخلال حتى لا يبقى إلا في آحاد وقلة أيضا كما بدأ ، وجاء في الحديث تفسير الغرباء وهم النزاع من القبائل ، قال الهروي : أراد بذلك المهاجرين الذين هجروا أوطانهم إلى الله تعالى. .... و(طوبى) فعلى من الطيب قاله الفراء، قال: وإنما جاءت الواو لضمة الطاء ، قال : وفيها لغتان تقول العرب: طوباك وطوبى لك. وأما معنى طوبى فاختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: (طوبى لهم وحسن مآب) فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معناه فرج وقرة عين، وقال عكرمة : نعم مالهم ، وقال الضحاك : غبطة لهم ، وقال قتادة: حسنى لهم . وعن قتادة أيضا معناه أصابوا خيراً وقال إبراهيم : خير لهم وكرامة ، وقال أبن عجلان: دوام الخير ، وقيل : الجنة ، وقيل : شجرة في الجنة وكل هذه الأقوال محتملة في الحديث ، والله أعلم [شرح صحيح مسلم كتاب الإيمان / باب بيان أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً للنووي] .

 

4- قال الإمام النووي في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: وقوله صلى الله عليه وسلم: (وهو يأرز) بياء مثناة من تحت بعدها همزة ثم راء مكسورة ثم زاي معجمة هذا هو المشهور ، وحكاه صاحب المطالع مطالع الأنوار عن أكثر الرواة قال : وقال أبو الحسين بن سراج ليأرز بضم الراء . وحكى القابسي فتح الراء ومعناه ينضم ويجتمع ، هذا هو المشهور عند أهل اللغة والغريب ....... وقوله صلى الله عليه وسلم : (بين المسجدين) أي مسجدي مكة والمدينة [ شرح صحيح مسلم كتاب الإيمان / باب بيان أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً للنووي ] .

 

5- يقول الشيخ عبدالله الجلالي: ...فحينما نقرأ سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده، والسلف الصالح المهديين؛ نجد غربة الإسلام واضحة، خصوصاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي أول خلافة الخلفاء الراشدين، هذه الغربة نجدها ماثلة منذ أن قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس بدعوة الإسلام سراً، ولم يؤمن معه إلا عدد قليل من المسلمين الأوائل، حتى إذا أعلن دعوة الإسلام بعد نزول قوله تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ) [الحجر:94] حينها صعد على الصفا ونادى بطون قريش: يا بني فلان! ويا بني فلان! ويا بني فلان! حتى إذا اجتمعوا حوله قال لهم: ( أرأيتكم لو أخبرتكم أن عيراً من وراء هذا الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما عهدنا عليك كذباً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ). ومنذ تلك اللحظة قامت المعركة بين الإسلام وبين الجاهلية، المسلمون يريدون أن يجهروا بكلمة التوحيد؛ امتثالاً لأمر الله عز وجل، واتباعاً لنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، والكفر قد ألف عبادة الأوثان والأصنام، فقامت المعركة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جانب، وبين الكفر بجميع ملله وأشكاله من جانب آخر، ولقد أوذي المسلمون في تلك الفترة أذىً شديداً، عبر عنها القرآن العظيم في مواقع كثيرة من كتاب الله، تجد ذلك في قول الله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة:214]، ففي تلك المرحلة يستبطئ الرسول والمؤمنون معه النصر ويستعجلون النصر؛ لأن الأمر قد وصل بهم إلى درجة لا تطاق. وعبر عنها القرآن في موضع آخر بقوله: ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) [آل عمران:142]. وفي موضع ثالث: ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) [التوبة:16]. وفي موضع رابع: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ) [يوسف:110]. وفي موضع خامس يقول الله تعالى: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت:1-3]، إلى آخر الآيات التي نزلت في مناسبة واحدة. وعلى كل فقد صور القرآن لنا المستوى الذي وصل إليه المؤمنون في تلك الفترة التي جهر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوته، وهذه الصور تتكرر مع كل رسول مع أمته حينما يجهر بدعوته. وهذه الغربة تطورت حتى صورها لنا حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه حيث قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات مرة ما كنا نجده من أعدائنا -يعني: في مكة- فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً فقال: لقد كان يؤتى بالرجل ممن كان قبلكم فيوضع المنشار على مفرق رأسه إلى قدميه - يعني: يقسم قسمين- ولقد كان يمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه، ولكنكم قوم تستعجلون، ووالله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه). ويتحقق هذا الوعد في تلك الفترة العصيبة الحالكة من تاريخ الإسلام، ولقد وعد صلى الله عليه وسلم أن ينطلق الإنسان في الجزيرة العربية لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولقد كان الصحابة يصدقون وعد الله ووعد رسوله، فكانوا ينتظرون هذا الوعد وهم في أشد ظروف الحياة.

 

6- ويقول ايضاً: هذه هي المرحلة الأولى لغربة الإسلام؛ تصوروا قسوتها أيها الإخوان! وأنتم تعيشون اليوم غربة أخرى تزيد قسوة وضراوة على هذه الغربة في كثير من أحيانها، لكن كيف استطاع المؤمنون الأوائل أن يجتازوا تلك الغربة وأن يصلوا إلى ساحل النجاة والأمان؛ ليرتفع دين الله عز وجل وينتشر في الأرض، وتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى؟ بأي شيء استطاعوا أن يجتازوا تلك الغربة؟ لقد شمر القوم عن سواعد الجد، وعاهدوا الله عز وجل على الجهاد، ورفضوا كل الإغراءات والمساومات التي عساها أن تصرف اليوم كثيراً من الناس عن اجتياز غربتنا اليوم، لقد تركوا الوطن والأهل والعشيرة حينما فرض عليهم ذلك، وكانوا يتمنون تلك الساعة التي ينتقلون فيها إلى المدينة؛ ليقيموا دولة الإسلام، ولو خرجوا من أموالهم وأهليهم وكل ما يتمتعون به، لقد خرجوا وتركوا الوطن، وتحول الأغنياء إلى فقراء، وتركوا كل ما يملكون من متاع الحياة الدنيا وزينتها، تركوه في مكة وانتقلوا بإيمانهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. لقد أعلن الصحابة الجهاد في سبيل الله، وأبرموا العقد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجهاد، حينما أنزل الله عز وجل هذه الوثيقة التزموا بها، فوقعوا عليها وصدقوا الله ما عاهدوه عليه، هذه الوثيقة نقرؤها في سورة التوبة: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ) [التوبة:111]، بل لقد فرح المسلمون بهذه البيعة، حتى قام عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لما سمع هذه الآية يتلوها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! ما لنا إذا قتلنا في سبيل الله؟ قال: الجنة، فقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه والمؤمنون من ورائه: يا رسول الله! ربح البيع، والله لا نقيل ولا نستقيل ). لقد فرحوا بهذه البيعة التي لها ثمن ومثمن وبائع ومشتر: أما البائع فهو المؤمن، وأما المشتري فهو الله عز وجل، وأما الثمن فهو النفس والمال، وأما المثمن فهو الجنة، ولقد صدق الله عز وجل هذه الوثيقة في التوراة والإنجيل والقرآن؛ حتى لا يكون لأحد من الناس عذر في ألا يفي بهذه البيعة. إخوتي في الله! هكذا اجتاز سلفنا الصالح تلك الغربة، وشمروا عن سواعد الجد، وتحملوا الأذى في سبيل الله، وتركوا الأهل والوطن والعشيرة، وصدقوا الله عز وجل ما عاهدوه عليه، قال عز وجل: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) [الأحزاب:22-24]. هكذا أيها الإخوان! يجتاز المؤمن الأمور الصعبة؛ لأن الأمور الصعبة لا يمكن أن يجتازها الناس بالنوم والراحة والمتاع والدعة؛ لأن الجنة كما أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم غالية نفيسة، يقول عليه الصلاة والسلام: ( من خاف أدلج )، أي: مشى بالليل، والمراد بالإدلاج هنا: السعي الحثيث إلى الآخرة، ( ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة ).

التحليلات

الإحالات

1- الاعتصام – الشاطبي 1/18 مكتبة الرياض الحديثة .

2- تخريج حديث الغربة – عبد الله الجديع .

3- تهذيب مدارج السالكين – عبد المنعم العزي ص 577 وزارة العدل والشئون الإسلامية بالإمارات .

4- صفة الغرباء – سلمان العودة .

5- صفوة المفاهيم من ميراث سيد المرسلين – علي الهزاع ص 58 مكتبة المنار الكويت الطبعة الأولى 1407 .

6- الغرباء الأولون – سلمان العودة دار ابن الجوزي الطبعة الأولى 1410 .

7- كتاب الغرباء – الحافظ الأجري .

8- كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة – ابن رجب المكتبة القيمة 1402 .

9- مجلة البيان 7/41 المندى الإسلامي لندن .

10- مجموع الفتاوى – ابن تيمية 18/291 الطبعة الأولى 1398 .

11- المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ – عبد الرحمن السعدي 2/185 مركز صالح بن صالح الثقافي 1411 .

12- مدارج السالكين – ابن القيم تحقيق محمد حامد الفقي 3/194 دار الكتاب العربي 1392 .

13- موارد الظمآن لدروس الزمان – سلمان العودة دار ابن الجوزي .

14- وسائل دفع الغربة سلمان العودة – دار ابن الجوزي .